ردك على هذا الموضوع

 

الانتصار بالعنف.. بناءٌ على أرض ملغومة

وفيق فايق كريشات

مدخل:

الحياة فن.. ويحتاج النجاح فيها، من جملة ما يحتاج، إلى ذكاء وعقل يحسن التعامل مع الظروف والعوامل المختلفة؛ لدفع مضرتها وجلب نفعها، لكن الحياة الإنسانية تحتاج، إلى جانب النجاح، إلى السعادة؛ فقد بينت التجارب البشرية أن النجاح ليس مقترناً بالسعادة دائماً؛ فكم من طاغية نجح في الوصول إلى السلطة والاستئثار بها، ودان له الناس؛ لما أوتي من مكر وخديعة وبطش. ومع ذلك كان عيشه منكداً بالتوجس حتى من أقرب المقربين إليه، تصك صرخات ضحاياه آذانه، ويتملكه الرعب من مناظر الدماء التي سفكها، ويضطرم في قلبه الحقد على الإنسانية؛ فالطاغية ذو قلب أسود، وهيهات أن تتلألأ فيه أنوار السعادة.

الفضيلة من الشروط الأساسية لنيل السعادة، وهي - في الغالب - السبيل الموصلة إلى التوفيق والفلاح؛ فالداعية الفاضل الصالح تلامس دعوته شغاف قلوب الناس لتبذر فيها بذور الخير، وذو المهنة الأمين المخلص، يتنافس أهل الأعمال على استعماله، ويبذلون له الأجر الكبير.

النجاح المعنوي والمادي إذاً ثمرة طيبة من ثمار الصلاح، لكن هذه الثمرة موقوف أمر سلامتها ونضجها على تلقيح زهرة الصلاح باللقاح المناسب لها جنساً ونوعاً؛ وما ذلك اللقاح إلا الرفق المذكور في قول أمير المؤمنين الإمام علي (ع): (الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح) (1)؛ فإذا اجتمع الرفق والصلاح في موقف من المواقف أو قضية من القضايا، كان ذلك أدعى للنجاح وللعاقبة الحميدة، أما إذا فارق الرفق الصلاح، وحل محله العنف، فإن ذلك يكون نذيراً بالعقم، أو بالإجهاض على الأقل؛ لأن الحمل إذا لم يكن سليماً، فلا ينتظر منه أن يأتي بالمولود الحي الصحيح؛ فكيف إذا ارتفع الرفق والصلاح جميعاً، وساد العنف والرذيلة؟.

 

العواقب السلبية للعنف

إن العنف يتخذه كثير من الناس وسيلة لنيل أهدافهم وتحقيق تطلعاتهم، وهم في كثير من الأحيان يحصدون نتائج سريعة قد تفرحهم، لكن الأيام لا تلبث أن تبدي عيوب ذلك النجاح الفوري، والتي قد تكون أكثر من محاسنه، وتنتهي بأهله إلى عواقب لا تسرّهم. وتأخذ تلك العواقب السيئة صوراً ظاهرة وصوراً خفية؛ فمن الأولى الآثار الاقتصادية التي تظهر في صورة أرقام وبيانات، والآثار السياسية والاجتماعية التي تبدو في هيئة تشوهات بنيوية، وتصادمات حركية. ومن الثانية الآثار النفسية التي تخلفها تفجرات الحقد والغضب في بواطن الشخصية الإنسانية. أما الأمر الذي يحدد وقوع أثر دون آخر، فيرجع إلى الموضوع الذي يتوجه العنف إليه، وإلى الفكرة التي تنطلق منها ممارسته.

إن الانتقام أحد بواعث العنف؛ فالمرء قد يناله في بعض الأيام أذى من فرد أو جماعة. وتمضي الأيام، وربما الأعوام، ويزول الأثر الظاهر المباشر لذلك الأذى، من قبيل فقد مال أو جرح أو سباب أو غير ذلك، وتنقلب الحال فينال المتضرر عوضاً أكبر من الأذى الذي لحقه سابقاً، كأن يغتني أو يتعافى من جرحه أو يحرز مكانة اجتماعية رفيعة. وبعد هذا كله يعمد إلى الطرف الذي أضّر به في السابق، ويقتص منه جزاء ما فعله به.. فإذا فعل ذلك قيل انتقم وأدرك ثأره، ويفرح المنتقم بانتقامه، فيشعر بالارتياح لتنفيس شحنة الحقد التي كانت تملأ صدره، فتأخذه العزة بما أوقعه من ذل بخصمه. وهو في كل ذلك بعيد عن وخز الضمير؛ لأنه لم يفعل شيئاً سوى الاقتصاص ممن آذاه.

غير أننا لو أنعمنا النظر في أمر العنف الذي ينطوي عليه الانتقام، لوجدنا قبائح نربأً بالعقلاء عن الارتكاس فيها؛ من ذلك ما عبر عنه الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) في كتابه (التجارب والعبر) إذ قال: (العنيف يعيش في جحيم نفسه) (2)، فالحقد على الخصم ذو أثر نفسي سلبي لا يخفى؛ إذ أن ورود ذكره على السمع أو التماع صورته في المخيلة كفيل في إحداث اضطراب مزعج في باطن الحاقد، يزعزع كل إحساس بالارتياح والطمأنينة وهما أمران ضروريان ليحيا الإنسان حياة طبيعية.

وتزداد بشاعة هذا الموقف بتطاول الزمان وبكثرة الأفراد الذين ينزلقون إليه. إن مرور مدة زمنية طويلة ينشغل فيها المرء برعاية شهوة الانتقام لديه، هو وصفة سحرية لقذف النفس في أتون حقده لا يرحم ولا ينطفئ ولا يترك مجالاً لارتقاء النفس في مدارج كمالاتها؛ فالنفس المسلوبة السكينة أعجز ما تكون عن الانصراف إلى أداء الأعمال أداءً ناجحاً مثمراً، وقد تضطر إلى تكرار العمل مرات كثيرة، من دون الوصول إلى النتيجة المطلوبة، مع هدر الوقت والإمكانيات.

وإذا اشترك في نفخ جمرات الحقد تلك أفراد كثيرون، كعائلة أو حي أو دولة، كان الضرر مضاعفاً. إن الفرد الواحد قد تلهيه مشاغل الحياة عن الالتفات إلى ثأره بين الفينة والأخرى، لكن حمل راية الثأر من قبل جماعة يجعل نداء الانتقام أكثر تواتراً وصخباً وأعظم أثراً في حياة الجماعة من جميع وجوهها، فنياح الثكلى على ابنها، وهي تحرض قومها على الثأر، وضجيج نساء القبيلة أو الحي جميعهن بالبكاء على الأحبة، يذكي نار الانتقام في الصدور.

بعد هذا، ليس من العسير تصور مآل الأمر إذا صار الانتقام سنة يتبعها بنو البشر في التعامل مع خصومهم، بدون أن يشوبها شيء من الترفع والصفح. إن الدمار الاقتصادي والتمزق الاجتماعي سيحيقان بالمجتمع الإنساني لا محالة، وسيرتمي أبناؤه في دوامة من العنف المضاد، لأن كل قصاص سيولد ثأراً في الذي اقتص منه، وهكذا دواليك. وقد علمنا حال قبائل الجاهلية التي ساد فيما بينها قانون الثأر العنيف. وعلى مر مئات السنين ظلت أوصال تلك القبائل متقطعة، على ما بينها من أواصر ليست بقليلة الشأن، وعاش أبناؤها على السلب والنهب والغزو وسفك الدماء. وكانت نتيجة ذلك كله هواناً جماعياً لتلك القبائل، وفقراً فتك بأكثر أبنائها، وعيشة مضطربة لا يرتفع عنها الإنذار بالغارة، بعد أن سالت الدماء وكثرت الثارات وتشابكت.

 

سهام العنف تنوش دعاته أولاً

إن الإنسان حينما يأخذ في حسبانه التحلي بالصفح والتخلي عن الغل وشهوة الانتقام إنما يسدي نفعاً إلى نفسه قبل غيرها؛ فبدون ذلك سيكون من المستبعد أن يدرك هناءة البال وفرصة نيل العيش الكريم في وسط مجتمع يتفجر في جوانبه الغضب، أو مع نفس تغلي بما تضمره من عنف. وليت الأمر اقتصر على المساوئ التي ذكرنا؛ فها هنا محذور ليس أقل سوءاً، وهو أن تركيز الانتباه على أمر وقع في الماضي البعيد وشغل النفس بالرد عليه بعد زوال أثره وانحسار ضرره لشبيهٌ بمرض الفصام، ومن المفيد استحضار الماضي لدراسته وفحصه وأخذ العبر من أحداثه. لكن ثمّ خطر لا يستهان به في أن يرجع المرء إلى لحظة زمنية مضت ويعيش فيها متقوقعاً في قوقعتها. والمثال على هذا هو أن يعود الإنسان القهقري إلى حقبة سالفة كان فيها لبعض أجداده عداوة وثأر، ثم يثير لأجل ذلك حرباً مع أبناء خصوم أسلافه. وبفعله هذا يفسد الحاضر بالماضي عوضاً عن أن يصلح الماضي بالحاضر.

وقد رأينا منذ عشر سنوات ونيف كيف غزا جار عربي طالما هتف بالعروبة جاره العربي، وجلب على الآمنين من الخراب والشقاق والكراهية، ما لا يحلم فيه أعدى أعدائهما. ولعل قائلاً يقول هذا دأب العرب والمسلمين قديماً وحديثاً. وهو في هذا يكون غافلاً عن ما جرى في البلقان الأوروبي المجاور لليونان مهد الحضارة الأوروبية. لقد أثارت أحلام اليقظة التي حلم فيها بعض زعماء تلك المنطقة أنهم يعيشون في القرن الرابع عشر - لا في القرن العشرين - حرباً تشرد منها شعب بأسره من أرضه، وحل بالمعتدي دمار لا ينهض من ركامه إلا بالجهد الشديد والإنفاق الكثير.

فهل يمكن أن يقبل عاقل - بعد هذا - أن يسلك الانتقام في الدوافع السليمة للسلوك البشري؟ إن المساوئ التي ذكرت آنفاً، وغيرها مما لم نذكره، لتضع الانتقام في حيز أفعال الجاهلين الذين لا يحسنون الاختيار بين حميد الأفعال ومذمومها. وفي هذا ورد عن الإمام الصادق (ع) خبر يذكر ما للعقل والجهل من جنود تنفذ أوامر كل منها، وفيه وضع الإمام الانتقام في جنود الجهل ووضع قبالته الصفح في جنود العقل، تنبيهاً إلى رفيع منزلة الصفح وعاقبته الحميدة(3). وإننا إذا نظرنا إلى سيرة رسول الله (ص) وجدنا أمثلة رفيعة على إيثاره (ص) الصفح على الانتقام، فمع أن بعض أهل مكة قد استولوا على داره بعد هجرته إلى المدينة، ومع أن أحدهم تعرض بالأذى لابنته زينب في طريق هجرتها من مكة حتى أسقطت جنيناً وماتت من إصابتها تلك، فإنه (ص) لما دخل مكة فاتحاً بعد ذلك بثماني سنوات، عفا عن ذلك كله فكان لذلك أثر بالغ في انفتاح قلوب المكيين للإسلام، وفي استتباب الأمن في مكة وهي عاصمة الشرك سابقاً. إن النبي (ص) لم يدع إساءة وجهت إليه قبل سنوات أن تغلب حلمه وسعة صدره، ولا أن تحول دون شمول المسيئين بعفوه؛ فضرب بذلك أروع مثل للمسلمين. لكن الإساءة القديمة ليست هي الدافع الوحيد للعنف، فقد يكون الضرر راهناً مما يحرض رد فعل آلي. ومع أن الرد العنيف على الاعتداء المباشر أمر مبرر منطقاً وأخلاقاً وشرعاً، فإن النظر الدقيق يكشف عن مسائل كثيرة متفرعة عن قضية الرد الدفاعي مما يقتضي التروي والحذر. فمن جهة، إن الإنسان ليس معصوماً من الخطأ، وإنه ليسيء أحياناً إلى بعض أعز أصدقائه وأقربهم إليه. فلو جعلنا القاعدة السلوكية هي رد الأذى بالأذى دونما تقييد، لما تصاحب اثنان من الناس ولما تصادقا؛ ولهذا فإن الأولى والأقرب إلى المعقول أن لا يبادر المرء إلى العنف في قبالة تصرف مؤذٍ بدر من صديق حميم، وليس امتصاص البادرة العنيفة من الصديق هو المطلوب وحده، بل إنه ليجدر بمن يحترم الصداقة والأخوة الحميمة أن يفتش عن أعذار لتلك البادرة، وأن يقابلها بالصفح، لا بل بالإدمان على المواصلة وكأن شيئاً لم يحدث.إن الشفقة لعثرة الصديق وإقالتها خير من اضطراب النفس وثورتها لمقابلة الشر بالشر.

 

موجبات الحذر من مبادرة العنف بالعنف

والأمر الذي ذكرناه آنفا يصدق حتى على عامة الناس الذين لا تربط الإنسان بهم صلة وثيقة؛ فالتعدي الذي يبدر منهم يبرر مقابلته بالتعدي، لكن الضرر العظيم الذي ينجم عن ذلك على مختلف الأصعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية تستدعي من العقلاء التروي والتدبر قبل المبادرة إلى التوسل بالعنف عند دفع الاعتداء؛ فلربما كان بالإمكان استلال حقد المتعدي وغضبه وإطفاء ثائرته وإصلاح ما أفسده عدوانه، ودفع المزيد من أذاه. لعل ذلك يكون ممكناً تحقيقه بالوسائل السلمية، من إقناع وتوسط وشفاعة، أو بالوسائل شبه العنيفة، كالتهديد وما أشبه. فإذا أمكن ذلك صار من غير المحمود اللجوء إلى رد الفعل العنيف، بل صار من المندوب إليه اجتناب العنف، كما يقول الإمام الشيرازي(قدس سره): (إذا كان اللاعنف أقرب الطرق للوصول إلى المطلوب كان الأحرى بالاتباع اللاعنف) (4). والإمام إنما ذهب إلى هذا اهتداءً بهدي القرآن الكريم وسنة النبي الأمين(ص) وأهل بيته المعصومين (ع). ففي قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت: 34) تنبيه إلى أن مقابلة السيئة بالحسنة، قد تؤدي إلى استلال عداوة الخصم من صدره، بل زرع الصداقة في مكانها؛ وفي قول الصادق(ع): (ما من عبد كظم غيظه إلا زاده الله عز وجل عزاً في الدنيا والآخرة) (5) بشرى بأن كظم الغيظ يأتي للمؤمن بالعزة والمنعة التي كان ينشدها من مجابهة التعدي بالتعدي، وتقترن بكظم الغيظ خصلة حسنة أخرى ألا وهي الحلم، وهو خلق عظيم يدرك صاحبه عند الغضب الذي يستثيره عدوان المعتدي، فيمسك عن مقابلة الإساءة بالإساءة. وقد ورد في مدح الحلم الكثير من القصص المأثورة على ألسن الناس، والأخبار المروية عن أئمة الهدى(ع)، ومن ذلك ما قاله الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع): (إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه) (6).

على ضوء ما سبق يمكننا فهم ما روي عن النبي عيسى المسيح (ع) من قوله: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) (7). فلو حمل هذا الخبر على إطلاق ظاهره، لما بقي موضع في الأرض إلا وعاث فيه المفسدون، ولا بقي إنسان إلا وأذله الظالمون، أما لو قيدناه بما ذكرناه آنفاً لتبين لنا أن الضارب الذي يندب المسيح (ع) المضروب إلى إدارة الخدّ له، هو غير الطغاة المفسدين. ونعني بهم عامة الناس والأصدقاء الأحباء الذين تكون في كظم الغيظ عنهم فائدة ترجى، أما أهل الظلم والفساد الذين لا يرجى إصلاحهم فلا يجدي معهم الحلم والصفح. وفي هذا قال السيد المسيح(ع): (ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً) ) (8)، وحينما دخل هيكل العبادة قلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام المنصوبة فيه.. مما يجعل من السهل علينا تصور موقفه (ع) من مظاهر الظلم والفساد، التي ليس البيع والشراء في بيت العبادة شيئاً بالنسبة إليها.

إذاً، ها هنا مواقف تستدعي من الإنسان، إذا كان مؤمناً أو حراً، أن يغضب؛ فقد اُبتلي البشر، قديماً وحديثاً، بأشرار وظلمة لا يزجرهم عن أذية الناس وظلمهم زاجر، ولا يردهم عنه وعظ واعظ، وفوق ذلك، يكون ضررهم أعظم من أن يحتمل أو أن يتلافى بيسر. إن أشراراً كهؤلاء الذين يشنون على الإنسانية حرباً سافرة أو مقنعة، لا يتركون مجالاً لأن يدار لهم الخد الآخر، ولا أن يكظم الغيظ عنهم، فما لهم إلا السيف والرد العنيف بالحرب وما أشبه؛ فمورد الحلم والعفو غير هذا، كما يقول الإمام الشيرازي(قدس سره): (لا يراد العفو عن الظالم المعتدي الذي لا يرعوي) (9).

 

العنف استثناء وليس قاعدة

على أن اللجوء إلى العنف والحرب هو، كما رأينا، بمثابة الحل الأخير الذي يرغم المرء عليه بعد نفاذ الوسائل السلمية لرأب الصدع وتلافي الضرر. ولما كان الأمر بهذه المثابة، أعني أنه يؤتى على مضض وكره واضطرار، فإنه يستدعي الحذر والحرص على تقليل المضار ما أمكن؛ فالإمام الشيرازي (رحمه الله) يشبه الاضطرار إلى الحرب بالاضطرار لأكل الميتة؛ ولهذا يقول: (لذا تقدر الحرب بقدرها في الإسلام) (10). فالحرب في الإسلام، كما سنرى، ليست مفهوماً بسيطاً ينطوي على استئصال الخصم بشتى الوسائل، بل هي شبيهة بالعملية الجراحية العلاجية الدقيقة دون الإعدام؛ فللإسلام وجهة نظر خاصة حول الحرب، كما في غيرها من أمور الحياة، إنه يندب المسلمين إلى العمل على اجتناب الحرب بأن يعدوا وسائل القوة التي ترهب الأعداء عن التفكير في العدوان على المسلمين، والتي تضع المسلمين في موقف تفاوضي جيد يجعل العدو بحيث لا يتعنت في المفاوضات التي تسبق الحرب عادة، والتي قد تثمر عن دفع شرها الوشيك(11). هذا ما يستنبطه الإمام (قدس سره) من قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال: 6).

وإذا لم ينفع ذلك في دفع الحرب، فالمسلم مأمور بأن يجتنب البدء بالقتال. ويقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) لعسكره قبل لقاء العدو في صفين: (لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤكم حجة أخرى لكم عليهم) (12).

فهذه تربية نفسية رفيعة يربي أمير المؤمنين (ع) جنده عليها، إنه يأمرهم بضبط النفس، حتى يكون همهم في استكمال الحجة على الخصم أكثر من الهجمة للفتك به، انظر أيها القارئ كيف يعتني أمير المؤمنين (ع)، حتى بعد أن أصبحت الحرب أمراً واقعاً تقريباً، بأن يبعدها قدر الإمكان عن الذهن؛ فلعمر الله لو أن الناس أخذوا بهذه الكلمة البليغة (لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم) لانطفأت نيران الحروب قبل أن تحرق بلهيبها أحداً، مهما اشتد سعيرها.

لنهبط من سماء المثل التي لا وجود لها على الأرض ولننظر إلى الصراع العنيف وقد لعلع رصاصه ودوت قذائفه. إن سباع الوحوش حينما تخرج للصيد يكون همها العدوان على ما تقدر عليه من الطرائد، دونما تمييز أو رحمة. وكذا حال كثير من سباع البشر الذين لطخوا بالدماء التي سفكوها جبهة الإنسانية، فكم سقط في الحروب من الصغار والمسنين، ومن النساء والعجائز، وكم أتلف وأحرق من الأرزاق والمنشآت الإنتاجية، وكم وكم؟!!..

إن إطلاق العنان للوحش المتربص في باطن الإنسان، بحجة أن الحرب دفاعية، ليس من الإسلام في شيء؛ ففي الإسلام دعوات صريحة إلى أن يلتزم المسلم في حربه بأخلاقيات محددة. من ذلك، أن أمير المؤمنين (ع) حينما سمع جنوده يسبّون جنود العدو، نهاهم عن ذلك، بل ندبهم إلى الدعاء لهم بالهداية والصلاح؛ فالسباب مذموم في الإسلام، والإمام (ع) ينبه الناس إلى أنه لا يليق بالمسلم أن تبعده أمور الحرب عن المكارم، وتوقعه في الرذائل. وهاهنا أمر آخر، أن الإمام (ع) يريد للمسلمين، مع اشتغالهم بحرب العدو ودفع غائلتهم، يريد لهم أن يبقى لديهم قدر من حب الخير والهداية لهذا العدو، وأن لا يكون كل همهم استئصاله.

ومن أخلاقيات الحرب في الإسلام اجتناب التعرض بالأذى لطائفة من غير المقاتلين الحاملين للسلاح؛ فليس ردّ العدوان مبرراً لشمول دائرة الرد جميع من يرتبطون بالمعتدين بروابط عرقية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية أو ما شاكلها؛ فإذا قام جيش الدولة الفلانية بعدوان على بلد معين، لم يكن هذا مبيحاً لاستهداف أبناء تلك الدولة كافة بالرد المسلح، لقد استثنى الفقه الإسلامي من القتل عشر طوائف من المعتدين المحاربين، وفي بعض الأقوال استثنيت أربع عشرة طائفة، منهم الشيخ الفاني والمرأة التي لا تحمل السلاح (بل حتى لو حملت السلاح فإن من المندوب الكف عنها ما أمكن ذلك) (13)، والطفل قبل بلوغه، وذوو العلل الشديدة والعبّاد المتفرغون للعبادة وأصحاب المهن كالفلاح والنجار(14).

إن لهذا الحكم الإسلامي الرفيع دلالات لا تخفى؛ فمن الناحية النفسية، أن مفهوم المرأة والطفل والشيخ الفاني وأمثالهم مقرون بالضعف ومباين للعنف، وهذا ثابت لدى البشر جميعاً. ولهذا فإن التعرض بالقتل لهم يستثير لدى الناس المحايدين شعوراً بالاشمئزاز من الذين يقومون بذلك ويصمونهم بالتوحش وقساوة القلب وغير ذلك مما يسيء إلى السمعة ويشعر بالخجل؛ ويصبح أولئك مضرباً للأمثال التي تحط من أقدارهم وتجعلهم منبوذين بحيث أن نفوسهم ذاتها تتشوه بالقسوة والغلظة المنعكسة من الفعل العنيف غير المسؤول.

ومن الناحية السياسية فإن اجتناب الإساءة إلى تلك الطوائف فيه بعد نظر؛ إذ لا يأمن المنتصر أن يهزم يوماً، فإذا لم يمسك عن الإفراط في التعرض بالقتل إلى من ذكرنا من غير المحاربين، فإنه قد أعطى مبرراً لخصمه ليستأصل كل من ينتسب إليه بنسبة ما، ويكون بهذا قد جلب إلى من يتولونه شراً وضرراً اجتماعياً بعيد الأثر.

هذا، وإذا كان قتل بعض الناس مذموماً، مع أنهم قد يكون لهم دور غير مباشر في رفد العدوان، فكم هو حريٌّ ذم إلحاق الضرر والتلف بالبيئة وما فيها من أنهار وبحار وأشجار وحيوان وبالمساكن والمعامل والمنشآت الإنتاجية. والإمام أمير المؤمنين (ع) يقول: (اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ) (15).

إن البيئة (الأرض وما عليها) خلقت لنفع الإنسان وسخرت له فكيف يجوز أن تجعل ميداناً لاستخدام أسلحة التدمير استخداماً غير مسؤول؟ وكيف يعقل أن تجعل كالعدو والمحارب خصماً يضرب بالأسلحة المدمرة؟! وهناك أمثلة فظيعة كثيرة على التلف الذي ألحق بالبيئة من جراء الوسائل القتالية في فيتنام والخليج وغيرها. إن تطور الأسلحة وقدرتها التخريبية ليوجبان على المتحاربين أخذ كل أسباب الحذر عند استخدامها. ولقد رأينا كيف كان ذلك من بعض الأسباب التي ظلت طوال أربعين عاماً تردع الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة عن التحارب فيما بينهما. إن الأسلحة النووية، إذا استخدمت، لن تترك على الأرض موضعاً يمكن أن يحيا فيه من ينجو من الحرب.

وبالجملة، أن الغاية لا تبرر الواسطة، و(الرذائل لا تنقلب فضائل) (16). فكما أن رد العدوان لا يبيح دماء غير المحاربين، ولا يجيز الإفساد في الطبيعة، فهو لا ينزع صفة الرذيلة عن الغدر والتمثيل والسرقة،وغيرها من دنيء الأخلاق. إن المسلمين بحكم مخالطتهم للآخرين تقوم بينهم وبين أولئك عهود ومواثيق في مجالات شتى، وحين يقع العدوان وتنشب الحرب تثور في النفوس نوازع الغضب والرغبة في الفتك بالعدو، مما يسول نقض العهد باعتبار أن الغدر واسطة ناجحة من وسائط بلوغ الغاية، من رد كيد المعتدي في نحره، على أساس أن البادي أظلم، لكن رسول الله (ص) نهى المسلمين عن الغدر، تلك الخصلة المذمومة التي لها أسوأ أثر على التعامل بين الناس، والتي تعارف الناس، منذ القدم وعلى اختلاف مشاربهم، على كرهها ووجوب اجتنابها.

كما أنه (ص) نهى عن المثلة بالقتلى فقال: (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور) (17). ولاشك أن المثلة تنم عن رغبة جارفة بالتشفي من القتيل، وهذه رغبة دنية ينكرها العقلاء فضلاً عن المؤمنين، ويكفينا من الدلالة على قبح هذه الفعلة أن رسول الله (ص) نهى عن إيقاعها حتى بالكلب العقور، يضاف إلى ذلك ما وصمت به هند زوجة أبي سفيان لما مثلت بجثة حمزة (ع) ولاكت كبده، فصارت لا تعرف إلا بآكلة الأكباد؛ فالفعل إذا كان شديد القبح صار نعتاً لفاعله، لا ينزعه عنه مرور الأجيال.

وبعد، فهذه بعض النتائج السلبية، من النواحي السياسية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تنجم عن الحرب إذا لم يؤخذ بعين الاعتبار أمر الأخلاقيات التي يجب أن توضع نصب العين في أثناء الحرب. ولأجل اجتناب هذه المضار قال سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره): (إذا اضطررت إلى الحرب فضيّق دائرتها) (18).

وليس تضييق دائرة الحرب وتقديرها بقدرها مقصور على الإمساك عن شمول دائرة الحرب غير المحاربين والبيئة ولا على ترك الغدر وغيره من الرذائل، بل إن ذلك يتعلق أيضاً بالمسلحين المنخرطين في القتال؛ فمع نهاية الحرب وانطفاء نارها تكون النفوس مشحونة بالكراهية والعنف وشديدة الميل إلى الفتك بمن نجا من الأعداء من القتل، لكننا نرى عند رسول الله (ص) أهل بيته (ع) علاجاً لهذا ألا وهو العفو.

 

العفو من سجايا المعصومين (ع)

نعم؛ لقد عفا رسول الله (ص) عن أهل مكة الذين كذبوه وسبوه وحاربوه، وعفا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عن الذين أثاروا الحروب عليه بعد أن تمكن منهم. وهذا العفو ليس فقط تعبيراً عن الرحمة واللطف اللذين تجسدا في سيرة النبي (ص) والإمام المعصوم (ع)، بل كان يدل على بعد نظر منهما. وهكذا فالإسراف في القتل حتى يشمل المهزومين، سيزيد من الغل الذي تولد من الهزيمة في قلوب أولياء المهزومين والمقتولين مما ينفخ في نار الانتقام لديهم. وكل ذلك سيرسخ الحواجز التي تقوم في النفوس في وجه دعوة الحق والهداية والإصلاح، التي كان النبي والإمام (ع) يحملانها إلى الناس. وثم أمر آخر ألا وهو يأس المهزومين من الرحمة والعفو، فإنه قد يصبح دافعاً إلى تمالئهم مع الأعداء المتربصين، وبهذا يكون التشفي بقتل بعض المهزومين قد جر حرباً ليست في الحسبان وكان بالإمكان اجتنابها. وفوق هذا فإن أخذ إمكان انقلاب الموازين في الحسبان يرجح كفة العفو على الانتقام؛ فلعل المنتصر اليوم تحيق به الهزيمة غداً، ولعل القوة التي في جانب أهل الحق تصبح في جانب أهل الباطل، فإذا لم يقتصد هذا الفريق الغالب في القتل، فإنه يؤذن لنفسه بانتقام عنيف عندما تصبح الدولة لخصمه؛ ولهذا، ولغيره من الأسباب، كان العفو من سجايا رسول الله (ص) والإمام أمير المؤمنين (ع) والأئمة من وده (ع).

لقد اجتمع لترجيح العفو على الانتقام الحكمة (أي الحكم العقلي الصائب) والعاطفة (أي اللطف والرحمة)، فما بالك إذا أخذت بأيديهما الموعظة الإلهية (أي التوصية بالعفو)؛ فقد روي عن رسول الله (ص): (عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فتعافوا يعزكم الله) (19) وروي عن الإمام الرضا (ع): (ما التقت فئتان قط إلا نصر أعظمهما عفواً) (20) إن العفو هو ترك الاقتصاص عند المقدرة عليه. وهذا يشعر بأن الآخرين ينظرون إلى العفو بأنه وهن وتراخ في نفس صاحبه؛ مما يدفع إلى الانتقام بدلاً من العفو، لكن الحديثين المذكورين آنفاً يطمئنان صاحب العفو إلى أن عفوه سيعقبه العز الذي ينشده، وإلى أن توطين النفس على العفو سبب من أسباب النصر؛ فما أحسنهما من ثمرتين لهذا الرفق والعفو، وما أبعدهما عن التوقع عند كثير من الناس.

هذا، وفي الواقع هناك مصاديق كثيرة لهذين الحديثين، ومن أبرزها حال مكة بعد الفتح. إن عفو رسول الله (ص) عن أهلها، بعد كل الأذى الذي ألحقوه بالمسلمين، قد كان ذا أثر بالغ في استتباب الأمور فيها وعدم اضطرابها، بعد أن رجع الرسول (ص) عنها إلى المدينة، مع أنه لن يخلف فيها جيشاً يحفظ الأمن، وهي عاصمة الشرك سابقاً، فتأمل.

تناولنا حتى الآن موضوع العنف المضاد الذي يستثيره العدوان والمبادرة إلى العنف، ورأينا الدور الإيجابي الفعال الذي يلعبه كظم الغيظ والعفو في توجيه الرد العنيف توجيهاً عقلانياً يصلح قدر الإمكان المفاسد المصاحبة للفعل العنيف. وفيما يأتي نتناول الوجه الآخر للمسألة، أي المبادرة العنيفة.

 

الحاجة لا تبرر الفعل العنيف

ما الذي يجعل الإنسان يشن الاعتداء العنيف على الآخرين؟!.

إن الحاجة هي أبسط العوامل الكامنة وراء مظاهر العدوان. إن الإنسان مخلوق ذو حاجات متعددة منها ما هو جسمي، كالحاجة إلى الطعام والهواء، ومنها ما هو غير ذلك كالحاجة إلى الأمن. وكل نقص في الشروط التي تساهم في تلبية هذه الحاجات يؤدي إلى اختلال في التوازن النفسي، ويقترن هذا الاختلال بتوتر وضيق في الإنسان يدفعه إلى القيام بفعل ما يلزم لإعادة التوازن وإزالة التوتر. وعندما يدرك الفرد أن عائقاً يحول دون ذلك، فإنه يشعر بالغضب ويحاول أن يتخلص من ذلك العائق بالعدوان. ويأخذ العدوان أحياناً شكلاً جسمانياً كالضرب، وأحياناً شكلاً معنوياً كالكلام القاسي. وقد يكون العدوان موجهاً مباشرة إلى مصدر الإعاقة، وربما يكون غير مباشر للضغط على ذلك المصدر.

ومهما يكن الأمر فإن الفعل العنيف النابع من الحاجة هو فعل يقوم به الإنسان بما هو كائن لا بما هو إنسان. فكل كائن حي مدفوع بالحاجات التي ذكرنا إلى سلوك السبل التي توصله إليها. والإنسان حينما يقوم بفعل من أفعال التعدي عندما تسد في وجهه الطرق المؤدية إلى إرضاء حاجاته بصورة شرعية، فإنه حينذاك يستدر الشفقة أكثر مما يستثير الغضب، والأولى كظم الغيظ والعفو دون المقاصة والانتقام.

إن العدوان الناجم عن سد السبل الشرعية لاحق بمفهوم رد الفعل الدفاعي الذي ورد سابقاً. إن الحاجات التي ذكرناها أعلاه هي حاجات طبيعية وضرورية، وكل عائق يمنع من إشباعها فإن أثره شبيه بأثر التعدي الذي يستثير رد الفعل. لكن ثمّ رغبات غير ضرورية وأخرى غير طبيعية تولد في الإنسان دوافع إلى العنف والعدوان. وهنا سنبحث في ثلاثة من هذه الدوافع. وهي الدوافع المذكورة في الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق(ع): (أصول الكفر ثلاثة، الحرص والاستكبار والحسد، فأما الحرص فإن آدم (ع) حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على أن أكل منها، وأما الاستكبار فإبليس حيث أمر بالسجود لآدم فأبى، وأما الحسد فابنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه) (21).

لنبدأ بالاستكبار حيث يبين الإمام الصادق (ع) العلة النفسية الذاتية التي ينشأ منها الكبر، ويقول: (ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه) (22) فالمتكبر ينظر إلى نفسه فيرى صغرها، ثم ينظر إلى الناس فلا يشك أنهم مطلعون على حقارة نفسه وناظرون إليها، وعوضاً عن تزكية نفسه بالطاعة والمكارم وغيرها مما يبلغها كمالاتها، فإنه يسخر المكر والقوة الغاشمة في التجبر والطغيان. فإذا سفك الدماء وانتهك الحرمات وخضعت له الرقاب خوفاً ظن وتوهم أنه صار أعظم الناس في نفسه وهو لم يزل أصغر الناس في أعين الناس. وهكذا، ترك إبليس تزكية نفسه الذليلة بالطاعة لله والسجود لآدم، وعمد إلى الكيد لآدم والمكر به لإلحاق الضرر به. وكذلك فعل الطغاة والمتجبرون على مر العصور، ارتفعوا بأقدامهم وعروشهم على جماجم الأبرياء، وهووا في أعين الناس إلى الحضيض؛ فلا يذكرون إلا وتثير ذكراهم الاشمئزاز والقرف في نفوس الأحرار.

وليس الحسد بأقل أثراً في تحفيز النفس الأمارة بالسوء على العدوان. ولنبين هذا بمثالين أولها حين حسد قابيل أخاه لأن قربانه قد تقبل، فقتله، وثانيهما حين حسد أبو جهل محمداً(ص) فعانده وحاربه. لنسمعه وهو يصرّح بحسده ونقمته من الفضل الذي آتاه الله محمداً (ص): (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجارينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه) (23) فإذا كان قابيل قد حرم أن يتقبل قربانه فما ذنب هابيل؟! وإذا كان أبو جهل قد حرم أن يبعث من عشيرته نبي فما ذنب النبي محمد (ص)؟!.

لا ذنب لهابيل ولا للنبي الأكرم (ص) ولا لملايين المحسودين والمتجبر عليهم، وإنما الذنب لأجل الحسد الذي يتجلى في مظاهر العداء للإنسانية والكره للتفوق المشروع والغضب من نيل الآخرين شيئاً من الخير. والذنب، عند التحليل الدقيق، هو للنفس الأمارة بالسوء التي تزين للإنسان الشهوات من حب المال والسلطان وغيرها حتى يظن أنها حاجات ضرورية فيجري في كل سبيل يوصله إلى شيء منها، وقد جعلها أكبر همه؛ فلا يبالي كيف ينالها ولا من أين ينالها؛ فإذا فعل ذلك تمكن الطمع منه فأسلمه قياده، فصار كشارب ماء البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً، وأصبح وحشاً ضارياً لا يتورع عن المكر والغدر وسفك الدماء إذا كان شيء من ذلك يوصله إلى بعض مطامعه. وإن الناظر إلى الماضي من تاريخ الإنسان وإلى الحاضر منه يجد فيه ما تقشعر له الأبدان من فظائع ارتكبت في حق الأفراد والجماعات على أيدي الطامعين من غزاة البدو والملوك والإقطاعيين والبورجوازيين والرأسماليين والإمبرياليين والعولميين، والقائمة مفتوحة على أسماء جديدة لهذا المسمى البغيض أي أصحاب الطمع والظلم والجور إلى أن يأذن الله عز وجل بخروج مهدي آل محمد (ع) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

 

دور التعصب الفكري في إثارة العنف

ها قد عرفنا الدور الذي تلعبه النوازع النفسية، من طمع وحسد وكبر، في السلوك العدواني العنيف، وأتينا إلى المسألة الأخيرة من المسائل المتصلة بمثيرات المبادرة العنيفة؛ إنها الحماسة للفكر والالتزام الإيديولوجي؛ فالإنسان يمتاز عن الكائنات الأرضية بامتلاكه للفكر. وللمنظومة العقلية في الإنسان دور فعال في التأثير على تصرفاته، ولهذا كانت رسالات الأنبياء (صلوات الله عليهم جميعاً) موجهة في جانب كبير منها لإصلاح أفكار الناس تمهيداً لإصلاح أفعالهم.

ويبلغ حب بعض الناس للمبادئ التي يحملونها أحياناً مبلغاً يدفعهم إلى السعي لجعل الآخرين يؤمنون بها معهم، حتى أنهم ليحزنون حزناً شديداً قد يودي بهم إن جوبهوا بالصد والرد، كما ورد في قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (الكهف: 6).

وفي السعي لنشر الفكر والعقيدة، يتوسل البعض بالعنف إما استعجالاً وإما ضعفاً، فالمبدأ قد يكون في ذاته صحيحاً ومنطقياً كله أو بعضه، وقد يكون باطلاً وفاسداً، والعقيدة ربما تكون مقدمة إلى الآخرين في صورة جذابة، وقد تكون في صورة منفرة. وهذه الأمور جميعاً ذات أثر كبير في قبول الآخرين لهذا المبدأ وهذه العقيدة وفي سرعة القبول والاستجابة وفي الرفض. ولا يغفل، في هذا المجال، أثر الخلفية الثقافية والبنية الاجتماعية للأقوام الذين يتوجه إليهم بالدعوة. إن التباين الشديد بين عناصر الدعوة وعناصر ثقافة القوم المدعوين، وطغيان الأفراد المتربعين في رأس الهرم الاجتماعي لأولئك القوم، ليبتلي انتشار الدعوة الجديدة، مهما كانت صالحة جذابة، بالبطء، فما بالك إذا كانت الدعوة مقدمة في صورة غير مناسبة؟!. أمام هذه العقبات يلجأ كثير من الدعاة إلى الفكر الجديد، إلى العنف من أجل نسف هذه العقبات وفتح الطريق لنفوذه؛ فهم، إن كانت دعوتهم صحيحة وقريبة إلى قلوب الناس، لا يصبرون على العمل بهدوء وسلام لإزالة العوائق التي تمنع وصول دعوتهم إلى عقول الناس وقلوبهم، فيستعجلون إزالتها، وإن كانت دعوتهم باطلة وبعيدة عن قلوب الناس، فإنهم يأنفون من تغيير ما بأنفسهم من فكر باطلٍ أو من تجميل لصورة الفكر، ويغفلون عن أن العيب يكمن فيهم، ويظنون أن لا سبيل لنشر العقيدة إلا العنف.

ومهما يكن الأمر فإن استعجال رواج الدعوة أو بطلانها أو ضعف حججها، لا ينبغي أن يحمل صاحبها على تلويثها بالعنف ويعرضه إلى عواقب سيئة. وإننا فيما يأتي سنتناول بعضاً من العواقب الوخيمة التي تأتي من اتخاذ الأسلوب العنيف في نشر الفكر. ومما يجدر بالتنويه في هذا المقام أن سماحة الإمام الشيرازي (رحمه الله) قد أولى الأسلوب الذي يجب أن يتبعه المسلمون في إنهاض أمتهم وفي حمل رسالة الإسلام إلى الآخرين، عناية فائقة في معظم مؤلفاته على كثرتها، وأن المطالع لا يمكن أن يفوته، وهو يبحر في خضم فكر سماحته، إدراك صوت الدعوة التي يوجهها إلى المسلمين حتى يتخذوا السلم وسيلة إلى نشر عقيدتهم وينبذوا العنف لأنه (لا يمكن استقطاب القلوب بالسلاح) (24). بل إن التوجه إلى القلوب بالسلاح ذو أثر معكوس كما سنرى.

فاستخدام السلاح لفرض الفكر على الآخرين ينطوي على مصادرة لحريتهم الفكرية. ومن المعلوم أن الإنسان إنما تميز عن الحيوان بالعقل والفكر، وإذا افتقر الفكر إلى الحرية فقد أصابه ضرر شديد ينعكس على صاحبه أخطر انعكاس. فالإمام الشيرازي (رحمه الله) يشبه حاجة الفكر إلى الحرية بالحاجة إلى الغذاء(25)، ولهذا فإن حرمان الفكر من الحرية يعني حرمانه من أمر ضروري لعافيته وصحته، وإذا كان الإنسان فاقداً لصحته الفكرية فما قيمة اعتناقه للدعوة المفروضة عليه بالعنف؟!.

هذا شأن من يقبل العقيدة الجديدة قسراً، أما الذين لن يقبلوها فسيلجأون إلى التخفي والتستر خوفاً من البطش. وهذا الأمر ذو أثر ضار جداً على المجتمع، فالمجتمع الذي يكون حاله هكذا لشبيه بالبحر الذي جمد ماء سطحه تقريباً، يحسبه المرء صلباً متماسكاً، وكثير من بقاعه واهية لا يدوس عليها أحد إلا انخسفت به. فكبت المخالفين وقمع الآراء لن يجلب للبلاد إلا تماسكاً ظاهرياً يخفي تحته تفككاً خطيراً لا يمكن توقع مضاره كي يحسب حسابها. وبخلاف هذا حال المجتمع الذي يتيح لأبنائه الحرية الفكرية فيعبروا عن آرائهم دونما خوف.

من الصحيح القول أن الآراء المختلفة ستولد انقسامات في المجتمع، لكن من الصحيح أيضاً القول أن الاختلاف لن يكون على كل صعيد فيولد القطيعة التامة والانهيار الشامل؛ لأن البشر مهما اختلفوا فإن بينهم قواسم مشتركة كثيرة تجمع بينهم. وهذا ظاهر مثاله في البلدان الأوروبية والأميركية واليابان. فحال هذه البلدان المنقسمة من جهات ومتحدة من جهات أخرى كحال الجزر في البحر، رؤوسها منفصلة وقواعدها متصلة ثابتة. وهذا يجعل من الممكن جداً مد الجسور بين الجزر.

هذا هو الضرر الناجم عن استخدام العنف لمصادرة حرية الآخرين وفرض فكر محدد عليهم. وهذا الضرر واقع حتى لو كان الفكر صائباً وجذاباً، فما بالك إذا كان غير صائب وغير جذاب؟! وهنا ليسمح لنا القارئ أن نفتح هلالين ونتكلم بهذه الجمل الاعتراضية: إن بعض حملة الفكر الإسلامي والدعاة إليه لا يعرفون من الدعوة إلى الإسلام سوى الأمر بالصلاة والصوم وستر عورة المرأة ومنع التعامل بالربا وبيع الخمر وشربه وأمور أخرى لا تخرج عن هذا الإطار، ولا يعرفون من مساوئ الغرب سوى أنه تارك لهذه الأمور؛ فهم لا يعرفون - أو يعرفون ويتجاهلون - القيم الإسلامية الرفيعة من أمر الحكام بالعدل وترك استعباد الناس، ومن حرية الرأي والفكر، ومن الحض على العمل لتحقيق الكرامة والاكتفاء الذاتي، ومن أمر الأغنياء بإخراج حقوق الفقراء من أموالهم ودفعها إليهم دون منة، ومن تعليم المرأة وفتح المجالات أمامها للارتقاء في مدارج الكمال، ولا يعرفون من محاسن الغرب العمل النافع والحكم بالعدل وحرية الرأي والعناية بالبيئة وإزالة العقبات من أمام المرأة.

إن تركيز الدعوة على المفاسد لإزالتها لن يأخذ بالمسلمين نحو التقدم؛ إذ لا يكفي أن نزيل العوائق من طريقنا، بل يجب أن نسير ونقطع المراحل التي تفصلنا عن غايتنا. إن المفاسد التي ذكرناها آنفاً كان المجتمع الإسلامي نظيفاً منها قبل مجيء الاستعمار الغربي، فلا تعرٍ ولا خمر ولا ربا، فهل كان مجتمعاً متقدماً كفايةً؟ فإن قيل يكفينا أن نعمل بعمل الآخرة، والعوض في جنة النعيم أو جنة الخلد أو جنة الفردوس، قلنا صدق فينا، إذاً، قول رسول الله (ص): (كلكم خير منه) يريد المسلم الذي تفرغ للعبادة واتكل على الآخرين يقومون بحاجاته. لقد وكلنا أمر حاجاتنا إلى الغرب يصنعها لنا على مراده ويبيعها لنا بالسعر الذي يريد.

 

لا دوام لأي مبدأ أو كيان في ظل العنف

فلم يزل صادقاً فينا قول الشيخ محمد عبده الذي زار أوروبا في القرن التاسع عشر ثم رجع قائلاً أنه رأى فيها إسلاماً ولم ير مسلمين، بعد أن رأى في بلاد المسلمين مسلمين ولم ير إسلاماً..

إننا لا نعرف من الإسلام ما يجعلنا نتقدم في هذه الدنيا، ولا نعرف من الغرب ما جعله يتقدم علينا في كثير من الميادين. فإذا كان هذا حال فكرنا ودعوتنا فكيف نغضب إذا عارضنا معارض، وكيف نلجأ إلى القوة للتغلب على معارضته؟.

إن استخدام أهل الحركات السياسية العنف لنشر فكرهم لا ينطوي فقط على مبدأ فرض الوصاية على فكر الآخرين مما يجعل أولئك يبادلون العنف بالعنف؛ إذ لا أحد أشد اعتداداً برأيه من غيره.

إن العنف يسيء إلى سمعة من يستخدمه. ولا تخلو حركة من الحركات الفكرية من الأتباع الذين لا يحسنون التصرف، فإذا قام هؤلاء بفعل عنيف خاطئ، نسب عامة الناس هذا الخطأ والضرر إلى الحركة نفسها لأنهم عرفوا أن العنف مبدأ من المبادئ التي تستخدمها تلك الحركة؛ ولهذا يحض الإمام الشيرازي (رحمه الله) الحركات الإسلامية على التحلي بالسلم واجتناب العنف اجتناباً لهذا المحذور، ويضرب له مثلاً الإنسان الذي يسرق مرة واحدة فإذا حدثت سرقات أخرى، نسبها الناس إلى هذا السارق؛ فالعنف واسطة غير مضمونة العواقب لأنه قد لا يجلب ما يرتجى منه، بل قد يخلف أضراراً نفسية وسياسية كبيرة بتنفير الناس من الدعوة الفكرية، إن كانت منطقية ومقبولة من العقول، وبتوليد ائتلاف طوائف كثيرة من الأعداء، إن كانت الدعوة باطلة أصلاً، ففي الحالين الضرر واقع.

وبعد، فإن الآثار السلبية الكثيرة التي يخلفها استخدام القوة في إيصال الأفكار إلى الناس لتكشف لنا عن حكمة رسول الله (ص) والإمام أمير المؤمنين (ع) وبعد نظرهما اللذين تجليا في السلم الذي رفعاه شعاراً لكل تحركاتهم في سبيل نشر دعوة الحق. لقد عفى النبي (ص) عن أهل مكة بعد فتحها ولم يكرههم على دخول الإسلام، وترك المنافقين ونفاقهم، ولم يجبر اليهود على ترك دينهم، وغض الإمام أمير المؤمنين (ع) نظره عن خلاف طلحة والزبير وعائشة عليه وقال: (أكف ما كفوا). ولم يحظر على الخوارج دخول الكوفة ومساجدها ولم يمنع عنهم العطاء ولم يحاربهم حتى حاربوه وقتلوا المسلمين؛ فحروب النبي (ص) والإمام (ع) كانت حروباً دفاعية لدفع الأذى عن الإسلام والمسلمين، وليس لإكراه الناس على الدخول في الإسلام. والأصل في تحركاتهما كان السلام واللاعنف، وهو ما عبرا عنه في بعض الأقوال؛ فقد قال رسول الله (ص): (من علامات المؤمن اللاعنف) (26) وقال الإمام أمير المؤمنين (ع) يصف المؤمن: (وصول في غير عنف) (27).

لقد سن النبي (ص) والإمام (ع) للمسلمين سنة السلم والرفق حتى تبين لهم محمود عواقبهما. فها قد عمت دعوة الإسلام أرجاء واسعة من العالم، وهذا ذكر النبي الأكرم (ص) والإمام علي بن أبي طالب (ع) طري على ألسن المسلمين والأحرار بأقل ما يمكن من الحروب الدفاعية، أما أعداء الإسلام، أي الملوك الذين ولغوا في الدماء وأرهبوا الناس، فقد ذهب ذكرهم بذهابهم، اللهم إلاّ إذا اعتبرنا مذامهم وفضائحهم ذكراً.

ومن تحليل السنن الشريفة ودراسة الأقوال المعصومة التي ذكرنا طرفاً منها آنفاً خرج سماحة الإمام الشيرازي بنتيجة تقول: (فالواجب على التيار الإسلامي والدولة الإسلامية اختيار اللاعنف في الوصول إلى مآربهما) (28). ولهذا فإن الإمام الراحل يتناول المسائل المتصلة بنهضة المسلمين وإيقاظهم من رقدتهم وبعث روح الإسلام فيهم، ويشدد في أثناء ذلك على أن السبيل إلى ذلك يجب أن يتصف بالطابع السلمي؛ فالعنف ذو آثار سلبية كثيرة مباشرة وغير مباشرة، وعاجلة وآجلة. وقد أشرنا إلى الأضرار العاجلة الناجمة عن القوة والعنف والدمار والخراب في البيئة والاقتصاد، والشقاق والكراهية والتفكك في المجتمع، والكيد والمكر في السياسة، والغليان بالحقد والنقمة في النفس، أما الأضرار الآجلة فذات صلة بما تسجله الذاكرة البشرية - وقد تحقق عون كبير من وسائل التوثيق الحديثة - من أحداث أليمة قد يبقى جمرها تحت الرماد سنين طويلة إلى أن يأتي يوم تسفي الريح الرماد وتبعث نار الانتقام والعنف من جديد، فما مثل من يتخذ العنف واسطة وحيدة، ويفرط في استخدامها، إلا كمثل من أخذ كمية من المتفجرات وزرعها تحت مبنى يريد هدمه ليشيد مكانه آخر جديداً، وتم له ما أراد، وشيد المبنى الجديد، لكن بعض المتفجرات التي زرعها قد بقيت تحته ولم تنفجر، وها هي الآن قد انفجرت ودمرت المبنى.

 

الهوامش:

1- لا عنف عنوان المؤمن، محمد تقي باقر، منشورات المسلم الحر، واشنطن، ط1، سنة 2000م/ ص6.

2- نفس المصدر ص25.

3- الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، سنة 1388، ج:ص22.

4- ثقافة عاشوراء في فكر الإمام الشيرازي(قدس سره)، إعداد مركز الإمام الشيرازي للدراسات، بيروت، ط1، سنة 2002م، ص25.

5- الكافي، مصدر سابق، ج2، ص110.

6- نفس المصدر ج2 ص110.

7- السبيل إلى إنهاض المسلمين، الإمام الشيرازي، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت، ط7، سنة 1994م، ص166.

8- إنجيل متى 10:34.

9- السبيل إلى إنهاض المسلمين، مصدر سابق، ص147.

10- نفس المصدر ص143.

11- الاجتماع، الإمام الشيرازي(قدس سره)، دار العلوم، بيروت، ط7، سنة 1992م، ج2 ص22.

12- نهج البلاغة، ضبط نصه صبحي صالح، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، ط2، سنة1982، ص373.

13- السياسة من واقع الإسلام، السيد صادق الشيرازي، دار العلوم والأمين، بيروت، ط3،سنة 2000م، ص282.

14- نفس المصدر ص305.

15- نهج البلاغة، مصدر سابق ص242.

16- السياسة من واقع الإسلام، مصدر سابق ص279.

17- نهج البلاغة، مصدر سابق ص422.

18- لا عنف، مصدر سابق ص29.

19- 20- الكافي، مصدر سابق ج2 ص108.

21- نفس المصدر ج2 ص289.

22- نفس المصدر، ج2 ص312.

23- السيرة النبوية، ابن هشام، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د1 ص337-331.

24- لا عنف، مصدر سابق ص29.

25- السبيل إلى إنهاض المسلمين، مصدر سابق ص253.

26- لا عنف، مصدر سابق ص16.

27- نفس المصدر ص19.

28- ثقافة عاشوراء، مصدر سابق ص25.

ردك على هذا الموضوع

إتصــلوا بـنـــا

الأعــداد السابقــة

العــدديـن 67 - 68

الصفحة الرئيسية