جعفر العلوي

تعد حياة الإمام علي (ع) من أخصب موارد الفكر الإسلامي، وثروة عظيمة للعاملين الإسلاميين، وذلك لأهمية الفترة الاستراتيجية التي عاشها الإمام حيث عاصر عهد البعثة النبوية -مرحلة التأسيس- وبقي بعدها مدة ثلاثين سنة، وترك لنا تراثاً كبيراً من خطبه وكلماته ومواقفه الحكيمة وسيلاً من سلوكياته المناقبية. إلا أن الجانب السياسي في حياة الإمام علي بحاجة إلى المزيد من الدراسات الجادة والمتعمقة، واستخلاص القواعد الرئيسية التي ارتكز عليها الإمام في مواقفه وأطروحته السياسية.

إن نهج البلاغة يحتوي على مادة واسعة من خطب الإمام علي التي هي بحاجة إلى أن تسلط الأضواء عليها بنظرة بحثية ومن زاوية العلم السياسي.

كما أن المواقف الشهيرة التي وقفها الإمام علي في مجمل أدوار حياته تجاه الشخصيات المؤثرة في الساحة السياسية وكذا مواقفه تجاه الأحداث التي ألمت بالأمة، وبالأخص بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) بحاجة هي الأخرى إلى إعمال الفكر والبحث لاستخراج الاستراتيجية التي سار عليها الإمام.

إن الإمام علياً (ع) هو الرجل الثاني بعد الرسول الأعظم (ص) في تأسيس وبناء النهضة الإسلامية، ويختلف عن كل ما عداه من الصحابة بصوابية مواقفه وارتسامها على الجادة الشرعية(1) مما يجعل من حياته السياسية مخزوناً يمد الحركة الإسلامية والعاملين فيها بدروس لا غنى عنها، بل يجب أن تكون معالم تحدد لهم مناهج العمل الصحيح.

وحيث أن المدرسة الإمامية تتعامل مع أهل بيت العصمة من خلال كون كل تحركاتهم الحياتية حجة وميزاناً يوضح الصواب من الخطأ، ومرجعاً لا يمكن الحياد عنه؛ لذا تكون حياة الإمام علي السياسية مرجعية أساسية لاستخلاص الدروس والقواعد في العمل السياسي.

إننا نستطيع أن نقسم حياة الإمام علي السياسية إلى أربعة أدوار رئيسية في أربع مراحل وهي:

- الدور الأول.. كونه ثائراً ومؤسساً مع الرسول الأعظم (ص) للحركة الإسلامية المباركة في المرحلة المكية - أي المرحلة الثورية ضد النظام الجاهلي المسيطر بفكره واستبداده على الناس.

- الدور الثاني.. كونه وزيراً للقائد الأعلى - الرسول الأكرم (ص)- في السلم والحرب -مرحلة المشاركة في السلطة السياسية في المدينة المنورة -.

- الدور الثالث.. كونه معارضاً في زمن الخلفاء الثلاثة -مرحلة المعارضة-.

- الدور الرابع.. كونه حاكماً بعد الخليفة الثالث -مرحلة الحكم.

والملاحظ أن التركيز في حياة الإمام بحثاً، وكتابة، وتحليلاً، وخطابة؛ إنما هو في إطار المرحلة الثورية، ومرحلة المشاركة، ومرحلة الحكم، أما مرحلة المعارضة - التي استغرقت أكثر من ثلث حياته الشريفة - فقلما يتم التركيز والبحث عنها.

ولأهمية هذه المرحلة، دعونا نتعرف على سمات ومعالم معارضة الإمام علي (ع)، ففي هذه المعارضة النموذجية السلمية دروس قيمة مهمة لكل من أراد أن يتخذ دور المعارضة في ظل المجتمع الإسلامي.

 أولاً: هدفية المعارضة 

لقد كانت معارضة أمير المؤمنين (ع) إصلاحية في هدفها وليست انقلابية، فهي لأجل مصلحة الأمة، لا بحثاً عن ملك ودنيا، فالإمام كان يبحث عن إصلاح الأوضاع، ولم يسع إلى استلام الحكم كهدف لمعارضته.

يقول الإمام علي (ع): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك) (2).

لقد حدد الإمام (ع) من خلال هذا الدعاء هدفين رساليين لمعارضته وحركته السياسية:

- الهدف الأول (لنرد المعالم من دينك): وهو إرجاع معالم الدين بشكله العام لتكون هي الحاكمة والملحوظة في المجتمع الإسلامي، مع ملاحظة أن صلوات الجمعة والعبادات العامة كالحج والجهاد وغيرها كانت مقامة من قبل الذين كان يعارضهم الإمام، مما يدلنا على أن معالم الدين التي يقصدها الإمام هي الشاملة لكل مقتضيات الدين سياسياً وتربوياً واجتماعياً وسلوكياً واقتصادياً وما إلى ذلك.

- الهدف الثاني (نظهر الإصلاح في بلادك): وهو إظهار الإصلاح العام الذي يتعلق بمجمل وضع بلاد المسلمين سواء في الجانب التربوي الأخلاقي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو العمراني.

ومن ثم يعقب الإمام بأن تحقيق هذين الهدفين سيؤدي إلى نتيجتين طبيعيتين هما: أولاً- إنصاف المظلومين، وهي القضية الكبرى في الحياة، حيث أن المظلومين عنوان عام لكل من هضمت حقوقه المادية أو المعنوية. ثانياً: إقامة ما تعطل من الحدود والتي تمثل السياج الذي يحمي المجتمع الإسلامي من كل حالات التعدي والعدوان.

إن أية معارضة ينبغي أن ترتسم أهدافها بما طرحه الإمام من شعار وعنوان واسع لحركته السياسية. إن بعض الحركات الإسلامية نراها تستهدف إصلاح الوضع السياسي السييء الذي تعيشه بعض البلاد الإسلامية، من دون أن تهتم بإرجاع معالم الدين المضيعة، وقد تعتبرها هدفاً ثانوياً أو لاحقاً للهدف الأول، بينما نرى أن الإمام علياً اعتبر إرجاع معالم الدين هو المقدم في أهدافه، وكذا اعتبر إقامة الحدود الإسلامية على قائمة الأهداف التي ترجى بعد قيام الدولة الإسلامية.

إن العنونة بـ (الإسلامية) لأية حركة معارضة لا يعطيها الصفة الإسلامية حقاً إلا إذا استهدفت إقامة معالم الدين على أرض الواقع.

 ثانياً: مبدئية المعارضة 

إن أمير المؤمنين لم ينطلق في معارضته من خلال اجتهاداته الشخصية، بل من مرجعية مبدئية هي القرآن والسنة النبوية. فمتى ما وجدت فجوة بين النظرية الإسلامية من جهة والواقع الذي يديره الحاكم من جهة أخرى، كانت هنالك معارضة بمقدار تلك الفجوة، وكلما اتسع مقدار الفجوة ازدادت نسبة المعارضة.

وهذا ما نلاحظه في شدة معارضة الإمام علي للخليفة عثمان بعد اتساع الفجوة في عهده عمن سبقه، واتساعها بمقدار أعظم في عهد الطاغية يزيد مما استوجب من الإمام الحسين (ع) اتخاذ منهج المعارضة الثورية التي لا مجال للمساومة فيها.

لقد استندت معارضة الإمام علي لمن عاصرهم من الخلفاء على أساسين هما:

أولاً: إن موقع الخلافة وإمامة المسلمين قد أنيط به شخصياً بناء على النص النبوي الصريح في حادثة الغدير وغيرها، وقد أعلن الإمام علي ذلك بصراحة في العديد من أقواله وخطبه، منها ما أوضحه في بداية الخطبة الشقشقية(3).

وثانياً: عدم قدرة الآخرين علمياً وفقهياً وعملياً على القيام بمهمة قيادة الأمة بالنحو الذي يكون مكملاً لقيادة الرسول الأعظم (ص) وبما يحافظ على حيوية الأمة إيمانياً وحضارياً.

فقد بلغ الإمام علي (ع) من المستوى العلمي والقدرة الفكرية والمؤهلات التربوية العالية والتضحيات الجسيمة ما يؤهله لأن يكون هو القائد المكمّل لمسيرة التأسيس التي ابتدأها الرسول الأعظم (ص). إن عدم وجود الكفاءة العلمية لدى غيره، أدى إلى عدم سيرهم على أسس علمية صحيحة في مجال الحكم، كما أدى إلى وجود ممارسات حكمية غير صحيحة برزت في هضم حقوق بعض الناس.

ففي ما يتعلق بالأسس الصحيحة للحكم، نرى أن الإمام علياً في خطبته الشقشقية يعبر عن الجو العام لحكم غيره بـ (طخية (ظلمة) عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير) (4) وهي كناية واضحة عن حالة التخبط في السير بعيداً عن المنهج الرباني النير الذي ينبغي أن يثير أجواء الرقي والسلامة. ويسم فترة حكم أحدهم بأنها (حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض) (5). فقد اعتبر تلك الحكومة بمثابة الأرض الوعرة الخشنة الصعبة التضاريس، ولوعورتها يكثر السقوط والعثار فيها مما يتطلب كثرة الاعتذار.

ثم أوضح سلام الله عليه أثر ذلك على الناس، وهو ابتلاؤهم بأوضاع اتسمت (بخليط من الاضطراب، وعنه عبر الإمام بالخبط، وخليط من الصرامة، واليها أشار بالشماس، ومن التبدل من حال إلى حال وهو المراد من التلون، أما الاعتراض فالقصد منه عدم الاستقامة على حال) (6).

أما في ما يتعلق بهضم حقوق بعض الناس، فقد هب الإمام مدافعاً عن أي مظلوم ظلم بحكم قضائي أو أمر إداري خاطئ، فيروي لنا التاريخ كيف أن الإمام دافع عن العديد ممن حكموا بحكم قضائي خاطئ، حتى أن الخليفة عمر كثيراً ما يعقب على اكتشافه للخطأ بالقول (لولا علي لهلك عمر)، كما في دفاع الإمام عن أبي محجن حين أراد عمر جلده بأكثر من الحد الشرعي الخاص بشرب الخمر، بعد أن قال بيتاً من الشعر أوضح فيه رغبته الأكيدة بشرب الخمر(7)، فرفض الإمام استحقاق أبي محجن للزيادة في الجلد ويدافع الإمام عن حقوق المسلمين، ويطالب بوقف ما يتعرضون له من تعديات من قبل ولاة عثمان الأمويين، فيخاطب عثمان بعد أن يذكره بأحاديث رسول الله ويقول له: (ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم، والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك، فارجع إلى الله، فحتى متى والى متى) (8).

هكذا انطلق الإمام علي (ع) في اتخاذ معارضة تقوم على أسس مبدئية، من أبرزها شرعية الحكم، وأهلية الحاكم وممارساته، إن المعارضة السليمة هي تلك التي تتخذ من المبدأ منطلقاً لها، تسترشد به في معارضتها، فالأوضاع التي تخرج عن المبادئ الحقة هي الدائرة التي تعارضها، وتتحرك من أجل تغييرها، كيما يرجع الحق إلى نصابه، ولا تندفع في معارضة السلطة رغبة في المعارضة أو لإحراجها وتأليب الأوضاع عليها، كما نراه في بعض أجنحة المعارضة السياسية في الأنظمة الديمقراطية التي تنافس السلطة على كرسي الحكم ليس إلا.

 ثالثاً: علنية المعارضة 

كانت معارضة الإمام للخلفاء علنية واضحة، فهو يرى نفسه أحق بالخلافة وأجدر على القيام بمهماتها؛ فكان يجهر بمعارضته ويقول: (أنا خليفة رسول الله ووزيره ووارثه) (9) وحين احتجت قريش على الأنصار بأنها من شجرة رسول الله، قال كلمته الشهيرة: (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) (10). ويروى في ذلك أيضاً أنه سمع صارخاً ينادي (أنا مظلوم) فقال له (ع): (هلم فلنصرخ معاً، فإني ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (ص) ) (11)، وقول الإمام (ع): (فلنصرخ معاً) دلالة على صدعه وعلنيته بالمعارضة.

وكذا كان موقفه مع الخليفة عثمان عندما ازدادت النقمة الشعبية عليه، فأبدى موقفه المعارض لسيطرة رجال بني أمية على أركان الحكم وأموال المسلمين، كما أوضحناه في المعلم الثاني.

إن المعارضة الصادقة تصدع بكلمة الحق سواء أمام الحكام أو وراءهم، ولا تتحرك بنفاق مع الحكام، كما هو ديدن المتملقين الذين إذا كانوا مع الحكام أبدوا لهم التأييد، وقالوا: انا معكم، وإذا كانوا مع الناس أبدوا امتعاضهم من سياسات الحكام.

أما ما نراه من لجوء المعارضة الصالحة إلى حالة السرية في بعض الأزمنة، فإنما تفرضه ظروف القهر، فإذا زالت تلك الظروف، فالعلنية هي الطريق الأنفع والأصوب، وهذا ما نسترشده من المرحلة السرية عند بدء الدعوة النبوية حيث كانت الأجواء تتسم بالقهر في مواجهة المؤمنين، ولكن عندما صلب عود النهضة المحمدية جهر الرسول (ص) والمؤمنون من حوله بالرسالة معلنين معارضتهم للواقع الشركي والحياتي المعاش بصورة واضحة.

 رابعاً: سلمية المعارضة 

كانت معارضة الإمام (ع) سلمية بعيدة عن البطش والتخريب والعنف، بل كان يتحرك في معارضته بالمنطق والكلمة الحقة؛ ذلك لأن الكلمة الحقة أقوى من أي سلاح فهي تخاطب العقل والضمير، أما التخريب والعنف وخلق الأجواء الضاغطة فهو إرهاب من أية جهة قامت به؛ لذا نرى أن أمير المؤمنين لم يرفع سيفه على أحد رغم قدرته على التحرك المسلح، وحين لجأ المعارضون للخليفة عثمان إلى استخدام وسائل القوة، لم ينضم إليهم بل دافع عن حياة الخليفة، لأنه يؤمن بالمعارضة السلمية، على الرغم من اختلافه الشديد مع الخليفة وتحذيره له من مغبة سياساته.

إن أية معارضة تلجأ إلى استخدام العنف غير المبرر والتهديد باستخدام القوة مع المنافسين لها وخلق أجواء الإكراه المعنوي أو المادي على الناس فإن مآلها إلى الفشل، ولذا نجحت معارضة الإمام علي القائمة على السلم وتوجهت الجماهير المسلمة نحو مبايعته ورفضت مبايعة طلحة رغم التأييد القوي له من بعض القوى، لأن معارضة الأخير كانت قائمة على العنف.

 خامساً: إيجابية المعارضة 

المعارضة في مدرسة أهل البيت(ع) على نوعين: معارضة تتسم بالثورة على النظام الحاكم بالجور والمعلن للفسق والقامع للحريات والناهب لأموال الناس، كتلك التي اختطها سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) ضد يزيد؛ فالثورة -هنا- حالة استثنائية تأتي كردة فعل طبيعية في وقتها لمواجهة القهر والظلم الذي لا يطاق، وهناك معارضة إيجابية في تعاطيها وتعاملها مع الحاكم، كتلك التي اتخذها الإمام علي (ع) مع الخلفاء الثلاثة، الذين كان عهدهم يتسم بوجود مساحة لا بأس بها من الحرية والقدرة على إبداء الرأي، ففي عهودهم كان الإمام يختلط بهم وينصحهم، ولم يكن يتجنبهم ويتركهم، بل كان يتدخل لمصلحة الأمة، ولم يكن من أصحاب الرأي القائل: (دع الحاكم وشأنه لتزداد أخطاؤه فتكثر النقمة عليه)، فنراه (ع) يتدخل لنصح هذا الحاكم أو ذاك، ويشير عليه بالرأي الحسن كما أشار مراراً على الخليفة عمر في القضايا التي تتعلق بشؤون الأمة والناس، من ذلك ما أشار إليه الإمام (ع) في عهد عمر، حينما أراد عمر الخروج إلى قتال الروم وقيادة جيوش المسلمين، فنهاه الإمام عن ذلك وقال له: (إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب (تخسر المعركة) ولا تكن للمسلمين كانفة (كنف) دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مِحْرَباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة) (12)، فولى عمر أبا عبيدة على الجيش) (13).

كما يحدثنا التاريخ أن الإمام كان يتدخل لنصرة أي مظلوم أو أي شخص حكم عليه عن طريق الخطأ أو لعدم تشخيص الحاكم للحكم الصحيح، والحوادث التي يذكرها التاريخ كثيرة في هذا المجال. جاء في كتاب المناقب: جيء بامرأة قد ولدت لستة شهور إلى الخليفة عثمان فهمّ برجمها، فقال الإمام علي مخاطباً عثمان: (إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إن الله تعالى يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ثم قال سبحانه: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فحولان مدة الرضاعة، ستة أشهر مدة الحمل، فقال عثمان: ردوها) (14).

هكذا تعمل المعارضة الصالحة في إبداء المشورة والتصحيح إن هي وجدت أجواء الحرية مكفولة من الحاكم؛ فليست المعارضة مقصورة على مواجهة الحاكم ومقاطعته والنيل منه فقط، بل تتخير ما هو الأفضل والأصلح وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة.

إن مما ينبغي الانتباه له، هو أن المعارضة الصالحة في الوقت الذي تبدي الرأي وتصحح مسيرة النظام وتقدم الحلول العملية، ينبغي أن لا تتحول إلى آلة يسخرها النظام لتمرير خططه أو بعض مشاريعه غير السليمة أو بوق ينفخ في مدح السلطة، إن من المهم أن تبقى المعارضة في وضعية يشخصها الجميع باستقلاليتها وتجردها عن السلطة، وعدم إسباغها الشرعية على النظام الذي لا يتمتع بها.

 سادساً: أخلاقية المعارضة 

المعارضة الصادقة هي التي تتسم بالأخلاق في تصرف قيادتها وأفرادها، فإذا كان مبرر المعارضة هو وجود حالة الظلم، فلا يجوز أن تمارس هي الأخرى الظلم بأي شكل من الأشكال وبحق أي فرد أو أية جهة أخرى منافسة لها، (إن الأخلاقية، هي التي تعطي للمعارضة مشروعيتها الحقيقية، وهي التي تميزها عن الأوضاع القائمة، وأي تجاهل لها يسلب المعارضة مشروعيتها، ومن ثم يبتعد الناس عنها، إن عليها أن تلتزم بالأخلاق، مهما كانت الظروف والأسباب التي قد تدعوها إلى خلاف ذلك، لكي تكون البديل الحضاري حقاً، ولا تكون معارضتها ضمن إطار الصراع على السلطة) (15).

يحدثنا التاريخ أن الإمام علياً كان يستخدم أعلى درجات الخلق الحسن مع معارضيه، وليست تلك الأخلاقية مقصورة على مرحلة المعارضة، بل حتى وهو في زمن الحكم والقوة الظاهرية؛ فهذا خارجي يقول أمام جمع من الناس قاصداً أمير المؤمنين بأنه (قاتله الله كافراً ما أفقهه) حتى أراد أصحاب الإمام قتله فنهاهم، وقال كلمته الحكيمة المتسامحة (رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب) (16). وحتى معاوية وأهل الشام الذين خرجوا لقتاله لم يكن الإمام ليرضى بسبهم، وقال مخاطباً أصحابه (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين) (17). يروى في البحار أن علياً لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: (هم إخواننا بغوا علينا)، فعلى الرغم من كونه الخليفة الشرعي والإمام المعصوم إلا أن ذلك لا يبرر له أن يخرج عن التعامل الأخلاقي الرفيع مع أعدائه.

هذه أخلاقيات أمير المؤمنين (ع) في التعامل مع معارضيه؛ لذا فليس من الصحيح لأية معارضة مسلمة تقتدي وتتوجه بمنهج الإمام علي، أن تحارب غيرها بمجرد الاختلاف في المنهج والأسلوب والشعائر، فتكيل لها التهم وتحاربها وتخرجها من الدين، على قضايا جزئية وفي كثير من الأحيان صغيرة وهامشية. إن ذلك خلاف الدين والمبادئ الخلقية، (فمن الضوابط الشرعية عدم جواز استخدام الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور والبهتان ضد المخالف لك في المنهج أو الموقف السياسي، أو الرأي العلمي والفقهي) (18)، يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم). إن الخطاب موجه لعموم المؤمنين بأن لا يلجأوا لأسلوب السخرية من بعضهم البعض، فلعل الذين يسخرون منهم هم أفضل عند الله تعالى. وتتابع سورة الحجرات في إبراز الموقف الأخلاقي من بعضنا البعض، بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله، إن الله تواب رحيم) فالمؤمنون سواء كانوا في صف المعارضة أو الحكم، لا يسوغ لهم أن يظنوا ويفسروا مواقف إخوانهم المؤمنين بسوء، فلعل لهم عذراً مقبولاً عند الله، كما أن حالة التجسس والغيبة بين صفوف المؤمنين محرمة، ولا يجوز تبريرها بأي شكل من الأشكال. إن من يلجأ إلى تلك السبل الخاطئة بحاجة ماسة إلى توبة عما سبق وتقوى في تعامله، فختمت الآية بقوله تعالى: (واتقوا الله، إن الله تواب رحيم).

 سابعاً: الإيمان بالتعددية 

التعددية هي سنة الله في خلقه؛ فما من جنس واحد إلا وهو متعدد في أصنافه وأشكاله وصفاته، وكذلك البشر مختلفون في فكرهم وثقافاتهم ولغاتهم ونمط تفكيرهم، فليس من الصحيح أن يصطبغوا بصبغة واحدة باسم الوحدة، فهذا مفهوم خاطئ للوحدة. إنما الوحدة في الرجوع إلى القرآن وقيادة المعصومين، أما الأساليب والأشكال والتوجهات فمن المحال دمجها جميعاً في قالب واحد وتحت مظلة واحدة.

إن القبول بالرأي الآخر، والتنوع في الأساليب هو من سمات مدرسة أهل البيت(ع)، يحدثنا التاريخ أن أبا ذر، وهو من خواص مدرسة أمير المؤمنين، تتسم معارضته بالشدة في مواجهة الحكام، وبكشف التلاعب في أموال المسلمين، ومحاربة الترف المادي عند الولاة، وأن محمداً بن أبي بكر وجمعاً من الشباب المؤمن ممن يوالي أمير المؤمنين(ع)، تتسم معارضتهم بالتحرك الفعال والنشط في جمع الحشود وغير ذلك، وكانت هناك معارضة أخرى ضد عثمان تقودها عائشة وبعض الصحابة. وللإمام علي(ع) معارضته الخاصة ضد عثمان، تتسم بالحكمة والتعقل والإصلاح، إلا أنه لم يمنع غيره من صحابته ومريديه من اتخاذ أشكال أخرى في المعارضة، بل إن الإمام علياً (ع) في زمن حكمه آمن بوجود تعددية سياسية ولم يجبر أحداً على السير بطريقته أو على مبايعته؛ فكان هنالك فريق من الصحابة لم يبايع الإمام علياً(ع)، كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، فتركهم ولم يعترض لهم بسوء، وكان هنالك الخوارج الذين كانوا يوجهون أشد التهم والسباب لأمير المؤمنين(ع)، ويعملون ضده كحزب منظم، ويحرضون الناس عليه، إلا أنه لم يكن يواجههم ويصادر حريتهم في معارضته، وهو المعصوم، بل أعطاهم ثلاثة حقوق قبل أن يخرجوا لقتاله، فقال(ع):(19) (إن لكم علينا أن لا نبدأكم بقتال (أي لكم حق العمل المعارض ما دمتم لا تبدأون بالقتال) وأن لا نقطع عنكم الفيء (أي إن نصيبهم من المال العام كنصيب غيرهم) وأن لا نمنعكم مساجد الله (أي حق التجمع والاجتماع مع الناس) )، وإنما قاتل الإمام علي (ع) أولئك الذين خرجوا بالسيف وقتلوا العباد وأفسدوا في الأرض.

 ثامناً: صبر المعارضة 

مفهوم الصبر لدى أهل البيت(ع) هو عبر اتخاذ الموقف الرسالي السليم ومن ثم الصبر على تبعاته، فقد يكون الموقف هو التحرك والنهوض، ومن ثم تحمل تبعات ذلك النهوض، كما فعل سيد الشهداء (ع) حين ثار على الطاغية يزيد، وتجرع وأهله العظام رزايا الصبر والبلاء، وقد يكون الموقف هو التأني والحلم وعدم القيام بأي شيء، رغم أن الموقف النفسي قد يكون ضاغطاً باتجاه التحرك، إلا أن وجود مصلحة أهم يتطلب مراعاتها وتحققها بعدم وجود التحرك، وهذا ما كان من فعل الإمام علي (ع) حين سلب حقه في الخلافة، وتم إقصاؤه عن الموقع الشرعي المسنود له من لدن الله عز وجل ورسوله الكريم(ص).

يعبّر الإمام عن اتخاذه لهذا الموقف الصابر بالآتي (وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء (مقطوعة) أو أصبر على طخية عمياء.. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً) ثم يقول في ذات (الخطبة الشقشقية) (20): (فصبرت على طول المدة وشدة المحنة).

لقد وازن الإمام علي (ع) بين أمرين، هما التحرك دون وجود الناصر الكافي، والصبر رغم الأزمات التي ستلحق بالأمة، فرجح جانب الصبر؛ لأن مصلحة الدين كانت تقتضي ذلك، حيث الإسلام لا زال طرياً، وأي تحرك لا يثمر رجوع الحق إلى نصابه لن يؤدي إلا إلى مزيد من تفتت الأمة وضعفها، وقدرة أعداء الإسلام المتربصين على الانقضاض على الدولة الفتية.

إن هذه المواقف الرسالية توضح لنا ضرورة الموازنة بين الخيارات المطروحة وعدم الاستعجال بتبني أي خيار إلا بعد معرفة الحكمة والمصلحة فيه. إن ضغط القاعدة أو التأثر بالأجواء النفسية والمحيطة ينبغي أن لا يخرج أي قيادة مؤمنة عن سبيل التروي والتشاور للخروج بالموقف السليم تجاه أية أزمة تحدث، فلا يجوز الخروج عن الرؤية الاستراتيجية والخيار السليم لوجود حادثة أو أزمات عابرة. إن الوصول إلى الأهداف يتطلب صبراً على السبيل السليم، وهذا ما يرشدنا إليه الإمام علي (ع) بقوله: (لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان) (21).

 الخلاصة: 

لقد كانت معالم المعارضة عند الإمام علي (ع) تتسم: أولاً بالإصلاح كهدف، وثانياً بالمبدئية في المنهج، وثالثاً بالعلنية في التحرك، ورابعاً بالسلم كطريق، وخامساً بالإيجابية في التعاطي مع الحكام، وسادساً بالأخلاقية وحسن التعامل مع الأعداء والمنافسين، وسابعاً بالإيمان بالتعددية السياسية، وثامناً بالصبر الطويل لتحقيق الأهداف.

وبمثل هذه المعارضة الرسالية النقية الخالصة لوجه الله، والقائمة على العلم والمبادئ والتفكر والتضحية، والباحثة عن خلاص الناس، استطاع الإمام علي (ع) أن يستحوذ على قلوب الناس فنادوا به حاكماً وأميراً عليهم، فبرز سلام الله عليه كأعظم معارض وأعظم خليفة لرسول الله (ص). إن المعارضة الرسالية في أي زمن أو بلد ينبغي أن تستفيد من المعالم والدروس العالية التي اختطها الإمام علي (ع)، وتضعها نصب عينيها.

الهـــوامـــش:

(1) لقول الرسول الأعظم (ص): (علي مع الحق والحق مع علي - علي مع القرآن والقرآن مع علي- اللهم أدر الحق معه حيث دار)، وقد ذكرنا العديد من مصادر هذه الأحاديث من كتب أهل السنة الرئيسية في كتابنا (حين تتحدث الحقائق عن الإمام علي(ع)) طبعة دار الهادي - بيروت.

(2) تذكرة الخواص: ص120.

(3) نهج البلاغة: الخطبة الثالثة.

(4) نفس المصدر السابق.

(5) نفس المصدر السابق.

(6) في ظلال نهج البلاغة: الشيخ محمد جواد مغنية، ج1 ص89.

(7) أخلاقيات أمير المؤمنين: السيد هادي المدرسي، ص234.

(8) علي إمام المتقين للشرقاوي: ج1 ص151.

(9) بحار الأنوار: ج39 ص335.

(10) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص4 باب 66.

(11) أخلاقيات أمير المؤمنين(م.س): ص223.

(12) نهج البلاغة: الخطبة 134.

(13) للمزيد راجع (أخلاقيات أمير المؤمنين) ص227.

(14) أئمتنا: ج1 ص72.

(15) أخلاقيات أمير المؤمنين: ص222.

(16) بحار الأنوار: ج33، ص434.

(17) بحار الأنوار: ج32، ص561.

(18) شرعية الاختلاف: ص41.

(19) أخلاقيات أمير المؤمنين: ص298.

(20) ذكرنا مصدرها سابقاً.

(21) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج18 باب 150.