ذاتية الاستقرار المرجعي وموضوعية التحول السياسي المعاصر |
كريم المحروس |
حركة العلوم وأدواتها في الجوانب الدينية والإنسانية والطبيعية، أوجدت محصلة في الواقع المعاصر لا يمكن توصيفها بالتحول البسيط، إنما هي تطور نوعي سريع جدا على الصعيدين النظري والعملي، العقلي والتجريبي. وكلما تعاقبت الأزمنة وانصرفت في عمق التاريخ الإنساني المعاصر، نجد فيها حركة الإنسان نحو التحول والإبداع أكثر سرعة، نسبة لتطور الوعي في جوانبه المختلفة والأدوات والوسائل العلمية والتعليمية المعتمدة، مما ترك ذلك أيضاً انعكاساً واضحاً وجلياً على شجرة العلوم وتقاسيمها ولغاتها وآدابها؛ فلو اتخذنا طبيعة النظام السياسي -على سبيل المثال- لتدارس أشكاله وألوانه وتعريف مؤسساته قبل اقل من قرن، لوجدنا انه تلك السلطة التقليدية التي تمتلك قواماً عسكرياً ونظاماً أمنياً صارماً للهيمنة الداخلية ولصيانة الحدود والمحافظة على قدسية أوامر ومراسيم رأس الدولة ومتعلقات الشؤون الخارجية المحدودة والمقتصرة على بعض دول المصالح والجوار، فضلاً عن الالتزام بتطبيق بعض المواثيق والأحكام المحدودة وما يتعلق بها من بروتوكولات وفعاليات داخلية، بينما طبيعة النظام السياسي القائمة في يومنا هذا تختلف كثيراً تبعاً لاتساع نشاط السلطة والمجتمع معاً، وشموليتهما لأبعاد نظرية وعملية أخرى مختلفة، من نحو الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أضحت معقدة للغاية ومترابطة عضوياً ولا تنفك عن بعضها البعض. فالبعد السياسي الداخلي للنظام المعاصر، لم يعد محصوراً أو مقيداً بالسلطة المتمثلة في رأس الدولة؛ حيث انبثقت عن المجتمع المغمور قوى مؤسسية سياسية مطالبة بجعلها والسلطة ذاتها في مستوى متعادل القوة والتأثير السياسي والمجتمعي، كنموذج على تفكيك الدولة بقصد تعزيز بنية متينة مستقرة الجانب والقرار، إضافة إلى أن السلطة ذاتها أخذت بالتراجع عن مركزيتها الحادة مع مبدأ نشوء قوى ثلاث فرضت على نظام الدولة وجودها واستقلالها، فهذا التحول والتعقيد الكبير في النظام السياسي كان متسقاً مع كل جهات التحول والتعقيد المتسارع في جوانب الاجتماع والاقتصاد والثقافة أيضاً. لكن الخطورة الكبرى كمنت في هذا الشكل من التحول والتعقيد والتعدد، بعدما برزت مظاهر اختلال التوازن صريحة وواضحة لصالح جهة من جهات الدولة أو جانب من سلطاتها بفعل فاعل داخلي أو خارجي، غير ملتزم أو مؤمن بالمسار السياسي الوطني العام. وهذه المظاهر بدورها فرطت بالكثير من قيم التوازن ومقاصدها في جميع جوانب الحياة العامة في الدولة، مما يؤكد أن حداثة الدولة برغم سرعتها في التحول والتطور الحضاري، مازالت خاضعة لعدد من المؤثرات السلبية وغير مكترثة بالكثير من الثغرات النظامية التي يمكن لها أن تخل بموازين القوى بغير حق إذا محصت بالبلاء، ويشار دائماً إلى السلطة التنفيذية في مثل هذه الأحوال، لأنها تستجمع كل الأنظار وتستقطبها، وإن كل حركة تؤديها فإنها لابد وأن تمس واقع المواطن العادي المنتمي إلى جهة من جهات العمل السياسي، أو مؤسسة من مؤسسات العمل النقابي، أو تجمعات النفع العام، أو لاجئة إلى مهامها العامة القائمة على وظيفة الظل والرقابة والترشيد المعمول بها. وهذا اللجوء عن مؤسسة الدولة التنفيذية، بدوره يرفع من شأن هذه الجهات والمؤسسات والتجمعات ووظائفها ويجعل منها قطباً فاعلاً ومؤثراً، لا طاقة لمؤسسات السلطة التنفيذية على مقارعتها، لأن المقارعة نفسها لها مردود عكسي، مخلٌّ بالتوازن لصالح قطب الظل والرقابة. ولا بد للدولة الحديثة من تعدد مؤسسي؛ ولا بد وأن يقترن هذا التعدد بتوازن لصالح الدولة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً كشخصية موحّدة. وإلى جانب التعدد والتوازن المؤسسي في النظام السياسي، تزداد مهام رأس الدولة ومسؤولياته أيضاً. فلم يعد تلك الشخصية التي تتمتع بصلاحيات مطلقة كما هو الحال في سابق العهد، إنما يتوجب عليه أن يمارس صلاحياته في كل شأن من شؤون الحياة العامة تحت مجهر معقد لرقابة صارمة من قبل مؤسسات المجتمع الأهلي، فهو مسؤول عن مسار الحياة الاجتماعية والثقافية وليس السياسية فحسب، ومسؤول عن مستوى دخل المواطن والقيمة الشرائية لعملة البلاد والمحافظة على الميزان التجاري وتوازن الميزانية العامة وصيانتها من مخاطر شبح العجز المالي، ومسؤول عن الإبداع الثقافي المنبثق عن موازين الأصالة والمعاصرة معاً، ومسؤول عن استقلال السلطات الثلاث وبقية مؤسسات الدولة وعلاقاتها الخارجية وغير ذلك.. هذا التطور والتسارع الكبير نحو هذا الشكل من الدولة، خلقته حركة تطور العلوم وأدواته بأشكالها وجهاتها المختلفة، وانعكاسات هذه العلوم على الطبيعة المجتمعية التي تشهد كل يوم تحولاً وتطوراً وإبداعاً، إلى جانب تطور الدولة ومؤسساتها، وفي حقيقة الأمر إن تحول الدولة وخروجها عن جمودها، لم يأت بأثر ذاتي مرن فرضه تناغم حاجات السلطة والمجتمع، بل إن الكثير من حالات الصدام المباشر بين قوى المجتمع ومتطلباتها وحاجاتها من جهة، والسلطة ومركزيتها المفرطة وقدسية الحق الإلهي لرأس السلطة من جهة أخرى، كان لها العامل الأساس والفعل الأول على طريق إخراج السلطة عن جمودها. وإذا كانت الدولة قد شهدت كل هذا التحول، ولعب المجتمع دوراً أساسياً في بلورة هذا الشكل من الدولة، وذلك بفعل تطور الفكر الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في أوساطه تبعاً لتطور العلوم في جهاته المختلفة، فأين أثر المرجعية الدينية ومؤسساتها من كل ذلك؟. وهل كانت المرجعية غائبة عن مسرح الأحداث وهذه التحولات، أم أنها كانت خاضعة لتحولات الدولة ونظمها الجديدة؟. من المؤكد تاريخياً أن عدداً من الانتفاضات والثورات قد اقتيدت جماهيرياً من قبل فقهائنا ومراجعنا وعلمائنا الكرام ضد عدد من الأنظمة السياسية المتخلفة وسياساتها المصطنعة استعمارياً. وكان رائد الفقهاء المرجع المجدد الميرزا الأول السيد الشيرازي (قده) قاد حركة التحرر في حادثة التنباك الشهيرة ضد المصالح الاستعمارية البريطانية في إيران. ومن بعده جاءت ثورة العشرين في العراق بقيادة الميرزا الثاني الشيخ محمد تقي الشيرازي(قده)، وكذلك الآخوند الخراساني(قده) قائد حركة المشروطة في إيران، وغيرها كثير من الحوادث العظيمة التي تصدّى لها مراجعنا وفقهاؤنا، كما أدى هؤلاء المراجع الفقهاء العلماء دوراً عظيماً في بلورة العلوم الدينية وإثرائها بالكثير من المؤلفات، وكان لهذا الدور تأثير كبير على نخبة عظيمة من رجال الحوزة الدينية وقطاعات المجتمع. ومع كل هذا الأثر الكبير للمرجعية في صناعة المجتمع ومواجهة المخاطر الناجمة عن التحولات السياسية، إلا أن الدولة قد شهدت تحولاً وتطوراً في الجانب الفلسفي والعملي على غير ما كانت الحوزة الدينية تطمح إليه وترغب. وذلك بسبب أطماع دول عظمى خارجية استطاعت فرض ذاتها عنوة على قوى الدولة والمجتمع معاً، ونجحت في خلق البديل السياسي الذي ينسجم مع حجم مصالحها في البلاد الإسلامية برغم الانتفاضات والثورات التي تزعمتها الحوزة الدينية، ونجحت أيضاً وفق هذا المنهج السياسي المنظم في صناعة حاجز خطير بين التعليم الديني والتعليم المدني، واستطاعت حرمان الحوزة الدينية من الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي ساهم في تحجيم وتقلص الأثر الحوزوي في القرار السياسي، خصوصاً من بعد حادثتي التنباك وثورة العشرين، مما ألقى ذلك بظلاله سلبياً على الحوزة ذاتها بحكم عزلتها الجديدة التي دامت أكثر من قرن تقريباً، وإذا ما أضفنا إلى هذه العزلة دور العصبية الطائفية التي تبنتها السلطنة العثمانية منهجاً بزعامة مفتي السلطنة لإحكام قبضتها على الحركة العلمية والثقافية الشيعية ومحاربتها في كل مكان تحت ذرائع ومبررات دينية لا أساس علمي وتشريعي لها، فإن أمد هذه العزلة قد استقى عوامل بقائه على مدى ستة قرون تقريباً.. وفي ذلك تنادت الحوزة وعلت صيحاتها بالتجديد في النظام المتعلق بالمرجعية والحوزة ذاتها، ودعا الكثير إلى صياغة جديدة للمجتمع عبر صناعة فكر جديد مناسب، متفاعل مع التحول العلمي المعاصر بشكل عام، وعلى الصعيد الإداري للدولة بشكل جزئي خاص، واثق في القيادة المرجعية مرة أخرى على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، قادر على محاكاة الدولة الجديدة وتصوراتها إزاء الحوزة وما ترمي إليه في شأن مكانتها من بين مؤسسات الدولة ونظمها. كما علت صيحات أخرى أكثر جذرية، موجبة لتصدي المرجعية إلى تأسيس منظومة فكرية على طريق بناء نظام سياسي بديل جامع للشرائط الإسلامية أطلق عليه (الحكومة الإسلامية). وقد نجحت المرجعية منذ أوائل القرن الماضي في إرساء فكر إسلامي جديد، وتفعيل عوامل الدفع والحماس في الأمة، ومعالجة شقة الخلاف المجتمعي حول مسألة التعاطي مع الدولة والتطور العلمي والثقافي والتكنولوجي في العالم. كما وضعت أسس النظام السياسي فلسفياً وفكرياً. كل ذلك جرى في ظل ظروف سياسية وأمنية واقتصادية صعبة للغاية، مستهدفة رأس المرجعية ذاتها قبل كل شيء، من هنا لمسنا واقع هذا الأمر من خلال عمليات الحصار والتشهير المخطط سلفاً ضد المرجعية على مستويات عليا في الدولة الحديثة، ومن خلال التأليب المخابراتي بين أتباع ومقلدي المرجعية، ومن خلال شق صفوف المجتمع بعصبية حزبية مؤلهة لمرجعية دون أخرى، على حساب التعدد المرجعي الإيجابي الذي أغنى الاجتهاد ومدارسه. ومن بعد ذلك لم يجد نظام الدولة السياسي أي حرج في شن حملة اغتيال وقتل وسجن وتهجير للمراجع والفقهاء والعلماء العاملين والفاعلين، كل ذلك جرى في ظلمة الليل ووضح النهار وبجرأة لم تكن معهودة من قبل لدى النظام السياسي القديم. فهذه عائلة الشيرازي مثالاً جلياً في عصرنا الراهن على تخطي مصاعب وعقبات البناء المرجعي والمجتمعي المؤسسي التي ولّدتها قوى الاستعمار ونظامها السياسي في جانب، وقوى التخلف المجتمعي في جانب آخر، حتى كان ثمن هذا الدور العظيم، الكثير من التضحيات، قدمها الأبناء ضريبة انتسابهم للمجدد الشيرازي الكبير والميرزا الثاني قائد ثورة العشرين ودورهما التوعوي والمؤسسي. فالميرزا الأول المجدد آية الله العظمى الشيرازي، والميرزا الثاني آية الله العظمى الشيخ محمد تقي الشيرازي قتلا بالسم غدراً، بينما اغتيل آية الله السيد حسن الشيرازي بالرصاص في بيروت، ونال هؤلاء الثلاثة من الدعايات المضللة والتهم الرخيصة ما كان أشد وطأة على النفس من آثار السم والرصاص على الجسد. وقد تعرض فقيدنا الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي لأكثر من ثمان محاولات اغتيال في بلاد مختلفة، استطاع بنفسه وبمشاركة عدد من محبيه ومقلديه وبتوفيق من الباري عز وجل وإرادة منه إبطالها ورد كيدها، كما تعرض (قده) للدعاية والحرب برهة من الزمن، كما تعرض إلى محاربات متشددة ومتعددة من قبل قوى تلاقت مصالحها الاستعمارية والإقليمية على تحجيمه أو القضاء على نشاطاته في تأصيل الإسلام وتثبيت أسسه في المجتمع والدولة المشروعة حتى آخر أيامه. ويدوّن المرجع الفقيد آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (قده) في عشرين صفحة ضمها كتيب صغير بعنوان (مطاردة قرن ونصف)، بعض مجريات ومعاناة هذه المطاردة لعائلة الشيرازي منذ وفاة الميرزا الأول؛ ويذكر شيئاً عن أحوال المطاردة من بعد وفاة والده فيقول: (ومكثت بعد الوالد سنوات في كربلاء، حتى بدأت مطاردتنا؛ فاضطررنا للانتقال إلى الكويت، أما أخي السيد حسن (رحمه الله) فقد عذبوه أشد أنواع التعذيب في العراق، ثم انتقل الأخ بعد إطلاق سراحه إلى لبنان حيث اغتيل على أيدي المخابرات العراقية، ونقل جثمانه إلى مدينة قم المقدسة ودفن في حرم السيدة معصومة(ع). ثم أصبحت محاصراً في بيتي، وجرى عليّ ما جرى، فلو أردت أن أدوّن ما تلقيته من أذى، لما نقص عن كتاب من خمسمائة صفحة. ولم يكتفوا بي، بل وصل الأمر إلى اعتقال ابني السيد مرتضى والسيد مهدي واعتقال عدد من أقربائنا وأصهارنا وأصدقائنا وتشريد بعضهم، كما منعوا الكثير من العلماء والطلاب من حضور مجلس درسي وأجبروا العاملين في مؤسساتنا على تركها بعد أن صادروا الكثير منها، وطورد ولداي الآخران مما اضطر أحدهما إلى الهجرة.. لقد دفعت عائلتنا ومنذ قرن من الزمن ضريبة انتسابها للمجدد الشيرازي الكبير جد أبي، وانتسابها للميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين خال أبي، وضريبة ما ننشره من الكتب التوعوية والمؤسسات الخدماتية.. وقد لا ينفع الصراخ ولا النياحة، وإنما العمل وحده النافع، وبدونه قد تدوم المحنة إلى قرن آخر والعياذ بالله).. إن دعوة المرجع الفقيد السيد الشيرازي لتكثيف العمل من بعد ذكر القليل مما عانته عائلة الشيرازي، هي إشارة واضحة على أن قوى الدولة الاستعمارية الحديثة مع ما قدمته من تطور وتحول حضاري سريع ربما انسجم مع واقع الحال الغربي، إلا أنها لم تستطع التكيف مع الدور التجديدي للمرجعية الدينية ومقاصده وما يرمي إليه، لكون هذا البديل الحضاري بما يقدمه من علوم دينية رفيعة وفكر عصري نظري وتجريبي حضاري بطيء في نموه وتطوره لثقل التوتر وعدم الاستقرار المختلق في أوساطه، لن يبقي باقية للدولة الاستعمارية الحديثة التي ظن الكثير منا أن قيامها وتطورها وتحولها جاء وفق نسق علمي حضاري سليم. هذه الدعوة هي ومضة نور أوحت إلى أن الدولة الاستعمارية الحديثة تستهدف أولاً في منهجها السياسي والأمني تقويض الحوزة العلمية ومراجعها وعلمائها وتيارها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، وأن حرب الشائعات والاغتيالات والضغوط النفسية لا يراد بها إلا صرف المرجعية الدينية وحوزتها عن أداء دورها ومسؤولياتها التي تخطت بها كل العقبات والمحن في زمن قياسي نسبة لحجم المؤامرات المنظمة التي اعترضت طريقها في هذا الزمن. لذلك يؤكد المرجع الفقيد على العمل الدائب عوضاً عن النياحة والصراخ والبكاء ورثاء الذات، لأن الجمود والتقوقع على الذات هو مراد تلك الحرب ومقصدها، وعوضاً عن تفرغ الحوزات الموضوعي نسبة للتغيير الذاتي المفترض شموليته للقواعد المرجعية القيادية وبنيتها التحتية. وقد ظلت الحوزة إلى جانب المجتمع تحت قيد إطار قيادي أحادي الجانب فاقد القدرة على ضم المرجعية في شكل مؤسسي فاعل موحد ومتعدد المدارس الفقهية والاجتهادية، مما أنتج شكلاً اجتماعياً غير مأمون الجوانب والجهات أمام الأخطار المحدقة، القادمة من أشكال مؤسسية سياسية واقتصادية وثقافية متطورة علمياً وتكنولوجياً، فلسفياً وتجريبياً، استطاعت تكريس نظام سياسي معقد ومحاط بثقافة عالمية هائلة الإمكانات، ومرن في جهة التطور والتحول في نظمه وأدواته. |
شورى الفقهاء.. والمؤسسة المرجعية |
ويسجل للفقيد المرجع آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي(قده) أنه أول من أعطى لضرورة تحديث وتجديد النظام الذاتي للمرجعية رعاية واهتمام إلى جانب رعايته واهتمامه بضرورات وحاجات المجتمع العصري، فأسس قبل أربعة عقود لنظرية (شورى الفقهاء) بعد رجوعه إلى أصلها الشرعي؛ حيث استند في ذلك إلى الكتاب الحكيم والسنة المطهرة والعقل، وكان مبحث الفقهاء في هذه النظرية الخاصة من بعد تأسيس المرجع الفقيد لها، موضع إثارة وجدل واجتهاد وإعمال للعقل والفكر كبير، ابتدأت بواقع صلاحيات الفقيه المرجع وفقاً للآية الشريفة:(وأمرهم شورى بينهم) المستند إليها في هذه النظرية، فهي ما بين الاستحباب في أمر الشورى والوجوب فيها، وبين خصوصيتها للنبي(ص) في زمانه أو إطلاقها للأزمان وفقهاء العصر عامة، وبين موضعها في شأن الحرب أو السلم أو في كلا الشأنين. وفي جانب السنة المطهرة كان الجدل وإعمال الاجتهاد منصباً حول انطباق التوقيع الشريف للإمام المهدي بن الحسن العسكري المنتظر(عج): (...وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) على مسألة الشورى، وإطلاقها على الأزمان وخروجها عن علامات الظهور فقط، وشمولها لكل الوقائع وعمومها، والرجوع فيها إلى الموجودين والمعدودين في شؤون الأمة والدولة، والرجوع إلى الأكثرية من الفقهاء، وتحكيمها مع التعليل لوجوب الرجوع إلى الأكثرية لحجيتها من حجية قول المعصوم(ع). يضاف إلى ذلك، الاستناد على العقل في تثبيت هذه النظرية بقاعدتين عقليتين، هما: (قاعدة وجوب دفع الضرر بالرجوع إلى القرار الجماعي) الذي يجنب الأمة النسبة العليا من الخطأ في دفع الضرر، والقاعدة المنطقية والأصولية الثانية (قاعدة السبر والتقسيم)، حيث اختلاف المراجع من حيث القوة والضعف والانتشار والعدد، وانعكاس آثار الوقائع سلباً أو إيجاباً على عامة الناس لتداخل الأثر على المقلدين كافة دون مقلدين خاصة، فيما لو كان قرار المرجع الواحد أو المجموع متخذاً في أية واقعة، كالحرب مثلاً. فليس هناك مقلدين لمرجع واحد هم المتضررون في حال اتخاذ قرار بها. وهذا يتطلب كله اتفاقاً مرجعياً لاتخاذ القرارات وإلزام المكلفين عامة بها. وبهذه النظرية العملاقة، استطاع المرجع الفقيد أن يحيط مشروعه الحضاري بكل جديد في شأن الأمة ومراجعها، وأعطى للقيادة والقاعدة نصيباً متعادلاً من الفكر والعلم. وتعتبر نظرية شورى الفقهاء أعظم نظرية ولّدها الاجتهاد في عالمنا الإسلامي المعاصر، وهي بحاجة إلى الكثير من الجهد والوقت حتى توفق أمتنا في إخراج هذه النظرية إلى الواقع الفعلي الذي تميز بأثر فاعل وسريع للعلوم الدينية والإنسانية والطبيعية، وتحول حركتها إلى العالمية بدلاً من القطرية أو الإقليمية. والى جانب الدور المنوط بأمتنا من بعد نهضتها وبلوغها مبلغ البناء، تقع على مراجعنا الكرام مسؤولية بناء الكيان المرجعي على أساس الوحدة والتنسيق والقيادة الموحدة، وبذلك تقل مخاطر عدم الاستقرار المرجعي الناجم عن مطاردات الدولة للثورة العلمية والفقهية المرجعية. فالدولة الحديثة الاستعمارية في طريقها إلى الاندماج في وحدات إقليمية دولية؛ ويعد ذلك سلوكاً حضارياً في المفاهيم المثالية، لكنه من جهة أخرى سيعزز من تأثير الدولة السلبي على المرجعية الدينية ومجتمعها، لأنها دولة لا تنفك عن ثأرها من الزعامة الدينية لصالح أحقادها وصراعها التاريخي، فما تركه المجددان الميرزا الأول والثاني(قدس سرهما) من أثر في نهوض الأمة، فضلاً عما تركه المرجع الفقيد آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي(قده) في ضمير ووعي الأمة ونظامها المؤسسي الديني، هو تراث غني جداً في النضال والفكر، لكنه بقى موضع رصد من قبل الدولة الاستعمارية منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، وذلك يتطلب من مؤسسات المجتمع وفئاته التمسك بهذا التراث وتسجيل حضورها في ساحة التحول والتطور العلمي والتكنولوجي، وإخراج هذا التراث إلى الواقع بحركة سلمية متعددة الأحزاب، تقودها قيادة مرجعية مؤلفة من شورى الفقهاء. |