معالم الرؤية الاستشرافية للإمام الشيرازي الراحل(قدس سره)

عبد الله عباس

المقدمة..

قد تكون محاولات القيام بالاستشراف جزءاً أصيلاً من الوجود الإنساني - الفردي أحياناً والجماعي في أحيان أخرى - لأن الإنسان وبحكم وجوده في الحياة وفي قلب معتركاتها وفي أتون صراع البقاء، محتاج بصورة تلقائية لاستبيان أو استنباط النهايات أو تخمين النتائج، وفي النهاية فإنه يمارس عملية استشراف لجملة مواضيع تهم وجوده مستفيداً في ذلك من الخبرات العملية والأفكار التي راكمها خلال مسار حياته الفردي والجماعي.

ولعلنا نجد هذه الممارسة مستساغة ومقبولة ولا تثير أية اعتراضات حينما يمارسها الفرد العادي في حدود حياته الخاصة، أو المختص في مجال تخصصه، لأن هذه الممارسة مألوفة ولا يترتب عليها ضرر حينما تكون العملية غير دقيقة وفي العادة لا يهتم بها أحد.

ومن هنا فإن محل النظر والاهتمام، هو العمليات الاستشرافية التي تتناول الموضوعات العامة والقضايا المتعلقة بمصائر جماعات بشرية، وخصوصاً في المسائل الخطرة التي لا مجال فيها للتردد أو الاشتباه.

ولذلك فإننا نلاحظ أن الصنف الثاني فقط هو الذي تطلق عليه لفظة استشراف، وهو الذي يكون محل تأمل واهتمام، بينما لا تعد الممارسة الأولى إلا من باب التوقعات الفردية.

ومن هذه الزاوية فإن النظريات الاجتماعية والأيدلوجية الكبرى التي انتهجها الفكر الإنساني كانت لا تخلوا من عمليات استشراف والأيديولوجية تمارسها بناءً على القوانين والقواعد العامة التي تؤمن بوجودها، وبالتالي فإن مصداقية النظرية ستتوقف على مصداقية النبوءات وعمليات الاستشراف، بل لعلنا نجد أن النظريات العلمية والتجريبية لا تخرج عن هذه القاعدة؛ فهناك - مثلاً - في عالم الكيمياء والفيزياء، أثبتت بعض التنبوءات صحة النظريات التي قدمتها، بينما كان الإخفاق في هذا المجال يعد إخفاقاً للنظرية العلمية - وهذا طبعاً على سبيل المثال - الأمر الذي يفرض علينا الانتباه إلى الفارق بين المجالين، وتبعاً لذلك، لطبيعة التنبوءات والعمليات الاستشرافية.

الإمام والرؤى الاستشرافية..

ومن خلال ما تقدم يمكننا أن نرى أن الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) وتبعاً لموقعه المرجعي - وهو موقع يجمع جوانب واسعة من الحياة يعد الفكر أحدها - فإنه بحكم هذا الموقع سيجد نفسه يمارس عمليات الحكم على نتائج الأوضاع والوقائع، سواء كانت هذه الوقائع اجتماعية أو سياسية.

ولعلنا نجد هنا أن مفردة الوضع السياسي القائم في العراق كانت إحدى المفردات الرئيسية التي حازت على اهتمام المرجع الراحل، لأسباب معروفة منها كونه الوطن الذي احتضن مولده، ثم إنه كان البلد الذي ضم الحوزات العلمية التي لا شك بأن الإمام كان أحد أبرز قادتها، مضافاً إلى كونه عالماً مسلماً، وأن الاهتمام بقضايا العالم الإسلامي من صلب اهتماماته الرئيسية، بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى.

وعلى هذا فقد نال العراق، كقضية سياسية، اهتماماً خاصاً من قبل مرجعنا الراحل. وفي ظل هذا الاهتمام فإنه قدم العديد من الرؤى الاستشرافية حول مصير ومستقبل هذا البلد المنكود، والتي نرى أنها مبثوثة في كتبه العديدة التي خصص بعضها لتناول القضية العراقية.

أسس النظرة الاستشرافية للإمام الراحل..

المتأمل يرى أن الإمام (قدس سره) أسس رؤاه الاستشرافية على جملة عناصر، منها:

أ) معطيات الفكر الإسلامي النظري الذي يدفع نحو صياغة قواعد وأسس تساهم في تكوين أحكام استشرافية على موضوعات معينة، وبحكم كون الإمام الراحل أحد أكبر العلماء، فإنه سيكون قادراً من خلال إلمامه الكبير بهذه الأسس، على ممارسة نوع دقيق من الاستشراف.

ب) معطيات التجربة الإنسانية التي تقدم للمطلعين عليها أطراً تمكن من إصدار الأحكام على بعض الحالات التي تضطرد نتائجها كلما اضطردت الظروف والملابسات، وبحكم كون الإمام (قدس سره) من الذين اطلعوا بعمق على هذه الخبرات، فإنه صار يمتلك الأساس الثاني لممارسة خاصة من هذا النوع.

ج) ويضاف إلى ما سبق أن الإمام (قدس سره) كان رجل ميدان يمارس العمل السياسي بجميع أبعاده وملابساته، ولذلك فإنه يمتلك القدرات التنبوئية والاستشرافية التي يمتلكها أي رجل ميدان، مع الاحتفاظ بالخصوصيات الفردية التي تتفاوت من رجل ميدان إلى آخر. ولكي نلمّ تماماً بهذه الأسس فلابد أن نمر عليها بصورة أدق.

1- التجربة الميدانية:

من المعلوم أن فكرة مقاومة النظام العراقي من قبل الإمام الراحل لم تكن وليدة اللحظة الراهنة أو المفاجئة أو الضغوط التي عانى منها الإمام منذ وصول السلطة الحاكمة في العراق إلى مقاليد السلطة، وإنما كانت امتداداً لمواقف مبدئية تستدعي توجهات خاصة لا تلقى الترحاب من قبل النظام، كما أنها لم تلق في أحيان كثيرة ترحاباً من قبل الأنظمة السابقة.

والمتأمل في حياة الإمام الراحل، يجدها مكتظة بالمواقف التي لا تروق للسلطات، مع فارق بين تلك السلطات والنظام العراقي الحالي، يتمثل في أن تلك السلطات لم تكن تمعن في العدوانية بسبب خشيتها من الجماهير التي كانت دائماً سنداً للمرجعية الدينية في كربلاء والنجف؛ فمن الناحية العملية، سعى النظام بقوة نحو تحويل الناس إلى أدوات لتنفيذ أغراضه، وبذلك فإن هذا النظام يصدق عليه الاستبداد (فالمستبد يرغب أن تكون رعيته كالغنم دوراً وطاعةً، وكالكلاب تذللاً وتملقاً..) (1) ومن الطبيعي أن يصطدم هذا النزوع السلطوي مع أي إنسان يعتز بنفسه، فضلاً عن أن يكون قائداً سياسياً أو عالماً دينياً أو مثقفاً.

وإذا أضفنا إلى ذلك التناقض الأصيل بين الأيديولوجية الإسلامية والأيديولوجيات الأخرى فإن فرص هذا التناقض تزداد، ويصبح بحكم اليقين أن يكون الإمام (قدس سره) في جهة المعارضة، وإذا شئنا أن نعبر بصدق فإن الإمام ألزم نفسه هذه الجهة، ولم يغادرها، بل إنه يستغرب من سلوك بعض أبناء الشعب العراقي الذي يظهرون نوعاً من التأييد الصوري لهذا النظام والأنظمة السابقة؛ فهو يقول: (ما هو الداعي إلى تأييد الشعب المسلم لأية حكومة تأتي أو أي شخص يجلس على كرسي الحكم في العراق؟! ولماذا يصفق الشعب المسلم لكل رئيس يحكم العراق؟!) (2).

فهذا الاستغراب قائم على حقيقة إدراك الإمام (قدس سره) لطبيعة التناقض الأصيل بين الشعب والأنظمة، وبالتالي عدم وجود مبرر للتأييد الذي غالباً ما يكون سببه الخوف من بطش النظام، هنا تبرز خبرة الإمام الميدانية في تجريد الحالات من المظاهر الخارجية التي تغلف الوقائع وهذا طبعاً غير متاح للكثير ممن ينظرون إلى الصور في الأجهزة الإعلامية فيخرجون بانطباع مغاير.

وهكذا تشكل الخبرة الميدانية أساساً متيناً لتقديم صور استشرافية سليمة، تستطيع الوصول إلى نتائج استباقية، وإتاحة الفرص الكافية لاتخاذ مواقف على ضوء تلك القراءات والرؤى، وهو أمر لا مراء فيه بالطبع؛ إذاً الإمام (قدس سره) يؤسس نظرته الاستشرافية ليس على فراغ، بل على أساس معطيات موضوعية توفرها له الخبرة الميدانية، وهي خبرة تكون في بعض الأحيان كافية بمفردها للعب دور كبير في حياة الشعوب.

2- معطيات الفكر الإسلامي:

وإذا تجاوزنا الشكل المنظور للصراع فإن الإمام الراحل (قدس سره) كان يمتلك، بالإضافة إلى الخبرة الميدانية، مجسات توفرها له طبيعة النظرية الإسلامية التي لا يشك أحد في غناها في هذا المجال، فهي من جهة معينة قدمت أحكاماً خاصة على بعض المواضيع، كما أنها قدمت قواعد عامة يمكن بمقتضاها الحكم على كل الحالات المطابقة لها في حيثياتها، ولعل الإمام ومن خلال إيمانه الخاص (أو عمق الإيمان)، كان يستخدم هذه المجسات دون أية ريبة أو تردد، فهو من أولئك الذين ينتمون إلى أصالة فريدة قد لا تكون مستساغة حتى عند بعض المحسوبين على تيار الأصالة؛ لذا فإنه أسس نظرته الاستشرافية على أساس قراءته الخاصة للأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، وهي أحاديث قدمت صوراً لحركة هذا الدين في التاريخ الإنساني، دون أن تغفل أي طور تاريخي مستقبلي. ولعلنا حين ننظر إلى أحوالنا الشخصية وأوضاعنا الراهنة نراها تتطابق تطابقاً كلياً مع هذه الأحاديث.

فقد قدم الأئمة(ع) وصفاً لجزئيات بعض المراحل التاريخية، كما قدموا في أحيان أخرى الملامح العامة لكل مرحلة؛ ولهذا فإن الإمام (قدس سره) صار يعمد إلى هذه الملامح فيطبقها على مصاديقها سواء أكانت مصاديق فعلية أم مصاديق من حيث الجوهر فقط.

وإلى جانب كل ذلك فإن الأحاديث والآيات بينت عواقب الكثير من الأعمال، ومن هنا باتت لدينا صورة مكتملة، يمكن من خلالها الاستناد بثقة مطلقة لقراءة الواقع والمستجدات الممكنة.

3- قراءة التاريخ الإنساني:

لعل هذه القضية نجد تجسيدها الفعلي من خلال العنصرين السابقين؛ إذ إن مجرد القراءة البسيطة للتاريخ لا تكون عنصراً حاسم الفائدة، ما لم تقترن بالأطر النظرية والخبرة الميدانية؛ لأن التاريخ - كما هو معلوم - لا يعد مجموعة نصوص مفروغ من صحتها، بل غالباً ما تحتاج هذه النصوص إلى التحليل العلمي الدقيق، والذي بدوره يحتاج إلى الأساسين السالفي الذكر.

وهكذا، يمكن أن تكون عملية الاطلاع على التاريخ الإنساني كاملة، إذا ما قام بها إنسان يمتلك العناصر السابقة.

وفي النهاية يمكننا أن نقول بأن الإمام (قدس سره) امتلك مجموع مقومات القدرة الاستشرافية. الناجحة وفي الإجمال فإن الإمام وبحكم اطلاعه الواسع على هذه الأحاديث، فإنه صار يمتلك قدرة عالية على التقاط الصور المستقبلية بناءً على الخبرة النظرية التي اقترنت بالخبرة الميدانية.

الملامح العامة للرؤية الاستشرافية

من الممكن لنا أن نرى للخبرة إفرازاً مباشراً يتجسد في (الإلمام بالخصائص الأخلاقية للخصوم) باعتبار أن ذلك، في نفس الوقت، إفرازً لقراءة التجربة التاريخية؛ ولذلك نرى أن الإمام الراحل(رحمه الله) أشار، في كتابه عن أخيه الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره)، إلى هذه القضية، فأكد على أن القوى الاستكبارية العالمية إنما هي قوى حقودة لا تنسى الخصومات حتى لو تقادمت الفواصل التاريخية عليها، وكما أشار إلى أنهم بلا مبادئ تحكمهم؛ ولذا فإنهم وبمجرد امتصاصهم لرحيق بعض الأفراد، يلجأون إلى التخلص منهم بلا إبطاء، ولعله قد أكد على هذه القضية في أكثر من موضع.

ذلك أن الإمام صار يرمي إلى النتائج، فقال عن حزب السلطة (إنما هم حزب جاء بهم الغرب للعراق للانتقام من الشعب العراقي بسبب ثورة العشرين الشهيرة... فأن الغربيين أشد عداوة للشعوب التي تحاربهم)(3).

فهذه المعرفة بالخصم حددت إطار الصراع بين النظام والشعب العراقي، وهذا الصراع سيكون ذا طابع محدد الأهداف والمسارات، ولهذا فإن الإمام أشار إلى واقعة مهمة جداً عن نوري السعيد الذي كان حليفاً للإنكليز، والذي هرب بعد قيام انقلاب 14 تموز، واختبأ في سرداب، وصار يخرج بين الفينة والأخرى، فينظر إلى السماء، فقيل له: ماذا تنظر، فقال: (أنظر لكي أعرف هل أن الانقلاب بريطاني أم هو انقلاب واقعي فإذا كان انقلابا بريطانياً فقد انتهى كل شيء وإذا كان انقلابا واقعياً فإن حلف بغداد سيتدخل.. ) ولما لم تظهر الطائرات لضرب الانقلاب، قال نوري السعيد أنه عمل بريطاني وانقضى كل شيء(4).

هذه هي الحقيقة التي ميزت كل التحالفات الغربية والأنظمة، وهي تنطبق على النظام العراقي الحالي؛ إذْ بعد أن تفانى هذا النظام في تنفيذ السياسات الغربية، وبادر إلى التنكيل بأبناء الشعب العراقي، على أمل البقاء الدائم في السلطة، فإنه غفل عن انطباق هذا القانون عليه أيضاً.

ومن هذا المنطلق فإن الإمام أكد القضية الكلية في مناسبات عدة، وأكد على أن (الظواهر تشير إلى أن أوضاع العراق السياسية مقبلة على تغيرات سياسية، وأن حزب النظام العراقي سوف لن يبقى طويلاً في السلطة)(5).

وكما يبدو فإن النظام في قرارة أعماقه، كان يدرك هذه القضية؛ ولهذا فإنه اعتقد بأنه سيكون أذكى من سابقيه، فراح يبالغ بإحاطة نفسه بالأمن، وسعى جاهداً إلى امتلاك الأسلحة، ولو عن طريق خوض حرب دامية لمدة ثماني سنوات دفع فيها بأرواح ما يقرب من مليون عراقي ثمناً للسلاح، غير أن الغرب تعامل معه بازدارء، وصار يتجه إلى تحطيمه بطريقة مذلة وعلى مراحل؛ ففي المرحلة الأولى تم خلع أظافر النظام الخطرة، فحوله بذلك إلى ذئب عجوز لا يملك إلا الفرار سبيلاً للنجاة؛ فقد دخل الأمريكان الحرب ضد النظام، في حرب الخليج الثانية، دون أن يكون الهدف إحداث تغيير بارز في العراق، باعتبار الرئيس صدام حسين حليفاً إقليميا ذا أهمية منذ أمد بعيد. وبعد غزوه للكويت في الثاني من آب 1990 وتهديده - من خلال ذلك - السيطرة الغربية على منابع النفط في منطقة الشرق الأوسط، أفسد النظام العراقي طبيعة المسار الذي كان مخططاً له، وبناءً على ذلك حشدت الجيوش.

إذن، فالنظام حاول أن يوصل رسالة إلى الغرب، مفادها أنه موجود، وعليهم أن يتعاملوا معه على أساس ذلك، لكنهم جمعوا قواهم وداهمو في عقر داره، وفرضوا عليه أن يدخل في القمقم الذي خرج منه، ليقولوا له أن التقنية والسلاح والثراء بأيديهم، وسيخرجونه من أيدي الذين لا يروقون لهم.

الإمام(رحمه الله) أدرك هذه الحقيقة بعمق، لكنها لم تكن العامل الوحيد، بل هناك عامل آخر سيقود النظام إلى نهايته مهما طال الزمن؛ ولذلك فإنه (قدس سره) حكم عليه بالنهاية فقال: (إن الحكم الذي يوغل في قتل الناس ويتورط في دمائهم، فإنه يبدأ العد العكسي للسقوط)(6).

في ضوء هذا الملمح، يمكن للإمام أن يؤكد زوال النظام، ذلك أن هذا النظام كان أحد الأنظمة التي أوغلت في القتل وسفك الدماء، وبالتالي لا مناص من استنتاج زواله، دون أن تكون هناك أهمية كبيرة للطريقة التي سيتم بها زواله؛ ولهذا فإن الإمام الراحل(رحمه الله) لم يؤكد أكثر من زواله، ولم يهتم بكيفية زواله؛ فقال: (سيتم القضاء على نظام صدام سواء بقيام ثورة جماهيرية موحدة وقوية ضده أم بغير ذلك، لأن هذا هو مصير كل الطغاة وقتلة الشعوب على مر العصور) (7).

ومادامت النتيجة محسومة، من أي طريق نحسبها، إذاً فالمسار الخاطئ الذي سلكه النظام بهدف البقاء والحفاظ على السلطة سيقوده حتماً إلى الفناء؛ ولذلك فإن عنصر بقاء النظام لا بد أن يكون عكس ذلك، أي بتأكيد الالتحام الصميمي مع الجماهير، ومنح الحريات، الأمر الذي يجب أن يدركه أي نظام يفكر بالحكم في العراق، إذ حتى لو افترضنا أن الالتحام بالجماهير لا يمثل حصانة مطلقة للبقاء، لكنه يمكن أن يضعف بقوة احتمالات التدخل، وبالتالي يمكن الاستمرار في إدارة دفة السلطة من خلال فرض الممكن.

غير أن النظام وضع نفسه في دائرة اللاعودة، لأنه في نفس الوقت الذي يخشى فيه هجمات حلفاء الأمس، فإنه يخشى أيضاً الجماهير التي ولغ في دمائها، وهو يعلم علم اليقين أن أي فرصة تلوح للجماهير فإنها ستنتهزها للانقضاض على الطبقة الحاكمة، ولهذا فهو غير قادر على ترك سياسة الحديد والنار، كما أنه في نفس الوقت محتاج إلى هذه الجماهير دروعاً يحتمي بها من السطوة الغربية؛ وعليه فإن النظام يشبه نعجة عجوز، قد أحاطت بها مجموعة من الذئاب تنتهز الفرصة لافتراسها.

وهذا بالطبع ما أكده الإمام بصورة إجمالية، ومنذ فترة سابقة؛ إذ إنّ النظام قد ارتكب أخطاءً مميتة عندما اعتمد على الدعم الغربي وحده، ولو كان ثمن ذلك استعداء الجماهير العراقية المنكوبة.

من خلال ما سبق فإن الإمام الراحل(رحمه الله) كأنه حسم نهاية النظام، وافترض قيام حكومة بديلة عليها، إذا قامت، أن تستفيد من الدروس السابقة، وأن تسمح للقوى الحقيقية للشعب العراقي بأخذ وضعها الطبيعي؛ لذلك فإنه سلط الضوء على النقطة الأهم فقال: (المهم هو استعادة الإنسان الشيعي في العراق حق تقرير مصيره ومصير بلاده)(8).

فهنا النقطة الهامة، أن يمتلك الإنسان العراقي حق تقرير المصير، وأن يكون حراً في بلده وإذا كان سماحته قد ذكر الشيعة، فذلك لأنهم الأكثرية المطلقة في العراق، ومن الطبيعي لأي نظام يؤمن بحق تقرير المصير، أن يترك للأكثرية هذا الحق، دون أن يعني ذلك سلب أي من حقوق الأقليات، خصوصاً أن الإمام في رؤيته العامة، يؤمن بحرية الإنسان، وحق تقرير المصير، بغض النظر عن كونه عراقياً أو غير عراقي، مضافاً إلى أنه أكد حق الأقليات في العراق في أكثر من موضع.

كما أنه من جهة أخرى صار يطرح نظرة موضوعية وعامة تحقق الاستقرار في العراق فطالب: (بإعادة القوى السياسية التي كانت تعمل على الساحة العراقية وهي المرجعية والتعددية والحزبية والعشائر)(9).

لعلنا من خلال ما سبق نرى أن الإمام (قدس سره) قد استشرف مأزق النظام ومصيره الذي كان يسير إليه مسرعاً بعين معصوبة، حينما اتخذ التسلط والديكتاتورية وسفك الدماء منهجاً له في إدارة السلطة، في حين كان بإمكانه أن يصل إلى نفس الهدف من خلال مشاركة القوى السياسية والسماح للتنوع بالبروز، وإعطاء الأكثرية حقها، ليحصل على تأييد الناس، دون أن يمنعه ذلك من الاستعانة بالقوى الغربية، من خلال علاقات متوازنة، كما هو حاصل عند عدد كبير من الشعوب والحكومات، إلا أن النظام قد اختار الطريقة الخاطئة التي أوصلته إلى الطريق المسدود.

وعلى فرض أن النظام استطاع المناورة للبقاء، عبر عقد بعض التحالفات الإقليمية أو التنسيق مع بعض القوى العالمية، فإن الأخطاء الرئيسية ستظل تنخر في بنيته حتى تورده في النهاية إلى حتفه، ولعل البعض يرى أن هذه الرؤية تتسم بنوع من القدرية، لكن الواقع أن الإمام لم يصدر هذه الأحكام بهذه الطريقة، بل إن القضية محكومة بعوامل موضوعية تصوغ النتائج وتفرض المآل، وبالتالي فإن النظام بالقدر الذي يستطيع أن يفتح آفاقاً لنفسه عبر أيٍ من النوافذ التي أغلقها على نفسه، فهو بالتالي قادر على المناورة، لكنه ما دام مصراً على نفس النهج السابق، فإنه واصل إلى النتيجة البائسة التي يخطها بيديه.

إذن، فالاستشراف الذي قدمه الإمام الراحل (قدس سره) للمأزق العراقي قائم على حسابات سياسية رشيدة تفرزها الخبرة والعلم، وليس مجرد تخرصات أو تمنيات بزوال الخصم و اندحاره، وبالتالي فإنه ليس أكثر من تصديق للآية الشريفة التي تقول: (ولا يحيق المكر السييء إلا بأهله).

الهوامش:

(1) الطاغية: د. إمام عبد الفتاح إمام، ص115، مكتبة مدبولي - القاهرة ط3/1997م.

(2) مستقبل العراق بين الدعاء والعمل: الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، ص15.

(3) الأخ الشهيد السيد حسن الشيرازي: الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، ص9، مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر - لبنان ط1/2001م.

(4) المصدر السابق: ص16

(5) العراق.. بين الماضي والحاضر والمستقبل: إعداد مؤسسة الدراسات الإسلامية، مؤسسة الفكر الإسلامي - لبنان.

(6) إذا قام الإسلام في العراق: الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، لجنة الإمام المهدي - الكويت ط4/1999م.

(7) مستقبل العراق بين العمل والدعاء: الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر ط1/2001م.

(8) المصدر السابق: ص33.

(9) العراق ماضيه ومستقبله: مصدر سابق ص83.