النبأ

محمد محفوظ

في بداية الألفية الثالثة، المليئة بالأحداث الجسام والتطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة، التي أوصلت الإنسان إلى الفضاء، وتشكلت علاقة حيوية بين الأرض والفضاء، وتحولت الكثير من أحلام الإنسان وتطلعاته العلمية، إلى حقائق ومكتشفات علمية، ومنجزات تقنية فاقت كل التصورات.

في بداية هذه الألفية، تبرز في الواقعين العربي والإسلامي، ظاهرة خطيرة، وينذر استمرارها، بانهيار الكثير من المكتسبات التي حققها العالمان العربي والإسلامي في مختلف المجالات والحقول.. حيث تبرز ظاهرة القتل والاغتيال، واستشراء وشيوع لغة العنف والتعصب، كلغة وحيدة لمعالجة الكثير من المشكلات التي يمر بها الواقعان العربي والإسلامي.

لذلك وبادئ ذي بدء، نحن نقف ضد هذه الظاهرة، ونعتبرها مؤشراً من مؤشرات الانهيار والانزلاق الخطير الذي يشهده واقعنا وراهننا.

من هنا نحن بحاجة أن ندرس هذه الظاهرة، حتى نفككها معرفيا، ونحدد موجباتها وأسبابها العميقة،وطرق معالجتها؛ إذ إن هذه الظاهرة بمتوالياتها النفسية والسلوكية، تعتبر معول هدم وتفتيت لكل أعمدة البناء التاريخية والعقدية والاجتماعية؛ ويفقد راهننا من جراء ذلك، كل مقومات الرؤية المتزنة الرشيدة التي ترى الأمور على حقيقتها، وتوضح الأسباب والعوامل الحقيقية والرئيسية لتلك الظاهرة الشاذة، وسبل الخروج منها أو تجاوزها.

وبما أن المجال العربي بأسره، يعيش زلزالا أيديولوجياً وسياسياً، فإننا - في هذا المجال - أحوج ما نكون إلى مراجعة ظروفنا وإمكاناتنا وثغراتنا، لا لكي نجلد ذواتنا، ونبكي على أمجادنا، وإنما لكي نستعيد عافيتنا، ونسد ثغراتنا، ونستوعب نقاط الإيجاب في هذا التطور الرهيب الذي يجري في العالم.

إن التأمل الجاد في المشهد السياسي والثقافي العربي في الحقبة الراهنة، يوصلنا إلى اكتشاف خلل عميق، تعاني منه الحياة السياسية والثقافية العربية، وهذا الخلل العميق، ليس من جراء ضغوطات الخارج أو مؤامراته الهادفة إلى مسخ ثقافتنا الذاتية وإجهاض تطورنا السياسي كما يدعي البعض، وإنما هو من جراء أمراض مستوطنة في داخل المشهد الثقافي والسياسي العربي نفسه.

وهذا الخلل العميق، الذي يعيشه الوضع السياسي والثقافي العربي، ويلقي بظله الثقيل على مجمل الحياة العربية، يتجسد في داء العنف والتعصب، وغياب أدنى حالات التسامح السياسي والمعرفي والثقافي، تجاه قوى المجتمع السياسية والمدنية، وإبداعات المثقفين واجتهاداتهم الفكرية، وتجاه سيئات الواقع.. وكأن همنا الأساسي، هو البحث عن عدو نحاربه، لنبرز ترسانتنا الفكرية والسياسية تجاهه.

العنف من منظور سوسيولوجي

يعرّف العنف سوسيولوجيا، بأنه الإيذاء باليد أو باللسان، بالفعل أو بالكلمة في الحقل التصادمي مع الآخر.

وعملية الإيذاء هذه تارة تكون فردية، حيث يقوم شخص ما باستخدام اليد أو اللسان بشكل عنيف تجاه شخص آخر، ويصطلح على هذه العملية بـ(المتسلط الأنوي).

وتارة يكون العنف جماعيا (المتسلط الجمعي)؛ إذ تقوم مجموعة بشرية ذات خصائص مشتركة، باستخدام العنف والقوة، كوسيلة من وسائل تحقيق تطلعاتها الخاصة، أو تطبيق سياقها الخاص على الواقع الخارجي.

وفي كلا الحالتين، لا تكون ظاهرة العنف والتعصب، بمعزل عن الموجبات الاجتماعية والمسارات التاريخية، التي خلقت هذه الظاهرة في الوجود الاجتماعي.

لهذا فهي ظاهرة، لا تقبل التبسيط والتسطيح، لأنها وليدة مجموعة عوامل وأدوات مركبة.

وعلى المستوى النظري والفكري، نجد أن أغلب حالات العنف، هي (وليدة معرفية تجريدية، عن موروث ذهني جاهز، قوالب مصممة عن الآخرين: الوثن الذهني، بكل أولياته ومفاعلات ارتباطه، يحلّ أو يقترن بالوثن المادي. الآخر يوضع في القالب المجهّز، على منوال قاطع الطرق الأسطوري، بروكست، الذي كان يخطف (الآخر) من قارعة الطريق، ويضعه فوق سرير (رمز للقالب الجاهز)، فإذا كان المخطوف أطول من سريره ضغطه حتى يتناسب مع طوله، وإذا كان أقصر منه مطه ليناسبه، وفي الحالين، المخطوف ضحيّة مزدوجة؛ ضحية خيار الفاعل العنفي (الخيار الواعي أو اللاواعي)، وضحية أدواته الجاهزة) (1).

والعنف كظاهرة فردية أو مجتمعية، هي تعبير عن خلل ما في سياق صانعها، إن على المستوى النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، دفعه هذا السياق الذي يعانيه، نحو استخدام العنف، متوهما أن خيار العنف والقوة، سيوفر له كل متطلباته، أو يحقق له كل أهدافه، وفي حقيقة الأمر، أن استخدام العنف والقوة في العلاقات الاجتماعية، وتحت أي مبرر كان، يعد انتهاكا صريحا للنواميس الاجتماعية، التي حددت نمط التعاطي والتعامل في العلاقات الاجتماعية؛ لأن العنف على المستوى المجتمعي، يعني (على حد تعبير خليل أحمد خليل) أن يغتصب (صانع العنف) أدوات صراعية وصدامية، من أجل أن يتمكن (كما يرى) من البوح برأيه، والتعبير عن مكنون خاطره وفكره.. لهذا فإننا نرى العنف، من الأسلحة الخطيرة، التي تقوّض الكثير من مكاسب المجتمع، وإنجازات الأمة والوطن.

لأن العنف بتداعياته المختلفة، وموجباته العميقة والجوهرية، سيصنع جوا وظروفا استثنائية وغير مستقرة؛ مما يعرقل الحياة الاجتماعية والسياسية والتنموية.

ونظرة واحدة إلى الكثير من البلدان، التي تحوّل العنف والعنف المضاد فيها إلى ثابتة من ثوابت الفضاء السياسي والمجتمعي هناك، نجد أن العنف بتداعياته ومتوالياته الكثيرة، هو أحد الأسباب الرئيسة لفشل مشاريع التنمية الاجتماعية والسياسية؛ لأن عسكرة الحياة المدنية، يفرض واقعا عاما ووحيدا، وهو واقع العنف والعنف المضاد؛ لأنه حينما تنعدم الحقوق الطبيعية للحياة الإنسانية المدنية، تتحول هذه الحقوق إلى سياسة مكبوتة.. إذ تنزل من ساحة العلن، ومن مجال التفاعل الحر بين الارادات والمصالح والمثل العامة، إلى أقبية الكبت، وتهرب من النور وتدخل دهاليز الظلام، وهناك تتابع نموها غير الطبيعي، دون أية مراقبة مشروعة.. (ومن هنا كانت صيغة قيام الدولة المتغربة المستعارة كعصبية جديدة تضاف إلى العصبيات التقليدية، يشل في الواقع نمو المشاركة الجماهيرية الأوسع؛ إذ يبني في النهاية الدولة - الفئة ضد مشروع الدولة- الأمة، الذي وحده يناط به إلغاء السلطات التقليدية وصهرها في بوتقة المشاركة الأشمل؛ فإن الدولة - الفئة تحرض ضدها مختلف القوى الفئوية الأخرى التي تجد نفسها مهددة في مصالحها الحيوية، وبالتالي فهي مضطرة للكفاح من أجل بلوغ العنف بطرق العنف المتاحة. هكذا يتعسكر المجتمع بكامل فئاته وطوائفه؛ إذ يأخذ الصراع بينها شكل الإعدام المتبادل، الذي يحول التناقضات الرأسية فيه، إلى مستوى التناقضات الأفقية؛ فيقيم الحواجز النفسية والأيديولوجية الحادة الحاسمة حتى فوق الأرض الواحدة المشتركة، وبين أبناء المجتمع الواحد، وتفرز هذه الحواجز النفسية والأيديولوجية حدودا مادية وإستراتيجية، تحول فئاتها إلى ما يشبه الجيوش المعبأة بالقوة أو بالفعل)(2).

وهنا تتحول الحياة الاجتماعية في نظر صانع العنف إلى حياة مريضة، تكثر فيها الميكروبات، وتتفشى فيها الأمراض والأزمات، ويضطرب فيها السلوك الاجتماعي وتتشكل كل الظروف وعوامل الخصب لنمو ظاهرة العنف في العلاقات الاجتماعية.

العنف والتعصب وجهان لعملة واحدة:

ليس ثمة شك أن العنف بكل أشكاله وأدواته، يشكل ظاهرة خطيرة، تصيب الكيانات البشرية، وتمزق أواصرها، وتعمق شروخها، ونقاط الاختلاف بين عناصرها دون أن يحقق العنف أهداف وغايات صانعيه في الوسط الاجتماعي والوطني عبر مختلف العصور والأمصار.

ولم يسجل لنا التاريخ الإنساني، أن العنف والأعمال التخريبية والترويع والتخويف، واستخدام أدوات القوة الغاشمة في العلاقات الإنسانية، قد حقق أهدافه، ووصل إلى مطامحه. وإنما على العكس من ذلك، نجد أن العنف، يشكل قناة أساسية، لتبديد الطاقات، ونسف الإنجازات، وتعريض أمن الجميع للكثير من المخاطر والمساوئ.

والإنسان وحده هو الكائن، الذي يستخدم العنف لغاية تدمير ذاته أو نوعه، ولعل الجذر الفكري والمعرفي، الذي يغذي حالات العنف، هو حالة التعصب؛ فالمتعصب يرفض حالة الاختلاف الطبيعية، التي هي جزء من القانون العام والناموس الكوني، ويلجأ إلى أعمال العنف والترويع والتخويف.

فالتعصب المقيت، هو الوجه الآخر للعنف؛ فهما وجهان لحقيقة واحدة.. الوجه الثقافي والفكري هو التعصب، والوجه الاجتماعي والسلوكي هو العنف واللجوء إلى القوة الغاشمة في العلاقات الإنسانية.

فحينما تقمع الآراء، وتمارس القوة التعسفية في إقصاء الأفكار والتعبيرات، تنمو حالات العنف والتعصب في المجتمع، حيث يدخل الجميع في دوامة العنف والتعصب، بحيث تشمل جميع دوائر السياسة والثقافة والاجتماع.. فـ(حين يتعثر مولد الرأي، لا يبقى إلا الاعتراض، والاعتراض بدوره محكوم عليه منذ البداية أن يكون صراعا حديا، ولا سبيل أمامه إلا أن يغتصب ذات أدوات الصراع المباشرة التي تمتلكها السلطة؛ وبذلك لا تكون سياسة في ظل الحراب، حراب الدولة وحراب المعترضين. فليس غريبا إذن أن تتعسكر السياسة العربية منذ نشأتها الأولى، عند كلا قطبيها: الحاكم والمحكوم، في معظم الأقطار المشرقية التي سبقت إلى دخول عصر الاستقلال الوطني، وواجهت مبكرة في آن واحد استراتيجية التنمية السريعة في بناها الاقتصادية والاجتماعية واستراتيجية الاختراق من قبل الاستعمار الجديد)(3).

فالتعصب يؤدي إلى العنف واستخدام التعسف والقوة ضد الآخرين، كما أن العنف يتغذى من التعصب والثقافة التي تقف وراءه، وتمده بالمبررات والمسوغات.

وبالتالي فإن الجميع يدخل في دائرة جهنمية، تقضي على كل المكاسب، وتمارس كل أساليب الفاشية لإخضاع الآخرين إلى آرائهم وقناعاتهم العقدية والسياسية؛ فالذي يمتلك وسائل القهر، يمارس العنف بأبشع صوره، والذي لا يمتلك وسائل القهر، يدخل في دوامة التعصب ويمارسه ضد الآخرين، استعلاءً وإقصاءً وتهميشا وتمييزا وصولا إلى ممارسة الوسائل المادية في القهر والنبذ والإقصاء.. وهكذا نجد أن العنف يغذي التعصب، كما أن الأخير يوفر الأرضية المناسبة على مختلف الصعد، لسيادة العنف والقهر والعسف في الحياة الاجتماعية والعامة.

والحاضن الأكبر لظاهرتي التعصب والعنف، هو الاستبداد بكل صوره وأشكاله، حيث يلتهم الحياة بتنوعها، ويختزلها في بؤرة ضيقة، فيمنع كل أشكال الحياة عن الآخرين، ويقمع كل من يحاول أن يعبر عن رأيه أو يمارس حريته أو يطالب بحقوقه.

ولهذا نستطيع القول: إن هذا الثالوث الخطر (الاستبداد ـ العنف ـ التعصب)، يتغذى كل واحد من الآخر؛ فالاستبداد يهيئ الأرضية والظروف لممارسة العنف والتعصب، والعنف والتعصب يؤكدان خيار الاستبداد ويعمقانه على مستويات الحياة كافة.

لذلك فإننا نجد أن البداية السليمة لتجاوز خطر هذا الثالوث الجهنمي، هي في ممارسة الحريات السياسية والثقافية والاجتماعية، بحيث أنه كلما توسعت دائرة الحرية في المجتمع، كلما تقلصت فعالية الاستبداد والعنف والتعصب.

من هنا نجد أن المجتمعات والأمم التي تسود فيها قيم الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، تضمحل فيها ظواهر الاستبداد والعنف والتعصب، وعلى العكس من ذلك المجتمعات التي تسود فيها قيم الديكتاتورية والاستفراد بالسلطة والرأي، حيث تتعاظم ظواهر الاستبداد وتصل إلى كل مجالات الحياة، من الأسرة إلى قمة الهرم السياسي، مرورا بكل دوائر الحياة، وتبرز حالات العنف والتعصب في كل مجالات وحقول الحياة.

لذلك لا خروج من هذه الدائرة المغلقة، إلا بالمزيد من الحريات، وتجذير خيار الديمقراطية والتعددية في المجتمع؛ فهذا الخيار هو القادر على امتصاص الظواهر السيئة، وإنهاء موجبات العنف والتعصب، وتجاوز كل آثار وتداعيات الاستبداد والديكتاتورية.

والديمقراطية ليست مشروعا ناجزا أو وصفة سحرية، قادرة على معالجة مشاكلنا وأزماتنا بلمح البصر، وإنما هي مشروع مفتوح على كل الطاقات والقدرات لتوظيفها في إرساء دعائمها في الواقع المجتمعي، كما أنها بحاجة إلى قوة مجتمعية تلتزم بمتطلباتها ومقتضياتها الخاصة والعامة، وتدافع عن هذا الخيار بالمزيد من العمل والممارسة الديمقراطية على مختلف المستويات؛ فعنف الآخرين وقلقهم وهواجسهم، لا يمكن مواجهته بالردع واستعراض العضلات والقوة، بل بالديمقراطية والتعامل الأخلاقي الرفيع.

ومن الأهمية بمكان أن ندرك جميعا، أن الخيار الذي يقابل ويواجه خيار الديمقراطية هو الانفجار السياسي والاجتماعي، الذي يدمر كل المكاسب، ويقضي على كل الآمال، ويجعل مجالنا العربي والإسلامي برمته في مأزق خطير، قد لا يتمكن من الخروج منه معافى وسليماً.

ولا بد أن نأخذ الدروس والعبر، من مناطقنا التي حدثت فيها حروب أهلية وداخلية، حيث أن هذه الحروب دمرت الاقتصاد والتجارة، وهجّرت الكثير من شعوبها، وجعلتها في قافلة اللاجئين في العالم، وأفنت كل البنية التحتية للبلد، وقتلت خيرة شبابها ورجالها في معارك عبثية.

إن هذه الحروب تعلمنا درسا بليغا؛ أن العنف حينما يستشري، والتعصب حينما يسود، فإن الدولة والمجتمع والمكاسب الخاصة والعامة، كلها مهددة بالاندثار والضياع؛ وذلك لأن العنف كالغول، حينما يخرج من قمقمه فإنه يدمر كل شيء يمر عليه في طريقه؛ لذلك لا بد أن تتوجه كل جهودنا وطاقاتنا، نحو تذويب موجبات النزعات العنفية والتعصبية في مجتمعنا وأمتنا، ونعمل من مواقعنا المختلفة والمتعددة لإرساء دعائم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في واقعنا العام.

نقد التعصب:

فالإنسان (الفرد والجماعة) المعبأ بقيم العنف والحقد والتعصب، ينتج الحروب والدمار، وذلك لأن العناصر المعبأ بها الفرد أو المجتمع، هي العناصر المشعلة للحروب والصراعات المفتوحة.

من هنا لا يمكن إبعاد خطر الحروب والصراعات المسلحة عن واقعنا ومحيطنا إلا بتأكيد وتعميق مبادئ الديمقراطية والكرامة الإنسانية والمساواة واحترام الآخرين بكل ما تحمل كلمة الاحترام من معنى ودلالة.. ولقد أدركت منظمة (اليونسكو) أهمية التحولات الفكرية والثقافية باتجاه الديمقراطية والسلام، لإنهاء أخطار الحروب في المجتمع الإنساني،. حينما لخصت الأسباب الفكرية لظهور النازية في أوروبا في المقولة التالية: (إن الحرب تبدأ في عقول البشر، فلماذا لا يبنى السلام في عقولهم). ولكي يبنى السلام في العقول، فهو بحاجة إلى تطهير الواقع من عوامل وموجبات العنف والتعصب، حتى تتكون الظروف الموضوعية المفضية إلى السلام والتعاون والتضامن.

ولعل من أبرز العلماء والفقهاء، الذين مارسوا نقدا لاذعا ضد العنف، وأسس لنظرية اللاعنف والسلم، هو الإمام محمد بن المهدي الشيرازي، الذي يرفض العنف بكل أشكاله، كما يعتبر اللاعنف نظرية متكاملة، ومنهج سلوك متواصل، وخياراً حضارياً ينبغي أن نوفر عوامل نجاحه الذاتية والموضوعية.. ويقول في هذا الصدد: (إذا أردنا أن نصل مع الآخرين إلى الحل الصحيح، والاجتماع على رأي صائب، لكي نحصل على النتيجة المطلوبة، يجب علينا أن نسلك طريقا بعيدا عن العنف، ونتبع أسلوب التفاهم بالحكمة والموعظة الحسنة والهدوء في معاملتنا مع الآخرين، حينئذ نصل موفقين إن شاء الله تعالى إلى الغاية والهدف) (4).

ولا بد أن نسند رفضنا للعنف، برفضنا لأسبابه وموجباته؛ وذلك لأننا إذا رفضنا النتيجة دون أسبابها، فإن الأسباب ستستمر في عملها وتوليدها لكل حالات وأشكال العنف.

لذلك فإننا مطالبون دائما، برفض كل الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى العنف، ولا ريب أن التعصب بكل أشكاله ودوافعه، من الأسباب الرئيسة المفضية إلى العنف؛ لذلك ينبغي أن نرفض التعصب ونعتبره من الأخطار الكبيرة، التي تهدد أمن الأمة ومكاسبها التاريخية والحضارية.. ونعمق ثقافة التسامح والرفق وحسن الظن والرحمة في المحيط الاجتماعي.. فقد جاء في الحديث الشريف: (ضبط النفس عند الرغب والرهب من أفضل الأدب) (5) فينبغي أن لا يدفعنا سوء الحال والاحتقانات الداخلية، إلى تبني خيارات عنفية وتعصبية، كما أنه ينبغي أن لا يدفعنا شعورنا بالقوة والسيطرة إلى تبني خيار التعصب حيال المختلفين معنا في المعتقد أو الرأي أو القناعة.. فالمطلوب في كل الأحوال، هو ضبط النفس والاعتدال.. فـ( الرفق يؤدي إلى السلم) (6). و(من كان رفيقا في أمره نال ما يريد من الناس) (7).. فالعنف لا يوصل إلى غاية مشروعة، ولا يؤسس لممارسة اجتماعية حضارية تزيد من فرص البناء والتطور.

وحينما نتأمل في خريطة المجالين العربي والإسلامي، نجد أن الدول التي يتمتع نظامها السياسي بمزايا الديمقراطية، وتشارك قوى المجتمع في صناعة القرار وإدارة الشأن العام، تتقلص فيها إلى حدود دنيا كل مظاهر التعصب والعنف، أما الدول التي تحكم بعقلية شمولية، إقصائية، حيث الشعب لا رأي ولا تمثيل سياسي له، فنجد أن مظاهر العنف والتعصب مستشرية فيها، وأن حالة الاحتقان الشعبي تتزايد فيها باستمرار، وفرص الانفجار الاجتماعي تتعاظم؛ لذلك فإن الخطوة الأولى والأساسية في مشروع محاربة العنف والتعصب، هي المزيد من الانفتاح والانفراج السياسي، وإطلاق مبادرات سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها توفير مناخ الحرية والمشاركة لمجموع القوى السياسية والمجتمعية المتوفرة في الواقع.

إن الشعور المطلق بامتلاك الحقيقة واحتكارها، يدفع إلى رفض قناعات الآخرين وحقائقهم، وممارسة العنف بحق من يرفض هذه (الحقيقة) وعملية احتكارها؛ وذلك لأن هذا الشعور يولد حالة من التعصب لقناعات الذات وأفكارها؛ لذلك ستبقى دورة العنف والتعصب مستمرة، ما دمنا نتعامل مع أفهامنا وقناعاتنا البشرية بمنظار شمولي، بمعنى أن ما نفهمه ونقتنع به هو الحق والحقيقة. فهذا التعامل، هو الذي يوجد مسوغات التعصب ومبررات استخدام القوة والعنف في الدفاع عن هذه القناعات، وفي تعامل الآخرين معها.

لذلك فإن المطلوب، هو التعامل النسبي مع الأفكار والقناعات البشرية، والأيمان العميق بنسبية الحقيقة وأنها (الحقيقة) يمكن أن يشترك الجميع في صناعتها والتعبير عنها.

والتعصب بكل مفرداته وأشكاله، ليس وليد التعدد الديني أو المذهبي أو الأقوامي، وإنما هو وليد العملية السياسية والإدارية، التي لم تتعامل مع هذه التعدديات بعقلية حضارية جامعة، وإنما تعاملت معها بعقلية الفرز والتصنيف والتهميش.. فـ (ليس من الضروري أن تكون هناك عدة أديان حتى يتم الانقسام العصبوي ويتبلور تكلس البنية الاجتماعية. المثقف التقدمي العربي يشكو دائما من أن المجتمع العربي يشبه الفسيفساء لكثرة تعدد الطوائف والتمايزات الأقوامية والدينية فيه.

والحقيقة أن تشرذم البنية الاجتماعية لمجتمع من المجتمعات، لا يفترض وجود تمايز مسبق ديني أو عرقي، وإنما يخلق هو ذاته هذا التمايز داخل الدين الواحد السائد كما حدث في المسيحية الأوروبية. أما إذا كانت الوحدة الدينية عميقة الجذور، فيمكن لهذا التمايز أن يظهر على شكل نزاع بين مناطق ساحلية وجبلية، داخلية ومحيطية، ريفية وحضرية إلخ.. بمعنى آخر، ليس التمايز الديني أو العرقي المسبق هو الذي يولد التفتت الاجتماعي، ولكن التفتت هو الذي ينعش التمايزات القديمة ويثمرها ويعطيها قيما جديدة وأوزانا سياسية.. ويجب البحث عندئذ عن أسباب هذا التفتت، ويمكن القول الآن إن الإطار الحديث لممارسة السلطة، الذي أتت به الدولة العربية الحديثة، بدل أن ينشط التفاعل بين القمة والقاعدة، بين الحاكم والمحكوم، أغلق كل باب لتطوير بنى السلطة العليا وقنوات التفاعل الاجتماعية العميقة) (8).

من الواضح أن العنف من حيث هو أذى باليد أو اللسان، إنما يرتكز على الثقافة التي تنتجها العقلية المتعصبة، التي تختزل الحق في ذاتها، ولا ترى الأمور إلا بمنظار الأسود أو الأبيض.

فخطاب التنازع والتغالب، هو الذي يولد السلوك العنفي بكل أشكاله ومستوياته.. وتأسيسا على هذا نرى، ضرورة نشر ثقافة التسامح والجدل بالتي هي أحسن، ونبذ التعصب وثقافته الواحدية، ومنع استخدام الخشونة والترويع في العلاقات الإنسانية؛ لأن الدين الإسلامي يعتبر مسألة السلم والأمن المجتمعي، من الضرورات القصوى التي ينبغي أن تتجه كل الجهود والطاقات إلى تحقيقها والحفاظ عليها بكل الوسائل والأساليب المشروعة.. قال تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)(9).. فـ (كل مؤمن يود لو أن الناس يجتمعون على الإيمان، ولكن الله تعالى يذكرهم بأن هذه ليست سنة الله في الأرض، وإنما خلق الله الدنيا داراً للإبتلاء، ولا يتحقق عند ممارسة الجبر والإكراه، ويبين الله تعالى لنبيه (ص) (وللدعاة جميعا)، أنه لو شاء لأكره الناس على الهدى، ولكنه تركهم يختارون الهدى بحرية تامة؛ فهل أنت تجبرهم عليه؟ قال الله تعالى: (ولو يشاء ربك لآمن مــن في الأرض كلهـــم جميعا أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (يونس: 99)(10).

ذلك لأن قاعدة أي تقدم اجتماعي، وأي تطور تنموي، هي توفر حالة السلم والأمن في المجتمع والأمة والوطن، وأي ضرر يصيب هذه الحالة، سينعكس على حالة التقدم الاجتماعي والتطور التنموي.

والسلم المجتمعي هو البوابة السليمة، لمعالجة التناقضات البشرية، لأن العنف لا يولد إلا عنفا مثله.

ما العمل..؟!

إننا بحاجة إلى تفكيك آليات الفهم والإدراك، التي يمارسها ويستخدمها المتعصب لتبرير تعصبه؛ وذلك لأننا لا نستطيع أن نواجه التعصب إلا ببيان خواء وعدم صوابية آليات التفكير المستخدمة، التي تبرر للبعض ممارسة كل أشكال الإرهاب والقتل والتدمير بدم بارد، وبإحساس أنه يقوم بواجبه الديني أو القومي أو الوطني.

وإن مشكلة التعصب الكبرى، تكمن في تلك المنظومة المفاهيمية والفكرية، التي تسوغ ممارسة التعصب الأعمى بكل أشكاله وألوانه؛ فالمضامين الفكرية التي تقف خلف الممارسات التعصبية، هي التي تشكل المشكلة الكبرى؛ وذلك لأنها تفرخ باستمرار المجاميع والكيانات المتعصبة.

فالتعصب الأعمى يحيل الأفكار من أداة للتغيير والتحرر والانعتاق، إلى وسائل لقمع البشر والاستبداد، وإعادة إنتاج الأزمة الأولى التي حاول إصلاحها أو تغييرها.

ولهذا نستطيع القول: إن الأفكار حينما يتم اختزالها في أنظمة مغلقة وتشكيلات ضيقة، فإنها تولد التعصب والاستبداد، وتتحول إلى حواضن لتسويغ وممارسة العنف بكل أشكاله ومستوياته.

وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي، نحن بحاجة أيضا إلى إزالة الموجبات الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع الإنسان إلى تبني خيارات عصبوية وعنفية في علاقاته مع الآخرين؛ وذلك لأن التفاوت الاجتماعي الصارخ، وغياب متطلبات العدالة في جانبها الاقتصادي والاجتماعي، يفضيان إلى استشراء حالة من التعصب عند الشرائح والفئات المتضررة؛ لذلك فإن إزالة أسباب وموجبات التمييز الاجتماعي والاقتصادي، تعد خطوة أساسية في طريق القضاء على ظاهرتي التعصب والعنف، ونضيف إلى ذلك مسألة الاستبداد والقهر السياسي، حيث أن الكثير من ظواهر التعصب والعنف، التي توفرت في العالمين العربي والإسلامي خلال العقدين الماضيين، هو من جراء القهر السياسي والقمع والقتل الذي تمارسه السلطة السياسية ضد معارضيها؛ فالكبت السياسي والاعتقال التعسفي وممارسة أقصى درجات القهر والقمع، كلها عوامل تفضي إلى شيوع ظاهرتي العنف والتعصب في المحيط الاجتماعي.. فالظلم يفضي إلى العنف، والاستبداد يؤدي إلى التعصب، ولا إنهاء لظاهرتي العنف والتعصب إلا بإنهاء الظلم والاستبداد، ولا يمكننا القضاء على هذه الظاهرة، بدون إيجاد تغيير حقيقي ونوعي في الأداء السياسي الوطني، قوامه احترام الحريات الدينية والسياسية، والمحافظة على حقوق الإنسان، والوقوف بحزم ضد كل أشكال التهميش والتمييز والإقصاء التي يتعرض لها المواطن بسبب آرائه أو معتقداته.

وبكلمة: إن السبيل الحقيقي والجاد إلى إنهاء ظاهرتي العنف والتعصب في مجتمعاتنا، هو بناء حياة سياسية جديدة تسمح لجميع القوى والتيارات بممارسة حقوقها، والمشاركة الجادة والنوعية في البناء والتطوير.

إن التعصب في التجربة الإنسانية كلها، لم ينتج إلا حروبا وفتنا وعمليات استبعاد ونبذ متواصلة، تنتج كل أشكال الحقد والإرهاب والتدمير المادي والمعنوي.

وإن مأزق أي خطاب أو مشروع نابع من ذاته، بمعنى أن تحويل بعض مفردات الخطاب أو المشروع إلى عقيدة مغلقة، أدى إلى التعامل مع هذه المفردات، وكأنها تعاليم منزلة من السماء،فأفضى هذا التعامل إلى نرجسية في التعاطي مع شؤون الذات، انعكست تعصبا واستعلاءً في التعامل مع الآخرين، ولا عجب أن نجد أن هذه المشروعات التي تبلورت من أجل تحرر الأمة وتقدمها، تنتج على مستوى الواقع كل أشكال العنف والتخلف السياسي والحروب العبثية.

وهذه النماذج والحالات العصبوية الناتجة من التعامل المغلق مع الأفكار والقناعات الذاتية، ينبغي أن لا تدفعنا إلى التقصي عن الأفكار والأيديولوجيات، وإنما إلى تأسيس طريقة جديدة في التعامل مع هذه الأفكار، قوامها نسبية الحقيقة البشرية والتسامح والحرية والحوار والانفتاح. وبــالتالي فإن العــلاقة مع الأفكـــار والقناعات الــذاتية هي (ممارسة للوجود بقدر ما هي علاقة بالحقيقة)(11).

فالتعامل الدوغمائي مع الأفكار والقناعات الذاتية، يؤدي إلى الاستعلاء والتعصب والاستبداد.

وبالتالي فإن حمل الناس على الرأي الواحد والفهم الواحد، يناقض الاجتهاد والنواميس الكونية فيما يرتبط بالاختلاف البشري، وتاريخيا لم يكن ينظر مفكرو الأمة وأئمتها للاختلاف كمصدر ضعف وتراجع، بل اعتبروه تعبيرا عن غنى الثقافة، وزخم الحضارة، المرتبطين بعمق التجربة التاريخية واتساع الانتشار الجغرافي.

كما أن حمل الناس على الــرأي الواحد، يناقض الفكر الديمقراطي المعاصر؛ إذ إن (الاختلاف في المفهوم الديمقراطي ليس تفتيتا وتجزئة، بل هو بديل عن كل استبداد مغلف بغلاف الوحدة، حين تكون هذه الأخيرة، مجرد تغطية للانفراد بالسلطة، نعم هناك سلبيات ومزالق للتعددية، حتى في مستوى التعبير المؤسسي الديمقراطي، إلا أن عيوب الديمقراطية تصحح بالديمقراطية وليس بإلغائها)(12).

لهذا فإننا دائما بحاجة إلى تلك العقلية والثقافة، التي تمتص هذه التناقضات الداخلية والثانوية، وإعادة توجيه الطاقة الحية التي تزخر بها منطقتنا العربية في طريق التاريخ الإنساني.

وإننا بحاجة لأن نخرج من حالة المراوحة حول الذات وشؤونها الخاصة، إلى الانطلاق بعزم جديد ورؤية جديدة للفعل التاريخي الذي يعود على أوضاعنا وأوضاع العالم بكل خير وفائدة.

إن الثقافة العربية والإسلامية، حتى تنمو آفاقها، وتتبلور خياراتها المعاصرة، وتصبح ذات تأثير في مجمل الحياة العربية والإسلامية، بحاجة إلى التسامح والحوار بين مدارس الاجتهاد في الثقافة العربية والإسلامية؛ لأن التسامح هو الأرضية الخصبة التي تنمو فيها الإبداعات، وتنشط فيها الحركة، ويتفاعل فيها الجمهور، ويشحذ المثقف ذهنه وفكره وإمكاناته العلمية، للوصول إلى الرأي السديد والثقافة المناسبة للمرحلة واللحظة التاريخية.

الهــــوامــــش:

(1) مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد (27 ـ 28)، ص 19، مركز الإنماء القومي، بيروت، خريف 1983م.

(2) المصدر السابق، ص 13.

(3) المصدر السابق، ص 17.

(4) محاضرة للإمام الشيرازي بعنوان (اللاعنف منهج وسلوك)، مأخوذة من موقعه على الانترنت.

(5) غرر الحكم: 3241، 3298، 4488، 5932.

(6) المصدر السابق، ص 160.

(7) المصدر السابق، ص 159.

(8) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، ص 66، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1990م.

(9) القرآن الحكيم، سورة هود، آية (28).

(10) السيد محمد تقي المدرسي، التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده، الجزء الخامس، ص 369، الطبعة الأولى، مطبعة الشهيد، إيران 1997م.

(11) علي حرب، الفكر والحدث.. حوارات ومحاور، ص 116، دار الكنوز الأدبية، الطبعة الأولى، بيروت 1997م.

(12) علي أومليل، في شرعية الاختلاف، ص 10، دار الطليعة، الطبعة الثانية، بيروت 1993م.