الإمام الشيرازي والتراث العلمي الضخم

محمد محفوظ

قال تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون).

في صبيحة يوم الاثنين ( 17 /12/2001 ) فجعت الأوساط الإسلامية والعلمية برحيل المرجع الديني الكبير الإمام محمد الشيرازي(قده) إلى الرفيق الأعلى، بعد حياة حافلة بالعطاء والكفاح والاجتهاد ومقاومة كل أسباب وعوامل التخلف والانحطاط في جسم الأمة. وأمام هذا المصاب الجلل تتداعى الذكريات والقصص، وفي لحظة تاريخية يسترجع الإنسان صوراً كثيرة من الذكريات والأحداث التي تربطه أو يعرفها عن الفقيد. ورحيل العظماء والأعزاء يصيب المرء في الصميم، ويذهله ويجعله أمام مصيره المحتوم، الموت قادم إلى الإنسان ولا فكاك منه.

ونود بهذه المناسبة الأليمة أن نشير إلى محورين أساسيين وهما:

1- الموت ووعي الحياة، ودور عملية الوعي هذه في إنضاج الأفكار وعمليات الإنتاج العلمي والثقافي.

2- القلق المعرفي ودوره في عملية العطاء والإنتاج. وكيف أنه لا إبداع بدون قلق معرفي يراكم المعارف، ويفتح الآفاق، ويكثف الجهود، ويزيل الكثير من عوامل الإحباط التي تحول دون ممارسة العالم لدوره في إنتاج المعرفة وصياغة الأفكار وبلورة المقاصد.

الموت ووعي الحياة

يبدو لي أننا جميعا أبناء هذا العصر، بحاجة دائما لأن نعي الحياة من خلال تطوير نظرتنا إلى الموت.. لأن الإنسان الاستهلاكي الذي تريد الحضارة الحديثة أن تفرضه على الآخرين كنموذج، يريد أن يعيش يومه ويمارس اللذة المادية لا الروحية، وأن يبحث باستمرار عن كل ما يعطيه هذه اللذة دون مراعاة للمحظورات والمحرمات. إنه أسير تحققه الدائم المادي اليومي والمطلق، ولا يبحث عن تعويضات أخرى في أماكن أخرى أو عوامل أخرى. الحياة في هذا المنظور الحديث هي البحث عن المتعة وبأي ثمن.

والمجتمع الاستهلاكي كله، مقاد بهذا البحث الدائب عن المتعة الجديدة واللذة الجديدة، والمصلحة المادية الفردية الضيقة هي مبدأ سير وعمل وتطور المجتمع، ويضطر الأفراد - الذين أنهكتهم وتيرة البحث الدائم، والسعي الذي لا يرحم للوصول واللحاق بأقصى نماذج الاستهلاك والمتعة والركض وراء المادة، والذين قرروا لذلك أن يعودوا إلى مفاهيم قناعية - إلى هجرة المجتمع وتكوين ملل شبه دينية، وتجمعات تبدو وكأنها يوتوبيات لا تلبث أن تــزول وتنحل من تلقاء نفسها مع الزمن. ويشــير الكاتب المعروف برهان غليون إلى مثل هذه التجمعات في كتابه (مجتمع النخبة) بقوله: نشأت في العالم الغربي حركات كثيرة حاولت أن تعود إلى حياة البساطة، وصورة البدائي الجميل والسعيد، راسخة في الذهن الغربي، ومرتبطة بالمشاعر التي تبعثها رؤية الطبيعة في النفس وتأمل انسجامها. لكن جميع هذه الحركات تظل جزئية وتعكس ردة ضد منظومة القيم المادية، إنهم يضطرون بسبب أفكارهم إلى الانعزال عن المجتمع والذهاب إلى الريف لبدء حياة رعوية وزراعية كما في القرون الوسطى، وهم في نظر المجتمع صورة مسلية لجنون جميل ولخلاص خيالي طوباوي.

فبدون الموت وعودة الحياة إلى خالقها وبداية حياة الخلود في الجنة، تصبح الحياة الدنيا لا معنى لها بقدر ما هي حياة فانية، حياة صراع وعمل وجهد ونزاع ومرض وقلق ومادة. كما أن الروح هي المفهوم المفتاح للعالم القديم، والمادة هي المفهوم المفتاح للعالم الحديث، فإن الموت هو سبيل تحرير الروح وخلاصها، وقدسيته من قدسية الروح.

وتذكر الموت وهضمه واستيعابه كحقيقة قائمة يؤثر في سلوك الإنسان وفي موقفه من المجتمع ومن الطبيعة، ومن المادة، وبقدر تركز هذا الشعور والمعنى في العقل مع وجود الغرائز التي تدفع دائماً بالإنسان إلى البحث عن إشباعها، تصبح التربية ذاتها محاولة لإخضاع الذات، وتقوية الإرادة والبحث عن التقشف والسيطرة على النفس.

فالنفس هي الغرائز، والروح هي من أمر الله، أي شيء منه، والفشل في إخضاع النفس أي ارتكاب المعاصي، وهذا يؤدي في المحصلة النهائية إلى الشعور بالذنب تجاه الخالق، والشعور بالضعف، ويدفع المرء إلى طلب الغفران واللجوء من جديد إلى الله، والتكفير عن ذنوبه بالعمل الصالح. بمعنى آخر؛ حتى المعصية والخطأ يجيران من جديد ويعاد استخدامهما، لصالح إعادة التكوين والتربية وعمل الخير من جديد، ولا يظهر الموت هنا كعدو للإنسان، إنه بالعكس حسنة إذا كان في سبيل الله، وخلاص إذا جاء طبيعياً.

وما دام كل إنسان فانياً فكل شيء مادي دنيوي يفقد قيمته المطلقة، ويصبح ذا قيمة نسبية فقط. والرؤية الإسلامية لحلّ التناقض بين الموت والحياة، وإدخال الموت في الحياة الدنيا هي: (إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).

والذي يعيش أبداً يعمل ويسعى ويكافح كما لو لم يكن هناك موت، أي حياة بدون قلق ومخاوف، ويعمل وينتج كما يجب، والذي يعرف أنه سيموت غداً، يحاول في عمله ألا يسيء لأحد أو يقوم بذنب لن يستطيع التكفير عنه ربما في اليوم التالي.

يصبح الموت وفق هذه الرؤية عامل تنظيم للأخلاق الاجتماعية، وكي يصبح كذلك لا بد من فهمه وتذكره واستيعابه بدون غضاضة.

ولا بد من القول: إن المظاهر الباذخة والعظمة الدنيوية وعبادة القوة والتقديس المطلق والأعمى للمصلحة الشخصية، كل ذلك حين التأمل العميق محاولة بشرية للتعويض عن الخوف من الموت، بينما نظر الدين الإسلامي إلى الموت نظرة طبيعية، وجعله ضرورة للتعاون والحب والمساواة والرحمة والأخلاق والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فالموت بوعيه والاستعداد الأمثل لاستقباله، هو المدخل الحقيقي والجوهري لوعي الحياة، لأن الموت هو الذي يغرس في نفوسنا مبدأ التضحية من أجل الآخرين.. فهو الذي يخلق الخلود.. أما المظاهر الأخرى فهي زائلة، ويبقى عمل المرء الذي يؤدي إلى خلوده في إحدى الدارين.

والموت ليس عدماً، كما تدعي النظريات والمذاهب المادية التي تسعى للمساواة بين الموت والعدم، وإنما هو القنطرة الضرورية للعبور إلى الدار الآخرة.

وكثيرة هي الأمراض والأزمات، التي تعانيها المجتمعات التي تساوي بين الموت والعدم؛ لذلك كله نستطيع القول أن الموت هو طريق وعي الحياة، ورحيل أعزائنا وعظمائنا إلى دار الخلود، ينبغي أن نقرأه بعمق، حتى يتسنى لنا تصحيح مسارنا في هذه الحياة، وحتى نرصد نقاط النور في حياة الراحلين، لكي نكشفها في حياتنا، ونكون نحن بالتزامنا بها سبباً في بقاء نقاط الضوء والنور في حياة الإنسان والمجتمع.

وإننا نستطيع القول: إن وعي الحياة وفق المنظور الآنف الذكر، يساهم بشكل كبير على المستوى الثقافي والمعرفي في تكثيف اللحظة التاريخية، وتراكم الجهد المعرفي والاستفادة القصوى من الوقت، والشهود الحضاري على الراهن.. وذلك لأن الإنسان الذي يشعر أن وجوده في هذه الحياة الدنيا مؤقت، وأن هناك حياة أخرى أبدية، فإنه سيسعى بكل جهده وإمكاناته إلى استثمار كل لحظة في حياته في سبيل البناء والعمران الحضاري؛ لذلك فإن وعي الحياة هو الذي يوفر الاستعداد النفسي والعقلي، للانطلاق في رحاب العالم تنمية وبناءً وعمراناً وشهوداً على جميع المستويات والحقول.

وبهذا تتأسس كل مكونات تحمل المسؤولية بكل مستوياتها وأشكالها. والعالم الرباني هو ذلك الإنسان الذي يتمكن من تحويل صعوباته إلى مادة ثرية للإبداع الثقافي والعلمي؛ فلا إبداع بدون قدرة نفسية ورحابة عقلية ووعي ناضج بالحياة ومتطلباتها.

إن الإمام الشيرازي(قده) يعلمنا درساً عميقاً في ضرورة عدم الخضوع إلى الضغوطات مهما كان شكلها، وتجاوز المحن النفسية والاجتماعية والجسدية بالهروب إلى الأمام؛ وذلك لأن التراجع إلى الوراء يعمق الضغوطات، ويكرس المحن، ولا حل لذلك إلا بالخطوات النوعية إلى الأمام، التي تحيل الواقع الصعب إلى مصدر للإبداع والإنتاج. كما أن العالم الرباني هو ذلك الإنسان الذي يدفع ثمن تعلقه وعشقه للعلم والمعرفة من وقته وجهده، ويتخلى عن الكثير من سفاسف الأمور من أجل قضيته الكبرى، وهي قضية العلم ونهوض الأمة وعزة الإسلام.

القلق المعرفي والإبداع

إننا نرى أن بداية القلق المعرفي، الذي هو أحد شروط الإبداع، هو وعي الحياة بشكل عميق، والتعامل معها على أساس أنها فرصة، ينبغي استثمارها وملؤها بالأعمال الجادة والأنشطة النوعية.

فالفقيد الكبير لم يخضع سلباً لتقلبات الحياة، وإنما تعامل معها تعاملاً إيجابياً، حفزه إلى مضاعفة جهوده وتكثيف إنتاجه، ومسابقة الزمن الذي يعيشه. كان بإمكانه أن يتذرع بالصعوبات وأنها السبب الذي يحول دون الكتابة الفقهية والعلمية، وستصبح هذه الذريعة بنظر الجميع مقبولة، ولكنه أبى ذلك، وعمل بجد واجتهاد لمقاومة صعاب المسيرة، وواصل الكتابة والإبداع، وأضحى أنموذجاً يقتدى به في طريق مقاومة الصعاب ومجابهة مشاكل الحياة التي تحول دون التواصل العلمي والثقافي والإبداع المعرفي.

فالعالم الرباني الجاد ليس هو فقط الذي يكتب نصاً جاداً، وإنما هو ذلك الإنسان الذي يتمكن بإصراره وعزيمته وإرادته أن يتجاوز كل الصعاب من أجل العلم والمعرفة. والتجاوز يعني في إحدى صوره وأشكاله التكيف الإيجابي مع الصعاب، بمعنى أن يواصل العالم والمثقف العطاء والإنتاج وهو يعيش في ظروف صعبة. فالفقيد الكبير استطاع بإرادته وعزيمته وتصميمه أن يحول تحديات المسيرة إلى فرصة مؤاتية ونموذجية للبحث والقراءة الجادة والإنتاج والعطاء العلمي والفقهي والإبداع الثقافي. فلم يخضع للظروف الصعبة، ليبرر تقاعسه وكسله بها، وإنما حاول أن يتغلب على ظروفه الصعبة بالمزيد من الإنتاج والإبداع. وحري بنا نحن جميعاً، أن نتعلم كيف نحارب التبرير، ونقاوم الإحباطات، بالمزيد من الإنتاج والإبداع.. فالعمل الجاد هو السبيل الوحيد لمقاومة الإحباطات، والتحول النوعي على مستوى التعامل مع الأفكار والقناعات والوقائع، هو طريقنا لإنهاء حالة التبرير التي هي أرضية الفساد في كل شيء.

والإنسان المسلم اليوم بحاجة لأن يعيد النظر في طريقة تعامله مع أفكاره وقناعاته والوقائع المحيطة به، حتى يطرد من نفسه وفكره كل عناصر التبرير التي تحيله إلى كائن سلبي، لا يقدر على فعل شيء، ولا يمتلك القدرة على المبادرة. فالفقيد الكبير والذي فقدته ساحتنا الإسلامية والعلمية، كان بحق أنموذجاً لذلك العالم الرباني الذي عشق العلم وتفانى في سبيل المعرفة، وتحمل الكثير من أجل حبه وعشقه، ولم يخضع لأي من الظروف المعاكسة، وإنما تكيف إيجابياً مع بعضها، واستطاع بعزيمته أن يتغلب ويقهر بعضها الآخر.

ولا بد أن ندرك في هذا الإطار أن القلق المعرفي والإخلاص المطلق للمبادئ، والاستعداد التام لدفع ثمنه من الوقت والجهد والفعل، هو الذي يوفر للعالم والمثقف القدرة على العطاء المتميز والعمل المبدع.

فالإمام الشيرازي(قده) كان يحيا العطاء بكل مستوياته ومجالاته، ويقاوم التحديات بالإبداع والعمل المكثف؛ لذلك كان غزير الإنتاج وأنموذجاً لذلك الإنسان الذي استطاع أن يقهر الظروف ويجابه التحديات بالمزيد من العطاء والمعرفة والإبداع.

فليسعَ كل عالم ومثقف وأديب إلى تجاوز محنه وصعابه، بالمزيد من الإبداع والإنتاج العلمي والمعرفي والأدبي. ولنتذكر جميعا أن قيمة كل إمرئ ما يحسنه، وأن الشرف بالهمم العالية لا بالرسوم البالية.

وأمام هذا التراث العلمي الضخم والمتنوع، الذي تركه الفقيد الكبير، نؤكد على المقترحات والتصورات المستقبلية التالية:

1- تشكيل مؤسسة تعنى بجمع تراث الفقيد الإمام الشيرازي(قده) العلمي والثقافي، وتسعى نحو حفظه ونشره.. وذلك لأن الراحل الكبير ترك عشرات المخطوطات، كما أن بعض مؤلفاته المطبوعة نفذت من الأسواق؛ لهذا فإن هذه المؤسسة المقترح إنشاؤها تأخذ على عاتقها في المرحلة الأولى تجميع هذا التراث العلمي والثقافي وحفظه من الضياع والتبعثر، وفي المرحــلة الثانية العمل وفق خطة مدروسة لطباعته ونشره.. وكأي مؤسسة علمية متخصصة، فــإن الزمن والممارسة البحثية سيساهمان في بلورة آفاق عمل هذه المؤسسة.

2- استطاع الفقيد الكبير خلال السنين الماضية أن يطرح جملة من الأفكار الحضارية والكبرى، التي لم تأخذ نصيبها من البحث والدراسة والتحليل، وذلك لأسباب عديدة لسنا في صدد بيانها.. وإنه آن الأوان بعد رحيل هذا الإنسان العظيم أن نلتفت إلى هذه الأفكار، ونعطيها ما تستحقه من البحث والتحليل وتداول الآراء العلمية الجادة حولها.. وهذا بطبيعة الحال لا يتأتى إلا عبر مؤتمرات علمية جادة، يشترك فيها نخبة من أهل الاختصاص والرأي، وذلك من أجل تدارس هذه الأفكار، وبحث آفاقها وتحليلها. ولعل من أهم الأفكار والجوانب التي تتطلب عقد مؤتمرات علمية لتداولها ومناقشتها هي:

- نظرية اللاعنف، التي أسس أصولها الراحل الكبير، واعتبر أنها تتجاوز البعد السلبي فقط، وأنها نظرية متكاملة لا تكتفي بالرفض وإنما تتعدى ذلك.

- الحريات العامة والشورى بمستوياتها القاعدية والقيادية، وسبل تأصيلها في الواقع المجتمعي.

- نظرية وسبل النهوض الإسلامي في العصر الحديث.

- التجربة الإصلاحية للمرجع الكبير في مختلف أطوار حياته.

3- بما أن الراحل الكبير ترك مكتبة إسلامية ضخمة ومتعددة الجوانب، لذلك من الصعوبة بمكان جمع هذه المؤلفات في موسوعة واحدة أو أعمال كاملة واحدة.. ولعل من المناسب تأسيس أعمال متكاملة متخصصة للتراث العلمي الذي تركه الإمام الشيرازي من قبيل (الأعمال الفقهية الكاملة ـ الأعمال الأصولية الكاملة ـ الأعمال الثقافية الكاملة ـ الأعمال السياسية الكاملة).

4- تشجيع الباحثين والمتخصصين وطلاب الدراسات العليا على تخصيص أبحاثهم ورسالاتهم الجامعية في بعض النظريات والأفكار التي طرحها الإمام الشيرازي(قده).

5- تخصيص جائزة علمية سنوية باسم الفقيد الكبير، وذلك من أجل تشجيع الأبحاث الجادة في القضايا والأمور التي تهم الأمة حاضراً ومستقبلاً.

هذه بعض المقترحات والأفكار، التي تساعدنا جميعاً في حفظ هذا التراث العلمي الضخم الذي تركه الفقيد الكبير.

ومسؤوليتنا جميعاً هي العمل على مواصلة الإبداع العلمي والعطاء الفكري والثقافي الذي يساهم في عزة الأمة وصون كرامتها الإنسانية والحضارية.