ردك على هذا الموضوع

 

فسيولوجية العنف على وظائف الأعضاء

د. علي حيدر

مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

المقدمة:

العنف قديم قدم الوجود، وجد منذ بداية التاريخ. ومنذ أول حدث للصراع بين البشر تمثّل في الخلاف بين ابني آدم قابيل وهابيل، شهدت البشرية أحداثاً كثيرة تميزت بالعنف؛ فاليعقوبيون تفاخروا بممارستهم للعنف، وقراصنة الصين احترفوه في مجتمعاتهم التعصبية، وفي حالنا الحاضر تفننت أمريكا والصهيونية في ابتداع معالم العنف والسلوك الإرهابي الحديث؛ وهكذا أصبح العنف من أعقد مشكلات العصر التي باتت الشغل الشاغل للفكر الإنساني؛ فالعنف ليس حالة ظرفية طارئة بقدر ما هو أحد أكبر مظاهر الوجود الإنساني حيث يبرز أو يخف تأثيره، انطلاقاً من الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

يعرَّف العنف بأنه السلوك المشوب بالقسوة والعدوان والقهر والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن الحضارة والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً بدائياً، كالضرب والتكسير والتدمير للممتلكات، واستخدام القوة، بقصد الإكراه والقهر، ويمكن أن يكون العنف فردياً، كما يمكن أن يكون جماعياً.

ويتحدد مصطلح العنف أيضاً على وفق مفهومه عندما يأخذ مناحي شتى؛ فالقانونيون ينظرون إلى العنف من زاوية معينة، في حين ينظر الاقتصاديون إلى العنف من زاوية أخرى، وكذلك الدراسات النفسية والاجتماعية، فهي تنظر إليه من زاوية تحتم عليها منهجية البحث في الرؤية. وإزاء ذلك فنحن نأخذ المفهوم الذي نحاول تحويله ولو بتقارب جزئي إلى الإجرائية.

يطرح (لالاند) في موسوعته الفلسفية مفهوم العنف على أنه سمة ظاهرة أو عمل عنيف بالمعاني. وهو استدلال غير مشروع أو على الأقل غير قانوني للقوة، ولكن بنحو أخص هو ردة فعل عفوية في الضمير الأخلاقي المهان(1).

ويعرف العنف أيضاً بأنه التسبب بالإضرار بالآخرين، أما (ساندا بول روكنغ) فيعرّفه بأنه الاستخدام غير الشرعي للقوة، أو التهديد باستخدامها؛ لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين. ويعرّف (دينستين) العنف بأنه استخدام وسائل القهر والقوة والتهديد باستخدامها؛ لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والممتلكات، وذلك من أجل تحقيق أهداف غير قانونية أو مرفوضة اجتماعياً(2). وفي جانب آخر يعرف العنف بأنه لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين، حيث يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي. وهناك تعريف آخر يقول إن العنف ظاهرة مركبة لها جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وهي حالة تعرفها كل المجتمعات البشرية بدرجات متفاوتة.

ومن ناحيته يعتقد (ماسلو) أن العنف، إنما هو سلوك يلجأ إليه الإنسان لتحقيق حاجاته الأساسية نتيجة الإخفاق والفشل في إشباع الحاجات الفسيولوجية. ويعرف العنف أيضاً في جانب آخر بأنه استجابة في شكل فعل عنيف تكون مشحونة بانفعالات الغضب والهياج والمعاداة، استجابة نتجت عن عملية إعاقة أو إحباط. وعندما نقول أنه يمكن النظر إلى العنف كنمط من أنماط السلوك، يمكن النظر إليه أيضاً كظاهرة، وهو عبارة عن فعل يتضمن إيذاء الآخرين، ويكون مصحوباً بانفعالات الانفجار والتوتر(3).

كما يعرف (جونسون) العنف بأنه الفعل الذي يؤدي – عن قصد أو غير قصد – إلى تغيير توجه سلوك الآخرين.

وفي إطار تفسير سيكولوجية العنف قدّم أحمد عكاشة تفسيراً يؤكد فيه نظرية (إحباط – عنف) فيقول: إن لم يؤد الإحباط في معظم الظروف إلى العنف، فعلى الأقل كل عنف يسبقه موقف محبط. وقد تكون هذه النظرية مبنية على دراسات حول تطور الطفل أثناء نموه النفسي والعاطفي، وأن السلوك العدواني يعقب إحساس الطفل بأنه لا يستطيع أن ينال ما يريد؛ فالإحباط من شأنه أن يعوق التخلص من استثارة أليمة أو غير مريحة؛ أي ظرف أو حالة تعمل على إعاقة هدف أو استجابة الفرد.

 

الغرائز البيولوجية للعنف

العنف من الموضوعات الشائكة التي ساهمت العلوم في تفسيره كالنظريات الفسيولوجية والبيولوجية والاجتماعية والنفسية، ولكن ظلت التساؤلات تدور حول هل أن العنف غريزة إنسانية أم أنه ينتج من خلال البيئة المحيطة بالفرد، أم أنه سلوك متعلم؟.

ولقد أشارت العديد من الدراسات والملاحظات اليومية والإكلينيكية إلى أن التعبير عن العنف هو سلوك متعلم، أي أنه يمكن أن نتعلمه إما من خلال الملاحظة أو من خلال التقليد، وكلما عُزز أو أُثيب الملاحظ أو المقلِّد بشكل مباشر أو غير مباشر لتقليده السلوك العدواني كلما زاد احتمال ظهور هذا السلوك عند الفرد.

وعندما ندرس العنف، كظاهرة اجتماعية نفسية، نلاحظ أن هذه الظاهرة (العنف) تبدو في التفسير البيولوجي الوراثي كمشكلة غير قابلة للحل. ويطلق أنصار الإيكولوجيا الاجتماعية(*) أكثر التوقعات تشاؤماً حول إمكانية تلافي الحروب وباقي مظاهر العنف في الحياة الاجتماعية؛ فالإنسان هذا الكائن الاجتماعي الواعي بغرائزه البيولوجية، على عكس الحيوان الذي لا يمتلك الإرادة والوعي بالغريزة؛ الحيوان قوي بجسده، ضعيف بعقله، أما الإنسان فضعيف بجسده قوي بعقله. وإذا كان الحيوان يحافظ على وجوده، ككيان فيزيائي، بالعدوان، فإن الإنسان يحافظ على وجوده، ككيان مستقل واعٍ، بالعدوانية كذلك؛ ففي حين أن الحيوان يستعمل عدوانه ضد احتمال افتراسه أو لافتراس آخرين، يستعمل الإنسان عدوانه ضد احتمال سحق ذاته وسط الآخرين(4). الحيوان يستخدم عدوانه لتحقيق غريزته، والإنسان بوعيه وإدراكه للواقع الاجتماعي، يوجه عدوانه نحو هدف معين، أو ردّ على أذى أصيب به، أو اغتصاب حق من حقوقه، أو الدفاع عن شيء، فالعنف ليس بغريزة وإنما يفسر من خلال ديالكتيك ما هو موجود في الواقع الاجتماعي وما هو مناقض لهذا الواقع.

 

تأثير العنف على الإميجدالا (النتوء اللوزي) في المخ

ساهمت العلوم البيوكيميائية في أبحاث العدوان والعنف، وركزت على النواحي الفسيولوجية وخاصة الاهتمام بمنطقة (الاميجدالا) التي تعتبر من أهم المراكز المسؤولة عن العنف والعدوان في المخ. والاميجدالا (Amygdala) هو النتوء اللوزي في المخ، وهو أحد مراكز المخ الحوفي (Limbic Brain) والنتوء اللوزي كلمة مأخوذة من الكلمة اليونانية (Almond) أي تبدو على شكل لوزة تتكون من تراكيب متداخلة تقع في أعلى جذع المخ، بالقرب من قاعدة الدائرة الحوفية. وفي المخ (اميجدالتان) كامنتان، واحدة في كل جانب من جانبي المخ باتجاه طرفي الجمجمة، وهذا النتوء اللوزي هو المسؤول عن الاحتفاظ بالمشاعر المتعددة، وهو أكبر نسبياً من نظيره في أقرب الثدييات منّا في التطور.

كان قرن آمون (Hippocampus) - وهو المكان المخصص في المخ للاحتفاظ بالمعلومات والأرقام - والنتوء اللوزي يشكلان الأجزاء الرئيسية للمخ الشمي البدائي، ومع تطورهما ظهرت قشرة الدماغ ثم القشرة الجديدة (Neocortex) والتراكيب الحوفية هي التي تقوم بمعظم عمليات التعلم والتذكر. والاميجدالا هي الجزء المتخصص في الأمور الانفعالية، فإذا انفصلت عن بقية أجزاء المخ تكون النتيجة عجزاً هائلاً عن تقدير أهمية الأحداث الانفعالية والتي يطلق عليها العمى الانفعالي (Affective Blindness)، فالإنسان الذي أزيلت منه الاميجدالا، أو انفصل جزء منه، يفتقر للإحساس بالخوف أو الغضب. وقد فسرت الأبحاث الجارية كيف يتحكم النتوء اللوزي في أفعالنا، حتى قبل أن يتخذ كل من العقل المفكر والقشرة الجديدة قراراً ما تجاه أي عمل عنيف.

فعندما ترسل الاميجدالا إنذاراً من نوع ما، في حالة الخوف نتيجة ممارسة عنف مثلاً فإنها تبعث برسائل عاجلة إلى معظم أجزاء المخ التي تثير إفرازات في الجسم وهي عبارة عن هرمونات تجند مراكز الحركة وتنشط الجهاز الدوري (Cardiovascular-System) والعضلات والقناة الهضمية، كما تبعث دوائر كهربائية أخرى من الاميجدالا إشارة إفراز عاجلة إلى هرمون النوريبا ينفرين (Norepinephrine) لوضع مناطق المخ الرئيسية في حالة استعداد، بما في ذلك تلك المناطق التي تجعل الأحاسيس أكثر يقظة؛ مما يؤثر في المخ ويدفعه إلى حافة الانفعال، كما تبعث الاميجدالا إشارات إضافية إلى جذع المخ فيستقر على الوجه تعبير الفزع، وتتجمد الحركات غير المتصلة بالعضلات وتتسارع ضربات القلب ويرتفع ضغط الدم ويبطؤ التنفس. وهنالك إشارات أخرى تلفت الانتباه الشديد إلى مصدر العنف وتجهز العضلات لرد الفعل وفقاً لما يقتضيه الموقف. وبالتزامن تتحول أجهزة الذاكرة القشرية (Cortical memory system) لاستدعاء أي معرفة متصلة بالحالة الطارئة الراهنة، ليكون لها الأسبقية قبل استجماع خيوط التفكير بالرد(5).

إن هذه الإشارات جميعها مجرد جزء فقط من نظام متغيرات متسقة بعناية فائقة قامت بتنسيقه (الاميجدالا) التي تقود مراكز المخ المختلفة. وفي حالة الطوارئ العنفية والانفعالية، تقوم شبكة الروابط العصبية الموسعة بإتاحة الفرصة للاميجدالا لكي يجذب انتباه بقية أجزاء المخ، بما فيها العقل المنطقي، ويقوم بحثّها.

 

الاستجابات الفسلجية للغضب والخوف

ويلعب كل عنف في حياتنا دوراً فريداً، كما توضحها البصمات البيولوجية المتميزة، وقد تمكن الباحثون اليوم بالوسائل العلمية الجديدة البالغة التقدم التي استطاعت أن ترى الجسم والمخ من الداخل بدقة، من اكتشاف مزيد من تفاصيل الكيفية التي تجهز بها العاطفة الجسم بمختلف الاستجابات وعلى سبيل المثال:

- في حالة الغضب: يتدفق الدم إلى اليدين ليجعلهما قادرتين بصورة أسهل على القبض على سلاح أو ضرب عدو. وتتسارع ضربات القلب، وتندفع دفقة من الهرمونات مثل هرمون (الأدرينالين) فيتولد كم من الطاقة القوية تكفي للقيام بعمل عنيف.

- في حالة الخوف: يندفع الدم إلى أكبر العضلات حجماً، مثل عضلات الساقين، فيسهل الهرب، ويصبح الوجه أبيض مائلاً للاصفرار شاحباً، لأن الدم يهرب منه.. ويشعر الخائف بأن دمه يجري بارداً في عروقه، ويتجمد الجسم في الوقت نفسه (ولو للحظة واحدة) ربما ليسمح له بوقت يستطيع فيه تقدير ما إذا كان الاختفاء هو رد الفعل الأفضل. وتثير دوائر المخ الكهربائية مراكز الانفعالات في الدماغ، فتبعث فيضاً من الهرمونات التي تجعل الجسم في حالة يقظة تامة تسمح له بأن يكون على حافة الاستعداد للقيام بفعل ما، وتركيز انتباهه على الخطر الماثل أمامه حيث يختار الاستجابة المناسبة للقيام بها.

- وهنالك اتجاه آخر يركز تأثير حالات الغضب والخوف على الاضطرابات الخاصة بالغدد النخامية والغدد الدرقية عند بعض الأشخاص؛حيث تفسر بأن زيادة إفرازات الفص الأمامي للغدد النخامية يصاحبه توتر وجرأة واندفاع نحو العدوان (الغضب)، كما أشار بعض علماء الكروموسومات إلى وجود خلل في كروموسومات الجنس عند الأشخاص الذين يمارسون العنف بزيادة كروموسوم الجنس (xxy) وليس (xy) كما هو الحال في خلايا الأشخاص العاديين(6).

ويشير (فريمان وديفيد آلن) أن هناك دراسة تربط بين جنس الذكر والهرمونات الخاصة بالأندروجين (Androgen) والعدوان؛ حيث تؤكد الدراسة على أن زيادة إفراز هرمون الاندروجين له علاقة بزيادة السلوك العدواني، في حين أن انخفاض مستوى الاندروجين يؤدي إلى تقييد الأفعال العنيفة، وهذا ما ندعوه بالخوف كما أن الاكتشافات الحديثة التي أجريت في مستشفيات نيويورك أضافت أن الكرموسوم (xxy) يعتبر عاملاً مفسراً للعنف والغضب؛ وعليه فإن مسألة الغضب والخوف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بزيادة ونقصان هرمون الاندروجين واضطرابات واضحة في الكروموسومات وبالتالي خلل واضح في اضطرابات الغدد النخامية(4).

 

فسيولوجية العنف على جهاز المناعة البشرية

إن الجهاز المناعي هو عقل الجسد، كما عرّفه عالم الأعصاب (فرانشسكوفاريلا) بكلية البوليتكنيك بباريس بأنه (إحساس الجسد بذاته، ما يخصه بداخله وما لا يخصه).

تسري خلايا المناعة في الدورة الدموية إلى جميع أنحاء الجسم وتتصل عملياً بكل خلاياه، وتهاجم الخلايا التي لا تتعرف عليها. هذا الهجوم لخلايا المناعة إما أن يدافع عن الجسم ضد الفيروسات والبكتريا، وإما أن يخلق مرض مناعة ذاتية مثل الحساسية أو مرض الذئبة.

في عام 1974م ساعد رسم خريطة الجسم البيولوجية على اكتشاف تم في مختبر بكلية الطب بجامعة (روشستر)؛ فقد اكتشف العالم روبرت أدر (Robert Ader) أن جهاز المناعة مثله مثل المخ يمكنه أن يتعلم. كان اكتشافه هذا صدمة علمية، حيث كان الشائع في الطب، أن المخ والجهاز العصبي المركزي وحدهما هما اللذان يستجيبان ويتأثران بالعنف والقسوة، هذا الاكتشاف أدى إلى التوصل للطرق العديدة التي يتصل بها الجهاز العصبي بالجهاز المناعي؛ أي إن المسارات البيولوجية تجعل المخ والعواطف والجسد متصلة دائماً، بل متضافرة تضافراً وثيقاً عند تعرضها لمؤثر خارجي عنيف؛ وبناءً على ذلك فقد استنبط ادلر علماً جديداً يدعى: (علم المناعة النفسية العصبية) (Psyconeruro Immunology) أو (PNI) وهو مجال من المجالات الرائدة في العلوم الطبية. وهذا الاسم ذاته يعلن عن الروابط بين الجوانب السيكولوجية والعصبية بمعنى جهاز الغدد الصماء العصبي الذي يجمع بين الجهاز العصبي والأجهزة الهرمونية والمناعة، أي الجهاز المناعي؛ ولذا فقد وجد فريق من الباحثين أن العنف والقهر والاستبداد يعمل بشكل واسع في كل من خلايا المخ والجهاز المناعي، ويكون أكثر كثافة في المناطق العصبية التي تنظم الانفعالات. ثم جاء (ديفيد فيلتن) (David Filten) وزوجته سوزان بأقوى الأدلة على أن العمل القسري يؤثر على الجهاز المناعي، والذي له تأثير قوي على الجهاز العصبي الذاتي، وبالتالي يؤدي إلى تنظيم كل شيء، بدءاً من مقدار إفراز الأنسولين (المسبب لمرض السكري) وحتى مستويات ضغط الدم. هذا الاكتشاف هو نقطة التقاء يتحدث عندها الجهاز العصبي الذاتي حديثاً مباشراً مع الخلايا الليمفاوية والخلايا البلعمية وهي من خلايا جهاز المناعة.

وجد أن هنالك نقاط اشتباك تتلاصق فيها نهايات أعصاب الجهاز اللاإرادي مباشرة بهذه الخلايا المناعية، تسمح نقاط الاتصالات لهذه الخلايا العصبية أن تطلق رسائل عصبية لتنظيم خلايا المناعة، وهي نتائج فريدة من نوعها، حيث لم يسبق أن توقع أحد أن تكون الخلايا المناعية هدفاً للرسائل الآتية من الأعصاب عند ممارسة عنف معين.

مضى فيلتن خطوة أبعد باختبار أهمية نهاية الأعصاب في عمل الجهاز المناعي عند التعرض للخوف والإرهاب؛ حيث أجرى تجارب على حيوانات، أزال بعض أعصابها من العقد الليمفاوية والطحال، حيث تصنع وتخزن الخلايا العصبية، ثم عرضها لصدمة خوف بعدها استخدم الفيروسات لإثارة الجهاز المناعي، وكانت النتيجة انخفاضاً هائلاً في الاستجابة المناعية للفيروس، فاستنبط أن الجهاز المناعي من غير نهايات الأعصاب لا يستجيب كما يجب للفيروس عند تعرض الإنسان لضغوط وممارسات عدوانية.

باختصار؛ لا يرتبط الجهاز العصبي فقط بالجهاز المناعي، لكنه أساسي لعمل الجهاز المناعي الصحيح(5).

هناك مسار رئيسي آخر، يربط ظاهرة العنف بالجهاز المناعي، من خلال أثر الهرمونات التي تفرز، تحت ضغط التوتر، هرمونات الكايتكولامين (Catecholamines) المعروف باسم الأدرينالين والنور أدرينالين والكورتيزول، والبرولاكتين، وأفينونات الجسم الطبيعية، والبيتا – إندورفين والانكفالين، كلها تفرز في أثناء استثارة التوتر، ولكل هذه المواد أثر شديد في الخلايا المناعية؛ فإن الأثر الرئيسي هو أنه عندما تزداد نسبة هذه الهرمونات داخل الجسم، فإن عمل الخلايا المناعية يكون أبطأ، فالتوتر يقلل المقاومة المناعية، مؤقتاً على الأقل، ومن المفترض أن يحدث هذا التقليل للاحتفاظ بالطاقة، لأن الأولوية تكون للحالة الطارئة الأكثر مباشرة والأهم للبقاء، أما إذا ظل التوتر نتيجة العدوان مستديماً ومكثفاً وقوياً فقد يصبح الأثر طويل الأمد.

وفي جانب آخر لاحظ العالم (بروس ماكوين) (Bruce McEwen) بجامعة بيل في بحث موسع نشره في مجلة (Archive of International Medicine) حول علاقة العنف والمرض - لاحظ أن هناك مجموعة كبيرة من التأثيرات الفسيولوجية تحدث نتيجة ممارسة ضغوط، ووجد أن وظيفة المناعة قد تغيرت إلى درجة تسارع فيها العامل المسبب للسرطان، وزادت سرعة التأثر بالعدوى الفيروسية، كما تفاقم تكوّن الصفائح المسببة لتصلب الشرايين وتجلط الدم المؤدي إلى الذبحة الصدرية، كما عجل العنف القسري أيضاً ببداية مرض السكر للمجموعة الأولى منه (Type I) من السكري، وأثر في نتيجة علاج مرض السكر من المجموعة الثانية (Type II) منه، وزاد من نوبات الربو. وقد يؤدي العنف أيضاً إلى حدوث قرحة في المعدة، وتفاقم أعراض التهاب غشاء القولون المخاطي، وكذلك التهاب الأمعاء. هذا بالإضافة إلى أن المخ ذاته يتعرض نتيجة لتأثير الضغوط المستمرة للإجهاد الشديد الذي يضر بقرن آمون وبالتالي يضر بالذاكرة نفسها.

يقول (ماكوين): (تتزايد الدلائل عموماً، على أن الجهاز العصبي يبلى تحت وطأة ما يعانيه المتوترون من البشر)، وأكد ماكوين في بحثه حول تأثير التوتر الناجم عن الضغوط الخارجية في الحالة الصحية، على الأمراض المسببة للعدوى، مثل نزلات البرد والانفلونزا والهربس. ومن المألوف أننا جميعاً نتعرض باستمرار لمثل هذه الفيروسات لكن جهازنا المناعي يقاومها، أما إذا تعرضنا إلى عدوان، فسنجده يفشل غالباً في مقاومتها. وبينت التجارب التي فحصت فيها مباشرة قوة الجهاز المناعي أنّ قوته ضعفت نتيجة هذه الممارسات، فقد قام العالم السيكولوجي (شيلدون) بجامعة كارنجي ميللون (Carnegi Mellon) مع فريق عمل من علماء أبحاث أمراض البرد بإجراء دراسة تعتبر من أهم الدراسات التي أثارت اهتماماً كبيراً، قيم خلالها حجم التوتر الذي يتعرض له الناس في حياتهم تقييماً دقيقاً، ثم عرضهم بطريقة نظامية لفيروس البرد، ووجد أنه بقدر حجم الضغوط والتوتر في حياة البعض، فإن احتمال إصابتهم بنزلة برد أكبر حيث أصيب بنزلة برد 27% من الذين تعرضوا للفيروس، مما يدل مباشرة على أن التوتر بسبب الضغوطات يضعف جهاز المناعة(6).

وهناك دراسة فريدة أجريت للأزواج الذين يتعرضون للمشاحنات والأحداث المزعجة كالمعارك الزوجية التي حدثت لهم خلال ثلاثة أشهر قبل إجراء هذه الدراسة؛ مما يعدّ مثالاً قوياً يؤكد هذه النتيجة العلمية؛ فقد أصيب هؤلاء الأزواج بنزلة برد أو بعدوى في الفم والأنف (الجهاز التنفسي العلوي)، بعد ثلاثة أو أربعة أيام من المضايقات المزعجة الشديدة التي حدثت بينهما، وكانت تلك الأيام الفاصلة على وجه التحديد هي فترة الحضانة لكثير من فيروسات البرد الشائعة التي ظهرت أعراضها بعد توتر الزوجين وانزعاجهما الشديد؛ مما جعلهما عرضة للتأثر الشديد بالعدوى.

ينطبق أيضاً نموذج عدوى الخوف والتوتر على فيروس الهربس بنوعيه؛ النوع الذي يسبب ظهور قرح صغير على الشفتين، والنوع الآخر الذي يؤذي الجهاز التناسلي، وإذا حدث أن أصيب شخص ما بفيروس الهربس يظل الفيروس كامناً في جسمه ليظهر من وقت لآخر، وقد تتعقب الأجسام المضادة نشاط فيروس الهربس في الدم. بهذا المقياس، وجد أن فيروس الهربس قد نشط مرة ثانية في طلبة كلية الطب الذين كانوا يجتازون امتحانات آخر العام، وفي النساء اللائي انفصلن حديثاً عن أزواجهن، وبين من كانوا تحت ضغوط عنف مستمر. وفي هذا الخصوص تؤكد الدكتورة سليمة شامان الأستاذة في كلية الطب في الجامعة اللبنانية والمتخصصة في علم المناعة والفيروسات صحة ما تم طرحه حول تأثير العنف على جهاز المناعة البشرية بقولها: إن الجسم كتلة معقدة تعمل فيه مجموعة من الأجهزة ولكل جهاز دور. ففيه إضافة إلى جهاز المناعة جهاز هضمي وجهاز تناسلي وآخر للأعصاب وخامس للغدد إضافة إلى الجهاز التنفسي، كل هذه الأجهزة تتخاطب وتتفاعل، فيكون استقرار الصحة نتيجة طبيعية للتناغم الموجود في ما بينها. وعند تعرض الجسم البشري للأذى أو الضغوط النفسية تتأثر أجهزة الجسم بهذا المؤثر. وتضيف الدكتورة شامان: (تتفاوت الأدوار، وفي عملية التخاطب، تعتبر أجهزة المناعة والأعصاب والغدد الأهم، فالجهاز العصبي يساعد في إحياء التفاعل بين الإنسان والظروف المحيطة به، وبامتداده في سائر أنحاء الجسم فإنه يتمتع بتأثير بالغ على عمل الغدد والجهاز المناعي أما جهاز الغدد فيفرز الهرمونات التي تنتقل بالدم وتؤثر على خلايا الجسم، فيما يتولى جهاز المناعة الدفاع عن الجسم ضد الأمراض. وتأثير الحالة العصبية على الصحة معروف حتى منذ ما قبل الميلاد؛ فالملاحظات تبين تعرض الجنود في المواقع الأمامية للمرض والإصابة الفسيولوجية أكثر من سواهم نتيجة تعرضهم لضغوط نفسية حادة، كما أن الدراسات تبين وقوع الإنسان فريسة للأمراض إثر صدمات عنيفة يتعرض لها، مثل وقوع هزة أرضية أو فيضان أو انفجار، فالالتهابات تؤثر على عمل جهاز المناعة، ومتى ما تعرض لخلل تحصل استجابة من قبل الجسم تتمثل في ظهور طفرة حساسية مثلاً أو أمراض ناتجة عن أسباب قد لا تكون مفهومة وهذا ما حدث بالفعل في كوبا عندما ضربتها هزة أرضية عام 1955م حيث أدت إلى تفشي واضح لأمراض القرحة المعوية بين صفوف المواطنين) (7).

وأضافت د. شامان أن البحوث العلمية الحديثة بينت أن التعرض للضغط النفسي لمدة طويلة يتسبب في إضعاف جهاز المناعة، وقد ثبت علمياً أن عدد الخلايا اللمفاوية المسؤولة عن أداء فعاليات المناعة في الجسم يتضاءل، كما أن خللاً يطرأ على آلية إفرازها، وبالتالي فإن كمية الأجسام المضادة تتغير، كما يقل عدد الخلايا التي تقوم بوظيفة التهام الجراثيم.

وتابعت شامان قائلة: لاحظ الباحثون ازدياد معدلات إصابة مرضى الربو بأزمات حادة لدى تعرضهم لضغوط نفسية وقسرية. إضافة إلى ازدياد حالات إصابة اللاعبين في المباريات الرياضية العالمية بالعدوى والالتهاب. وكل ذلك يثبت تأثير الجهاز العصبي على جهاز المناعة، أما فورياً ومباشرة، أو عن طريق الغدد (إفرازات تصل إلى جهاز المناعة بطريق غير مباشر).

ومع اقتناعهم بتأثير الحالة النفسية وممارسة العنف على جهاز المناعة، حاول الباحثون إجراء تجارب لدراسة احتمال السيطرة على هذا الجهاز وتحفيزه على زيادة فاعليته في حالات محددة لقهر المرض، ولكن البتّ في الأمر لم يتم، بانتظار تحديد الطرق التي يتم التأثير من خلالها والقنوات التي يسلكها، وقد اختبر العلماء طرقاً عدة كالتركيز والتنويم المغناطيسي وتفعيل الإرادة بالتصميم في محاولة لتقوية جهاز المناعة، إلا أن المؤشرات المتداخلة بين الجهاز العصبي وتأثره بالضغوط النفسية وتأثيره على جهاز المناعة، عوامل واضحة التأثير، فنرى أن القرحة المعوية مثلاً التي تسببها البكتريا تزداد في الحالات العصبية، مما يعني وجود تأثير للحالة النفسية على المناعة، يترجم باستقواء البكتريا على الجسم. وهذا يؤيد التجارب التي قام بها فريق من الباحثين في الكلية الملكية البريطانية التي بينت أن طاقات الجسم ودفاعاته ضد المرض كانت أنشط بتأثير التنويم المغناطيسي، وبتطبيق هذه النتائج على عينة من الطلاب تبين أن النتائج التي تم تحصيلها بعد الخضوع لجلسات التنويم المغناطيسي قبل موعد الامتحانات النهائية كانت أفضل، كما أن الجسم كان أنشط وبالتالي فإن التنويم رفد الطلبة بحيوية مكنتهم من التصدي للعوامل الممرضة(8).

 

فسيولوجية العنف على القلب وجهاز الدوران

لا يتمثل خطر القلق فقط في خفض مستوى الإجابة المناعية، بل إن هناك العديد من البحوث والدراسات الفسلجية تثبت ما يحدث نتيجة ممارسة العنف على القلب وعلى جهاز القلب الوعائي، وما له من آثار عكسية عليه؛ فبينما تشكل العدوانية والغضب المتكرر أكبر خطر على مرضى القلب من الرجال والنساء، فإنها تشكل خطراً آخر حتى على الأصحاء من الناس، ففي دراسة أجريت في كلية الطب بجامعة ستانفورد على أكثر من ألف رجل وامرأة تعرضوا للأزمة القلبية الأولى، تبين أن من أصيب من النساء بالأزمة القلبية للمرة الثانية هن من وصل بهن الخوف والقلق ذروته، فالقلق والخوف والضغوطات هي أكثر الانفعالات المهلكة بالنسبة للنساء. وقد ظهر الخوف في حالات كثيرة، منها في شكل خوف مرضي شديد، وبعد الأزمة الأولى توقف بعض المرضى عن قيادة سياراتهم، وترك البعض وظائفهم، أو انعزلوا في بيوتهم.

وقد أثبتت هذه الدراسة أن كل المرضى يعانون من الإصابة بأزمة قلبية أول مرة. وكان السؤال: هل كان للعنف والغضب تأثير مهم من أي نوع في وظيفة القلب؟ وكانت النتيجة مدهشة فعندما استرجعوا تذكر الأحداث التي فجرت غضبهم، هبطت كفاءة ضخ الدم من القلب بنسبة 5%، وهبطت كمية الدم التي يضخها القلب في بعض المرضى إلى 7% أو أكثر. هذا المعدل إشارة واضحة إلى نقص كمية الدم الواصلة لعضلة القلب، وهذا مستوى خطير في نقص تدفق الدم إلى القلب في رأي معظم أخصائي أمراض القلب، ولم يحدث هذا الهبوط في كفاءة ضخ الدم في حالة المشاعر المؤلمة الأخرى، مثل القلق أو الإجهاد الجسماني، ويبدو أن العنف هو الانفعال الوحيد الذي يضر بالقلب. وقال المرضى أنهم باسترجاع الحادث المزعج شعروا بالأعراض بدرجة تصل إلى نصف الحالة التي كانوا عليها أثناء الواقعة الحقيقية. كانت هذه النتيجة جزءاً من مجموعة أكبر من الشواهد التي ظهرت في عشرات البحوث التي تشير إلى قوة تأثير الضغوطات في تدمير القلب ورفع الضغط سريعاً(7).

في جامعة ديوك (Duke) قام الدكتور (ردفورد وليامز) (Radford Williams) بإجراء بحث على طلبة كلية الطب، حيث وجد أن الأطباء الذين حصلوا على أعلى الدرجات في اختبار العداوة عندما كانوا طلبة، كان احتمال وفاتهم في سن الخمسين يزيد سبع مرات عن زملائهم الذين حصلوا على درجات منخفضة في اختبار العداوة، واتضح أن ميلهم للغضب كان مؤشراً قوياً على وفاتهم في سن أصغر، وليس نتيجة لعوامل الخطر الأخرى مثل التدخين، وارتفاع ضغط الدم، وزيادة الكولسترول.

كما بينت نتائج أبحاث الدكتور (جون بيرفوت) (Jhon Barefoot) بجامعة نورث كارولينا، أن مرضى القلب الذين تجرى لهم عمليات تصوير شرايين القلب بإدخال أنبوب في الشريان التاجي لقياس حجم ما حدث من تدمير، بينت النتائج ارتباط درجات العنف بمدى خطورة أمراض الشريان التاجي، ومن الطبيعي ألا يكون العنف وحده سبباً لأمراض الشريان التاجي؛ فهو عامل من بين عوامل أخرى متداخلة، وقد فسّر الدكتور بيتر كوفمان (Peter Koufman) نائب رئيس فرع الطب السلوكي بمعهد القلب الوطني بواشنطن هذا قائلاً: (لا نستطيع أن نحدد ما إذا كان العنف والمشاعر العدائية يلعبان دوراً عرضياً في التطور المبكر لأمراض الشريان التاجي، أو تعميق هذه المشكلة أو كليهما بمجرد أن يبدأ مرض القلب، ولكن إذا درسنا حالة شخص في العشرين من عمره، ينفعل بالعنف بصورة متكررة، نجد أن كل انفعال غضب عارض يضيف ضغطاً إضافياً على القلب، بزيادة معدل خفقاته وضغط الدم فيه، وعندما يتكرر هذا مرات ومرات يمكن حدوث الضرر بالقلب، لأن اضطراب تدفق الدم داخل الشريان التاجي خاصة مع كل نبضة قلب، يمكن أن يحدث تمزقاً خفيفاً في الشريان؛ فينمو مصدر البلاء فإذا زادت خفقات قلبك عن معدلها الطبيعي، وارتفع ضغط الدم لأنك معتاد على الغضب، يؤدي هذا إلى حدوث الكارثة خلال ثلاثين عاماً، فيصاب القلب بمرض الشريان التاجي) (6).

وقد لوحظ بعد ذلك أن الآليات التي حفزها العنف تؤثر في كفاءة القلب كمضخة، بمجرد ظهور المرض وتطوره، كما جاء في دراسة عن (أثر ذكريات الغضب في قلوب المرضى)، هذا الأثر البحت يجعل الغضب عاملاً مهلكاً لمرضى القلب على وجه الخصوص، وقد أظهرت الدراسة التي قامت بها كلية الطب بجامعة ستانفورد على (1012) مريضا بين رجل وامرأة، أصيبوا بأول أزمة قلبية نتيجة ضغوطات خارجية، ثم تابعت الدراسة حالتهم على مدى ثماني سنوات، وقد ظهر أنهم عانوا من معدل أعلى في الإصابة بالأزمة القلبية الثانية، وجاءت هذه النتائج مشابهة لنتائج دراسة أخرى قامت بها كلية الطب بجامعة يال (Yale) على 929 مريضاً نجوا من أزمات قلبية، وعاشوا بعدها عشر سنوات. بينت الدراسة أن احتمال الوفاة بالسكتة القلبية بسرعة الإثارة والانفعال بالضغوطات تزيد ثلاث مرات عن المرضى الاعتياديين، ويتفاقم خطر العنف خمس مرات أخرى إذا كانت نسبة الكولسترول مرتفعة(6).

وعلى ضوء ذلك فقد أمكن التوصل إلى تحديد دقيق للآثار الجسمية الفسيولوجية غير الظاهرة التي تنتج عن الضغوطات اليومية، فقد أجرى (ستيفن مانوك) عالم النفس بجامعة بيتسبرج تجربة على ثلاثين متطوعاً يعيشون محنة توتر شديد بسبب انفعالات عنيفة، حيث أدخلهم إلى المختبر وأخذ يرصد مادة في الدم تدعى أدينين ترايفو سفيت (Adensine triphosphate) (ATP) التي تفرزها صفائح الدم، وهي مادة تحفز تغيرات في الأوعية الدموية، قد تؤدي إلى الأزمات القلبية والسكتة الدماغية، وبينما كان المتطوعون تحت ضغط توتر مكثف، ارتفع مستوى مادة (ATP) ارتفاعاً حاداً وزاد معدل ضربات القلب وارتفع ضغط الدم.

وبناء على ذلك فقد أثبتت جميع الدراسات أن معدل الوفيات زاد ثلاث مرات فيمن عاشوا حياة مليئة بالضغوطات والتوتر الانفعالي الشديد، على من عاشوا حياة هادئة، ويبدو أن نوعية العلاقات وحجمها والممارسات هما مفتاح تخفيف التوتر وأن فيضاً من الكلمات والمشاعر الحسنة يخفف دائماً على القلب، ويزيد من قوة فعالية جهاز المناعة، كذلك تحسنت فعالية أنزيمات الكبد، بالإضافة إلى أن النسيان والتسامح مع الآخرين مفيد جداً لصحة الجسم من الإصابة بأمراض القلب والإجهاد العصبي وتنشيط الجهاز المناعي(9).

 

خاتمة

على الرغم من كل هذه الشواهد التي تعترف بأهمية الضغوطات النفسية والممارسات العدوانية والعنيفة ذات أهمية إكلينيكية في علوم الطب، فإن الشواهد أخذت تتزايد بثبات على الأهمية الإكلينيكية لهذه الانفعالات، وربما جاءت أكثر البيانات إثارة حول هذه الأهمية الطبية تلك التي جاءت من تحليل (101) دراسة صغيرة، جمعت نتائجها في دراسة أكبر تضم بضعة آلاف من الرجال والنساء كشواهد عينية على أن العدوان المسبب للانفعالات المشوشة ضار بالصحة إلى درجة كبيرة، وتبين أن من يعانون من قلق مزمن وفترات طويلة من الحزن والتشاؤم، وتوتر دائم أو عداوة لا تفتر أو طباع حادة بسبب تراكم الضغوط النفسية والعنيفة، هؤلاء يتعرضون ضعف ما يتعرض له غيرهم لخطر الإصابة بأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم والسرطان وقرحة المعدة والاثني عشري والربو، والصداع المزمن، والبول السكري، والأمراض الجلدية، والتهاب المفاصل، ونتف فروة الرأس أو القرع(6). وهذا الاتساع في النطاق يجعل الانفعالات والضغوط المزعجة تماثل وتشابه سموم خطر التدخين مثلاً، أو ارتفاع نسبة الكولسترول على مرضى القلب؛ أي إنها خطر كبير على الصحة، ومن المؤكد أن هذا يمثل ارتباطاً إحصائياً واسع النطاق يوضح أن كل من يعيش هذه المشاعر المزمنة سيقع فريسة الأمراض بسهولة أكثر، غير أن الأدلة أوسع نطاقاً مما تشير إليه هذه الدراسة الشاملة والدراسات الأخرى حول دور فاعل يلعبه العنف في الأمراض وعلى فسيولوجية الأعضاء، ومازال علماء الميكروبيولوجي وعلماء الفسلجة وغيرهم من العلماء يكتشفون المزيد عن هذه العلاقة بين العنف والقسوة من جهة، وبين المخ وجهاز القلب الوعائي وجهاز المناعة من جهة أخرى، ويضعون العديد من التقنيات للتخفيف من آثار السلوك العدواني على وظائف الأعضاء. وتستخدم اليوم تقنيات الاسترخاء إكلينيكياً للتخفيف من أعراض وظهور الأمراض المزمنة الواسعة التنوع؛ لأنه من المعروف أن الاسترخاء وسيلة للحد من الآثار الفسيولوجية الناتجة عن التوتر والعنف، ومساعدة المرضى على الاسترخاء ومعالجة مشاعرهم المضطربة يمكن أن تساعدهم على التخفيف من آلامهم، وتعتبر عيادة (جون كابات زن) (Jhon Kabat Zinn) المتخصصة في تخفيف التوتر بالمركز الطبي بجامعة (ماساشوستش) مثلاً يحتذى في التدريب على الاسترخاء، حيث تقوم العيادة بإعداد دورات تدريبية مدتها عشرة أيام يتدرب المرضى خلالها على اليقظة ورياضة اليوجا، ويركز التدريب على تعليم المريض كيف يكون واعياً للأحداث الانفعالية والعنيفة أثناء حدوثها، وتكريس وقته للتدريب على تمرين الاسترخاء العميق اليومي.

ويمثل الاسترخاء ورياضة اليوجا جوهر البرنامج المبتكر لعلاج القلب، فبعد عام واحد من هذا البرنامج مصحوباً بنظام غذائي منخفض الدهون، أصبحت عملية قسطرة الشريان التاجي -مثلاً- ممكنة بعد أن كانت تشكل خطراً على مرضى القلب؛ فقد تحركت الجلطة في الاتجاه العكسي. هذا البرنامج الذي أطلق عليه (هربرت بنسون) اسم (استجابة الاسترخاء) يعتبر المضاد السيكولوجي لإثارة التوتر الذي يسهم في سلسلة واسعة من المشاكل الطبية(5).

وأخيراً تضاف إلى ما سبق، القيمة العلاجية لتعاطف الطبيب أو الممرضة مع المرضى، بالاستماع إليهم. هذا التعاطف يعني تقوية الرعاية، ويمثل اعترافاً بأن علاقة الطبيب بالمريض هي أسمى أنواع ملكة اللاعنف.

 

المصادر:

(*) دراسة العلاقات بين الأفراد والجماعات الاجتماعية والبيئات الاجتماعية التي يعيشون فيها.

(1) موسوعة لالاند الفلسفية: أندريه لالاند، المجلد3، منشورات عويدات، بيروت وباريس (1996م).

(2) العنف والجريمة: جليل وديع شكور، الدار العربية للعلوم - بيروت (1997).

(3) العنف العائلي: مصطفى التير، مطابع أكاديمية نايف - الرياض (1997).

(4) الاغتراب والتطرف نحو العنف: محمد خضير عبد المختار، دار غريب - القاهرة (1999).

(5) الذكاء العاطفي: دانييل جولمان، ترجمة ليلى الجبالي، سلسلة عالم المعرفة – الكويت العدد 262/ أكتوبر(2000).

(6) سيكولوجية العنف والعدوان: د. عبد الرحمن العيسوي، دار الأنوار- دمشق (2000).

(7) تأثير الإرادة والظروف النفسية والعصبية على جهاز المناعة البشرية: كلوديا مشرفية، جريدة المستقبل العدد 716/ آب (2001).

(8) علم النفس الفسيولوجي: د. عبد الرحمن العيسوي، دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية (1995).

(9) التسامح يقوي الصحة والجهاز المناعي: جريدة الوطن العدد 9017 - 23/3/2001م.

ردك على هذا الموضوع

إتصــلوا بـنـــا

الأعــداد السابقــة

العــدديـن 67 - 68

الصفحة الرئيسية