كلمة النبأ في خضم تحديات العالم الجديد |
بقلم: رئيس التحرير مرتضى معاش |
لاشك أن العالم قد تغير بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 التي وقعت في الولايات المتحدة، ونقول بأن التغيير الذي حصل حتمي وليس مؤقتاً؛ لأن الأحداث الكبيرة التي تصدم البشرية تحفر لنفسها أخاديد في تاريخ اللاوعي البشري، فتصبح مقيمة مستوطنة، خصوصاً عندما يقع الحدث في معقل القوة الأكبر في العالم سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً؛ آنئذٍ ينتشر هاجس القلق واللاأمن إلى كل أطراف المعمورة. والإحساس بعدم الأمان هو أكثر الأمور حساسية في خلق القلق وخدش النفس ووضعها في قمة اليأس والتشاؤم. وما فعله هذا الحدث أنه صدم سكان الأرض بقوة؛ بحيث جعلهم متقبلين لأي تغيير جذري في حركة العالم، دون معارضة أو مواجهة، ربما كانت تحصل في الظروف العادية. وقد كانت المبادرة بيد الولايات المتحدة لاستثمار هذا التغيير النفسي، من أجل تحقيق مصالحها بشكل أسرع وأعمق وأشمل؛ حيث أنها كانت الضحية الأكثر مأساوية في هذا الحدث كما يقولون.. ولعلّ منطق المهاجمين في ضرب الولايات المتحدة أنهم أرادوا تحطيم البعد الاستراتيجي لأيديولوجية العولمة وتهميش حركتها، وإرعاب قادتها، ولكن ما حصل هو أن العالم أصبح أكثر استعداداً للقبول بالعولمة وبكل ما تفرزه من سلبيات؛ إذ بعدما كانت العولمة، بأدواتها ومنطقها، أكثر ميلاً للتعددية والانتشار والحرية، أصبحت أكثر ميلاً للاحتكار والاستبداد والرقابة؛ ذلك لأن الولايات المتحدة تحولت إلى تلك السلطة المدّعية التي تقود العالم في مواجهة قوى الشر ولا شيء يستطيع حماية هذا العالم دون قيادة القوة العظمى!. لقد تحول مسار العولمة ليتخذ منحىً أكثر سلبية وضرراً، وليتراجع عن الكثير من مكتسباتها وإيجابياتها، بالنظر إلى مفهومها الإنساني والعالمي. وهذا يجعل القوى الرأسمالية أكثر قدرة وسلطة في احتكار موارد العالم، والسيطرة على العقول، والتحكم بالثقافات، من أجل مزيدٍ من الربح والنفوذ. لقد حول هذا الحدث الولايات المتحدة إلى المقنن والقاضي والشرطي الذي يقود قطار العولمة ومصير العالم.. لقد كانت الصدمة أكثر تأثيراً في العالم الإسلامي؛ فلم يتصور هذا العالم - المتفرج فقط - أن صدام التيار المتشدد مع الغرب سيؤول إلى هذا الوضع الذي انجرّ إليه بصورة إجبارية، لم يختر أن يكون فيه، بل سُحب إليه عنوةً في معركة عبثية سوف تستنزف الكثير من طاقاته وموارده. هذا الحدث سوف يُحدث تحولاً قاسياً على صعيد العالم الإسلامي؛ وذلك لعدة أسباب: الأول: إن قلة ضئيلة استطاعت أن تتحكم بالمسار الإسلامي المعاصر، وتقوده نحو اتجاه جبري دون أن يكون للأكثرية أي قرار في ذلك؛ وبذلك فقد دخل العالم الإسلامي في مواجهة إجبارية مع الغرب تتنوع فيها الأسلحة ثقافياً واقتصادياً وحضارياً ودينياً. وهذا يدل على أن العالم الإسلامي يعيش نوعاً من الفراغ الكبير الذي تُفتَقد فيه الحركة الفكرية الجماهيرية والقرار الشعبي العام، وتغيب الحركات الإصلاحية المعتدلة، وتتضاءل البنيات الأساسية القادرة على التحكم بالقرار، واختيار الأفضل منه، والذي يناسب المصالح والغايات الشرعية والعقلية والمدنية. هذا الغياب الكبير والفراغ ناتج أساساً عن حالات الديكتاتورية والاستبداد، وعدم وجود ساحات حرّة للبناء والإصلاح، وسيطرة القمع والإرهاب ضد أشكال التعددية الفكرية والثقافية والدينية. ولاشك أن القمع الديني والطائفي هو أخطر الأسلحة التي تتولد وتنمو منها التيارات الدينية المتشددة القائمة على العنف والإلغاء والتطرف والتكفير. الثاني: إن الحدث استطاع لفترة من الزمن أن يقضي على مشروع النهضة القائم على البناء والإصلاح، بعد أن أدخله في معركة وهمية استنزافية قائمة بشكل مستمر على الصدام مع الآخر. واليوم وبعد هذا الحدث يمثل الإسلام الخطر الذي يجابه العالم بالإرهاب الديني والنووي والجرثومي والاقتصادي. والتاريخ المعاصر يمكن أن يسعف وعينا بحقائق أثبتت أن المصالح الاستعمارية كانت مستعدة دائما لتوريط العالم الإسلامي بأزمات وحروب وهمية مؤقتة من أجل استنزاف موارده وطاقاته، ومشاغلته عن الأبعاد الاستراتيجية في التنمية والبناء، وبالتالي إبعاده عن مشروع النهضة الإسلامية الحضارية الشاملة.. من أمثلة ذلك: أزمة الهند والباكستان، الحرب العراقية - الإيرانية، حرب الخليج الثانية... الثالث: إن العالم الإسلامي وقع اقتصادياً بشكل أكبر مما مضى تحت سيطرة وتحكم القوى الرأسمالية بداعي مكافحة الإرهاب؛ حيث أصبحت الموارد المالية والاستثمارية تحت رقابتها بشكل مطلق؛ مما يجعله في حالة تبعية مذلة، إذ لا يستطيع أي مسلم اليوم أن يحمل في جيبه ألف دولار، وإلا فإنه يقع تحت طائل المسائلة والاتهام بالتعاون مع الإرهاب. الرابع: كذلك وقوع الكثير من البلدان تحت الإذلال السياسي والأمني بل والثقافي والتربوي أيضاً، حتى أصبحت الولايات المتحدة تتدخل في تعيين مناهجها التربوية والتعليمية. الخامس: وقوع الجاليات الإسلامية تحت وطأة الحصار الداخلي الشديد عبر سياسات الرقابة والاعتقال غير الدستوري، ومواجهتها لحالات التمييز الديني والعنصري؛ مما يجعلها غير قادرة على التأثير في دوائر الإعلام والسياسة. ولاشك أن الحركة الصهيونية وجماعات اللوبي اليهودي استفادت كثيراً من تراجع نفوذ الجاليات الإسلامية في الغرب. السادس: عودة حالة الصراع التاريخي مع الغرب إلى الحرب الدينية المقدسة بعد أن كانت حرباً سياسية واقتصادية. هذه المعركة يقودها المتطرفون من المعسكرين، من أجل قيام حرب أيديولوجية وهمية تختلط فيها المبادئ مع المصالح والأهواء والنفوذ. ولاشك أن الإسلام هو رسالة إنسانية قائمة على التسامح والحوار والتعايش مع الآخرين وهذه المعارك الأيديولوجية تتناقض مع غايات ومقاصد الدين الحنيف. ولكن كل هذه الأسباب لا تدعونا إلى التشاؤم والتراجع، بل إلى مواجهة هذه التحديات والاستجابة لهذا الحدث بصورة تجعلنا قادرين على نزع فتيل الانفجار، واستيعاب الأزمة والخروج بأقل قدر من الخسائر، بل يمكن أن نحوّل هذا الحدث إلى معطى إيجابي عبر تسويق التجارب إلى وعي جماهيري عام وأخذ العبرة والاعتبار من سلبيات هذه التجارب، على صعيد الفرد والمجتمع، ويمكن ذلك عبر طرح مجموعة بدائل: 1- انفتاح الحكومات في العالم الإسلامي على شعوبها عبر وجود الحريات والتعددية والقدرة على التعبير الحر من أجل بلورة رأي شعبي موحد يحفظ المصالح الوطنية والإسلامية؛ فالاستبداد والقمع كثيراً ما يؤدي إلى انفراط العقد الاجتماعي، وتفكك المجتمع وضعفه. ولاشك أن الحرية والتعددية تحرك قوى الإصلاح والبناء لاستيعاب الشباب المسلم في أجواء معتدلة ونشطة تستوعب طاقاتهم وتحقق آمالهم؛ إذ إن القمع والاستبداد يؤدي بهم إلى الإحباط واليأس وبالتالي اللجوء إلى جماعات التشدد والعنف المسلح. 2- فسح المجال للقوى الإصلاحية السياسية والاجتماعية المعتدلة التي تمثل عنصر التوازن في المجتمع في مقابل العنف والتشدد؛ فالعنف والتشدد لم ينشأ إلا عندما غيبت الحكومات القمعية الاستبدادية قوى الإصلاح الاجتماعي والسياسي؛ مما أتاح الفرصة لنمو الجماعات السرية القائمة على العنف. ولابد أن يتمثل وجود الحركات الإصلاحية في ميدان التطبيق العملي، لا مجرد حصرها وسجنها في الوجود النظري فقط. 3- تبني اللاعنف كاستراتيجية أساسية في ميدان الفكر والعمل والسياسة والأمن؛ إذ إن هذا التحول الاستراتيجي في ميدان الحركة السياسية والإسلامية يمكن أن يقطع الطريق أمام محاولات أباطرة العولمة للسيطرة على بلادنا الإسلامية؛ إذ بالعنف وحده يمكن لهم أن يستنفروا طاقاتهم للسيطرة على العالم. وفي المجتمع الجديد القائم على المعرفة فإن المسوغ الوحيد لاستخدام العنف قانونياً، هو العنف المضاد الذي يهدف إلى القضاء على الإرهاب. وقد جربت الحركات الوطنية والإسلامية العنف كوسيلة لتحقيق أهدافها، ولم تنجح في ذلك، بل إنها زرعت في كثير من الأحيان ألغاماً قابلة للانفجار في أي وقت؛ فلماذا لا تتخذ هذه الحركات قراراً شجاعاً يناسب ادعاءاتها الثورية، وتجرب اللاعنف كاستراتيجية جديدة...!؟ 4- إيجاد تحول مفهومي قائم على القناعة الذاتية في التعامل مع الغرب؛ فالغرب ليس كله قوى رأسمالية شريرة، بل هو أيضاً شعوب وأحزاب ومنظمات وثقافات وأديان؛ فالتعميم المطلق في الحكم عليها، يجعلنا في مواجهة شاملة مع العالم والتاريخ والإنسان؛ فلابد أن نفتح حواراً مع الغرب المستقل بمؤسساته الأخرى، من أجل تغيير الرؤية الخاطئة لدى الرأي العام هناك. هذا الانفتاح سيولد ضغطاً مستمراً ضد قوى التطرف الأيديولوجي في الغرب، كما أن الحوار سيوجد قنوات سليمة لحل الأزمات الطارئة، ويقطع الطريق أمام حلول الحرب والعنف. |