عبد الله الفريجي

يشكّل الوعي ميزة الإنسان الأساسية التي يتكئ عليها في ممارسة الحياة والحفاظ عليها دون بقية الموجودات؛ فمنذ اللحظة التي ينشأ فيها الارتباط بين الإنسان والعالم فإن الوعي يبدأ بالفاعلية، ويشرع بتكوين تراكم من المدركات والمعارف تعكس طبيعة تفاعله مع العالم، أو لنقل (نمطاً من الفكر والعمل المتسق مع بعضه البعض بدرجةٍ أو بأخرى) (1) بالنسبة للفرد، ويسمى مقابله (ثقافة) بالنسبة للجماعة.

إن عملية التكوّن الثقافي عملية متواصلة لا تعرف التوقف، تلاحق هدف الإنسان الرئيسي، وسعيه لإغناء الحياة وترسيخها، ذلك الهدف الذي لا ينجز إلا عبر تواصل عملية الوعي، وتعميقها، غير أن هذا الوعي الذي يمارسه الإنسان سيتأثر بأدوات تكوينه، تلك الأدوات التي تمثل النافذة التي يطل منها على العالم الخارجي؛ ولذا فإن الوعي سيكون ذا أثر مزدوج؛ فهو من جهة عملية تعرّف وإدراك للعالم، لكنه من جهة أخرى عملية محددة بأطرٍ وحدود القائم بها هو الإنسان؛ فهنالك أثر إيجابي يترتب على نفس الوعي؛ كونه عملية إدراك وتعرّف على العالم، وأثر آخر سلبي ينشأ عن محدودية أدوات الإدراك، كالحواس وطبيعة العقل الذي يرتبط بنوع الإنسان.

ولهذا فإن لكل وجه من وجهي الوعي انعكاساً على واقع الإنسان وحياته، فإذا كان الوعي يشبه عدسة تنقل بتواصل صور العالم الخارجي، فإنها حينئذٍ لا تنقل إلا صوراً محدودة، وتبقى حقيقة العالم الواسعة محجوبة؛ فلا يأخذ الإنسان إلا الجزء الذي تناله حواسه، ومعه ذلك الجزء الذي يركبه بواسطة عملياته العقلية.

وبعبارة أخرى فإن الوعي ذو جانب إيجابي غاية في الأهمية؛ لأنه النافذة التي يتعرف الإنسان من خلالها على أشياء تتعدى ذاته الفردية، وهناك جانب سلبي، لأن هذه النافذة محدودة وعاجزة عن نقل الواقع الخارجي بموضوعية تامة؛ مما يقود إلى الغلط في أحيان كثيرة.

فالوعي إذاً سيقف وراء بقاء الإنسان وحفظ نوعه وتشكيل حضارته، لكنه من جهة أخرى يساهم في خلق أنواع من الصعوبات والمشاكل والاحتراب واضطهاد بعض بني الإنسان لبعضهم الآخر، بل وفي بعض الأحيان يقف وراء حالات التخلف والتردي المترتبة على محدودية الوعي وتخالف الرؤى والأفهام.

دائرة الموضوعية في الوعي

إن كل الآثار السالبة التي أشرنا إليها تنشأ من محدودية الوعي، وعجزه عن الإدراك الكامل لحقائق الأشياء، سواءٌ كانت هذه الأشياء بشراً أو بعض مفردات الطبيعة، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح بمجرد إلقاء نظرة على طبيعة الإدراك البشري الذي نجده يتغذى من مصدرين لا يخلوان من عجز عن الوصول إلى الموضوعية، وهما:

أولاً- المصدر الفطري:

وهو يعتمد على نوعين من أنواع المدركات، هما البديهيات وهي المدركات التي يدركها الإنسان بصورة فطرية، ولا يحتاج للوصول إليها لكسب أو نظر، وهي مشتركة لدى جميع أبناء البشر، والنوع الآخر هو المدركات الحسية، وهي أيضاً تنتقل إلى الذهن بمجرد اتصال الحواس السليمة بالعالم الخارجي.

ونلاحظ هنا أن دائرة الغلط في البديهيات غير موجودة، بينما هي موجودة باحتمال محدود في دائرة الحسيات، وحدودها في العين - مثلاً - عندما ينظر الرائي إلى سمكة في الماء فيراها أقرب مما هي عليه في الواقع.

ثانياً- المصدر الكسبي:

وهو الدائرة الأوسع من المعارف التي يعمد الإنسان إلى تركيبها من خلال تركيب الصور الواردة إليه من أدوات الحس، وبالاعتماد على البديهيات، لتكوين معارف جديدة، وهذه الكسبيات هي التي ستغدو طبقة فوقية بالنسبة للبديهيات والحسيات؛ ولهذا فهي تتأثر بقوة بنوعية الإنسان الذي يمارس عميلة التركيب، وهو ما يعادل وجود فضاء واسع للغلط، وخصوصاً إذا كان الموضوع ليس من التجريبيات.

وإلى حد الآن فإننا رأينا حالة من التدرج في مساحة الغلط، إذا كانت بالنسبة للبديهيات معدومة فهي توجد بنسبة ضئيلة وقابلة للتشخيص في الحسيات، على حين تكون واسعة جداً في الكسبيات؛ وهذا يعني أن خللاً أصيلاً ينتهي إليه وعي الإنسان، وبالتالي فإنه غير قادر - وهو بوضعه الحالي - على الوصول إلى الصورة الموضوعية الكاملة عن العالم، فهل هذا يعني أن القدر حكم على هذا المخلوق الراقي بالعمى الجزئي إلى الأبد، ليبقى نهباً لاحتمالات الوعي أحياناً، أو الاختلاف والتصارع في أحيان أخرى؟ وكيف يمكن للإنسان الذي تكمن كل قوته في عقله الذي هو سرّ كماله أن يكون بهذه الكيفية؟!.

هذه أسئلة مشروعة يستشعر الإنسان مشروعيتها بمجرد أن يشيح بوجهه عن الإنجازات العظيمة التي أنتجها الوعي البشري، عندها سترى التاريخ والحاضر يعج بنماذج التردي التي نرى فيها ملايين البشر يسجدون لأصنام لا تضر ولا تنفع، أو نرى الملايين من بني الإنسان يذبح بعضهم بعضاً لأسباب مهما كانت عظيمة فإنها تافهة إذا وزنت بقيمة الأرواح التي أزهقت في سبيلها.

وجها الحقيقة

إذا كان الوعي الإنساني قابل للتشكل بأكثر من طريقة، فهل يستطيع أحدٌ ما أن يدّعي بأن جميع أشكال الوعي (صحيحة)؟ مع أننا نلمس انجرار هذا الوعي في أحيان كثيرة إلى حالة من العمى، ونلمس عجزه عن تحديد وتبني علاقات سليمة مع مواضيع غاية في القرب والوضوح، فإن (الفيجيون(أ) أكلة لحوم البشر لا يكترثون لحياة الناس ويعيشون في خوف دائم من بعضهم البعض، ويحسبون البوق (وهو الغدر) من الشمائل الكريمة، وليس سفك الدم في نظر الفيجي جناية بل شرفاً، فهم يقتلون المقعدين والعجزة والمرضى ونحو ثلثي مواليدهم، وأما من بقي منهم حياً فأول درس يتلقنه أن يضرب أمه، وهم يئدون العبيد بجانب القوائم التي يبنى عليها بيت مليكهم، ويذبحون عشرة منهم أو أكثر على ظهور ركوه (زورق) جديدة ينزلونها إلى الماء تعميداً لها بدمائهم، ويخنقون نساء الأمير وحجّابه وأمنائه عند موته تشريفاً وتكريماً، وعادة أكل اللحم البشري منتشرة عندهم إلى حد أن أميراً من أمرائهم رثى ابنه، فبين أنه لا يحجم عن قتل نسائه وأكلهن إذا ما أغضبنه، وهم في بعض الأحيان يشوون فرائسهم البشرية أحياء قبل أن يبتلعوهم) (2).

هذه الممارسات الفظيعة والسلوكيات الوحشية تمارس على أساس خلفية ثقافية خاصة ووعي خاص للوجود ولعلاقة الإنسان ببقية بني جنسه، تجعلها تبدو بنظر أصحابها صحيحة ولا تحتاج إلى تبرير أو اعتذار.

وبالطبع فإن الفيجيين الذين ضربنا بهم المثل ليسوا النموذج الوحيد، بل هناك نماذج أخرى كثيرة، بعضها معاصر والبعض الآخر بائد، لكن التاريخ سجل لنا ملامحه، ولا يخفى على أحد ما كان سائداً في الحضارات القديمة، من تقديم البشر كقرابين للآلهة، كالحضارة المصرية الفرعونية التي كانت تضحي بعدد من الفتيات بإلقائهن بماء النيل تفادياً لغضب الآلهة واستجلاباً لرضاها، ومعروف أيضاً وأد عرب الجاهلية لبناتهم (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت) وهناك الكثير من الشعوب والثقافات إلى اللحظة الراهنة لا تزال تمارس الكثير من الممارسات التي تجانب الصواب، وتحط من كرامة الإنسان وتسيء إليه فرداً كان أو جماعة.

غير أن هذا ليس حالة عامة ولا حالة دائمة؛ لأن الثقافة حالة متحركة لا تعرف التوقف، كما أنها - غالباً - ما يتجاوز فيها مظهر السلب إلى مظهر الإيجاب، وغالباً ما يطغى أحدهما على الآخر ليحتكر تمثيل وجه الثقافة، لكنه لا يلبث أن يتحرك باتجاه مزيد من السلب، أو مزيد من الإيجاب؛ وقلما توجد حالة كاملة، أو أننا لا نزال ننتظر هذه الحالة الكاملة.

ولذلك (ثبت لنا في السابق بالوثائق تباين الثقافات بدرجة تفوق التصور، ويكشف هذا التباين عن مرونة النوع البشري، وأن هذه المرونة، أي القدرة على التشكل بفعل حياة المجتمع الذي يولد فيه الإنسان، هي الخصوصية الكلية الأهم لدى الإنسان، وهي القسَمَة الحاسمة التي تميز الإنسان عن الحيوان) (3).

فالتعدد في الثقافات البشرية عبارة عن تعدد في طرق ومسارب حركة الفكر التي يمكن له أن يسلكها بمجرد سعيه لسبر أغوار العالم، ومحاولة التعرف على حقيقته. إن هذه الحركة تشبه حركة الماء المراق على الأرض عندما يأخذ بالانتشار بكل الاتجاهات الممكنة ما لم يمنعه مانع؛ فالفكر يتحرك في الفضاءات التي تواجهه ما لم تحد من حركته موانع، كما أنه قابل لأن يتوجه وجهة خاطئة إذا ما تم فرض هذا التوجه عليه، وإذا وضعنا في اعتبارنا علاقة هذا الفكر بحركة الواقع، وكونه القوة التي تجر الحياة البشرية وراءها بأي اتجاه سارت، عرفنا خطورة وأهمية عملية تشكيل الأفكار وخطورة الأغلاط التي يقترفها الوعي وهو يحدد علاقته بموضوعاته.

فالأغلاط في اعتبار ما ليس بحقيقة حقيقة تقود في المآل إلى تعدد هذه الرؤى بالنسبة لموضوع واحد؛ فينفرد كل إنسان بالاعتقاد بأن ما لديه حقيقة، بينما لا يشاركه الآخرون هذا الاعتقاد؛ وسرعان ما يدب الاختلاف ويبدأ التناحر، خصوصاً إذا سيطر الانغلاق والتعصب على الأجواء.

ومن هنا فإننا إزاء حقيقة ذات وجهين؛ فالتعدد المعرفي جزء أصيل من أجزاء الحياة الإنسانية، ويعبر عن سعي الإنسان لمعرفة الحقيقة، لكنه من جهة أخرى يفضي إلى الصراعات والاحتراب فكيف ينشأ هذا التعدد؟!.

كيف ينشأ التعدد الثقافي؟!

الثقافة هي البيئة التي يصنعها الإنسان بنفسه (وقد سماها هربرت سبنسر (فوق العضوية) أي البيئة التي تختلف عن البيئة الطبيعية، لكن هذا الاصطلاح لم يكتب له الذيوع بل ذاع استخدام كلمه الثقافة) (4).

فبمجرد وجود الإنسان ضمن جماعة - وهو لا يوجد إلا ضمنها - فإنه يبدأ بالتعاطي مع العالم؛ فيرسم أثناء تعاطيه معالم ثقافته الخاصة، وإذا كان نظرنا إلى الجزء المعرفي من الثقافة فإن معالم المعرفة (الوعي) تبدأ بالتشكل، وهي مرتبطة بالإنسان الممارس لها؛ لأنه هو الذي سيطبع كل شيء بذاتياته.

غير أننا نلاحظ وجود قواسم مشتركة لا تختلف باختلاف الإنسان، بينما نلحظ أيضاً وجود أجزاء أخرى خاصة بكل فرد وجماعة، تعبر عن خصوصيتها الإدراكية، ولهذا فإن حالة من التشابه تلوح بين بنية الإنسان البيولوجية وبنيته المعرفية.

المشترك والخاص

لذا يمكننا الإشارة إلى وجود دائرة من المعارف لا يختلف عليها أبناء البشر، بينما هناك معارف خاصة، من قبيل اهتمام فائق توليه بعض الحضارات لبعض العلوم نجد مثاله في اهتمام اليونان بالفلسفة وعزوفهم عن المهن والحرف، وكذلك اهتمام العرب بالشعر وفنون التأنق بالكلام وعزوفهم عن الصناعات، والمتأمل يرى أن هذا الاهتمام يخفي وراءه أحكاماً تطلقها الثقافة على بعض أوجه النشاط العقلي أو العملي سلباً، فيعزف عنه الناس، أو إيجابياً فيؤدي إلى إقبالهم عليه، وهكذا فإن الوجهة الخصوصية لحركة الثقافة ترتبط بالحلقات السابقة من تطورها.

فإذا وجهت حضارتنا اهتماماً فائقاً إلى عنصرين أساسيين من عناصر الوعي، من قبيل العلوم والتقانة، فإن هذه الأمة ستحصل على فرص كبيرة لتطور هذا الوعي، وبالتالي تكوين تصورات غاية في الموضوعية عن العالم والأشياء، لكنها إن أصدرت حكماً مضاداً عليهما، سدت على نفسها باب تطوير الوعي، ولهذا فإنها سوف لن تجد أمامها مصيراً سوى التردّي.

فالحلقات السابقة في وضع أي ثقافة، هي التي ستنتهي بها إلى السلب والإيجاب، وهو ما يعني أننا لكي نقرأ حال أي حضارة في وضعها الراهن فسنحتاج إلى قراءته من خلال حلقات تطوره السابقة؛ فهناك دائماً أوضاع سابقة هي المسؤولة عن حركة الوعي.. فكيف تكونت هذه الحلقات السابقة؟.

الأفكار المسبقة

إذا كانت الحالة الفعلية لأي ثقافة ناتجة عن حال الثقافة في المراحل السابقة عليها، فإن عملية تطور الثقافة عند أي جماعة تشبه ما يحدث لدى الفرد أثناء عملية التفكير الرامية لإنتاج معارف جديدة فيما يُعرف في علم المنطق بـ(حركة العقل بين المعلوم والمجهول)(5) (والتي تتضمن حركة العقل من المشكل إلى المعلومات للفحص عنها، وتأليف ما يناسب المشكل ويصلح لحله) (6).

فهذه العملية التي يمارسها الفرد لتكوين طبقات جديدة من المعارف تعتمد على المخزون وهو ليس سوى المعارف التي كونها في أطواره السابقة، وهذا ينفعنا في تصور سلسلة إنتاج المعرفة، تلك السلسلة التي لا تقبل حلقاتها الانفراط، (فمن غير المعقول أن نتصور أن أحداً في الدنيا جلس هكذا لا يعرف نفسه ولا يعرف الكون من حوله؛ ليبدأ بحثاً أو علاقة معرفية من الصفر) (7).

وعدم الابتداء من الصفر، كما يبدو، يشير إلى أن بعض ملامح الخطوات القادمة قد تحدد سلفاً وتبعاً لطبيعة المخزون الذي جرت عملية تكوينه، وهذا على وجه الدقة ما نعنيه بالأفكار السابقة، ويلقى بالضوء على اللحظات الأولى لتكون المعرفة، تلك اللحظات التي ستتحدد على ضوئها معالم تطور هذه الثقافة، وإن تسرباً بسيطاً من اللاموضوعية حين تضمه الأسس يتحول إلى شرخٍ هائل قد يؤدي بالثقافة إلى مهاوي التردي، ويقودها وهي مغمضة العينين إلى الهاوية.

وهذا النوع من العمى هو الهيمنة التي نفرضها على الأفراد، عندما نفرض عليهم مسلماتها دون أن نسمح لهم بمراجعة هذه المسلمات ومحاكمتها، بل يعبأ بها الفرد وهو لا يزال غراً، فتزوده بالمعايير التي يعرف بها الصحيح والخطأ، وبواسطة هذه المعايير فإن المسلمات ستقدم له على أنها صحيحة لأنها مطابقة تماماً لتلك المعايير.

إن الإنسان وهو في إطار الثقافة قلما يلتفت إلى نواحي الشذوذ في بنيتها، وإذا التفت بعض الأفراد إليها بالنقد، فإن الجماعة تبدأ بمقاومة هذا الشذوذ، وتحاول إعادة هؤلاء إلى بيت الطاعة أو طردهم خارج البنية، فينتهي الحال إلى نوع من التعدد.

وهكذا فإن أي عملية تفكير ستعتمد على (أفكار سابقة) وإن هذه الأفكار السابقة ولدتها أفكار أسبق منها، وهكذا تتواصل عملية الانتقال من أفكار سابقة إلى أفكار أسبق منها وصولاً إلى لحظات تكوّن الثقافة ونشوئها.

وإذا كانت ولادة أي فرد لا تتم إلا في أحضان ثقافة معينة، فإن ولادة أي ثقافة كذلك لا تتم إلا في رحم ثقافة أخرى سابقة عليها؛ لأن الثقافات كائنات حية تبدأ صغيرة ثم تنمو وتواصل نموها حتى تنتهي إلى التراجع والضمور والزوال لتفسح المجال لغيرها.

ولهذا فإن الثقافة في طور التردي لا تنتج إلا مزيداً منه، ولا يتغير هذا الأمر إلا إذا حدث ما يغير هذا الاستمرار، وهنا علينا أن نتساءل حول كيفية وقوع هذا التغير ومن أين للإنسان الذي ولد في رحم ثقافة معينة أن ينطلق لتغييرها في ضوء ما أثبتناه من وجود قصور طبيعي في أدوات الوعي وهيمنة الثقافة؟.

إن هذه الحقيقة هي التي أجبرت بعض المفكرين على افتراض استحالة قدرة الثقافة على ولادة حالة أكمل منها بدون تدخل عامل خارجي، ومن هؤلاء (يلخانوف) الذي قال: (وجد هيجل نفسه في ذات الحلقة المفرغة التي وقع فيها علماء الاجتماع والمؤرخون الفرنسيون، فهم يفسرون الوضع الاجتماعي بحالة الأفكار، ويفسرون حالة الأفكار بالوضع الاجتماعي.. وما دامت هذه المسألة بلا حل كان العلم لا ينفك يدور في حلقات مفرغة بإعلانه أن (ب) سبب لـ(أ) مع تعيينه (أ) كسبب لـ(ب) ) (7).

وخلاصة ذلك أن الفكر حتى يطور المجتمع فإنه يحتاج إلى من يطوره، لأن التطور يعني زيادة، والزيادة تحتاج إلى مصدر يسببها، ونحن نعلم أن الفكر هو الذي يطور المجتمع، ولكن من سيطور الفكر؟ ففي ضوء الفكر الغربي تبقى هذه المسألة بلا حل، وظلت الفلسفة تراوح أمامها دون الاهتداء إلى حل.

لكن على صعيد الواقع فإن التطور حقيقة مادية ملموسة، إلا أنها تفتقر إلى تفسير فقط، وهذا التفسير في ضوء الفلسفة الغربية يبقى كنقطة فراغ، وإذا شئنا الجري مع هذه الفلسفة فإننا سنؤكد وجود هذه العلة دون أن نحددها؛ إذ لابد لنا من القول بوجود عنصر يمثل الطاقة التي تدفع بالفكر إلى التنامي، وتدفع به إلى أوج حالاته، وهو طبعاً ككل طاقة سرعان ما تبدأ بالنضوب بعد أن تستهلك أثناء عملية وصول الثقافة إلى أعلى أطوارها، لتبدأ مرحلة التراجع والهبوط.. فإذا تصورنا الثقافة عبارة عن إلكترون، وأن الطاقة المحركة هي فوتون ضوء، فإن هذا الإلكترون يتحرك حركة مفاجئة بمحض امتصاصه لهذا الفوتون ولا يعود إلى وضعه الأصلي إلا بعد أن تنفد الطاقة التي سببها امتصاص الفوتون، فيهبط حينها إلى مداره الطبيعي.

فكما أننا نستطيع أن نفسر نمو الثقافة بطروء عامل ما، فإننا نستطيع تفسير التراجع بنضوب هذا العامل، غير أننا يجب أن نلتفت إلى أن هذه العملية ليست عبثية أو أنها لا تؤدي دوراً على صعيد التأريخ وعلى العس من ذلك فإن كل دورة حضارية تؤدي إلى تأهيل مجموعة بشرية من خلال اكتسابها للنقلة، أي إن العملية لا تبدأ من الصفر بل من آخر قيمة حققتها الثقافة واحتفظت بها.

ولهذا فإننا سنفهم وضع الثقافة من خلال عملية الاستيعاب التي أشرنا إليها، أي امتزاج ذاتيات الإنسان بالمدركات المنقولة من الخارج، فما دام العامل المؤثر في حركة الثقافة هو الفكر، فلابد أن يكون العامل المؤثر على الفكر أيضاً فكراً، لكنه ليس من داخل الثقافة، وإذا قلنا أنه من داخلها فإننا سنعود إلى ما هربنا منه من تفسير حركة الفكر بالفكر، غير أن الحصيلة النهائية ستكون امتزاج لهذا الفكر الذي لم ينتجه الإنسان وهو أيضاً عامل النقلة الحضارية بفكر الإنسان في النهاية.

فإذا (عرف الإنسان منذ بدأ بتفحص نشاطه الفكري أن عقله ليس تلك المرآة الصافية التي تعكس الحقيقة أو الواقع بشفافية ونقاء، وعرف أن ما تراه الأعين لا يصل إلى الأذهان عبر طريق مستقيم، وأن المعرفة الصادقة مطلب محجوب وراء ستار سميك من العوائق) (8)، فإن تأثير العامل الخارجي على الفكر الإنساني سيعبر من خلال نفس الممرات وبالتالي يتأثر بها تماماً، كما أن الماء الصافي سيتأثر بالأنابيب التي يمر بها إذا كانت تحمل مواداً أخرى.

وهذا بحد ذاته هو التنوع؛ إذ إن العامل الخارجي سيؤثر في عدد من البشر من حيث قدرتهم على استيعاب تأثيرات العامل الخارجي، بسبب وجود العوائق أو كون التأثير جاءهم مباشرة وعن طريق وسائط، ولهذا فإن حالات التأثير ودرجاته ستتباين بحسب عمليات التفاعل بين العامل الخارجي وفكر الإنسان.

التـــــعدد

وهكذا فإننا يجب أن نوجه أنظارنا إلى هذه العدسات التي تشكل عنصراً أساسياً في دفع تفكيرنا باتجاهات معينة، ولا تسمح له بالتوجه في اتجاهات أخرى؛ فتساهم في تحديد مسبق للقرارات والأحكام، لأنها تتحكم بالمقدمات فتتحكم بالنتائج.

وعلى هذا الأساس قد تم التمييز بين عقل وآخر، وبات سائغاً القول بوجود (عقل عربي) و(عقل غربي) وآخر (إفريقي)؛ فالعقل هنا ليس هو القوة المدركة التي توجد بطريقة واحدة عند جميع البشر، بل هو المرجعيات والأسس (كأداة إنتاج الأفكار) (9)، وهي بالطبع متفاوتة من أمة لأخرى ومن ثقافة لأخرى.

(فالتفكير بواسطة ثقافة ما؛ معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي، والمحيط الاجتماعي، والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، وإلى الكون والإنسان، كما تحددها مكونات تلك الثقافة) (10).

ولهذا فإن الشخصية المعرفية ستبقى قائمة ما دامت الأسس والمرجعيات مستمرة، وبالتالي فإننا نستطيع تحديد الأطر والمعالم للمواقف والأحكام التي تصدر في ضوء تلك الأسس والمرجعيات.

لكن من الضروري هنا الإشارة إلى فرق جزئي بين العقل و(الأفكار المسبقة)؛ لأن الأول يتحدد بالمعالم الفعلية للثقافة، بينما الأفكار المسبقة تحمل طابعاً ديناميكياً يتابع النقلات الحادثة في هذه البنية، والتطورات التي تنجز من خلال عملية التراكم المعرفي، وتفتح الأفق لكل حالات الاحتكاك والتفاعل، ما دام قادراً على الدخول كلبنة في البناء المعرفي لهذه الثقافة.

فالأفكار المسبقة هي ذلك الجزء المسلم به من المرجعيات والأسس؛ ولذلك فهي أهم ما فيها لأنها الأداة التي تسمح بضم أي معرفة جديدة إلى هذه الأسس أو طرد سواها باعتبارها ليست صحيحة.

ولهذا فإن هذه الأفكار هي التي تسبب نزاعات أو صراعات في مقاطع التضاد والتنافر كما أنها تقف وراء التعصب، وهي أيضاً تتيح للأفكار الجديدة الانتماء إلى المنظومة بعد الحكم على صحتها سواء أكانت صحيحة فعلاً أم أنها ليست كذلك.

وما دامت هذه الأفكار بهذه الكيفية فإننا سنرجع إليها ومنذ لحظات تكوّن الثقافة، الاتجاهات غير السليمة في المقاطع التاريخية اللاحقة، وأنها أيضاً وراء التطور والتراجع، وإذا كانت بهذه الأهمية فحري بنا أن نتابع نشوءها وتكونها.

إن بحثنا هذا شبيه بالبحث عن جينات المعرفة التي تسبب أخطر أمراض الوعي، من قبيل تردي الوعي أو التعصب أو أية أخطار أخرى، وبالتالي فإنها تفتح الأفق لتنازع هذه المورثات لتصل الأمم إلى عالم سليم الوعي صحيح التفكير، مؤهل للفعل والتفاعل.

ولهذا نشأ (علم الأفكار) في بداية (عصر الأنوار) لتحويل هذه الحقيقة إلى صورة الفعل، واكتشاف جوانب الخلل في التفكير، وقد عرّفوه بأنه (العلم الذي يدرس الأفكار بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أي مجمل واقعيات الوعي من حيث صفاتها وقوانينها وعلاقتها بالعلائم التي لا تمثلها لا سيما أصلها) (11).

إلا أن المشكلة هي أن هذا العلم كان بدوره مقاماً على أفكار سابقة وهي مسلمات عصر الأنوار وطرائقه التي يحكم من خلالها على بعض التصورات والأفكار بأنها صحيحة، وبذلك سقطت هذه المحاولة أيضاً في فخ الأفكار المسبقة للعصر الذي ولدت فيه، ومكنت الكثير من الأحكام من أن تقف في صف الحقائق العلمية، مع أنها ليست كذلك، وخصوصاً الدائرة التي ضمت العلوم الإنسانية التي يرى الكثيرون بأنها تشبه الحقائق أي (أولئك الذين يعارضون أحياناً بأنهم يرون في العلوم الاجتماعية علوماً حقيقية) (12) مع أن هذه العلوم قد طبعت عصرنا بطابعها، وصارت تسوق أحكاماً كثيرة وتقدمها على أنها مسلمات.

هذه العلوم كانت وراء إشاعة الكثير من المعتقدات، ووراء منحها صفة الثبات، وبالتالي فإنها وجهت التفكير الإنساني وجهات خاصة، وغيرت موقفه من أعمدة الوجود الإنساني التي يشكل الموقف من الدين أفدح أخطائها، إذ دفعت به ليحتل مكانة هامشية منذ أن فجرت العلوم الواقع القديم وجاءت بتفسيراتها الآلية للكون التي لعبت (أفكار النهضة المسبقة) دوراً رئيسياً في ولادتها وتحويلها إلى موقف عام ينظر من خلاله إلى أغلب مواريث الإنسانية، أفضى هذا الموقف إلى الشطب على كل ما لا ينسجم مع هذه التفسيرات، دون أن يتم السعي الحقيقي لإثبات ما إذا كانت تلك التفسيرات حقائق موضوعية أم أنها مجرد إفرازات (لأفكار مسبقة)؟.

وقد سجّل لنا التاريخ قبول العديد من مفكري الغرب وقادة تيار النهضة بأحكام مستعجلة ضد الدين، حيث عده هؤلاء مجرد نتاج لتفكير الإنسان، ولا علاقة له بعالم آخر سوى هذا العالم المادي، وفسر هؤلاء الاختلافات في الأديان بأنها اختلافات ناتجة عن اختلاف درجة تطور تفكير الإنسان؛ مما يترتب عليه الاعتقاد بأن الإنسان في مرحلة التفكير الأسطوري أنتج الأديان الأولية، وعندما أدرك العالم بصورة أكثر علمية، أنتج الأديان التي تؤله الطبيعة، وعندما تقدم أكثر أنتج الديانات التوحيدية كالإسلام والمسيحية واليهودية!!.

إن هذا النوع من التصور للدين هو نتاج التفكير العقلاني الذي أعطى العقل المكانة الأولى ووضعه كأساس لتفسير كل الظواهر، لكنه غفل عن أن هذا النمط من العقلانية، قد تأثر هو الآخر بظروف ولادته، وأنه اختزن موقفاً منحه درجة من الإطلاقية إزاء الدين والعالم الآخر، بل وكل ما لا تستطيع حواس الإنسان التعاطي معه تعاطياً مباشراً.

وهكذا نلمس كيف يمكن للأفكار المسبقة أن تؤثر تأثيرات سلبية عندما تكون غير موضوعية، أو تأتي من وراء بعض ذاتيات الإنسان وعقده، لكنها مع ذلك شيء ضروري لأي عملية تفكير ولا يمكن لأي عملية تفكير أن تكون منتجة ما لم تستند إلى (الأفكار المسبقة).

وهكذا نستطيع أن نضع أيدينا على سر كافة الصراعات والتعصب الذي يؤدي إلى انغلاق الفكر وانسياق الوعي وراء مواقف غير محكمة المقدمات، وبالتالي خاطئة النتائج، هذا السر هو تحول ذاتيات الإنسان إلى جزء من أفكاره المسبقة، فلعل هذه الفكرة المسبقة قبل أن تكون لها هذه الصفة تكون مجرد فكرة تجول في رأس بعض الموجهين ثم تتحول إلى الآخرين، ثم تتحول كذلك إلى أصل من أصول الثقافة، ثم تغيب في (اللاشعور الثقافي) فتؤثر فيه، دون أن يفطن أحد إلى تأثيرها خصوصاً إذا كانت تنتمي إلى لحظات تأسيس الأمة، ولحظات ولادة شخصيتها الحضارية والثقافية.

فالشر والصراع والانغلاق - إذن - عبارة عن تماهي ذاتيات الفرد أو ذاتيات الجماعة مع الحقيقة ثم تندس في (الأفكار المسبقة) لتمارس تأثيرها في توجيه العقل وفي طريقة وعي الإنسان للعالم وللعلاقات سواء مع أبناء جنسه أم مع الطبيعة.

ذاتية الإنسان

من خلال كل ما سبق نصل إلى إنشاء حكم مفاده: إن المعرفة البشرية ترتبط مباشرة بالإنسان لأنه هو الذي يمارس عملية التفكير، وبحكم القصور الطبيعي في أدوات إدراكه الذي أشرنا إليه سابقاً والذي يشكل وجود الإنسان تلقائياً داخل ثقافة مهيمنة جزءاً هاماً من هذا القصور فينتج عن هيمنة الثقافة على تفكير الفرد، وفرض قواسم مشتركة في النهاية تؤخذ على أنها مسلمات تسود في تفكير أي جماعة، كما أننا غالباً ما نجد أن هذه المسلمات تفرض عبر أساليب قهرية من قبل الساسة وأدعياء المعرفة والكهان والسحرة والعرافين على الجماعة.

وهذا القصور بمجمله يمثل مجمل ذاتيات الإنسان المانعة عن البحث الحر والتفكير الموضوعي وهذا هو ما نعنيه بالأفكار المسبقة، وبالتالي فإن الأفكار المسبقة التي تتكون بهذه الطريقة ستدفع التفكير نحو وجهات مرسومة سلفاً؛ فتمثل في النهاية، تجسيداً للقصور الطبيعي في وسائل الإدراك، وعامل انحراف قوي يقلص فرص تكون المعارف الموضوعية إلى حدود بعيدة، ولهذا فإن الثقافة وهي في لحظات تصاعدها تبرز فيها جراثيم ولادة الأفكار المسبقة الذاتية، التي سرعان ما تتحول إلى خيوط شرنقة الثقافة التي تلفها أثناء حركتها التاريخية على الجزء الموضوعي من المعرفة، وتواصل اللف حتى لا يعود للموضوعية أي جزء ظاهر.

وعليه فإن أي ولادة جديدة تعني أن يرقة المعرفة الموضوعية تتمكن من تمزيق الخيوط الذاتية التي لفها الإنسان بذاتياته على موضوعياته، وتعيد إبرازها إلى السطح لتبدأ الإنسانية دورة جديدة.

إن تمزيق هذه الخيوط المحكمة اللف لا يتاح لأي قوة من داخل الحضارة، ولهذا فإننا نرى التاريخ مليئاً بأنواع العبادات لكل ما لا يستحق العبادة والأساطير والخرافات، التي لا يعقل أن جموع البشر التي عاشت وماتت ليس فيها من لا يدرك أن هذا الحجر حجر أو أن هذه الفكرة مجرد خرافة، لكن في أغلب الأحيان تكون هذه الانحرافات مدعومة بالقوة والإرهاب، كما أننا نرى أن التغيرات الرئيسية في التاريخ تمر عبر طرق شاقة تمارس فيها جميع إمكانات الإرهاب لمنع تحول الوعي الموضوعي إلى حالة عامة.

لقد أدرك بعض الأفراد تفاهة بعض الأفكار والممارسات، لكنهم جوبهوا بالقوة والتهديد لفرض التراجع، ومثال هؤلاء الأنبياء، فالنبي إبراهيم (ع) اعترض على عبادة الأصنام، وحكم عليه بالحرق بالنار، ومن غير الأنبياء غاليليو الذي مُثل أمام محاكم التفتيش، وفرض عليه التنازل عن قوله بكروية الأرض.. فإذا نجحت هذه المحاولات، فإن الثقافة تتدحرج نحو مزيد من التدهور حتى تصل إلى حالة تماثل حالة الفيجيين، وإذا لم تنجح فإن التفكير الموضوعي سيسود وتتنفس البشرية الصعداء.

وبسبب هذا الميل الطبيعي فإن الإنسان سوف لن يتاح له الوصول إلى الموضوعية، مع أن نفس استمراره في الوجود كنوع سيكون متعذراً بدون الموضوعية، فلو ترك لذاته فإنه سوف لن يصل إلا إلى التردي، والقياس على حال الحيوان هنا، غير صحيح من حيث أن الحيوان قادر على البقاء بدون الوعي؛ بسبب وجود فرق جوهري بينه وبين الإنسان.

فالحيوان تلعب الغريزة فيه دور العقل، بحيث أنه يستغني عن التفكير لإدامة الحياة؛ فهو يعتمد في كل شيء على الحالة الراهنة التي هو عليها، وما تمنحه إياه من معطيات البقاء والحياة، لأنه غير منتج، وأن علاقاته مع أفراد جنسه وبقية الأجناس محكومة بقوالب ثابتة من السلوك؛ ولهذا فإنه مستغن عن الوعي أصلاً.

أما الإنسان فإن وجود الوعي لديه ليس حالة كمالية يمكن الاستغناء عنها، فيكون إن حاز الوعي عاش وإن لم يحزه عاش أيضاً، وإن علم عاش وإن لم يعلم عاش أيضاً؛ إذ إن ذلك خلاف قوانين الطبيعة التي تفرض وجود حكمة من وجود أي عضو لدى الإنسان، صحيح أن الوعي ليس عضواً بيولوجياً، لكنه عضو روحي، بل هو نفس الإنسان وقوامه، وبالتالي لا يمكن لنا افتراض وجود حال يمكن للإنسان فيه الاستغناء عن العقل.

ومن جهة أخرى نلاحظ أن الإنسان يتعرض للزوال بدون هذا العقل؛ إذ لا يمكن له الحياة بدون الحصول على عدد كبير من المعارف التي لا تتوفر من خلال عملية اكتساب المعارف وحدها، بل نفس عقل الإنسان، لكي يمارس عملية الاكتساب، يحتاج إلى تدريب عليها لتتحول ملكة الإدراك لديه من القوة إلى الفعل.

وإذا جمعنا إلى ذلك ما أشرنا إليه من القصور الطبيعي، عرفنا أن الإنسان عاجز بمفرده عن تكوين المعرفة، فضلاً عن الوصول إلى الطور الفعلي الذي وصل إليه اليوم، وقبل كل هذا فإنه عاجز عن الاستمرار في البقاء وعدم الزوال، وذلك بسبب عجز الإنسان عن الإدراك الموضوعي لنفسه وللعالم، فلماذا مثلاً لم يفكر الإنسان وهو في الأطوار التاريخية البدائية التي تميزت بالقساوة وصعوبة تحصيل القوت بأن يأكل في أوقات الشتاء الباردة، وعندما يقل الصيد يأكل زوجته أو أبناءه أو جيرانه، طالما أننا نجد أن الإنسان ورغم ظهور بعض المدنيات والحضارات، لم يجد بأساً في أن يأكل لحوم البشر كما في المثال الذي أوردناه سابقاً، كما أن العرب وقبل ألف سنة فقط كانوا يئدون البنات، طبعاً لابد من وجود موانع منعت ظهور هذه الممارسات في تلك الحقب البدائية التي كان فيها الإنسان أشد جهالة وهمجية، ولو كانت قد ظهرت فلا شك بأن زواله كنوع كان حتمياً.

كما أن ممارساته الوحشية هي أكبر دليل على عجزه عن الإدراك الموضوعي لحقائق الوجود بمفرده، فضلاً عن العمل على أساسها، فكيف بالإنسان البدائي الذي نفترض أن مداركه ضعيفة جداً، كما أنه ليس لديه مثل الذي لدينا من التراكم العلمي والمعرفي؟.

إن مشكلة الإنسان البدائي مشكلة فريدة، فهو ليس إنساناً يمتلك معارف يتكأ عليها في إدارة حياته، لأنه بحسب الفرض في حال قريبة من الحيوان، كما أنه من جهة أخرى ليس حيواناً ويتكأ على الغريزة فحسب؛ ولهذا فإن هذه الحلقة من حلقات الوجود الإنساني تفتقر إلى مقومات البقاء إلا إذا امتلكت أفكاراً جاهزة وموضوعية، ونقول جاهزة لأن الإنسان في تلك الحالة ليست لديه فرصة كافية لتكوين المعارف، وإن خطر الزوال يكمن له في كل زاوية من زوايا الوجود.

إن الزوال أسرع في الوصول إليه من اكتساب المعرفة، فهناك الحيوانات المفترسة، وهناك الأمراض والسموم، وهناك ضرورة الوقاية من ظروف الطقس، وتعلم أساليب صنع الطعام.. وعشرات المعارف التي يحتاج إليها الإنسان للبقاء. أما قولنا موضوعية فلأننا أثبتنا أن تراكم المعرفة الذي وصلنا إليه اليوم، يرتبط ببداية موضوعية، فلو كانت بداية هذا التراكم ذاتية لكانت قد انتهت في أول دورة من دورات التاريخ.

ولكل ما تقدم فإن هذه القضية لا يمكن تفسيرها إلا بالوحي الذي ظل يرافق نمو الإنسان، وقد صرح بذلك القرآن الكريم بقوله: (علمنا الإنسان ما لم يعلم) و(علمناه)، هذه الألفاظ تؤكد أن الإنسان ظل يتلقى المعرفة من خالقه، وكل هذا يعكس موقفاً واضحاً من قضية علم الإنسان فينظر إليه على أنه مجرد عملية تلقي وليس إنتاجاً، وعلى العكس مما تريد العلوم الاجتماعية إثباته من أن عقل الإنسان هو الذي أنتج الدين، فإن الدين هو الذي أنتج عقل الإنسان (العقل المتكون) وإن الثغرة والقصور الطبيعي الذي عرفنا وجوده لا يسدها شيء سوى الوحي؛ فالوحي هو المعرفة الموضوعية التي لا تتأثر بعدسات الإنسان (الوعي) لأنها جاهزة ومدركة من قبل موجد العلم المطلق، إنها المعرفة الوحيدة التي لم ينتجها عقل بشري مفتقر إلى معارف مسبقة، وهي المعارف التي ستكون سبباً لإنتاج كل ما بعدها.

الهــــوامـــش:

(1) لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟: مايكل كاريذرس، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت 339 (1998م)، ص39.

(2) القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي: ط2، عبد الرحمن الشهبندر، منشورات وزارة الثقافة والإعلام - دمشق (1993م)، ص149.

(3) مصدر سابق (لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟): ص36.

(4) علم الاجتماع: ج1 (النظرية، المنهج، الموضوع)، محمد عاطف غيث، دار المعارف (1966م)، الاسكندرية، ص374.

(5) المنطق: الشيخ المظفر، انتشارات دار التفسير - قم (1419هـ) إسماعيليان ص18.

(6) حركة التاريخ.. رؤية قرآنية: عبد الله الفريجي، أم القرى، ص72-73، نقلاً عن (اقتصادنا) للشهيد محمد باقر الصدر.

(7) العلم والأيديولوجيا: دراسة في إشكاليات منهج البحث العلمي، عماد هرملاني، سورية - دمشق (1995م)، منشورات دار معد للطباعة والنشر ص3.

(8) تكوين العقل العربي: محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 (1991م)، ص12.

(9) المصدر نفسه: ص13.

(10) مصدر سابق (العلم والأيديولوجيا): ص14.

(11) الاتجاهات الرئيسية للبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، القسم الأول: العلوم الاجتماعية، ترجمة مجموعة من الأساتذة، وزارة التعليم العالي - دمشق (1976) ص73.

(12) الفيجيون: هم سكان جزيرة فيجي الواقعة في المحيط الهادي.