جدلية الوسط والبيئة

آلية وأسباب انتشار الأفكار المتطرفة

د. خالص جلبي

إذا عرَّضنا البارود والشمع والحليب للنار اختلفت النتيجة؛ فانفجر البارود وذاب الشمع وفار الحليب.

وإذا ألقي عود الثقاب في برميل ماء انطفأ، وإذا ألقي في حوض بنزين اشتعل بعاصفة من النيران. وفي الصيف تكفي شرارة لإشعال غابة جافة، وفي الربيع تخضر الأرض فتنبت حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها. وفي الخريف لا توجد قوة تستطيع إيقاف تساقط الأوراق، سنة الله في خلقه.

فهذه جدلية وجودية بين العامل الداخلي والخارجي. وأعمال العنف الاجتماعية والسياسية لا تشذ عن هذا القانون. وعندما تحدث القرآن عن (السنة) لم يكن يقصد بها قانوناً فيزيائياً مثل تمدد المعادن بالحرارة، ولا قانوناً كيمياوياً بتفاعل الحامض مع القلوي، بل يتحدث عن (القانون الاجتماعي) فهو عندما يذكر هلاك الأمم يقول: سنة الله في عباده.. وخسر هنالك المبطلون.

وفي علم الاجتماع يعتبر (ماكس فيبر) عالم الاجتماع الألماني المشهور أن الاقتصاد يقوم على إشباع الحاجات بطريقة سلمية، ولكن السياسة تقوم على الإكراه.

والدولة تحتكر العنف الجسدي (الشرعي). ويمضي (بيير فيو) في كتابه (المجتمع والعنف) إلى وضع ما يشبه القانون الاجتماعي في كيفية برمجة العنف عندما تضع النخبة يدها على مقدرات الدولة إلى الحد الخطير، فيتحدث عن إغراء الفساد السياسي ويقول: (إن هذا الإغراء تطلق عليه تسميات مختلفة (ترقية غير قانونية، رشاوى، امتيازات الخ ..

يعني أن يغدق المسؤولون على أنفسهم أو يوزعوا على زبانيتهم من أصدقاء ومعاونين امتيازات لا تبررها أية خدمة أسديت للمجتمع. إن هذه المخالفات تختلف من حيث الخطورة والاستمرار والاتساع وهي ما أن تبلغ حداً معيناً حتى ينتهي بها الأمر أن تمس حقوق معظم الناس الأساسية، وأحيانا بصورة خطيرة، لصالح قلة من أصحاب الامتيازات.

وبذا ينشأ وضع عنف؛ فحتى لو مكّن استسلام الجماهير أو عجزها؛ النظام القائم من الاستمرار، فإن عناصر الانفجار تبقى رهن توفر الشروط التي يتسنى لها فيها أن تتحول إلى عنف فعلي. إن القرآن الكريم يربط بين (الاستقامة) و(نزول المطر). واعترف أنا شخصياً أن الآية لم تكن لتتجلى لي وتتضح لولا أنني فهمت المزيد من قوانين علم الاجتماع.

(وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً) فما علاقة هذا بذاك؟ وما علاقة الكفر بالخوف، والتوحيد بالأمن؟ الآية تقول عن القرية الآمنة المطمئنة التي كان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان أنها كفرت بأنعم الله؛ فأذاقها الله لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون. والآية الثالثة على لسان إبراهيم (عليه السلام) تعتبر (أن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) في الواقع هذه القضايا الضخمة ليست غيبية بل مرتبطة بقوانين حركة المجتمع.

وعندما يتوفر العدل الاجتماعي تصان الأمة من الهزات السياسية. ونحن اليوم وقد بدل الله العالم كله أمنهم خوفاً يتساءل الإنسان عن السبب؟ والجواب هو من الظلم. وفي الحديث أن الظلم هو باب هلاك الأمم. وهناك قصة جميلة يرويها ابن خلدون في (المقدمة) تحت فصل (الظلم مؤذن بخراب العمران) فيروي عن الموبذان مع الملك بهرام أنه سأله عن لسان الحيوانات فقال له عن طير أنه البوم وهو يغازل بومة يخطب ودّها ويطلب يدها

فشرطت عليه مهراً. قال الملك: وماذا طلبت منه؟ قال لقد اشترطت لزواجها خراب عشرين قرية، فقال لها: إن أدام الله حكم الملك بهرام فهو يعدّها بخراب ألف قرية.

تعجب الملك من الخبر وأدرك أن خلفه سراً فأخذ الموبذان وتكلم معه على انفراد، قال: ويلك ما هذه الحكايات التي ترويها وهل تظن أنني سأصدق هذا؟ فأخبرني بالخبر اليقين عمّا وراء الكلمات؟ قال: أعز الله الملك إنه لا قوام للملك بدون شريعة ولا تقوم الشريعة بدون الحكم ولا قيام للحكم إلا بالجند والجند يحتاجون الرواتب وهذه لها مصادرها من العمارة ولا عمران بدون عدل فالعدل هو الأساس الذي قامت عليه السموات وأنت أيها الملك قد أفسد من حولك الحياة وصادروا الضياع والتجارات وظلموا العباد: فانتبه الملك وأقبل على رعيته وأصلح أمور مملكته.

الإرهاب والأمن..

يذكر إمام عبد الفتاح إمام في كتابه (الطاغية) أن الفرس كانوا إذا مات لهم ملك لم ينصبوا ملكاً جديداً بل انتظروا ثلاثة أيام عن سابق تعمد وقصد. وفي هذه الأيام الثلاثة يبقى البلد بدون حاكم كما يحصل مع الجسد بدون رأس فتعم الفوضى ويكثر الخراب ويشتد القتل، ويهرع الناس في النهاية أمام هذا البؤس الذي لا يطاق فيقبِّلوا رأس ولي العهد ويرجونه بلهفة وتوسل وإلحاح أن يأتي فيحكم العباد بالطريقة التي يريدها ويضبط البلد ويقيم الأمن؛ فحياة الغابة لا تطاق.. وهي نفس النتيجة التي انتهى إليها الفيلسوف البريطاني (هوبز) حينما قال إن الحكم المطلق الأرستقراطي جاء أصلاً كمقابل أمام دخول المجتمع إلى حالة الغابة التي لا تطاق. وينبني على هذا الكلام الخطير أن الدولة ولدت في التاريخ فودع الناس الغابة خلف ظهورهم وامتصت الدولة كل العنف من المجتمع واحتكرته لنفسها من جهة ومارست الطغيان من جهة أخرى. ومهما كان شكل الحكومة فهناك قدر من الطغيان والعنف لا مفر منه ولا محيد، وإلا ما معنى وجود الشرطي حاملاً المسدس في إشارة مرعبة أنه جاهز للقتل في كل لحظة. إن هذا الرمز ألفه الناس منذ وقت بعيد وكان الجنود سابقاً يحملون الرماح والسيوف في عهد الفراعنة والرومان، وكلها مؤشرات للقوة وأنهم أدوات بيد الحاكم والحكومة تسلطّهم في أي لحظة من ليل أو نهار للفتك بمن يرفع رأسه ويعكر المزاج العام أو يخل بالأمن؛ فهذا هو السبب العميق خلف قيام الحكومات. وقيام الحضارات كتحصيل حاصل.. ولكن يتفرع من هذا الأمر شيئان خطيران للغاية وهما في حالة حركية توسعاً أو ضيقاً اشتدادا وإظلاما أو انفراجا ونشاطاً.. وهي علاقة الأمن بالإرهاب، إن صح التعبير، لأن موجة الحديث هي في هذا الاتجاه هذه الأيام.

وأنا أريد من كلامي هذا أن أبرز المعاني الضخمة التي أدندن حولها منذ زمن بعيد عن العنف واللاعنف وأهمية السلام وأفكار السلام ولماذا جاء الأنبياء بدعوة السلام، والإسلام هو السلام خالصاً سائغاً للشاربين.

عندما تحتكر الحكومة العنف يحصل أمران رهيبان الأول داخلي والثاني خارجي. فأما الداخلي، فإن التمكن من السلطة والجند والأسلحة يعطي مذاقاً رائعاً لا يُقاوم للطغيان وبقدر وضع اليد على هذه القوة الهائلة يحصل الغرق في هذه اللذة السلطانية. ولم يأت الأنبياء عبثاً في التاريخ، لأنهم أقروا وجود الدول ولكنهم دعوا إلى تقليص جرعة عنف الدولة بحيث تعمل قوات بسيطة من الدولة كما تعمل المطافئ للحرائق، وهناك الكثير من الناس لا يتفاهمون أخلاقياً عندما يختلفون؛ فكان وجود الدولة من أجل حسم النزاعات. ومنظر بسيط من حوادث السير، وكيف يتسابب الناس ويتخاصمون، مبرر كافي للشرطة كي تحكم بين العباد، ومن رفض أدخلته السجن وغرّمته، وبقدر تهذيب أخلاق الناس وتفاهمهم يتقلص ظل الدولة وعنفها.

واليوم هناك نية في سويسرا لسحب أي سلاح من الشرطي كما أن بلجيكا في طريقها لإلغاء الجيش.

والأمر الثاني لم يحل حتى الآن، وهو في طريقه إلى الحل، ربما خلال قرون قادمة، وهو أن الدولة استطاعت أن تضمن الأمن داخلياً ولكنها عجزت عنه خارجياً؛ فلا يوجد من يخصم النزاعات بين الدول.. وهكذا فبتسلح الدول برمجت النزاعات، وهذا يفسر الأمن داخل الدولة الواحدة والحروب بين الدول. والخلاصة في هذه القضية الشائكة أنه بقدر الإرهاب تتقلص حرية الأفراد وينحسر الأمن الاجتماعي والعكس بالعكس (سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون).