الإطار المرجعي لشرعية العنف من خلال

حركة الرسول (ص) والأمير (ع)

سيد أمين الرجا

لعل إنهاء القسوة والألم، والابتعاد عن جرح المشاعر والأحاسيس، والعيش برفاه وسلام وأمان وإخاء، هو التاج الذي يزيّن البناء الذي توصل إليه الإنسان عبر مساره الطويل؛ فجمال المادة الساحر الذي تفتخر به حضارة اليوم بريق بدون تاج ومملكة بدون حاكم، ولا حاكم للحضارة أجمل من الأخلاق  الكريمة. قال رسول الله(ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) .. وقال الشاعر:

يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى    حبّ الأذيّة من طباع العقرب

ومما يمكن الجزم به أن القوة آيلة إلى زوال، والعقل والعلم والإنسانية إلى نماء؛ فمن يركن إلى القوة يتوقف عن التقدم، بينما فاقدها يسعى لأكثر منها فيسبق الأخير، فمثلاً في بدء الخليقة كانت السباع أقوى من البشر حيث يمكن أن يفتك سبعٌ واحد بالعشرات من البشر، فركنت السباع لقوتها، وراح فاقدها يسعى بفكره إلى أكثر منها، فبقي المتبختر بجبروته قابعاً في مغارته، وطار من لا جناح له في طبقات الجو بحديده، يتمتع بالرفاهية بين السماء والأرض.

 وفضلاً عن هذا العيب في الركون إلى القوة، هنالك عيب آخر هو أن مالك القوة يحظى دائماً ببغض الآخرين المكنون له في صدورهم، خاسراً لمحبتهم. وماذا عسى أن تكون لذّة حياة إنسان مبغوض ليس له في محبة الناس نصيب؛ قال الشاعر الباكستاني محمد إقبال:

خَلقَ الكونَ للتعارف ربٌّ      فإذا الكون في الحقيقة حبٌّ

ومن مرَّ بتجربة حقد على ظالم يعرف أن هذا المبغوض لا يستحق إلا الاستصغار والازدراء في أعماق النفس الحاقدة، أما الظالم فهو في غيبوبة عن ذلك ولعل بكاءه سيطول يوماً.

والسؤال الآن: ما هو تفسير حصول العنف والصدام بين بني البشر؟ ولماذا تثور الحروب هنا وهناك؟ ولماذا تسيل الدماء بين الحين والآخر؟.

أعتقد أن السبب في ذلك هو النقص الموجود في احتياجات الإنسان المادية، الذي يتسبب في الخلاف الذي يعقبه العنف والصدام، علماً أن ما يحتاجه الإنسان أطلق عليه علماء الاقتصاد اسم (الأموال) وهي على قسمين:

1- أموال اقتصادية.

2- أموال غير اقتصادية.. علماً أن الأموال الاقتصادية تنقسم إلى سلع وخدمات. وهذه الأموال الاقتصادية يتوافر فيها عنصران:

الأول: حاجة الإنسان إليها.

والثاني: قلّتها بحيث يزيد ثمنها كلما زاد الفارق بين كميتها والطلب عليها وبالعكس، ومثالها الطعام واللباس والبترول والحديد والأخشاب ووسائط النقل وخدمة سائق التاكسي وخدمات المستأجر أو العامل.. الخ.

أما الأموال غير الاقتصادية فهي التي تتوافر بكميات كبرى في الطبيعة بحيث يكون تواجدها أكثر من الطلب عليها، مثل الهواء والماء، فما أشد الحاجة إلى الهواء، ولكننا لا ندفع ثمناً عند التنفس.. ومحور الكلام أن الأموال الاقتصادية التي يحتاجها الإنسان بشقيها الخدمي والسلعي لو لم تكن قليلة وكان توافرها على نحو توافر الماء والهواء، لما كان هنالك أي صراع؛ فلو كانت الأطعمة أنهاراً والملابس جبالاً وكل الحاجات واللذائذ متوافرة ولا تعاني من قلة، لما حصل أي خلاف، ولكنها تقل عن تلبية طلب الجميع، فيحصل التنافس والخلاف؛ فينتج العنف والصدام. وهذا النوع نسميه العنف البدائي أو الفطري، وبمرور الزمن وبسبب الخلاف تظهر القوانين والأعراف والأخلاقيات لضبط حركة الإنسان للتوفيق والتخفيف من حدّة الخلاف، فيكون اختراقها مبرراً لاستخدام العنف مجدداً لإعادة المارق عن هذا القانون أو ذاك العرف إلى دائرته، بغض النظر عن كون هذا القانون صحيحاً أو فاسداً. وهذا العنف الجديد يختلف عن العنف الفطري أو البدائي فلنسميه العنف القانوني أو العنف المشروع، لتمتعه بالمستند القانوني الذي يقوم عليه، خصوصاً إذا كان القانون السابق أو العرف الذي تم اختراقه قد تم وضعه برضى الأطراف المتنازعة أو ثبتت صحته بالدلائل العقلية والأخلاقية، علماً أن الأعراف والقوانين التي  ظهرت ابتداءً لم تعتمد على محاولة البحث عن الحقيقة بما هي حقيقة، بل استندت على مستند القوة الناتج من محصلة تفاضل القوى المتصارعة، وباختلاف محصلة التفاضل غير الثابت على قيمة معينة فإن الأعراف والتقاليد وبعض قواعد السلوك تتغير بالتبعية من زمن لآخر ومن بلد لآخر.

ومما سبق تبدو لنا حتمية الخلاف بسبب النقص، ولا يمكن إزالة الخلاف إلا بوضع قانون يسير عليه الجميع ويكفل لهم الحرية والمساواة والعدالة، ويحمل في طياته حوافز دافعة للبشر نحو التقدم والتطور والسمو، فينال الجميع من حسنات هذا القانون، كما أنهم يتحملون وخصوصاً في البداية مضايقاته التي لم يألفوها سابقاً.

وقبل أن نتابع، لا بد أن نؤكد على الفرق بين استخدام العنف الفطري لتحقيق المنفعة، وما بين استخدام العنف القانوني الذي يهدف إلى إرجاع المارق عن القانون إلى دائرته؛ مما يؤكد ضرورة القانون ولزوم توافر القوة عند القائم على فرضه وتطبيقه.. ومن حيثية نراها، فالقانون يحتاج لثلاثة عناصر هي:

1- واضع القانون (المشرّع).

2- السلطة الفارضة للقانون (الهيئة الحاكمة).

3- السائر وفق القانون (الشعب).

علماً أنه لا يمكن انطباق القانون على واضعه، ولا حاجة للقانون لو لم يكن هنالك تعارض، ولا يوجد حل لإزالة التعارض إلا بحالة من حالتين:

1- سد النقص، فيزول التعارض، فتسقط الحاجة للقانون، وهذا محال.

2- بقاء النقص ولكن مع السير وفق قانون يزيل أعراض النقص وأولها العنف.

فإذا ما أخذنا بالحالة الثانية الحتميّة، فسنواجه مشكلة الثبات على القانون؛ فهل نسلكه التزاماً أم إلزاماً؟ علماً أن الإلزام هو أن تفرض السلطة على الأفراد والجماعات السير وفق القانون فرضاً بعيداً عن الطواعية، وأن الالتزام هو الحالة الأخلاقية التي تجعل الأفراد والجماعات يسيرون وفق القانون طواعية.

ومما لا شك فيه أن الالتزام أفضل وأسمى أخلاقياً ولكنه في الواقع لم ولن ينجح مع شخص إلا ويفشل مع المئات، أما الإلزام الخارجي المفروض من الدولة فهو الواقعي، ولكن الداء الذي نعاني منه هو سوء استخدام السلطة لتتحول من خادم للمجموع ومطبّق للقانون إلى وسيلة لتحقيق مصالح مميّزة لجهة أو لفرد. فتبرز بوضوح ضرورة الرقابة على استخدام السلطة، فإذا علمنا أن السلطة تستند على القوة، وأن القوة كالماء، تسير باتجاه المنخفضات ولا تتوقف إلا بحجزها، ولا يمكن أن يحجز الماء شيء من جنسه، بل يكون الحاجز من عنصر مغاير، يتضح منه عدم صحة قول الفقيه القانوني الفرنسي (مونتسكيو): (السلطة توقف السلطة)؛ لأن هذا الكلام الذي انطلى على السياسيين إنما يستلزم الدور والدور باطل؛ فإذا أوقفنا السلطة الأولى بالثانية فهل نوقف الثانية بالأولى وكيف يوقف المقهور القاهر؟ ببديهة العقل أن هذه الرقابة وهذا الإيقاف لا يستند على مستند أمين، فضلاً عن أن هذا القول باطل من جهة أخرى، وهي أن السلطة التي توقف سلطة، يستدعي ذلك تمتع كلا السلطتين بقوة ذاتية غير مستمدة؛ مما يؤدي بنا إلى القول بوجود ثلاث قوى منفصلة كليّاً على إقليم الدولة الواحدة، في حين أنه لا توجد إلا سلطة واحدة غير مجزأة على إقليم الدولة الواحدة، متمتعة بقوة قاهرة موحدة.. وما أرى في قول مونتسكيو إلا أنه ترديد للمثل الجاهلي العربي القديم: (إن الحديد بالحديد يُفلُّ) وإن كان هذا الترديد من غير قصد.

وإذا أردنا أن نعرف المستند الأمين؛ يجب أن نعرف من له الحق في وضع القانون؟ وعلى من ينطبق القانون؟ ومن له الحق في فرض القانون؟ ومن له الحق في استخدام العنف القانوني لردع المارقين على الساحة الداخلية والخارجية؟ وأين هو القانون الأصح؟ وأين هو القانون الأصلح؟ علماً أن مورد تطبيق القانون هو جميع البشر، فهل البشر هم من يضع القانون الذي يسيرون عليه، أم نبحث عن واضع آخر؟.. لمعرفة ذلك نضرب هذا المثال ليتحدد بعده من هو الذي يجب أن يضع القانون؟!.

فلو أن مجتمع السيارات أراد أن يجتمع ليضع قانوناً للسير وبذلت السيارات المشاركة في الاجتماع مجهوداً فكرياً عالياً من أجل ذلك وخرجت بنتيجة مكتوبة، هذه النتيجة حتماً ستكون مضحكة بالنسبة للإنسان المطلّع على الأمر الذي يخص المجتمع الأنزل مرتبة منه؛ فلا بد أن يكون واضع قانون السير هو صانع السيارة وليس السيارة. ويتضح أن المقصود هو أن وضع قانون البشر (السلطة التشريعية) أمر يختص بالصانع وليس المصنوع؛ فدليل الاستعمال للجهاز يوضع من قبل صانع الجهاز وليس من قبل الجهاز؛ قال تعالى: (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) (المائدة: 50) فتحددت بذلك السلطة التشريعية، فيهون الأمر مباشرةً، لأنها ستنص بمراسيمها على مطبق القانون وفارضه (السلطة التنفيذية) وتحتفظ لنفسها (السلطة التشريعية) بالسلطة القضائية؛ لأن القضاء ذو صلة وثيقة جداً بالتشريع؛ إذ لا قضاء من دون تشريع، وكل تشريع يتطلّب قضاء يحدد صحة التنفيذ من عدمه.

فكل الحركة البشرية هي من نوع التنفيذ وفق قوانين شتى، والنتائج شتى حتماً؛ فالجهد كل الجهد يجب أن ينصب على معرفة التشريعات والتعرّف على المنفذين، والأحكام القضائية للصانع، بدلاً من الانشغال بوضع تشريعات أملاً في كونها الأحسن، وتنصيب من يقوم على تنفيذها في بعض رقاع العالم، وتنصيب القوة لنفسها في البعض الآخر منها، وما الديمقراطية الموجودة في بعض الدول بحل شامل لكل البشر؛ لأن تلك الدول إنما نجحت بذلك بسبب نقص التعارض المنوّه عنه في صدر الكلام. وهذا النقص ناتج عن الرفاهية التي وفرتها القوة على حساب الآخرين فمن أين نوفر للآخرين نقص التعارض وهم لا قوة لهم، فضلاً عن أنه إذا توفرت القوة لهم فإنما تتوفر بها الرفاهية على حساب الآخرين؟ وهذا ليس بحل، بل الحل هو القانون الذي يزيل التعارض ويوفر الرفاهية للجميع، بعد أن يسير عليه الجميع.. والهدف مما سقناه إثبات ما يلي:

1- الصراع حقيقة موجودة بسبب النقص.

2- لابد من قانون يحكم بين البشر ويفصل بينهم.

3- العنف نوعان عنف غير مشروع فطري بدائي، يشترك فيه الإنسان والحيوان، وهو للسيطرة والمنفعة والكسب، وعنف قانوني شرعي لإحلال العدالة والحق والشرعية.

4- القانون الصحيح والأصلح هو قانون الصانع (جل وعلا) وهو الشرعية.

5- الحاكم هو الله أو من يستخلف.

6- يُرفض العنف البدائي جملةً وتفصيلاً.

7- العنف من أجل الشرعية، هو مصلحة البشرية، ولا غبار على صحة استخدامه بل ووجوبه.

8- لا يجوز استخدام العنف من أجل الشرعية إلا بأمر من الحاكم المنصوص عليه من الله.

9- العنف القانوني ليس شرعياً إن لم يكن القانون الذي ينادي إليه صحيحاً.

فإذا علمنا أن العنف في اللغة هو القسوة وأن القسوة هي بنت القوة وأن القوة بيد الحاكم، فلنراجع تاريخ حركة الرسول  (ص) وحركة الأمير (ع)  ونتصفح حروبهما وكيف استخدما القوة.

إن حروب النبي والإمام (ع) في مراحل تسلمهما زمام (السلطة التنفيذية) التي عهدت بها إليهم السلطة التشريعية (الله جل وعلا) وكل ما قاما به من استخدام للقوة إنما يستند إلى الشرعية؛ حيث توافر في حروبهما عنصران:

العنصر الأول: كانت حروبهما من أجل إدخال أو إرجاع مارق إلى القانون.

العنصر الثاني: القانون الذي أدخلا أو أرجعا إليه الناس هو قانون الصانع وليس المصنوع وهو الصحيح الأصلح.

وهذان العنصران اللذان توفرا في حروب النبي (ص) والإمام (ع) هما المقياس الرئيسي الذي يمكننا أن نعتمد عليه في معرفة العنف الشرعي من غيره في كل حروب الدنيا. ومن العجب أن يأخذ البعض على الإسلام أنه دين السيف وأن النبيّ (ص) قد فرضه بالقوة. وقد فات هؤلاء أن حروب النبي دفاعية، وأن ضحاياها من القلة بحيث لا تقارن بالحروب الحديثة المدمرة وغير النظيفة، كما غاب عنهم أن حروب النبي (ص) تتوافر فيها عناصر الشرعية، فلا يهمّ بعد ذلك حتى لو كانت هجومية ذات ضحايا كثيرة أو قليلة، بل المهم أنها كانت من أجل الشرعية، فحتى المدافع لا يغني عنه دفاعه شيئاً إن لم يكن على الشرعيّة؛ فيبدو لنا عدم شرعيّة حروب الدول الكبرى حالياً، وإن القوة التي تمتلكها والعنف الذي تمارسه هو من نوع العنف البدائي الذي يستخدم لتحقيق المصالح؛ حيث يتوفر في عنفهم عنصر واحد من عناصر شرعيّة العنف، وهو العنصر الأول؛ فهم يحاربون الدنيا لإدخالها بقانون يدّعون شرعيته، ولكن هذا القانون ليس بقانون الصانع، بل قانون المصنوع، وقد ثبت من السياق في بداية الكلام بطلان قانون المصنوع.

وبالرغم من أن النبي (ص) والأمير (ع) قد استندت حروبهما إلى الشرعية، إلا أن الأصل في الإسلام عدم العنف، ولا يجوز للحاكم المسلم أن ينتقل إلى طور استخدام القوة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، أي إلى طور العنف، إلا عندما يرى تهديداً للشرعيّة ومروقاً عن القانون؛ فنستنتج أن العنف في الإسلام دواء لداء الخروج عن الشرعيّة وليس وسيلة لتحقيق الانتصارات والغنائم والزهو والمصالح المميزة، بل لتحقيق المصالح العامة التي تخص الهازم والمهزوم على السواء؛ والدليل أن انتصارات النبي (ص) على العرب المشركين كانت انتصاراً لهم مثلما كانت انتصاراً له؛ حيث عرفوا هذه الحقيقة بعد فترة تاريخية وجيزة جداً، علماً أن العنف الإسلامي يتدرّج بيد الحاكم المسلم من التعزيز والجلد وقطع يد السارق إلى أعلى أطواره وهو إعلان الحرب والجهاد على المستوى الخارجي، وكل ذلك وفق أحكام قانونية دقيقة جداً يصبّ تطبيقها في خدمة الشرعيّة أولاً وأخيراً.

وعندما قلنا أن الأصل في الإسلام عدم العنف، فإن ذلك يستند إلى العديد من الآيات المباركة والأحاديث النبوية الشريفة وأحاديث العترة الطاهرة التي تقرّر هذه القاعدة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- قوله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (يونس: 25).

2- وقوله تعالى: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك) (البقرة: 30).

3- وقوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران: 159).

4- وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) (النساء: 29).

5- وقوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) (الإسراء: 33).

6- وقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً) (القصص: 83).

7- وقوله تعالى: (لئن بسطت إلىّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) (المائدة: 28).

8- وقوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) (المائدة: 32).

فضلاً عن العشرات من الآيات الشريفة التي تشير تصريحاً وتلويحاً إلى الرفق وترك العنف، وأن استخدام القوة منحصر بيد الحاكم الشرعي أو من يستخلف. ومن الحديث نكتفي بقول النبي (ص): (لو كان الرفق خلقاً يرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه) واعلم أن النبي(ص) لم يكن فظاً غليظ القلب بشهادة القرآن الكريم. ولقد كانت حركة الرسول (ص) سجّلاً حافلاً بالأخلاق الحسنة والعفو والرحمة وعدم القسوة، وفي شعارات دخوله لمكة وعفوه عن قريش أكبر دليل على ذلك، وإن النبي (ص) لم يكن ميّالاً إلى العنف إلا بمقدار إحلال الشرعيّة ذات النفع المشترك للمنتصر والمهزوم، وكذا كانت حركة الأمير(ع) فكل حروبه وقراراته في استخدام القوة والعنف إنما كانت لإحلال الشرعيّة. ولعل هذا في منتهى الوضوح، فهل رأيته محارباً إلا لمارق أو قاسط أو ناكث على المستوى الخارجي، أو إلاّ مقيماً لحكم قضائي على المستوى الداخلي، وهو القائل: (رأس السخف العنف) وهو القائل أيضاً: (كن ليناً من غير ضعف، شديداً من غير عنف)، وكذا سار على هذا النهج سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الأعلى الإمام الراحل السيد الشيرازي رحمة الله تعالى عليه حيث نراه يقول في كتابه فقه الاجتماع: (السلم اهنأ مذاقاً وأحمد عاقبة وحتى الدولة المرهوبة الجانب خير لها أن تحل مشاكلها بسلام) عكس الزعيم النازي (أدولف هتلر) الذي يقول: (السلم سراب خادع، وعندئذٍ تتخلى السكة للسيف وتكون دموع الحرب حصاد عالم الغد).

بقي أن نشير إلى أن النبي (ص) والأمير  (ع) لم تكن حربهما من أجل الشرعيّة تطوعاً بل بإذن من الله؛ والدليل قوله تعالى: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) (الأحزاب: 46) إذن فليس هنالك مجال للاجتهاد والتطوع؛ فقد يخطئ المتطوّع حتى وإن كانت نيته حسنة، ويصبح مصداق قوله تعالى: (الذين ضلّ سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) (الكهف: 104).

نسأل الباري جل وعلا أن يسود السلام والإخاء والمحبة والرفاه على وجه الأرض، وأن تصل الشعوب طور الإنسانية الحقيقي الذي يقوم على أساس اللاعنف، أي على أساس الحوار والنوايا الحسنة والطيبة، وما ذلك على الله بعزيز، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللهم على سيدنا محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

 

إتصــلوا بـنـــا

الأعــداد السابقــة

العــدديـن 67 - 68

الصفحة الرئيسية