النظام السياسي الإسلامي..كما يراه الإمام الشيرازي (قدس سره)

فرهاد الهيان

ترجمة: عباس كاظم

مضت مدة على فقدان العالم الإسلامي لأحد أبرز أبنائها. ومنذ ذلك الوقت خفّت صوت اليقظة والنهضة الذي كان منذ خمسين عاماً يبذر بذور المعرفة والعلوم في النفوس، وتملأ كلماته وتعاليمه الأسماع.. أعني بذلك آية الله العظمى المجاهد السيد محمد الشيرازي (قدس سره). هو الآن ميت إلا أننا نحن الأموات، نجلس في مأتمه.. ولكن لا، لا يجب أن يموت، إنه يجب أن يبقى كما كان حياً ويمنح الحياة للأموات.. لا، لا إنه لم يمت، إنه من أولئك العلماء الباقين ما بقي الدهر، إنه يعيش بعدد الحروف والكلمات التي سطّرها، وآلاف الصفحات والصحف التي ورّثها.. كيف يمكن أن نصدق موت رجل استطاع بمفتاح أطروحته أن يفتح أقفال الآلاف والآلاف من القلوب، ويجد طريقة إليها بسهولة ويسر. هذه القلوب تنبض الآن في أقفاص صدور من يحملها، إنها اليوم تفكر بعقل الشيرازي، وتنطلق بألفاظه وعباراته، وتحمل أمانيه وأمنياته في عقولها، وبالرغم من أنه كان يوقّع باسمه الشريف (محمد الشيرازي) إلا أنه كان ينتسب إلى الحسين (ع) وجذوره في البطحاء، وكان غصناً من أغصان الشجرة النبوية.

كل أرجاء العالم في نظره ملك لله ووطن لعباده.. وكان -قدس سره- يعيش حالة صراع دائم مع الكرب والبلاء الذي نزل بالإسلام والمسلمين؛ ولذا كانت كربلاء وشيراز عنده سيان، ويهتم بالهند وأوربا وآسيا وأفريقيا على حد سواء، كان ينتظر يوماً ترتفع فيه راية التوحيد على جميع بقاع الأرض، ويرفل العالم أجمع، في ظل الحكومة الإسلامية العالمية، بالسلام، ويحقق السعادة والفوز بالآخرة. وإذا تعمقت في النظر فسوف ترى أن صوته لا يزال ينطلق من آلاف الكلمات التي كتبها في آلاف الدفاتر والكتب، ويصل إلى الأسماع، ولازالت سحابات كلماته تمطر مطر المحبة والعقل والرحمة. ونحن احتراماً لذكرى رحيله نحاول أن نفتح فصلاً من فصول كلماته الكثيرة، وهو نظام الحكومة الإسلامية.

ضرورة بناء الكيان السياسي الإسلامي من جديد

لايمكن التصديق بقضية معينة إلا إذا استطاع الإنسان أن يتصور طرفي تلك القضية، ويقف كاملاً على التناسب الموجود بينهما. ويعتبر التصديق نوعاً من التسليم الداخلي الوجداني للإنسان، وشهادة للفطرة البشرية التي تحمل المحمول على الموضوع. فمثلاً عندما نرسم مثلثاً، ونتمعن في مجموع زواياه، فسوف ندرك بصورة فطرية، وبدون استدلال عقلي، أن مجموع زواياه يساوي زاويتين قائمتين؛ وهذا يعني التسليم الوجداني لقضية معينه في الواقع الخارجي العيني.

كان الإمام الشيرازي -قدس سره- يعتقد أن جميع الأحكام والدساتير الإسلامية هي من هذا القبيل من القضايا، ولها من الاستحكام النظري، والدعم بالبرهان القوي، ما يحملك، بمجرد تصورها، على تصديقها فوراً.

ولذلك اهتم الراحل الكبير بشرح فلسفة الأحكام والحكمة في التشريع الإسلامي اهتماماً خاصاً، ولم يدخر أية وسيلة لإصلاح قناعات المسلمين بالنسبة للتعاليم الإسلامية، لتهيئة الأجواء المناسبة لإيجاد نظام سياسي إسلامي يستند على الجماهير. إنه رحمه الله وبعد أن حلل بعمق الأوضاع العالمية من جميع الجوانب، وبالأخص أوضاع الدول الإسلامية وأوضاع المسلمين، وصل إلى نتيجة مفادها أن جميع مشاكل المسلمين تصدر من جهة واحدة، وهي أنهم، أي المسلمين، يفتقرون إلى حكومة إسلامية واحدة؛ لذلك بدأ -قدس سره- نضالاً واسعاً، مستثمراً كل الإمكانات المتوفرة لديه، في دعوة المسلمين إلى تشكيل مثل هذه الحكومة، لكي يتسنى لهم في ظلها حل المشكلات المختلفة التي يعاني منها العالم الإسلامي. هذه المطالبة وهذا السعي الحثيث يبدو واضحاً في جميع كتبه التي ألفها لهذا الغرض.

وإذا أمعنا النظر في آخر السطور التي سطرها الإمام الراحل في تلك الكتب، فسنجد إلى أي حد كان الراحل الكبير يرى ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية الواحدة، وللمثال على ذلك، جاء في آخر كتابه "ممارسة التغيير"(1) ما يلي:

(هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب، والله سبحانه المسؤول والمأمول أن ينقذ المسلمين من براثن الشرقيين والغربيين، والمنصوبين من قبلهم حكاماً على بلاد المسلمين، لترجع دولتهم الواحدة ذات الألف وخمسمائة مليون مسلم، وما ذلك على الله بعزيز.. اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله..)(2).

وينهي سماحته كتابه (القانون) بهذه العبارات:

(والله سبحانه المسؤول أن يوفق البشرية لاتخاذ سبل السلام والانضواء تحت لواء الإسلام الذي ينتهي بهم إلى السلام في الدنيا ودار السلام في الآخرة)(3).

وجاء في آخر سطور كتابه (الدولة الإسلامية) ما يلي:

(وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب، والله المسؤول أن يجعله سبباً لنشر الأحكام، وإقامة حكومة الإسلام، حسب ما يرتضيه الله ورسوله والأئمة(ع).. اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة.. )(4).

وختم كتابه (السياسة) بهذه العبارات:

(هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبله بقبول حسن، ويجعله مقدمة:

1- لتطبيق حكم الإسلام على ألف مليون مسلم في ظل حكومة إسلامية واحدة.

2- ولهداية غير المسلمين إلى الإسلام، إنه لما يشاء قدير) (5).

هيكلية النظام السياسي في الإسلام

يعتقد الإمام الشيرازي (رحمه الله) أن النظام السياسي الإسلامي يجب أن يكون من النوع الاستشاري في مقابل النوع الدكتاتوري. ومن خلال تعريفه للنظام الاستشاري، نستشف أنه ورغم كونه نظاماً ديمقراطياً، إلا أنه بعيد عن جميع العيوب والنواقص التي ابُتليت بها الأنظمة الديمقراطية المعروفة اليوم في العالم؛ ففي رأي الأمام الشيرازي (أن أحد معايب النظام الديمقراطي المعمول به اليوم، هو عدم وجود الحرية بمعناها الواقعي، وما الحرية التي يدعونها إلا كحرية الطير داخل القفص، بينما يتمتع الإنسان في ظل النظام الإسلامي بحرية واقعية، ولا يستطيع أي شخص أو مسؤول حكومي أن يسلب منه هذه الحرية. وفي ظل هذا النظام الحكومي تدار السلطة من قبل شورى الفقهاء والجامعين للشرائط الذين تنتخبهم الأكثرية بحرية مطلقة وبلا إكراه)(6). وعلى الرغم من أنه يرى النظام السياسي الإسلامي المنشود نظاماً قائماً على مبدأ ولاية الفقيه، إلا أن هذا الأمر لا يتحقق في الظروف الحالية، وخاصة مع وجود فقهاء جامعين للشرائط، إلا من خلال تأسيس شورى للفقهاء المنتخبين من قبل الأمة، وليس لفرد واحد منهم؛ ذلك لأنه يعتقد أن أي نوع من أنواع الحكومات الفردية، وتحت أي عنوان كان، لا يغير من أصل القضية وهي الدكتاتورية، وسوف ينتهي بها المآل إلى الاستبداد لا محالة. وبناءً على ذلك تكون الدولة أو الحكومة القائمة على أساس من آراء الأمة والانتخابات، هي الحكومة الاستشارية، والحكومة الاستشارية تنقسم إلى نوعين: ديمقراطي وإسلامي. وللاستدلال على إطلاق تلك التسميات يكتب سماحته:

(وحيث أن الدولة الإسلامية... يكون رئيسها الفقيه الجامع للشرائط الذي تنتخبه الأمة(7) فإن الإسلام لا يقبل كون الدولة إسلامية إلا بشرطين: كون قانون الدولة قانون الإسلام، وكون رئيس الدولة رجلاً ترضاه أكثرية الأمة. وبدون هذين الشرطين فكل أعمال الدولة غير نافذة، والمسلمون أحرار في ما يفعلونه، في نطاق الأحكام الإسلامية، أي إنهم لا يتقيدون بمقررات الدولة، وفي مثل هذه الدولة لا احترام لأموال الدولة بل هي من قسم مجهول المالك المرتبط بالحاكم الشرعي) (8).

أما لماذا يشترط الإمام الشيرازي (قدس سره) وجوب أن يكون الفرد المنتخب من الفقهاء الجامعين لشرائط الفتوى والإدارة؟! فذلك لأن الناس مسلمون ويريدون أن تدار شؤونهم العامة طبقاً للتعاليم الإسلامية؛ وعليه فإنه يفسر قول الإمام علي (ع) (لابد للناس من أمير، برّ أو فاجر) بأن المراد من ذلك وجوب انتخاب الحاكم البار على بلاد الأبرار، والحاكم الفاجر على بلاد الفجار؛ لأن كل فئة تنتخب رئيسها منها، أو أن يكون المعنى المراد من الحديث هو نفس معنى الحديث الآخر الذي يقول: (كيفما تكونوا يُولّ عليكم) (9).

استشارية النظام السياسي

بعد أن يناقش الإمام الشيرازي(رحمه الله) أسس قيام الحكومات المتنوعة الاتجاهات، وكيفية استمدادها للسلطات التي تتمتع بها، يصل إلى نظريتين. هاتان النظريتان تتلخصان بما يلي:

يرى البعض أن الأصل في قوة السلطة هو كونها نابعة من الله، وليس لأحد الحق في السلطة إلا بتفويض منه تعالى، والبعض الآخر يقول إن الجهة التي تمنح السلطة القوة هي الجماهير و آراء الآمة.. كانت الكنيسة في القرون الوسطى تستند إلى النظرية الأولى في الحكم، فكانت تدعي أن جميع الحكام والملوك والرؤساء يستمدون قدرتهم وسلطتهم من البابا الأعظم وهو بدوره يكتسبها من عيسى المسيح الذي يمثل خلافة الله أو هو الله -حسب اعتقادهم-.

ولكن الإسلام يؤمن بهذه النظرية بالنسبة للنبي والإمام فقط؛ لأن سلطتهم تنبع من الله. وبالنسبة لسائر الحكام فإن الحاكم الفقيه العادل الجامع لشروط الفتيا والإدارة يستمد قدرته على الفتوى من النبع الإلهي. وبما أن هذا الفقيه يجب أن ينتخب من قبل الأمة، فسيكتسب القدرة على السلطة منها، وإذا فقد الحاكم أي من هذين الشرطين، فسيسقط من السلطة فوراً:

(ومما ذكرنا تبين أن ولاية الفقيه في الحكم التي نقول بها، ليست خلاف الاستشارية في الحكم، بل تزيد على الاستشارية شرطاً جديداً وهو أن يكون المنتخب واجداً لشرط الفقاهة والعدالة وسائر الأوصاف المذكورة في كتاب التقليد) (10).

أسس مشروعية النظام السياسي في الإسلام

لقد تبين مما سبق أن حكومة ولاية الفقيه، ليست فقط لا تتعارض مع الحكومة الاستشارية، بل إنها تضيف شرطا آخر على الحاكم، وهو أن يكون الشخص المنتخب واجداً لشروط الفقاهة والعدالة وما أشبه ذلك.

وفي رأي الإمام الشيرازي -قدس سره- فإن ولاية الفقيه هي نوع من الزعامة السياسية والإدارة الاجتماعية المشروطتين؛ لذلك فعندما يتناول مفهوم الولاية التكوينية والتشريعية، يقول: هنالك ولاية ثالثة تختص بالنبي والإمام المعصوم، وهي ولايتهم بالتصرف في أموال ونفوس الناس عن طريق الحكومة عليهم(11).

ويستنتج الإمام الراحل - بالاعتماد على مدلول بعض الآيات القرآنية والأحاديث وإجماع الفقهاء والحكم العقلي - أن هذه الولاية قد أسندت إلى الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة. ولأن هؤلاء الفقهاء قد نصبوا من قبل النبي (ص) والإمام المعصوم (ع) في هذا المنصب والمقام الخطير، فقد صار واجباً على الناس أن يرجعوا إليهم في أمورهم كافة. وعلى أية حال يجب أن يكون الحاكم فقيهاً جامعاً للشرائط، لأنه ذلك الشخص الذي نصب من قبل النبي والإمام (ع) ليتصدى للحكومة في زمن الغيبة)(12).

يبدو للوهلة الأولى من هذا التعريف أن لا دور لإرادة الأمة ورأيها في انتخاب الولي الفقيه، ونوع الحكومة المنبثقة منها، لأنها محكومة سلفاً بالطاعة للفقيه الذي تم تعيينه لهذا المقام من قبل الإمام (ع)، ولكن الواقع ليس كذلك، لأن الفقيه -طبقا لهذه النظرية- لا يشكل سوى شرطاً واحداً من الشرطين الأساسيين للتصدي للولاية والحكومة، ثم يأتي الشرط الثاني وهو قبول الأمة به عن طريق الانتخاب. وفي رأي الإمام الراحل، فإن هذه القضية تشبه إلى حد بعيد مسألة التقليد، حيث يستطيع المقلد أن يقلد من يراه أهلاً وجامعاً لشرائط التقليد، وخاصة عند تعدد الفقهاء العدول؛ إذْ قد يقلد أكثر من واحد منهم في حالة التبعيض في التقليد.

(وفي حال تعدد الفقهاء الجامعين للشرائط، فإن الأمة مخيرة في جعل الكل شركاء في الحكم، أو انتخاب أيهم شاءت لتولي منصب الحكم، فحال الحكم حال التقليد، حيث يتخير العامي في تقليدهم جميعاً أو أيهم شاء)(13). وعليه فإن الإمام الشيرازي (رحمه الله) يرى لزوم شورائية الحكومة، ولزوم اشتراك الأمة في تقرير المصير السياسي لها، عن طريق إجراء الانتخابات المختلفة، وبعد ذلك فإن مفهوم ولاية الفقيه يبينه الإمام الراحل هكذا: (وعلى هذا يكون هناك انتخابان للناس، الأول انتخابهم للفقيه العادل الجامع للشرائط، حتى يكون هو الذي يتولى عامة الأمور، وهذا ما يسمى بولاية الفقيه، فإذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول، اختار المسلمون أحدهم رئيسا أعلى للدولة، ويحق لهم أيضاً أن يختاروا جماعة منهم ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم. وهذا الثاني أقرب إلى روح الإسلام، حيث أن الإسلام استشاري، كما أنه أقرب إلى الإتقان) (14).

إضافة إلى ذلك، فإن العمل الجماعي تقل فيه نسبة الخطأ إلى أدنى مستوى، ويتميز بالاتقان العالي. ولإثبات ذلك يذكر الإمام الشيرازي أكثر من تسعة عشر دليلاً، منها:

1- إن الشارع المقدس لم يعين شخصاً بعينه لإدارة الحكومة، استناداً على الأصل القائل بأن الناس أحرار في انتخاب أية حكومة يشاءون، وهذا الأصل يتطابق وأصل الحرية الممنوحة للمسلمين، وبموجبه كانت إحدى مهام النبي (ص): (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (15) وعليه فالمسلمون أحرار في انتخاب مرجع التقليد والقاضي وإمام الجماعة.. وهكذا في انتخاب الحاكم؛ إذْ يمكنهم أن ينتخبوا أي شخص يشاءون لتولي هذا المنصب.

2- إدارة أمور الدولة تستلزم منصب الحاكم، ومن جهة أخرى فإن عدم وجود الحكومة يبعث على إخلال النظام وإثارة الفوضى، وهو من أكبر المحرمات. ولأنه لم تحدد طريقة خاصة لتعيين الحكام، فلابد من الشورى، وإجراء الانتخابات العامة، كأفضل طريق لانتخاب وتعيين الحاكم.

قد يستشكل البعض بأن انتخاب الحاكم عن طريق إجراء الانتخابات العامة، أمر غير مسبوق في التاريخ الإسلامي، وعليه لا يمكن الركون إليه، إلا أن الواقع غير ذلك إذْ:

أولا: يجب على الحاكم أن يتقلد منصب الحكومة برضا الناس وموافقتها، وكان هذا الأمر يتم في السابق عن طريق انتخاب أهل الحل والعقد وهو ما يعتبر صورة من صور الانتخابات العامة.

ثانياً: إن أحكام الإسلام تعتبر كنزاً دفيناً، وفي كل يوم تكتشف أبعاد جديدة لها. فكما تكتشف العلوم الطبيعية أسرار الطبيعة بصورة مستمرة، وتضعها لمنفعة الناس، فكذلك يمكننا أن نكتشف أبعاداً جديدة في الشريعة الإسلامية، ونتعرف عليها ونلزم أنفسنا بتطبيقها.

ثالثاً: إن الكثير من الخلفاء، وصلوا إلى الخلافة عن طريق الشورى. وفي خطبة الإمام علي(ع) (الخطبة الثالثة: نهج البلاغة) التي اعترض فيها على طريقة تشكيل الشورى، فانه(ع) قد أيد مبدأ الشورى ضمناً وتلويحاً. وبعض الخلفاء قد تسلم منصب الخلافة الإسلامية عن طرق البيعة العامة التي تعتبر - بلا شك - نوعاً من الانتخاب المباشر لرئيس الدولة، رغم أن الكثير منها كان صورياً، ولم يتقيد الحاكم بشروطها.

لكن المهم هو أصل موضوع تشكيل الشورى، وإقامة مراسيم البيعة العامة التي تعتبر دليلاً قاطعاً على أن الحاكم يجب أن يحظى برضى الناس، ورأيهم الإيجابي، للوصول إلى السلطة، لأنه لا مكان للسيف والوراثة في نظرية الحكم في الإسلام، وان كانت، فهي لا تغير ولا تثبت شيئاً.

3- إن التصرف في شؤون وأمور الأمة، هو من حق الأمة فقط، ولا يستطيع الآخرون أن يتصرفوا في شؤونها إلا بتوكيل ورضى منها؛ وعليه إذا كان هناك أكثر من فقيه جامع للشرائط، فإن أمامنا ثلاثة طرق، فإما أن نعهد بالحكومة إلى جميعهم بصورة مشتركة، أو أن يقوم أولئك الفقهاء بانتخاب أحدهم ليتولى منصب الحكومة، وإما أن ينتخب الناس حاكمهم من بين أولئك بصورة مباشرة وحرة.

لا يخفى أن الطريق الثاني يتناقض وأصل الحرية التي منحها الإسلام للأمة في انتخاب الحاكم، والأمة غير ملزمة بالقبول بهذه النظرية، ولا بنتائج ما يسفر عنه انتخاب الفقهاء، ولا يمكن التعاطي مع حكومة جماعية للفقهاء الذين يكونون في عرض بعضهم البعض، وليس لدينا دليل على قبول هذه النظرية في الحكم؛ فلا يبقى إلا الطريق الثالث، حيث تحفظ الحرية الممنوحة للأمة من الانتهاك، ويُضمن شرط الفقاهة والعدالة في الحاكم، ويتيسر تعيين الفقيه المؤهل لإدارة أمور المسلمين، والذي نص عليه الإمام المعصوم (ع).

وإذا ارتأت الأمة تشكيل مجلس من الفقهاء لإدارة أمورها، فلها أن تشترط عليه شروطاً في المسائل المختلف عليها؛ فيكون الملاك -مثلاً- رأي الأكثرية أو الأخذ برأي أشخاص معينين، أو التراوح بين هذا وذاك. ويمكنهم أيضا اشتراط الرجوع إلى مرجع آخر، لأخذ رأيه أو إيكال عمل خاص به؛ لأن الأدلة هنا مطلقة وتشمل جميع هذه الموارد والأشكال.

4- في رسالة بعثها الإمام الصادق (ع) إلى أصحابه بواسطة أبي خديجة، يقول فيها:

(إياكم، إذا وقعت بينكم خصومة، أو قد أدى في شيء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى هؤلاء الفساق. اجعلو بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يحاكم بعضكم إلى السلطان الجائر) (16).

تفيد جملة (اجعلوا بينكم رجلاً) إعطاء حق الاختيار والانتخاب للأمة، وأنه ليس لأحد الحق في أن يجبرهم على الانصياع لحكومة أحد.

5- نقل عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (ع) قوله:

(ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً) (17).

في هذه الرواية أيضاً قد أوكل انتخاب الحكم بين المتخاصمين إلى أصحاب الدعوى أنفسهم. ويمكن الاستدلال من أمثال هذه الراويات، بأنه إذا كانت المسائل مثل الأخذ والعطاء والمخاصمات في أمور الدَين والميراث، التي تعتبر من الشؤون الخاصة للناس، قد أوكلت إلى الناس أنفسهم، فمن نفس المنطلق تكون إدارة الأمور العامة المتعلقة بالأمة بيد شخص منتخب من قبلها.

6- يقول الإمام علي (ع) في رسالته التي بعثها إلى معاوية، بعد أن أكد على انتخابه من قبل الناس في بيعة عامة ورأي الشورى:

(... بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان ذلك لله رضى... ) (18).

لقد حصر الإمام علي (ع) الشورى في المهاجرين والأنصار، لاعتبارات عديدة، منها أنهم في ذلك اليوم أهل الحل والعقد من المسلمين، ويعتبرون ممثلين حقيقيين لجميع المسلمين، وكما ذكرنا سابقاً فإن انتخاب الحاكم هو حق من حقوق الأمة، ومن حق الأمة أيضا أن يوكلوا ذلك الحق إلى أهل الحل والعقد ليتم انتخاب الحاكم بصورة غير مباشرة.

7- أكد الإمام الحسن (ع) في رسالة بعثها إلى معاوية، قبل اندلاع الحرب بينهما، على أن حكومته تستند إلى رأي الأمة وانتخابها، وجاء فيها: (إن علياً(ع) لما مضى إلى سبيله، ولاّني المسلمون الأمر من بعده) (19).

مفهوم هذه الرسالة أن للأمة حق انتخاب الحاكم؛ فهو -إذاً- يستمد شرعيته من انتخابهم له.

8- يؤرخ ابن الأثير أنه عندما هلك معاوية وامتنع الإمام الحسين(ع) من البيعة ليزيد ووصل الخبر إلى مدينة الكوفة، اجتمع الشيعة في بيت سليمان بن صرد الخزاعي، وتداولوا موضوع خروج الإمام الحسين (ع) إلى مكة، وقرروا أن يبعثوا إليه برسالة يدعونه فيها للقدوم إلى الكوفة. جاء في فقرة من هذه الرسالة التي وقعها كبار القوم من أمثال سليمان بن صرد الخزاعي ومسيب بن نجبه ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر ومجموعة أخرى ما يلي:

(أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتآمر عليها بغير رضى منها... ).

يظهر من هذه الرسالة أن مسألة انتخاب الحاكم من قبل الأمة تبدو من المسلمات والأمور العادية جداً بالنسبة لهم. وهذا الأمر يظهر بوضوح لا يقبل اللبس من الرسالة الجوابية التي بعثها الإمام الحسين(ع) إليهم؛ ذلك لأن الإمام الحسين(ع) يستدل بخروجه إلى الكوفة بقبول الأكثرية من الأمة له، وبالأخص شيوخهم ورؤساءهم، فيقول: (فإن كتب (مسلم بن عقيل) إليّ أنه قد اجتمع ملأكم وذوي الحجى منكم عليّ مثل ما قدمت رسلكم.. أقدم إليكم).

شورائية النظام السياسي الإسلامي

يرى الإمام الشيرازي أن الهيكلية السياسية في النظام الإسلامي يجب أن تقوم على أساس من الشورى، وفي رأيه أن أي نظام يكون أنفع للمسلمين، ولا يؤدي إلى الاستبداد وسيطرة الظالمين عليهم، يجب على المسلمين الأخذ به والسعي إلى تأسيسه. والنظام الوحيد الذي يتمتع بهذه الصفات هو النظام الشوروي في مقابل النظام الديكتاتوري الاستبدادي(20).

يستدل السيد الإمام (رحمه الله) على وجوب تأسيس النظام على أساس الشورى، من لزوم ووجوب إدارة أمور الأمة بيد الأشخاص الأكفاء، وهذا لا يتحقق إلا في ظل نظام الشورى.

إذْ يقول سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره) في هذا الصدد: (إن النبي(ص) كان يأخذ بالمشورة في بعض الأمور، كما في غزوة بدر وغزوة الأحزاب وغيرها، وإذا كان النبي(ص) على عظمته يأخذ بالشورى حسب ما أمره الله سبحانه وتعالى (وشاورهم في الأمر) (آل عمران/159)، في الأمور التي كانت أقل خطراً من الولاية، كان لزوم الأخذ بالشورى لغير النبي(ص) الذين هم دونه (ص) في العقل والدراية، في الأمر الأهم الذي هو الولاية، بطريق أولى، فنحن مأمورون بالاقتداء به (ص)؛ حيث قال سبحانه وتعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه) (الأحزاب/21) ولو نوقش في الأولوية، فلا إشكال في كون ذلك من المؤيدات) (21).

إلى ذلك يؤكد السيد الإمام (قدس سره) بأن النظام الشوروي، هو الأقرب إلى طاعة الله سبحانه، والأكثر اتساقاً مع مصلحة الأمة، بقوله: (إنه لا إشكال في أن كل نظام كان أقرب إلى طاعة الله، وأبعد عن سيطرة الظالمين، وأنفع للمسلمين، فهو واجب لا يجوز التنازل عنه إلى نظام ليس كذلك. ولاشك أن نظام الشورى فيه هذه الخواص؛ إذ ليس في قبال الشورى إلا الديكتاتورية. والمجتهد العادل، وإن لم يكن مغيراً لأحكام الله بلا شك، لغرض أنه يفهم الأحكام، وأنه عادل لا يغير حكم الله، إلا أنه لاشك في كونه بشراً يخطئ ويصيب في تنفيذ الأحكام، وفي من يختاره من المنفذين؛ فربما كانت المصلحة الصلح مع الأعداء وهو يحارب أو بالعكس...)(22).

إذن، يتأكد مما تقدم - وفق رؤى السيد الإمام (رحمه الله) - وجوب الأخذ بالنظام الإسلامي، وإنه لا بديل عنه في ضمان مصالح العباد الدنيوية والأخروية، وآكد من ذلك ضرورة التزام مبدأ الشورى في الحكومة الإسلامية؛ بغية اتساق هذه المصالح، وضمان استمرارها، والنأي بها من آفة الاستبداد والدكتاتورية عبر مبدأ الانتخاب.

ويؤصل سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره) لذلك، بالاستناد إلى حديث الإمام المعصوم(ع) بقوله: )ما رواه في الدعائم، عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: من حكم بين اثنين فأخطأ في درهمين كفر، قال الله عز وجل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون) فقال رجل من أصحابه: يابن رسول الله إنه ربما كان بين الرجلين من أصحابنا النازعة في شيء، فيتراضيان برجل منا، قال: هذا ليس من ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط.. ودلالته على اشتراط الناس بالوالي ظاهرة من الأولوية، ومن أن ذيله شامل للوالي؛ فإن المفهوم منه أنه لو كان برضى الناس بدون الإجبار كان جائزاً) (23).

وحسب ما يعتقده الإمام الشيرازي (رحمه الله) فإن الالتزام بهذه الميكانيكية والآلية يستوجب إيجاد نوع من الرقابة الذاتية في القيادة، ويمنع من الانفراد الاحتمالي بالسلطة؛ لأن القيادة إذا كانت تحت الرقابة المستمرة والإشراف الدائم ستبذل قصارى جهدها من أجل التقليل من الانحرافات والخطأ الذي قد يطرأ عليها أو على مستشاريها(24). وعلى النقيض من ذلك، إذا تصور الحاكم ديمومة حكومته وأنه ليس مسؤولاً أمام أي مرجع أو مقام قانوني، فإنه سيؤول أمره شيئاً فشيئا إلى الاستبداد والفردية في الحكم، وسيؤدي ذلك إلى هلاكه وهلاك الأمة معه.

نقد نظرية ولاية شورى المراجع الانتصابية!

ذهب أحد النقاد، رغم وجود هذا الكم الهائل من النصوص الصريحة، إلى القول بأن الإمام الشيرازي (رحمه الله) يؤمن بنظرية التفويض الإلهي والولاية التعيينية لشورى مراجع التقليد(25)، وللأسف الشديد فإنه يجتهد في مقابل النص، إنه يغفل عن عنصر الانتخاب والرضى من قبل الأمة الذي اعتبره الإمام الراحل شرطاً أساسياً وركناً من أركان مشروعية الحاكم الإسلامي؛ ولذلك ترى أمثال هذا الناقد يدعون أن ولاية شورى المراجع التي يقول بها السيد الإمام (رحمه الله) لا تقوم على انتخاب الأمة(26)، والغريب أن الكاتب المنتقد هذا يستشهد بفقرة تدل على العكس مما يدّعيه تماماً:

(أما في زمان غيبة الإمام (ع) فرئاسة الدولة الإسلامية يجب أن تكون بالشورى. وكيفيتها في الحال الحاضر أن أساتذة وعلماء الحوزات العلمية الكبيرة، كالنجف وكربلاء وقم وخراسان وغيرها، يلقون بأزمة أمورهم إلى مراجع التقليد المتوفرة فيهم الشرائط الشرعية، فإذا فرض أنهم اتفقوا على شخص واحد، كما صار في زمان صاحب الجواهر والشيخ المرتضى والميرزا الأول والثاني والسيد الأصفهاني، كان هو المرجع الأعلى للدولة بانتخاب الأمة له، وإذا كان المراجع المتعددون الذين انتخبتهم الحوزات العلمية بملء إرادتها هم المجلس الأعلى لشؤون الأمة - ومن الواضح أن الحوزات إذا انتخبت واحداً أو أكثر كانت الأمة تبعاً لهم ينقادون إلى ما اختاروه، وهو يبقى في الحكم مادامت الشروط، ومنها التفاف أكثرية الأمة حوله، فإذا سقط شرط من الشروط، سقط عن الرئاسة تلقائياً، سواء كان الرئيس فرداً أو مجموعة) (27).

يذهب هذا الناقد في تقرير آخر حول نظرية الولاية الانتصابية العامة لشورى الفقهاء المراجع إلى أن جميع مراجع التقليد دون استثناء، هم أعضاء في شورى مراجع التقليد ويشكلون شورى تعيينية للحكومة الإسلامية في عصر الغيبة.. وهو ادعاء غريب وبعيد كل البعد عن ما يؤمن به الإمام الشيرازي، ويتناقض مع ما يستشهد به الناقد من كلام الإمام حيث يقول:

(وأما في عصر الغيبة-كعصرنا هذا- فإن الحكم يكون بقيادة المرجعية الجماعية المنتخبة من قبل المسلمين. إن الفقهاء المراجع في الدول هم أعلى قيادة في البلاد الإسلامية، حيث ينتخبهم الناس، فإذا كان في البلاد الإسلامية مثلا عشرة مراجع تقليد، بأن انتخبهم الناس مراجع لهم، فكل هؤلاء قادة الأمة في أمور التقليد.. أما في مصالح المسلمين العامة، كالصلح والسلم وسائر شؤون الدولة، فعلى السلطة العليا في الدولة المكونة من المراجع أن يستشير بعضهم بعضا كما يستشيرون الأمة) (28).

في عباراته الأخيرة يشير الإمام الشيرازي (رحمه الله) بصراحة تامة إلى أن تعيين المسؤولين ورؤساء الدولة، هو من حق الأمة فقط، وعلى هذا الأساس يعتبر السيد الإمام أن ولاية العهد وتعيين الخليفة بدون رضا الناس ورغم إرادتهم، حتى وإن تمتع بكافة الشروط، ساقط من الناحية الشرعية، (ولا يصح إخلاف الرئيس السابق للرئيس اللاحق إلا إذا رضي به المسلمون، لما تقدم من أن التنصيب حق للمسلمين في إطار الشرائط المقررة في الإسلام، ومن الإخلاف ولاية العهد، حتى أنه إذا كان الخلف جامعاً لكل الشرائط، كان للمسلمين قبوله أو رفضه) (29).

حق التصويت والانتخاب للقصّر

من الأفكار الإبداعية عند الإمام الشيرازي (رحمه الله) في تبيين حق الأمة، في تقرير مصيرها السياسي، إعطاؤه هذا الحق لجميع أفراد الأمة، ورضاهم المطلق عن الحكومة المنتخبة لإضفاء صفة الشرعية عليها. وفي رأي سماحته أن لا يستثنى من ذلك الأطفال القصر،؛ فلهؤلاء حق الرأي والانتخاب والمشاركة في انتخاب رئيس الدولة، ولكن بواسطة أولياء أمورهم.

(ثم إنه لاشك في أن كل بالغ عاقل له حق انتخاب الرئيس، لإطلاق الأدلة، كما أن الظاهر لدي أنه يحق لغير البالغ والعاقل أن يكون له صوت بواسطة وليه لشمول إطلاقه)(30).

ومن حيث أن غير البالغ والعاقل يفتقر للقدرة على التمييز والتشخيص الضروريين في مثل هذه الأمور، ولا يمكنه بناءً على ذلك أن يمارس حقه بصورة مباشرة، يقترح سماحته إعطاء هذا الحق لولي أمره؛ لأن عدم البلوغ والجنون لا يسلبه هذا الحق:

(وحيث يتصرف الفقيه في شورى الفقهاء، ويتصرف مجلس الأمة في شؤون الصبيان أيضاً، فلوليهم حق التصويت بالولاية عنهم. مثلاً إذا كان أب أو ولي للأيتام تحت نفوذه خمسة من غير البالغين، فلهذا الأب أو الولي ستة أصوات، واحد له وخمسة للمولى عليهم وهكذا)(31).

يمكن لهذه النظرية أن تحدث تحولاً عميقاً في نظام الانتخابات المعمول به في العالم؛ إذْ الأسلوب المعمول به حالياً في الانتخابات يقود إلى جدال كبير، وبناءً على ذلك يجب أن تكون الانتخابات التي تجرى في أروقة الأمم المتحدة قائمة على أساس عدد سكان الدول، وليس على الحدود الجغرافية للدولة، أو إمكاناتها العسكرية والاقتصادية، فليس الصين مثلا بحجم الشيشان..وهكذا بالنسبة لسائر الدول.

ولاية الفقيه والمسؤولية التنفيذية

يرى الإمام الشيرازي (رحمه الله) بعد مناقشة الديمقراطية الغربية وأصولها، والدفاع عن كثير من مبانيها، أن فيها نواقص وعيوب جمة. والإسلام الذي يطرح نظرية الدولة الاستشارية وحكومة الشعب لنفسه، فإنه يحتوي على مزايا النظام الديمقراطي الغربي، وفي نفس الوقت يعالج النواقص والإشكالات المأخوذة عليه:-

الأول: إن الفقيه العادل يكون المشرف الأعلى على الدولة؛ وبذلك يكون هو المرجع الأول والأخير والمقوم لانحراف الدولة وما إليها. وقد كان غاندي الزعيم الهندي، بعد أن تسلم حزبه الحكم يقول: لابد من بقاء زمرة صالحة من المكافحين خارج الحكم ليكونوا قائمين على سلامة الحكم، وبقي هو خارج الحكم أيضا(32).

وفي مجال آخر يتطرق الإمام الراحل إلى كيفية تشكيل مجلس شورى الفقهاء وهيكليته، فيوضح أن الأمة ترشح من بين أعضاء مجلس الفقهاء أشخاصا للمشاركة في شورى القيادة ويتم انتخابهم، وهذا مجلس حر يشارك فيه جميع الفقهاء العدول، وبضمنهم مراجع التقليد. ويكون هذا المجلس في الوقت ذاته خارج هيكلية الدولة ويكتفي بالرقابة على أدائها: ( فهو مجلس حر يصل إليه الفقهاء العدول الذين هم مراجع تقليد في الأمة، وهو سلطة منفصلة عن الدولة مشرفة عليها) (33).

كيف يتم انتخاب أعضاء شورى الفقهاء؟

يقترح الإمام الشيرازي (رحمه الله) ثلاثة طرق لانتخاب المرجع الأعلى أو أعضاء شورى الفقهاء، ومع تأكيده على ضرورة أن يكون الحاكم مرضياً لله، وللأكثرية من الأمة يقول ما مفاده أنه يمكن للأمة انتخاب الفقيه أو الفقهاء بصورة مباشرة أو عن طريق أهل الحل والعقد أو عن طريق الأحزاب، ولكن السبيل الأفضل هو انتخاب الفقيه عن طريق الأحزاب؛ (وإذا عيّنوهم بأنفسهم بالأكثرية كما في النظام الحزبي، توفر الشرطان (مرضياً لله ومرضياً لأكثرية الأمة) وهذا الطريق خير الطرق بالنسبة إلى الطرق الثلاثة، كما دل عليه العقل والاستقراء؛ وعليه فللأمة أن تختار جماعة من الفقهاء لإدارة الحكم، كعشرة من الفقهاء يكون بينهم شورى، ويؤخذ بأغلبية آرائهم في الإدارة). والظاهر أن هذا أفضل، لأنه أقرب إلى الشورى المطلقة الشاملة لشورى الأمة -الأكثرية- وشورى النواب –مجلس الأمة- وشورى المرجعية –شورى الفقهاء-)(34) الذي يصح أن يجعل رئيساً للدولة وهو الفقيه العادل الجامع للشرائط؛ فالحزب يلزم عليه أن يكون مقصده ذلك، وإلا كان حائداً (خارجاً) عن الإسلام؛ فلا يجوز له أن يعين للرئاسة العليا من هو غير مؤهل، كما لا يجوز له أن يصوّت لغير المؤهل، ولا يجوز له أن يجنح إلى الأساليب الملتوية، غير أسلوب الشورى وأكثرية الأمة، في سبيل تقديم مرشحه للرئاسة، وإن كان ذلك المرشح أهلاً لها؛ إذْ في ذلك هدم للشورى الإسلامية، وإضاعة لحق الأمة، لوضوح أن هناك أمرين:

1- كون الرئيس المنتخب مؤهلاً في نظر الإسلام.

2- كونه حائزاً لأكثرية الأصوات(35).

مسؤولية الأمة

ربما يرد إشكال على انتخاب الأكثرية من دون أهل الحل والعقد، بأن الأكثرية غالباً جاهلون بالسياسة، ولذا قد تشترى أصواتهم، وكثيراً ما ينتخبون غير الصالح، بخلاف ما إذا كانت زمام الانتخاب بيد أهل الحل والعقد، فإنهم لدرايتهم السياسية لا يخدعون فلا يأتون بغير الصالح إلى الحكم. لكن هذا الإشكال (الإيراد) غير تام، مع غض النظر عن أدلة الشورى الظاهرة في العموم، وعن أنه لماذا يسقط حق الجماهير في اختيار من يتولى شؤونهم؟ إذ لا نسلم بجهل الأكثرية؛ فهم حيث تجتمع آراؤهم لهم رؤية حسنة، ولذا يقال: محكمة الاجتماع...، واشتراء الصوت أحيانا، لا يخدش حسن رأي الأكثرية، ولا نسلّم أنهم ينتخبون غير الصالح، فإن انتخابهم لغير الصالح نادر، ثم يبقى المجال للنقض برأي أهل الحل والعقد.. فهل هم لا يقعون تحت تأثير الدعايات، ولا يراعون مصالح أنفسهم، ولا يبيعون أصواتهم؟ وقد ذكر التاريخ أخطاء آراء أهل الحل والعقد بما لم يذكر مثله(36).

مدة ولاية شورى الفقهاء

يتصور الكثير من الناس بأنه بناءً على كون النيابة العامة للفقهاء ومراجع التقليد، مصدرها النبي (ص) والأئمة (ع)، فإنها تعني أن لهم حق البقاء في هذا المنصب مادامت الحياة. لكن الإمام الشيرازي يفصل ما بين مقام المرجعية والفتيا ومنصب الولاية والحكومة، ولذلك يطرح قضية تعيين مدة تصدي الفقهاء للولاية والحكومة، على أن تعين الأمة مدة هذه الرئاسة؛ فيقول:

(أما مدة بقاء الرئيس في منصبه، وسائر الخصوصيات، فترجع إلى رضا الأمة، فكما أن الرئيس يعزل بمجرد خروجه عن الأهلية، فكذلك يعزل بانتهاء مدته لفقده حينئذٍ شرط رضا الأمة) (37).

فالسيد الإمام لا يرى أية ملازمة بين القيادة السياسية والمرجعية الدينية، وعدم تحديد مدة المرجعية لايمكن اتخاذه دليلاً على عدم محدودية مدة القيادة السياسية للحكومة؛ ولذلك لم يكن من شروط المرجعية في التقليد، القدرة على إدارة أمور المسلمين العامة، أو القدرة على القيادة السياسية والاجتماعية، ولا يلعب رضا الأمة أو عدم رضاها دوراً في التصدي إلى مقام الإفتاء والمرجعية، وعلى هذا تستطيع الأمة أن ترجع إلى من له صلاحية الإفتاء والتقليد مادام حياً، وهم مكلفون شرعاً بالرجوع إليه في الأمور الدينية، (إن الأمة تقلد المرجع طيلة حياته... ) (38).

لذلك يرى سماحة الإمام (رحمه الله) الفصل بين المنصبين ويعتقد بأن:

(اللازم أن يكون الحاكم الأعلى كفواً لإدارة البلاد، وهذا غير مرجع التقليد الذي يشترط أن يكون كفوا، ويدل على عدم اشتراط الكفاءة الدنيوية في مرجع التقليد الأصل، ولذا لم يذكره الفقهاء في شرائط المقلَّد) (39).

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإمام الشيرازي (رحمه الله) يرى وجوب إدارة الحكومة بصورة شوروية في زمن الغيبة، فيقول:

(أما في حال غيبة الإمام (ع)، كالحال الحاضر، فرئاسة الدولة يجب أن تكون بالشورى)(40).

وبما أن الشورى ليست شرطا في مرجعية التقليد، لهذا السبب يرى الإمام الشيرازي أن النسبة بين الاثنين هي نسبة العام والخاص المطلق، كما يصطلح عليه الأصوليون، (فإن الشارع لم يشترط في التقليد الشورى، فللإنسان أن يقلد فرداً واحداً جامعاً للشرائط، بينما اشترط الشارع الشورى في الرئاسة؛ ولذا كان بين الأمرين عموم مطلق، فكل رئيس لابد وأن يكون جامعاً لشرائط التقليد وليس العكس) (41).

وبما أن مرجعية التقليد تعتبر قضية حقيقية أو قائمة بذاتها وليست اعتبارية أو إضافية أو على سبيل العقد الاجتماعي، فإن تحديدها بمدة ووقت محدود يفقد معناه؛ فمراجعة المرجع الواجد للشرائط تشبه إلى حد كبير قضية مراجعة الطبيب الأخصائي، ولا يمكن تصور فترة معينة للمعالجة على يديه، فما دام يملك مؤهلاته التخصصية، وقدرته على العمل، يمكن الرجوع إليه. وعلى العكس من ذلك مدير المستشفى أو الجامعة؛ إذْ يمكن تحديد الفترة الزمنية للمدير على إدارتها، باعتبار أن هذا المنصب هو منصب اعتباري ويدخل ضمن العقود.

نهاية المطاف

إذا عقدنا مقارنة بين قراءة السيد الإمام الشيرازي (قدس سره) للنظام السياسي، الإسلامي وسائر الأنظمة الديمقراطية القائمة في العالم، فسيظهر لنا بوضوح مدى تطور قراءة الإمام وتفوقها على سائر النظريات:

1-إن جميع الديمقراطيات تضع شروطاً للمرشحين للانتخابات، وبذلك لا يمكن لأي من كان أن يرشح نفسه لأي انتخابات تجرى، وبعبارة أخرى فإن تحديد نوع المرشحين للانتخابات مقبول في جميع أنحاء العالم وعند جميع العقلاء، ولكن الفرق بين الشروط التي يضعها الإسلام والشروط التي تضعها سائر الديمقراطيات، هو أن الإسلام يحددها بالوحي الإلهي، بينما توضع الشروط من قبل الناس وتبعاً للتجربة البشرية في غيره من النظم.

2- في الديمقراطيات غير الدينية يحق لبعض المنتخبين المشاركة في تقرير المصير السياسي لها، بينما يعتقد الإمام الشيرازي في نظريته حول النظام السياسي الإسلامي، بضرورة وحق مشاركة جميع آحاد الأمة في تقرير المصير.

كما أن للإمام الشيرازي (رحمه الله) نظريته الخاصة التي تختلف في عدة أمور أساسية عن نظرية ولاية الفقيه التي تحكم الجمهورية الإسلامية في إيران، يمكن تلخيصها فيما يلي:

أولاً: إن الحكومة في الجمهورية الإسلامية في إيران تدار بصورة فردية في واقعها الفعلي، مع العلم أن الدستور يؤكد على الأسلوب الشوروي في الإدارة. لكن الإمام الشيرازي يعتقد أنه في هذا العصر الذي يتميز بكثرة الفقهاء، يجب أن تكون إدارة البلاد بصورة شوروية.

ثانياً: إن مدة الحكومة للولي الفقيه على أرض الواقع هناك تدوم مادام على قيد الحياة، علماً أن أعضاء مجلس الخبراء الإيراني يتم انتخابهم كل ثماني سنوات، وتشكل الرقابة والإشراف على مهام القيادة إحدى المهام الدستورية لهذا المجلس، لكي يمكنه عزل القيادة في حالة فقدانها للشروط، ولكن آلية صعود هؤلاء إلى المجلس تتم بصورة تمنعهم عملاً من ممارسة المسؤوليات الموكلة إليهم.

ثالثاً: إن الدستور الدائم الإيراني يؤمن بولاية الفقيه المطلقة، بينما يقيدها الإمام الشيرازي (رحمه الله) بالالتزام بالأحكام الإسلامية ورضى الأمة.

رابعاً: هو إن الحاكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لديه مهام ومسؤوليات تنفيذية لا تمكنه في الواقع من القيام بمهمة الإشراف والرقابة على أجهزة الدولة، بينما يعتقد الإمام الراحل (رحمه الله) أن الحاكم يجب أن يتجنب المهام والمسؤوليات التنفيذية في الدولة، لكي يتمكن من القيام بدور الرقيب والمشرف على أداء الجهاز الحكومي والإداري على أحسن وجه.

الهوامش:

1- سيترجم هذا الكتاب تحت عنوان "راهبردهاي إصلاحات" للناطقين بالفارسية وسينشر قريباً.

2- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: ممارسة التغيير ص452.

3- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: القانون: 432.

4- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه ج102، كتاب الدولة الإسلامية ص284.

5- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه ج106، كتاب السياسة ص351.

6- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه ج105، كتاب السياسة ص83-84.

7- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه ج105، كتاب السياسة ص85.

8- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه ج105، كتاب السياسة ص137.

9- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه السياسة ج105، ص137.

10- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه السياسة ج105، ص181-182.

11- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه السياسة ج99، الحكم في الإسلام ص18.

12- نفس المصدر ص40.

13- نفس المصدر ص41.

14- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) : الفقه كتاب السياسة ج106، ص270.

15- الأعراف 157.

16- الوسائل ج18 باب11 من أبواب صفات القاضي حديث6.

17- الوسائل ج18 باب11و98 حديث1.

18- نهج البلاغة الرسالة رقم6.

19- السيد حسن الشيرازي – كلمة الإمام الحسن(ع) ص163.

20- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي: الفقه ج99 ص46.

21- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): موسوعة الفقه ج99 ص46.

22- نفس المصدر السابق ص46-47. 23- نفس المصدر السابق ص47.

24- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99 ص37.

25- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99 ص46-47.

26- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99 ص47.

27- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99 ص.

28- محسن كديور – نظريات الدولة في الفقه الشيعي/ فارسي- ص28.

29- محسن كديور – نظريات الدولة في الفقه الشيعي/ فارسي- ص.101

30- محسن كديور – نظريات الدولة في الفقه الشيعي/ فارسي- ص101.

31- محسن كديور – نظريات الدولة في الفقه الشيعي/ فارسي- ص101.

32- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99 / الحكم في الإسلام ص94.

33- نفس المصدر السابق ص50.

34- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج101 / كتاب الدولة الإسلامية ص101.

35- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج106 / كتاب الدولة الإسلامية ص62.

36- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99/ كتاب الدولة الإسلامية ص97.

37- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج106 / كتاب الدولة الإسلامية ص128.

38- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج106 / كتاب الدولة الإسلامية ص102-121.

39- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج106 / كتاب الدولة الإسلامية ص279.

40- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99 / كتاب الدولة الإسلامية ص51.

41- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج101 / كتاب الدولة الإسلامية ص77.

42- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج99 / كتاب الدولة الإسلامية ص36.

43- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه ج101 / كتاب الدولة الإسلامية ص66.

44- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): كتاب السياسة ج105 ص181.

45- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الفقه كتاب الدولة الإسلامية ج101 ص66.