ردك على هذا الموضوع

 

حصاد الأفكار

أعدها وكتب المقدمة: حيدر الجراح

مشاهد القتل والدمار من ثقب الباب

لذة الولوغ في دماء الآخرين

مفتتح..

سأقتلك..

من قبل أن تقتلني سأقتلك..

من قبل أن تغوص في دمي

أغوص في دمك..

وليس بيننا سوى السلاح

وليحكم السلاح بيننا..

من قصيدة للشاعر المصري صلاح عبد الصبور..

هل كانت تشاهد تلك الممرضة مصيرها، مصائر الآخرين من ثقب الباب؟ وهل كانت تشعر بالقسوة.. بانعدام الوزن وهي تتلصص على فاجعة الآخرين ودماءهم المسفوحة على أسفلت الطريق؟!!.

(رأت من خلال ذلك الثقب أن جارها قد ضرب بالرصاص وهو يرفع يديه.. وصرخت عندما أبصرت امرأة طاعنة في السن تسقط برصاص أحد القناصة، ولكن لم يعد بوسعها أن تبقى في مكانها عندما رأت طفلة تسير دون هدى في شارع مليء بالألغام.. ) (1).

تحيلني مشاهدات الممرضة الفلسطينية إلى تذكر رواية الجحيم لهنري بارباروس، والتي شهدت انتشاراً واسعاً في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم حين طبعتها دار الآداب البيروتية..

جحيم بارباروس تروي قصة البطل المأزوم برغابته، وبشهواته المقموعة والتي لا يجد تفريغاً لها إلا من خلال ثقب الحائط بينه وبين جارته في المنزل الذي يقطنه.

بطل الجحيم يعيش عالمه من خلال التلصص على حيوات الآخرين.. إنه يستبيح سريتهم، ويرفع الأقنعة عن وجوههم، ويجردهم مما يسترهم، لا لشيء إلا لكي يمارس لذائذه المتبدية من فعل التلصص هذا.. التلصص هنا فعل اغتصاب.. وهو عنف معنوي ساحق.. ومدمر للجاني وهو يعيه.. أو للضحية حتى وإن لم تشعر به..

الممرضة الفلسطينية ومن ثقب باب بيتها في جنين المدمرة والمحاصرة، والتي تظلّلها سماوات الخراب والدمار، إنها أيضاً مأزومة بهذا الاستلاب لحريتها؛ ومقموعة صوتاً وحركة للتعبير عما يصطرع في صدرها ووعيها، إنها تتلصص على الموت متجولاً أمامها، محيطاً بها، وكأنها بهذا التلصص تسعى إلى الخلود، من خلال تسجيل تلك اللحظات لأناس يموتون في ذاكرتها..

(كانت جثة رجل فلسطيني ملتح ما تزال على الأرض في أحد الشوارع، يغطيها الذباب.. بعض المنازل والمباني تمت تسويتها بالأرض.. ) (2).

تقف شاهدة خلف ثقب الباب على الموت المجاني الذي تمارسه القوة، قوة العنف والسلاح ضد أبناء بلدتها.. لا شيء غير الموت ورائحته المنبثة في كل زاوية بهذا التسجيل للموت كأنها تتحداه وهو قريب منها على بعد خطوات.. والموت في التجربة الإنسانية هو الحد الأقصى للوحدة والعجز.

(إننا نشم رائحة الجثث المتحللة.. ) (3).

(في اليوم الأول للهجوم هربت لقية تومي - وهو اسم الممرضة - من مركز صحي تابع للأمم المتحدة بحثاً عن الأمان في منزل أحد أقربائها.. وعندما كانت تنظر من ثقب الباب رأت رجلاً بالشارع يسير وهو يمسك بطنه..لم يكن يحمل سلاحاً.. وقالت تومي أنه كان يقول:

(أريد طبيباً، أريد أن أذهب إلى المستشفى.. فقد ضربوه بالرصاص.. ) (4).

لكنها تستشعر أن موتها الذاتي المتجسد عجزاً ووحدة إنما سيتواكب مع إمكانية خلود الجماعة التي تنتمي إليها.. يبدو الأمر هنا وكأن الحياة نفسها، حياة النوع التي لاتفنى، الحياة وقد اغتذت بفضل الموت المتواصل لأفراد الجماعة، أبناء بلدتها، هي التي تنهض وتتجدد عبر ممارسة العنف..

ليس العنف الباحث هنا عن موت مجاني لا يكتب له الخلود في ذاكرة الضحية، بل العنف الباحث عن قرابين مقدسة، تُخلد في ذاكرة الوطن المستباح والجماعة المهدورة حقوقها..

هل هناك التباس في هذه العبارة؟ لا أظن.. لأن العنف المتمادي من آلة القتل الإسرائيلية لا يوقفه إلا عنف مواز له إن لم يكن مادياً فمعنوياً على الأقل..

لكي يحس المقابل العنيف والقاتل دوماً أن عنفه يرتد إليه ويطعنه في صدره ويحيله جثة هامدة، هل نطلب من لقية تومي، وأخريات معها، وآخرين انصهروا في دوامة العنف تلك أن يمدوا غصن زيتون لهذا القاتل؟ أحسب أنها دعوة مستحيلة..

سيعترض البعض على هذا التوصيف للعنف ولكنه لا يمكن إلا أن يقف بجوار لقية تومي والنظر من خلال ثقب الباب..

(إن استخدام الدروع البشرية تعكس رغبة الجيش في تخفيض عدد القتلى بقدر الإمكان، بغض النظر عن الثمن الأخلاقي..) (5).

(وقفت مدرعة إسرائيلية يزينها علم الدولة.. صوب قائدها رشاشه نحو الحزمة البشرية المقابلة له، لكن النساء لم يفزعن منه، إنهن يعرفن إنه لن يطلق النار فقد أكل الموت هنا حتى الشبع، وليس لديه شهية لتناول المزيد من الجثث..

صمت الموت كان يخيم على المخيم، فيختلط برائحة الجثث النتنة. لم تكن هناك جثث البشر فقط، وإنما جثث الحيوانات أيضاً، في أحد الأزقة كانت جثة حصان فقد رأسه تتعفن تحت أشعة الشمس، وقد غطتها الديدان مثلما غطت جثث الفلسطينيين الخمس التي عثر عليها.. ) (6).

(انهمك شقيقان في إخراج جثمان والدهما قطعة قطعة من تحت أنقاض ما كان منزلاً للعائلة.. وارتفعت رائحة العفن من الحفرة.. وأخرجا أشلاء الأب ووضعاها في بطانية.. ) (7).

(وعندما سمح له الجنود بالذهاب إلى منزله وجد أنهم قطعوا رؤوس كل طيور الكناري والعصافير التي كان يعمل في تربيتها.. ) (8) .

(مررت بالجنود.. كانوا يقفون بهدوء.. كان الأمر مثل الحلم.. وكأني أمر بتماثيل.. ) (9).

(ما فعلوه سيزيد الكراهية.. انظر، إنهم خائفون.. إذا كان في يدي سلاح الآن لأطلقت عليهم النار.. ) (10).

(هذا أمر غير أخلاقي.. لقد كنت هناك من قبل، وشاهدت الأمر بعيني.. إذ زرعت الخوف والجوع واليأس، ستحصد الإرهاب) (11).

(البعض غاضب، والبعض الآخر مذهول.. ليست لدينا مشاعر، ولا قلوب.. ) (12).

(في ذلك اليوم ذهب الإسرائيليون لكنهم خلفوا كراهية في أثرهم - فماذا تريد ريم لمستقبلها عندما تكبر؟.

كتبت (سأموت من أجل وطني)..

(ليس لديها أمل.. الشباب الصغار لا أمل عندهم هنا..).

ذلك ما قالته أمها عائشة بابتسامتها الحزينة.. ) (13)

(النبأ)

 

الإعدام رمياً بالرصاص (الثالث من مايو 1808)

للفنان العالمي جويا

يتجدد الألم كل يوم، وينزف الجسد الحي دمه الزكي، حينما يختفي العدل عن العالم ويدمر المحتل كل وجود إنساني ومادي واقع تحت نير احتلاله، وينتفض الفن صارخاً في وجه الغاصب، لحظة تعبيره الصادق عما يحدث.. والمتأمل للوحة الفنان الإسباني (فرانثيسكو دي جويا) (1746-1828) والمعروفة باسم (الإعدام رمياً بالرصاص في ميدان مونكلوا)، وهو أحد الميادين المهمة بالعاصمة الإسبانية (مدريد)، سيتوقف طويلاً أمام تلك الاستجابة الفنية البارعة لفنان غيّر مسار الفن التشكيلي تاريخياً، حينما نقله في زمنه من مرحلة تمجيد لحظة انتصار وطنه على أعدائه، لصياغة لحظة انكسار وألم عظيم يمر به هذا الوطن، ومتسامياً بإنتاجه الفني على اللحظة الزمنية التي يصوغ داخلها فنه، وفوق الواقعة المحلية التي يجسدها جمالياً داخل لوحته، ليقدم لنا فناً يلمس الوجدان الإنساني ويهز الضمير البشري في كل زمان ومكان.

تلعب الإضاءة وجوداً وغياباً دوراً مهماً في هذه اللوحة الدامية، فالظلمة تسيطر على معظم فضاء اللوحة، فتضاعف الإحساس بمأساوية الموقف المتأزم والذي يجمع بين مجموعة من الرجال يمثلون المقاومة الشعبية تتصدى بصدورها المضيئة لقوات نابليون الظلامية المدججة بالسلاح في لحظة تنفيذ الحكم بالإعدام رمياً بالرصاص على مجموعة من المتمردين الأبطال، ينبعث الضوء من مصباح سفلي مشكلاً شعاعاً على هيئة منشور ضوئي مسلط على شاب يتوسط مجموعة من رجال المقاومة، مرتدياً قميصاً أبيض اللون، رافعاً يديه إلى أعلى مستقبلاً بصدره مصيره المحتوم من بنادق جنود نابليون المصوبة إليه، فبدأ في وضعه والضوء يشع منه أكثر من انعكاسه على ملابسه، يواجه الموت بعيون مفتوحة، وعلى يمينه يقف شاب يعبر بوجهه ونظرة عينيه وأيضاً بقبضتي اليدين المضمومتين عن السخط الشديد والغضب المكبوت، وآخر يبدو في زي الراهب يركع على ركبته مرتلاً بعض الصلوات مترحماً على هؤلاء الشهداء الأبرياء ومستسلماً لقدره معهم، بينما يرقد أمامه شهيد يسبح في دمائه المختلطة بدماء الآخرين ممن سقطوا قبله، وآخرون رفعوا أيديهم يخفون وجوههم وأنظارهم عن هذا المشهد البشع، بينما تقف على يسار الشاب ذي القميص الأبيض كتلة بشرية تمثل الشعب بفئاته المختلفة، تحتل وسط اللوحة، كاتمة غيظها وسخطها عاجزة عن فعل شيء أمام جبروت بنادق الجنود الذين يحرص الفنان على صياغة بنادقهم المصوبة على وضع أفقي لصدر شعب يقف في وضع رأسي ثابت ومقاوم، كما عمل الفنان على إظهار الجنود بظهورهم في هذا التكوين، فهم كتلة من الشر بلا ملامح غير الجسد واليد الممسكة بآلة الموت، فيبدو المقتول بوجوده المضيء، ووقفته الصلبة أكثر قوة وسيطرة على فضاء اللوحة والحياة معاً من القاتل المغتصب لحق الإنسان على أرضه.

د. عايدة علام: مجلة العربي - العدد 520

 

العنف عنصر أساسي في التاريخ البشري

ما أن تقرأ كتاباً في التاريخ إلا وتجد أن محوره هو الحروب وفرض الرأي أو المصلحة بالقوة، حتى لو كان الكتاب عن تاريخ العلم أو تاريخ الاقتصاد وربما الفنون أيضاً. ولم تعش المجتمعات البشرية حتى اليوم على ما تنتجه أو تبتكره في منجزات الحياة من طعام وشراب وضروريات، بل على ما تتطلع إليه في يد الآخرين. وما من نقلة تاريخية من نظام إلى آخر، أو تقدم في هذا الجانب أو ذاك، إلا وتجد أنه كان مصحوباً بالقوة والتجارة، والاقتصاد بشكل عام، لم تتطور أو تتقدم في أي بلد إلا وهي مصحوبة بالجيوش والسفن الحربية التي تجوب البحار لقمع الآخرين وفرض التجارة عليهم، أو سلب الثروات التي يمتلكونها.

هل تغير الوضع الآن في مطلع القرن الواحد والعشرين؟.

أظن أن شواهد عديدة هذه الأيام تبين لنا أن القوة هي مصدر كل السلطات، وأن العنف والاغتصاب هو العنصر الملازم لكل حركة في التاريخ البشري. وإذا كان الأمر كذلك فلا مفر من إعادة البناء وشحذ كيانات بشرية قادرة على العنف والمواجهة حتى ينضج العالم المعاصر ويعرف شجاعات السلام وفضائل التضامن الإنساني.

أحمد عباس صالح: الشرق الأوسط، العدد 8515

 

العدوان بين ميدغلي ونيتشه..

أخلاقيات بلا أخلاق أو أخلاقيات اللاأخلاقيين

الأذية:

باختصار شديد (الأذية) هو عن تبني الكاتبة للمفهوم القائل بتأصل العدوانية والعنف في الطبيعة الإنسانية، وتبدأ ميدغلي مؤلفها بتأكيد الفارق الكبير بين العدوانية والشر الأكثر شمولية والذي تعتبره في قسمه الأكبر نابعاً من حوافز هادئة غير عدائية، حسب ميدغلي أن العدوانية كحافز فطري لا كفعل أو موقف سياسي ليست سيئة في المطلق سوى لحظة خروجها عن السيطرة لتصبح مسألة مشؤومة. والمقصود بالعدائية الفطرية هو الميل الطبيعي للهجوم على الآخرين أحياناً والذي يحمل في طياته الغضب من الآخرين. تفترض ميدغلي أن الخوف والغضب هما حافزان ضروريان للعيش السليم كونهما استجابة للشر الحاضر أبداً في حياتنا والمفترض الخوف منه والتصدي له.

(من الضروري عدم التخلص من هذين الحافزين لإدارة دفتهما نحو الوجهة السليمة، والسؤال هو هل يفترض بنا مثلاً التعاطي مع الخوف بنفس طريقة التعاطي مع العدائية كسر يفترض اقتلاعه بكل بساطة واعتباره عاقبة عرضية لمجتمع سيء وحالة فكرية يجب محوها مطلقاً؟ عقب نهاية الحرب العالمية الثانية أطلق الشعار المثالي (التحرر من الخوف) كواحد من شعارات الحرية الأربعة المثالية.

يجوز مقاربة الخوف بالألم كتجربة كريهة يستحسن التخلص منها. لكن الناس الذين يولدون من دون قابلية الألم لا يعيشون طويلاً ويفتقرون إلى الإحساس بالسرور، ليس الألم والخوف مجرد تجربتين سيئتين بل هما دلالة على حدوث مكروه ما واستجابتان ضروريتان له، كذلك هو الغضب. ويؤدي الخوف في ظروف كثيرة إلى أمور سيئة لا تقل سوءاً عما تنتجه العدوانية، لكن الخوف كحافز موجه يلعب دوراً جوهرياً في الخلق والإبداع وارتقاء الإنسان. في الحالتين لا يصنف الخوف بالإيجاب أو السلب إلا بحسب نتائجه، ينطبق كذلك الأمر على العدوانية التي يجب تقبلها وتوجيهها بشكل سليم).

وتلفت ميدغلي النظر إلى ضرورة عدم الوقوع بالقدرية والتشاؤم أو كره الحياة بسبب طبيعة العدوانية الفطرية.

ولو رغبنا بالعيش بعيداً عن هذه الحالات لتطلب الأمر الوجود في عالم لا يخلو من السوء وحسب بل عالم لا يحدث فيه الخطأ إطلاقاً، ما هو أقرب إلى اليوتوبيا. ولا يسري مفعول اليوتوبيا سوى من خلال التنظيم المحكم السيطرة على الشر مما يتطلب من المتحكمين بها التسلح بالخوف للتحكم بزمام الأمور ومنع الشرور.

منير عبد الله: السفير 12/4/2001

 

تغيرات عبر العنف

لا شك بأن العقود الثلاثة الأخيرة قد شهدت بفعل التطور التكنولوجي الكبير، تطورات مهمة في ميدان العنف على صعيد الوقائع الراهنة، وقد تبدّى ذلك في خمسة ميادين أساسية يكرس المؤلف لكل منها فصلاً كاملاً.

الميدان الأول يتعلق بـ(العلاقات الدولية)، حيث ظهرت حالة من عدم الثبات والاستقرار التي تحلل الإمبراطورية السوفيتية السابقة.

إن هذا كله يبدو بمثابة (متغيرات) حقيقية بالقياس إلى ما كان سائداً في ظل (توازن الكتل) وهي متغيرات سمحت بأشكال جديدة لـ(التدخل)، وحتى العسكري في النزاعات المحلية التي تكاثرت، أو على الأقل أصبحت مشهودة أكثر.

الميدان الثاني هو ذلك الذي يخص التنافس من أجل السلطة أو من أجل تبني برامج سياسية للتحرك.. في هاتين الحالتين يتمثل التغيير في واقع أن فكرة الثورة قد أو تبخرت لكي تخلي المكان لأشكال من السلوك السياسي التي تفتقر إلى منظور سياسي واضح وإنما يمكن أن تندرج جميعها تحت راية مقاومة العولمة أو تحت لواء دعوات ذات طابع فوضوي.

وميدان ثالث لحقل (التغيرات على صعيد الواقع) يتبدى داخل المجتمعات الديمقراطية حيث يتنامى شعور بعدم الاستقرار والأمن، هذا إذا لم يكن الأمر يتعلق بمواجهة صريحة مع زيادة ممارسة العنف.. وأقل ما يمكن أن يقال في هذا الميدان يتمثل لدى المؤلف، بأن هناك تنامياً كبيراً في الممارسات السلوكية (غير الحضارية) وزيادة الجنح الصغيرة على صعيد الحياة اليومية للبشر، ويبدو في هذا السياق ميدان التغير الرابع في طريقة تعامل وسائل الإعلام المختلفة مع مختلف أشكال العنف إذ أنها تساهم بشكل فعال في نشرها وتعميمها وأحياناً تضخيمها وهذا ما يدعو المؤلف إلى الحديث عما يسميه بـ(العنف المشهور إعلامياً).

(المتغير) الخامس على صعيد الوقائع؛ يتمثل في أن العنف وبكل أشكاله قد أصبح خاضعاً أكثر فأكثر لأنماط من الرقابة التقنية التي تحد منه من زاوية رجال الأمن وتعطيه إمكانيات أكبر وأوسع من موقع الفاعلين له.. هذا إلى جانب تطور آليات إمكانية إحكام الرقابة أكثر فأكثر على الحياة الاجتماعية عبر استخدام مختلف أشكال الوقاية والمساعدة الاجتماعية.. وغيرها.

أما (التغيرات على مستوى العواطف) فإن المؤلف يحدد نقطة انطلاقها في (فترة الغبطة) التي أعقبت نهاية الحرب الباردة لكنها سرعان ما خبت وانطفأت لتبرز من جديد هشاشة الإحساس بالاستقرار بعد انهيار (العدو) الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي بالنسبة للعالم الغربي.. ثم إن العولمة لم تطل الاقتصاد فقط لكنها أيضاً تبدت على صعيد (تعميم الإحساس بغياب الأمن وذلك على المستويين: الشخصي المتعلق بالحياة العادية والدولي مع تزايد الصراعات والحروب المحلية وعلى أسس جديدة اثنية وعقائدية وحدودية بشكل خاص. كما أن تركيز وسائل الإعلام على أحداث وتعميمها وتضخيمها قد أنتج عالماً بعيداً عن الواقع أحياناً ومحكوماً بالمشاعر والانفعالات.. وبالتالي بعيداً عن الفرد، هكذا أيضاً غدا العنف السياسي والاجتماعي والتكنولوجي بمثابة موضوع خاضع لنفس مستلزمات الآلات والمنظومات المبرمجة).

عنوان كتاب للمؤلف: ايفوموشو - جريدة البيان: بيان الكتب 29/4/2002م

 

الإبداع.. رؤية نقدية للعالم

إن كتابات كونديرا تنزاح - كأي إبداع عظيم وأصيل- لتغطي التجربة الإنسانية ككل، فيخرج من (الخانة المريحة) ليتحول إلى (مقلق محترف) على صعيد الأدب والفكر..

إحدى المشاكل الجدية التي يثيرها دائماً؛ هي تساؤله المستمر عن المسيرة الإنسانية: هل نحن أفضل الآن؟ ألم يكن بالإمكان اتخاذ مسار آخر.. لكن، ليس هناك أبداً، أي فرصة للتحقق أو الجواب على هذه التساؤلات، لأننا نعيش مرة واحدة فقط.

فإن كانت حياتنا تختفي نهائياً ولا ترجع أبداً.. فعند ذلك تكون هذه الحياة دون وزن أو قيمة، ميتة سلفاً. وعند ذلك تسبح كل الأشياء في بحيرة من الظروف الحقيقية اللانهائية، التي تمنعنا من إصدار أي حكم معين، فهل بالإمكان إدانة ما هو زائل حقاً؟.

وانطلاقاً من هذه الأفكار، يتجرأ - كونديرا - منذ الصفحة الأولى في كتابه (خفة الكائن التي لا تحتمل) على إبداء وجهة نظر مخيفة في الفكر السياسي والتاريخ الحديث، تذكر هتلر معزولاً عن بشاعات وجرائم النازية، تحويل صورة هتلر إلى دعامة للنوستالجيا مثل صور آبائنا أو أجدادنا. وربما يقترح كونديرا عودة هتلر إلى العالم لمرات عديدة، كي نعرف أو نعي - تماماً - حقيقة وبشاعة النازية.

وما دام كل شيء يحصل مرة واحدة فقط، ثم يتحول إلى ذكرى وتاريخ وأساطير.. أو ينسى جزئياً أو كلياً، فإن كل شيء - مهما بلغت بشاعته وظلاماته -: (مغتفر سلفاً، وكل شيء مسموح به بوقاحة)..

وربما يمكن اعتبار النسيان، فيروس العقل والتجربة الإنسانية. وربما كان تاريخ العقل هو تاريخ الصراع بين الذاكرة والنسيان.

وإذا كان الوضع بهذه المأساوية (الأصلية).. فما الحل؟ إلام يدعو الكاتب النقدي؟ أو ماذا يريد كونديرا بالضبط؟ الحب فقط، لكن أي حب..؟ والبشرية تدّعي أنها تعيش الحب والمحبة منذ آلاف السنين.

وبرأي كونديرا: (إن إحلال النزعة العاطفية محل الفكرة العقلية ينتج جهالة وتعصباً لا يمكن دفعهما).

إن إعادة العلائق بين البشر أنفسهم، وبين البشر وبقية الخلائق والطبيعة لن تتحقق بدون هدم أو تفكيك الأبنية الفكرية والمعنوية والحضارية التي أنتجت أو تكرر صورة العالم الذي نعرفه: عالم الانقسام واللامسؤولية، ومع كونديرا فإن التهكم الملازم للتأمل الفلسفي العميق هو المعول أو القنبلة النووية الرحيمة.

يوخنا دانيال: مجلة سطور، العدد 65

 

الحرية وحق الاختلاف والتعددية في التراث والحداثة

لا يوجد مجتمع بشري يكون أبناءه متفقين في كل شيء، فلابد للمجتمعات من وجود شيء من التنازع، هذا التنازع الذي هو العامل الكبير في التحرك إلى الأمام. صحيح أن الاتفاق قد يبعث التماسك في المجتمع إلى حين، ولكنه يبعث الجمود فيه أيضاً، ويحول دون التطور والتكيف مع الظروف المستجدة، فقلما يوجد في الكون مجتمع يسوده فكر واحد، ويكون هذا المجتمع في الحين نفسه متطوراً. ومن هنا كان بادياً بوضوح أن التنازع يؤدي إلى الحركة والتطور، وأن المجتمع المتحرك هو الذي يحتوي في داخله على جبهتين أو أكثر تدعو كل منهما إلى مبادئ مختلفة عن الأخرى، وتنشد التطور استناداً إلى قيم وأسس متباينة. وبذلك توجد الحركة الاجتماعية التي وإن كانت لا تخلو من مساوئ، فإنها هي عامل التقدم، وتساعد الإنسان على التكيف والتدافع في أمور كثيرة قد تؤدي إلى القلق والاختلاف، ولكنها باختلافها هذا تنير سبيل التطور وتكشف الأخطاء التي قد تكبل تقدم المجتمع، وتحول دون ازدهاره وتبقيه راكداً هامداً، يتصف بالطمأنينة، ولكنها طمأنينة الموت التي تقتل الإبداع وتنمي الخمول والكسل الفكري والشلل العام والحفاظ على تقاليد بدائية تعيش عليها الشعوب المتخلفة في عصرنا منذ مئات السنين، وفي هذا ميز المؤرخ المعروف (توينبي) بين حياة المدينة الحديثة التي يسودها الإبداع، والحياة البدائية القديمة التي يسودها التقليد الأعمى، عاداً أن حب التقليد هو الذي جعل البشر يعيشون عيشة بدائية على مدى ثلاثمائة ألف سنة تقريباً.

فالاختلاف وتنازع الآراء والأفكار هو أصل مكين في التطور الحضاري، والأمور لا تعرف إلا بمتناقضاتها، والخير والشر أمور نسبية، وإذا كانا يبدوان متصارعين منذ الأزل، فإن أحدهما لا يعرف إلا بنقيضه، وكما قال بعض المتصوفة: إن الشيء لا يمكن معرفته إلا بواسطة نقيضه. فإن النور لا يدرك إلا بالظلام، والصحة لا تعرف إلا بالمرض، والوجود لا يعرف إلا بالعدم، وإن امتزاج هذه النقائض هو المنتج لهذا الكون. فالشر في نظرهم ضروري لوجود الخير، والإنسان لا يدرك الخير إلا إذا كان الشر مقابلاً له، كما أنه لا يفهم النور إلا إذا كان وراءه ظلام.

وكل هذا يتفق إلى حد بعيد مع ما قاله الفيلسوف الألماني (هيجل) (1770-1831) بعد قرون: (إن كل شيء يحتوي على نقيضه في صميم تكوينه وأنه لا يمكن أن يوجد إلا حيث يوجد نقيضه معه).

وبواسطة هذا التناقض والتفاعل بين الأشياء يتطور الكون وينمو ويظهر كل يوم شيء جديد، وقد أكد العلماء أن الغنى الوراثي يأتي من التنوع، وهذا الأمر يتجاوز مجال البيولوجيا والاعتراف بأن الآخر ثمين بالنسبة لنا من حيث هو مختلف عنا، ليس شكلاً من الأخلاق ناجماً عن نظرة مجانية وعن دين منزل، إنه الدرس الذي يقدمه لنا علم وراثة الجماعات.

وفي هذا يقول (سانت اكزوبيري) في (رسالة إلى رهينته): (إن كنت أختلف عنك فأنا أسمو بك بدلاً من أن أحط من قدرك). إن هذه البدهية تنكرها كل أفكارنا وتظل حاجتنا إلى الراحة الذهنية تدفع بنا إلى أن نرجع كل شيء إلى أنماط مثالية وأن نحكم تبعاً للتلاؤم مع هذا النمط المثالي، غير أن الغنى يكمن في الاختلاف.. فأية هدية يقدمها (الآخر) أكثر جمالاً من كونه يعزز تفردنا وأصالتنا وذلك بسبب أنه يختلف عنا.

عبد الهادي عباس: مجلة المعرفة السورية - العدد (463)

 

الهوامش:

(1) الشرق الأوسط: 16/4/2002م.

(2) الشرق الأوسط 16/4/2002..

(3) الشرق الأوسط 16/4/2002.

(4) الشرق الأوسط 16/4/2002.

(5) الشرق الأوسط 27/4/2001 (من روايات جنود إسرائيليين).

(6) الشرق الأوسط 23/4/2002 (مشاهدات صحافي في جنين).

(7) الشرق الأوسط 20/4/2002.

(8) الشرق الأوسط 14/4/2002. (قصص أخرى من مخيم جنين).

(9) الشرق الأوسط 8/4/‏2002‏

(10) المصدر نفسه: من أقوال طالب في التاسعة عشرة من عمره.

(11) المصدر نفسه: من أقوال جندي إسرائيلي رفض المشاركة في قوات الاحتلال.

(12) المصدر نفسه: 20/4/2002، (من أقوال طالبة جامعية فلسطينية).

(13) المصدر نفسه: 20/4/2002 (من دفتر مذكرات مراهقة فلسطينية في جنين (15 سنة) ).

ردك على هذا الموضوع

إتصــلوا بـنـــا

الأعــداد السابقــة

العــدديـن 67 - 68

الصفحة الرئيسية