شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان

إتصلـوا بنـا

الأعداد السابقة

العــدد  64

الصفحة الرئيسية

 

أحمد البدوي

منذ أن وعت الفلسفة نفسها كممثل للوعي الإنساني في بدء تطوره – كاستجابة للمفاهيم وإشكالياتها التي تحيط بالإنسان أو تعترضه في مسارات وجوده، حينما انتظم مع وجود جماعي – وجدت أن الأس المركزي لوجوده يتمثل بالبعد القيمي؛ لذا كان هذا البعد العنصر الأهم في المباحث الثلاثة التي ترتكز عليها الفلسفة، وتتفرع عنها باقي العلوم، وهي:

1- مبحث الوجود (الانطولوجيا).

2- مبحث القيم (الاكيولوجيا).

3- مبحث المعرفة (الأبستمولوجيا).

إذ إن مبحث المعرفة هو وجه آلي لمبحث القيم والوجود، والأخير (الوجود) كمبحث يأخذ غايته عن مبحث القيم.

ضمَّ مبحث القيم، الثلاثية المعروفة (الحق، الخير، الجمال) ومع أن الفلاسفة جعلوا علم الأخلاق هو الذي يتناول عنصر (الخير) من الثلاثية، إلا أن الأصح أن العناصر الثلاثة تنضوي جميعها بنحو أو بآخر، تحت علم الأخلاق، لا سيما أن الدراسات الحديثة، غالباً ما كان اصطلاح الأخلاق – كما في علم الاجتماع الحضاري – يُراد به البعد القيمي.

واستمر الإنسان في تعقله وتفلسفه مذ ذاك التاريخ، حتى صار إلى تشكيل هذا التراث البشري الهائل الذي وصلنا في مسألة الأخلاق، مع التشرذم الذي لاح هذه المباحث حتى وصل حد التناقض أحياناً، في مسألة ضرورتها، حتى بلغ حدَّ رفضها، وجعلها مانعاً عن الرقي الحضاري، سيما مع الأطروحات التي تؤسس للمجتمع المدني الحديث، والمشكلة أن ذلك يتم تحت شعار التقدم، وبالتاكيد هذا ما كان مع الايديولوجيات الهدامة في القرن العشرين وما قبله بعقود، كما هو معروف مع معظم الأيديولوجيات الليبرالية، وخصوصاً الاتجاه الوجودي والبراجماتي منها.

وللأسف لم يصغ الغرب للتحذيرات التي وجهت إليه من حتمية الانهيار لهذه الحضارة، سواء ممن يعيشون دوامة معمعتها، أو ممن ينتسبون إلى هويات جغرافية أو أيديولوجية أخرى، ولا يهم ما طرح مع الأيديولوجيات الشرقية تجاه الغرب، بقدر أهمية ما طرح وسطهم.. حيث الشاهد كان من أهلها، فهناك صيحات كبرى في هذا الإطار، منها (أفول الغرب) أو (سقوط الحضارة الغربية) حسب الترجمة للألماني شبلنجر، وما وظَّفه الإيطالي جورجيو في الأدب السياسي ضمن رواية (الساعة الخامسة والعشرون) والتي تدل على أن الغرب يعيش في الوقت الضائع من الإنقاذ، فلا مناص من الكارثة والانهيار، ومقولات عدة، لبرناردشو، وآرنولد توينبي، وغوستاف لوبون، وغيرهم، بل المسألة وُعيت منذ جذورها (بداية النهضة الصناعية والتقدم التكنولوجي) حينما وعى ذلك جان جاك روسو(*).

كما أن أغلب الانثربولوجيات، والتاريخيات، والمباحث النفسية، والاجتماعية تؤكد أسية الأخلاق في البناء الاجتماعي، فالحضاري؛ فهناك ما يسمى اصطلاحاً بـ (شبكة العلاقات الاجتماعية) يقيم عليها أصحاب فلسفة التغير الحضاري صيرورة المجتمع والتاريخ – تقدماً تكاملياً – على (الانسجام) والاتزان الذي يلوح هذه الشبكة، بحيث تمتلك إيقاعاً واحداً، وتكافؤاً دورياً متبادلاً، ولن يتم ذلك، إلا بحركة الفرد فيه، ضمن علاقته بالآخر- سواء كان الآخر فرداً أو جماعة – على الأساس القيمي وجوهره الثابت، ومع الأداء المتبادل بهذه القيم بين الأفراد، يتولد ذلك الاتزان، والانسجام بحيث تكون الصيرورة في أقصى ديناميتها في التحول نحو الماهية الأرقى للمجموع.

كما أن الأديان تأسست على البعد القيمي، لذا تعتبر منظومة تغيير تبحث عما يجب أن يكون، قبل أن تكون منظومة تفسير وكشف (فيما هو كائن) فقط.

وهذا ما نجده بالذات مع الدين الإسلامي، إذ مثلت الأخلاق المرتكز الأيديولوجي للجهاز المفاهيمي له، فمعظم المنظومة التشريعية للرسالة، التي توجه الفعل الإنساني تنصبّ على ذلك البعد.

وهذا ما نريد أن نمر عليه في المنظومة الإسلامية، بأخذنا أطروحات واجتهادات الإمام السيد محمد مهدي الشيرازي في هذا الوقت، حيث يرى أن (جوهر الحضارات الأخلاق، فإن كانت الأخلاق خيرة كانت الحضارة خيّرة والتفّ الناس حولها، وإن كانت الأخلاق سيئة كانت الحضارة سيئة وانفض الناس عنها، وليس الأمر بالادعاء وإنما بالواقع، فالحبة الواقعية هي التي تنبت، والفسيلة الواقعية هي التي تورق وتزهر وتثمر، والبيضة الواقعية هي التي تفقس عن جنين، أما إذا كانت تلك صورية وخيالية فإن نصيبها الفشل والفضيحة) (1)، وهذا هو ما كان مع كثير من الحضارات، إذ لم تكن واقعية، وإنما شكل من أشكال العمران، ولكن عن خواء قيمي، إذ لا تمكث كثيراً حتى تجد نفسها وتاريخها وعمرانها، قد أصبح من خوالي الدهر.

لذا كان أهم ما يلزم عند الإمام الشيرازي في إنهاض المسلمين هو انبعاث الأخلاق من جديد في البلاد الإسلامية(2)، كما أن القائمين بهذا الدور في التيار الإسلامي، إذا لم يتحلَّوا بمكارم الأخلاق فإنهم لا يتمكنون من تحريك الناس إلى المكارم، وأخيراً يكون نصيبهم الفشل(3)، وسبب ذلك يعود إلى مسألة (التأسي من الناس للقدوة ونظرتهم له كدين بلحم ودم) وهو ما يعود على الدين سلباً، وبالتالي انفضاض الناس، وتبنيهم أيديولوجيات أخرى، تجد فيها شكلاً من أشكال الواقعية، وإن كان عليها ما عليها، إذ طالما تلبس الباطل بالحق.

إن الحديث عن المدينة الفاضلة مسألة تاريخية ذات مسار طويل في الفكر البشري سيما في جهة الاجتماع السياسي منه، والإسلام يقيم تلك المدينة، ويجعل أسسها تتمحور حول الأخلاق الفاضلة، حيث هي التي تفضي إلى المدينة الفاضلة، فـ (المجتمع الإسلامي مجتمع فاضل، وللمسلمين أخلاق فاضلة في كل أبعاد الحياة، في بيعهم وشرائهم ورهنهم وإجارتهم وسفرهم وإقامتهم وضيافتهم ومعاشرتهم.. إلى غير ذلك.

إذ المجتمع المتميز بتلك المميزات دائماً في راحة تامة، لأن سوء الأخلاق يضغط على الروح، بينما ضعف المادة يضغط على الجسد، والضغط على الروح أسوأ الضغطين) (4).

وليؤصل ذلك يتناول الإمام الشيرازي جذور هذا الأفق في الأدبيات الإسلامية (مطلق النصوص)، فالنص المشهور للرسول(ص): (إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق) يمثل دلالة مركزية لغاية الرسالة، أو لا أقل فإن كون الأخلاق بهذا السبك والبناء اللغوي.. أو التعبيري للحديث الشريف يجعل منها الركن، فالزاوية الأهم في الرسالة الإسلامية.

كما نجد كذلك مع نص للإمام الصادق (ع) – الآتي – آفاقاً توجَّه ماهية المسلم الحقيقي، محصورة بالبعد القيمي الأخلاقي، من جهة انسجام الفرد مع ذاته ومع مجتمعه، سيما أن صفات الذات تنتهي في أثرها إلى مسألة (الانسجام والتوازن) المراد إحداثه في ما أسلفناه من مصطلح (شبكة العلاقات الاجتماعية).

يقول الإمام (ع) ما نصه: (إنا لنحبّ من شيعتنا من كان عاقلاً فهماً فقيهاً حليما مدارياً صبوراً صدوقاً وفياً (...) إن الله تبارك وتعالى خص الأنبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد الله على ذلك، ومن لم تكن فيه فليتضرع إلى الله وليسأله.. فُسئل: وما هي، قال (ع): (الورع والقناعة والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء والشجاعة والغيرة والبر وصدق الحديث وأداء الأمانة)، ويلاحظ في النص بوضوح، أن الله تعالى أعطى الأولوية في انتخاب الأنبياء، لخصلة معينة تتمتع بها ذواتهم، وهي مكارم الأخلاق، ومع عودتنا إلى الوظيفة التي تناط بالأنبياء، والتي تتمركز في جهتين:

الأولى، إيصال أطروحة الهداية للمجتمع البشري، والثانية ممارسة تلك الأطروحة، بحيث تغدو مع الممارسة التي يعرضها الرسول (ص)، في وجوده التاريخي، أثقل أثراً، فالقرآن صامت، بينما الرسول (ص) وحواريه قرآن ناطق، فنجد لازم ذلك أن مكارم الأخلاق هي المناط الأهم للبناء الحضاري للمجتمع الإنساني.

وما نجده أيضاً في نص للإمام الصادق (ع) يذكره الإمام الشيرازي، يوجَّه حيثية التأطر بالإسلام، والجهة التي يمكن للذات أن تحمل به الإسلام، فكانت مسألة الأخلاق، يقول(ع): (إن الله عز وجل ارتضى لكم الإسلام ديناً فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق).

كما أن هناك روايات كثيرة، تتناول الأخلاق – بعيداً عن مسألتها الدينية في الثواب والعقاب – من جهة أثرها في الواقع الخارجي، أي موضوعية المفهوم، ووضعه في الخارج، سلباً وإيجاباً، إذ كل مفهوم تتناوله الرسالة الإسلامية، يؤخذ من شقين معرفيين، كآليتي معرفة إحداهما التاريخ ويشمل الواقع في كل أزمانه، والتوجيه الديني (سواء تُعقّل أم لم يتُعقَّل).

ومن هذه النصوص رواية الإمام الرضا (ع): (الخلق السيء يفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسلَ) أو ما ورد عن الإمام الصادق (ع): (لا سؤدد لسيء الخلق) وعنه(ع): (لو علم سيء الخلق أنَّه يعذِّب نفسه لتسمَّح في خلقه)

فمع النص الأول للإمام الرضا (ع) – لا جدوى للعمل ولا ثمار له، مع سوء الخلق، وهو أثر خارجي، ومع النص الثاني لا سيادة – المراد هنا المعنوية منها سواء أفرزت مادية أو لا – لسيئ الخلق وهو مدار واقعي، والنص الثالث أيضاً يشير لذلك بما يمكن لعالم النفس أن يجد كثيراً من الأمراض التي ترافق يسيء الخلق.

وهناك نص أيضاً لأمير المؤمنين الإمام علي (ع) حينما سُئِل عن أدوم الناس غمَّا، فقال: (أسوأهم خُلُقاً).

وله (ع) أحاديث كثيرة بهذا الشأن، منها (سوء الخلق يوحش النفس ويرفع الأُنس) - (سوء الخلق شؤم) - (سوء الخلق يوحش القريب وينفر البعيد) - (من ساء خُلُقه عذَّب نفسه).

وعلى اعتبار أن البعد الأخلاقي يبدأ فردياً ويتمركز – نهاية – جماعياً.. أي المسألة تنطلق من الفرد في وجوده وممارسته، ومن ثم يتشكل الانسجام والتوازن في منظومة العلاقات الاجتماعية تلقائياً. ركَّز الإمام الشيرازي على هذا البعد سيما في توجيهه المسألة وضرورتها أولوياً مع أفراد التيار الإسلامي، بما يشكلونه من قدوة في هذا المضمار- فارتأى أن أهم ما يلزم على هذا التيار اجتنابه هو الكذب والغرور والمادية وسبب ذلك يعود - باحتكامه إلى موضوعية الواقع من جهة الأثر والمؤثر – إلى أن هذه الرذائل تمنع من الوصول إلى الهدف، ولو فرض الوصول كان ذلك ادعى للسقوط العاجل، ولو فرض عدم السقوط العاجل فإن ذلك يسبب فضح بشاعة المغرور والكاذب والمادي، ولا أقل عدم المثالية – وهي البعد المطلوب مع أفراد هذا التيار.. إذ يمثلون المرجع والنموذج للقيم المثلى التي ينطلقون منها – فلا يلتف الناس حول التيار(5)، فلا ضمان ولا اطمئنان لمسار ذلك التيار ونهايته.

أما الكذب فلا يمُّر على ممارسه (زمان إلا ويظهر كذبه فينقلب إلى الضد، أي أنه يقول الكذب لتظهر نفسه بالمظهر اللائق (...) فلا يبقى له حتى بعد واقعه) (6)، ويعرض ذلك بصورة أوضح في تمثيل حسابي فيقول: (إن واقع من يقول الصدق مثلاً 80% ويكذب 20%، إذا ظهر للناس كذبه سقط عن واقعه الثمانين أيضاً) (7) ويركز الأمر بصورة أعمق، أي يحاول ترسيخ واقعية الحالة بدل أن يتوقف على شكلها النظري، فيذكر تلك الحكمة المؤطرة تراثيا في قصة (الراعي والذئب) و(الشاب والغرق) تلك القصتين المعروفتين، فإن كذبهما أودى بصدقهما أيضاً فلم يستجب ولم يصدق الناس أن الذئب هجم على غنمه، ولم يصدقوا الشاب السبَّاح في أنه يطلب النجدة حقَّا من الغرق(8).

وهناك (نص) يتناول هذه الحيثية بالذات، يروى النص عن أمير المؤمنين الإمام علي(ع) حيث قال: (ينبغي للرجل المسلم أن يجتنب مواخاة الكاذب، أنه يكذب حتى يجيء بالصدق، فلا يصدَّق)

رأى الإمام الشيرازي أن الكذب هو أب لمفاهيم خلقية سيئة أخرى، فالنفاق منه والخديعة وخلف العهد، فكلها أنواع من الكذب، ولهذا يمثل الكذب زاوية خطرة في الأخلاق السيئة.

أما الغرور، فأعطته المباحث التراثية للأخلاق مساحة كبرى في أروقتها، وقد يتناول علماء الأخلاق هذا المفهوم بعيداً عن فلسفة أثره، وقدرته الخارقة، إلا أن علماء الاجتماع التاريخانيين لاحظوا ذلك(**).

يعرِّف الإمام الشيرازي الغرور بأنه اشتباه الإنسان بأن يرى الواقع غير الحسن حسناً، مع الانخداع بذلك، سواء عمل حسب غروره أو لم يعمل(9)، وعلى أي حال، فما يؤول إليه الإنسان من احتضانه هذا المفهوم وممارسته أياه، هو أنه (الغرور) يوجب عدم وصول الإنسان، وإذا فرض وصوله، سبب الغرور سقوطه بعد ذلك، فمن اغترّ بماله أو جاهه أو عشيرته أو حزبه أو ما أشبه فسار طبق ذلك أخذه ذلك إلى الهاوية، وكذلك من يغترّ بصحته وقوته فلا يبالي، فإنه إذا تاجر بأموال كثيرة بزعم أن الربح كثير، غالباً ما يسقط ويخسر ويذهب ماله، بل ربما يسجن فوق ذلك، وهكذا(10).. ثم إن أغلب الأحزاب الخاسرة في الوصول إلى الحكم إنما كانت خسارتها بسبب غرورها، وهكذا رأى الإمام الشيرازي قضية سقوط العباسيين وغيرهم من الملوك، ويذكر على سبيل المثال – من جهة الغرور بالذات – قصَّة الأمين والمأمون، وأفعال المتوكل، وحال العثمانيين، كذلك ما كان مع شاه إيران، وظاهر شاه ملك الأفغان، وكذلك الملكيين والجمهوريين في العراق ومصر، في عهد فيصل وفاروق وناصر وقاسم وغيرهم(11).

ويورد الإمام هنا عدَّة كلمات للإمام أمير المؤمنين الإمام علي (ع)، تتناول جهات عدَّة للغرور منها: (غرور الأمل يفسد العمل).

وقوله (ع): (غرور الجاهل بمحالات الباطل).

وقوله (ع): (غرور الغنى يوجب الأشر).

وقوله (ع): (كفى بالاغترار جهلا).

وقوله (ع) - وهو أثقل دلالة في رجحان البعد السلبي للغرور على باقي المفاهيم الأخلاقية -: (أحمق الحَمَق الاغترار).

وقوله (ع): (لا يُلقى العاقل مغروراً).

وقوله (ع): (جماع الشر في الاغترار بالمهل).

كذلك هنالك منطقة خبيثة تلاحق الفرد في الوسط الاجتماعي، ويكون خطرها على أفراد التيار الإسلامي أو كل الذين يخوضون في مواضع نخبوية، أو شكل من أشكال السلطة، سواء سياسية أو اقتصادية أو دينية أو ثقافية، أكثر من غيرهم، هذه المنطقة، هي مفسدة المادية ودنيوية النظرة؛ لذا يجعل الإمام الشيرازي على التيار الإسلامي أن يربي أفراده على عدم المادية، أي على عدم الانسياق وراء المادة، فالفرد المادي، غير محبوب وسط الناس في معاملتهم إياه وإصغائهم له، بينما التيار الإسلامي بحاجة إلى كل ذرة وقطرة من المحبوبية، وبتجميع الذرات تكون الصحاري كما تكون البحار باجتماع القطرات(12)، لذا يجب أن يجتنب الفرد الداعية المظاهر البَّراقة مسكناً وملبساً ومركباً وغيرها؛ إذ المظاهر البراقة تنفر الناس عمن يرفعون الشعار المليء بالمبادئ البعيدة عن المادية، إذ المجتمع سيحاكم بكل عقلانية تلك الازدواجية فيقول: لو كان ما يدعو إليه صحيحاً، فلماذا لا يؤثر به؛ ولذا ورد التشديد في ذم الآمر بالمعروف التارك له، والناهي عن المنكر الفاعل له، وحتى إذا كان الفرد قبل انتمائه إلى التيار الإسلامي معتاداً على تلك المظاهر المادية في الترف والإسراف، فإن عليه أن يعتاد على مسار آخر بعد دخوله التيار(13)، وهنا يتناول الإمام مسألة (الانعطافة الأخلاقية) - عدمها وإمكانها- إذ يجدها مسألة لا تمثل إشكالية كبرى تقترب من الامتناع، ويتناول مصطلح أُعتمد كأساس للحلول المقَّدمة في علم النفس، حتى أُعتبرت من النظريات التي أخذت بعلم النفس التحليلي أشواطاً مهمة.. وهو مصطلح (الإيحاء الذاتي)، فيجد الإمام أن لإيحاء النفس تأثيراً بالغاً في تغيير العادات، ويؤيد مقولات الاختصاصيين في علم النفس بأن الإيحاء النفسي المستمر يمكن أن يجعل من الجبان شجاعاً والبخيل كريماً، والمحجم مقداماً، وسييء الملكات حسنها وغيرها(14).

وليؤصل لهذه الفكرة التي تناولتها العلوم الإنسانية، ومحاولة منه لأسلمتها، يجد في النصوص الإسلامية إشارات فاقعة لهذا البعد منها:

قول الإمام علي (ع) في وصيته إلى ابنه الإمام الحسن (ع): (عوّد نفسك التصبُّر على المكروه، ونعم الخلق التصبُّر في الحق).

وقوله (ع): (عوّد نفسك السماح وتجنب الإلحاح، يلزمك الصلاح)، إذ يلزم عن ذلك التعود تلقائياً، انسياقاً مع ما تُعود عليه.

وقوله (ع): (عوّد أذنك حسن الاستماع ولا تصغي إلى ما لا يزيدك في صلاحك استماعه، فإن ذلك يصدئ القلوب ويوجب المذام).

وقوله (ع): (أيها الناس تولوا من أنفسكم تأديبها واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها).

كما يجد الإمام الشيرازي من اللازم على الحركة الإسلامية أن تتخذ الرفق في قبال العنف، إذ يمثل الوجه الألمع لعلاقة الحركة مع باقي المؤسسات النافذة في المجتمع المدني كتيارات أُخرى، وهو (الرفق) أفضل وسيلة لتجميد الحركات المضادة(15)، كما أن من الضروري للتيار الإسلامي أن يحرَّض على إطفاء الحروب، فإذا وقعت حرب مثلاً بين الهند وباكستان، أو بين العراق وإيران، أو بين الروس والأفغان سواء كان الاعتداء من أحدهما أو كليهما، يبادر هؤلاء – منتسبوا التيار والحركة الإسلامية – من كل ناحية وصوب إلى محل الحرب، لإطفائها، ومن ناحية ثانية تنشط هذه الجماعات لتوعية الرأي العام في سبيل إطفاء الحرب، والغاية من كل ذلك تحرير البشر من الحروب المدَّمرة والوسائل المنتهية إليه(16).

عموماً ينتهي الإمام الشيرازي إلى أن الذي يتبنى طريق النجاة لنفسه وللناس عليه أن يتصف بالآداب (مجموعة القيم) في كل شيء، في العلم وفي البيان وفي المعاشرة سواء مع العائلة أو مع الغريب والقريب والصديق والعدو والجار(17). وفي كل خطوة من خطى حياته ومع كل جهة من الجهات التي تربطه بتلك الشبكة من العلاقات الاجتماعية.

الهوامش:

(*) حيث أن فوزه بالمسابقة التي أقامتها إحدى المؤسسات - والتي اعتبرت انعطافة قيمية في حياته - كان على أساس ارتكاز أطروحته المقدمة هناك في أن التقدم الصناعي في المجتمع الجديد، أفضى إلى انتكاسة إنسانية في القيم والأخلاق.

(**) وظف الكاتب الإسلامي المصري المعروف مصطفى محمود في روايته (الأسكندر الكبير) مفهوم الغرور توظيفاً رائعاً، إذ جعل الغرور الذي أصاب الاسكندر أيام مروره على مصر، واقتناعه أنه من أنصاف الآلهة ولن يعرف الهزيمة، جعله ينتهي إلى إنكسارات مع جنوده، قبل أن تكون مع أعدائه.

(1) الشيرازي، محمد الحسيني، طريق النجاة، دار الصادق، بيروت، ط1، 1419هـ - 1998، ص431.

(2) ن.م، ص430.

(3) ن.م، ص431.

(4) ن.م، ص466.

(5) ن.م، ص466.

(6) ن.م، ص466.

(7) ن.م، ص466.

(8) ن.م، ص466.

(9) ن.م، ص470.

(10) ن.م، ص471.

(11) ن.م، ص477.

(12) ن.م، ص477.

(13) ن.م، ص478.

(14) ن.م، ص478.

(15) ن.م، ص483.

(16) ن.م، ص484.

(17) ن.م، ص484.

أعلى الصفحة