النبأ

د. رضوان السيد (*)

دون الخوض في مسألة يقول فيها الغير المتحكم من الناحية الأكاديمية في تعريف الثقافة وفي التفرقة بين الثقافة والحضارة، وأيهما تعني - يعني أي مصطلح - لأن كلا المصطلحين مستورد؛ بمعنى أننا على لفظ (civilization) اخترنا (حضارة) بحسب سليمان البستاني، وللفظ (culture) اختار إبراهيم اليازجي ثقافة، فحتى لا نخوض في الأمر طويلاً وأيهما أدخل في الحضارة من حيث المسائل المادية التاريخية، وأيهما أدخل في المسائل المعنوية والثقافية العامة، أريد أن أصل بدايةً إلى أن المقصود بالثقافة أو الحضارة أنها تمثل منظومة أو مجموعة أو نسقاً من الظواهر التي تشكل ثوابت نسبية في الحياة الإنسانية، إذ ليست هناك ثوابت مطلقة. فيكون المقصود الانطلاق من ثوابت نسبية في سبيل تجديدها..

الثقافة تشكل منظومة أو نسقاً أو مجموعة من الظواهر المادية والمعنوية ذات العمق التاريخي، والتي تتميز بدرجة عالية من الثبات والاستقرار والاستمرار في حياة الجماعة، وفي مظاهر سلوكها وطرائقها في التفكير، وفي طرائقها في التدبير؛ لكن يتحدث كثير من الباحثين الذين يُعنون بالدراسات التي تعنى بالشرق الأوسط، وبالدراسات العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة، يتحدثون عن الثقافة والثقافة العربية والثقافة الإسلامية بطريقة - أو بطرائق - لا تعجبنا نحن كثيراً.. أحياناً يقول العرب إن ثقافتنا ثقافة جامدة، وأحياناً يقولون إنها بالعكس اجتازت مراحل من التغيير ومن التبديل بحيث أنها فقدت الصلة بأصلها، حيث لم يعد عندها استطلاع، ونحن طبعاً عندما نبحث مشكلة التراث والتجديد نبدأ دائماً بالرد على المستشرقين، والآن بدأنا بالحديث وبالردود على الأنثروبولوجيين أيضاً بحجة أن هذه الدراسات ذات خلفية استعمارية وذات خلفية هيمنة، وتعكس في الحد الأدنى المركزية الغربية، أو مركزة غربية أو أوروبية أو أمريكية ..الخ، وهذه كلها - طبعاً - أمور صحيحة، ولكن عندما يتأمل المرء حديثهم عن الثقافة الإسلامية والثقافة العربية، يجدهم لا يتحدثون عن ظواهر حاضرنا، وهم بالتالي لا يتحدثون عن الثقافة بالمعنى المصطلحي المقصود منها، تلك الظواهر التي تشكل نسقاً أو تشكل منظومةً من الأمور المادية والمعنوية التي تتمتع بثبات، يتحدثون عن كثير من ظواهر سلوكنا وتصرفاتنا وطرائقنا في التفكير وأحزابنا التي تحمل فكرة ثقافية أو فكرة إسلامية، ويصلون إلى نتائج؛ فإما أنهم يَسِموننا بالجمود أو أنهم يسموننا بعكس ذلك، حسب المناهج التي يتبعونها.

في الحقيقة هم لا يتحدثون عن الثقافة، ولذلك طريقتنا في نقدهم واتهامهم بالنزعة الاستعمارية وو.. هي صحيحة؛ ولكن ليس باعتبارهم يدرسون ثقافتنا التاريخية ومظاهر امتدادها في الحاضر أو عدم امتدادها، بل باعتبارهم يتحدثون عن أمر آخر تماماً، يتحدثون عن الوعي العربي والإسلامي للمتغيرات، وكيف يتصرف هذا الوعي بناءاً على إدراكه لهذه المتغيرات، وطرائق إدراكه، وكيف تكون ردود فعله سلباً أو إيجاباً؟!!.

هم (الأنثروبولوجيون) في الحقيقة لا يدرسون ثقافتنا التاريخية بالتحديد، كما لم يدرسوا الشرق الأوسط بالتحديد، بل يتحدثون في الواقع عن الإرغامات التي يتعرض لها وعينا المنوط به اتخاذ القرارات السريعة استجابة لهذه المشاكل الآنية، وينسبون قراراتنا نحن - جماعية أو فردية - ويعتبرونها جزءاً من الثقافة الإسلامية أو الثقافة العربية، فيحكمون على الثقافة بأنها فعالة وتجديدية أو أنها جاهلة أو أنها منقطعة ..الخ، وفي الحقيقة هناك مستويان من مستويات التفكير والتصرف والتدبير والتقدير؛ الأول هو المستوى الذي يمكن اعتباره مستوىً ثقافياً، والمستوى الآخر الذي يمكن اعتباره مستوىً للوعي، ومستوى الوعي هو الذي تجري دراسته الآن، بل ومنذ عدة عقود بما يتصل بالثقافة العربية أو بالحاضر وبالتحديد بالحاضر العربي.

في الواقع وبسبب الأزمات المتلاحقة والظروف التي مررنا بها في القرن الماضي الذي يقول عنه البعض (القرن العشرين الطويل) فإن أكثر ما نتصرف فيه وما نفكر ناجم عن ارغامات الوعي، هذا الوعي الذي يكون مضطراً لاتخاذ هذه القرارات أو تلك، وهذه التصرفات أو تلك لأن الحياة لا تتوقف، هذه التصرفات تظل في نطاق لا يمكن اعتباره عربياً أو إسلامياً رغم كوننا عرباً أو مسلمين، ولكن ليست هذه في الحقيقة استمراراً أو هي نتائج طبيعية أو نتائج منتظرة أو يمكن استخدامها لفعل الثقافة العربية أو الثقافة الإسلامية سلباً أو إيجاباً، بل هي قرارات وردود أفعال يتخذها الوعي وبطريقة سريعة أو متسرعة تحت وطأة الإرغامات المختلفة، وكما يقول (ليفر غارس) الأنثروبولوجي: (لو أن هذه الظاهرة أو تلك، أو ردة الفعل هذه أو تلك، من هذه الحركة العربية أو الإسلامية أو تلك، ظللنا نراقبها طوال مئة عام، أو خمسين عاماً، على أنها ظاهرة تتكرر بشيء من التشاؤم لأمكن عندها القول أنها تتمتع بدرجة نسبية من الثبات، بحيث نقول أنها دخلت في الثقافة العربية أو الإسلامية، أما أن نعتبر هذا القرار أو ذاك أو هذه الظاهرة أو تلك، جزءاً من الثقافة العربية أو الإسلامية فنحملها المسؤولية إيجاباً أو سلباً، فهذا أمر لا يمكن اللجوء إليه لأن الثقافات والأمم في ظل ظروف التحول الكبير، وظروف التحول العميق، تختل، أو يصبح هناك نوع من الخلل بين مواهبها الثقافية التي تتمتع بثبات نسبي والتي يمكن نسبتها عندئذٍ للثقافة؛ فالقرارات والتصرفات والأفعال وردود الفعل الناجمة عن الحاجة والضرورة في ضبط هذا الوضع المعين والمحدد لهذا التغيير السريع، لا يمكن اعتبارها ظاهرة ثقافية أصيلة أو جزءاً من هذا العالم الثقافي التاريخي لهذه الحضارة أو تلك، أو لهذه الثقافة أو تلك، ولا شك أن أمتنا ومجالنا الثقافي والحضاري عانى ويعاني من تحول في نتائج وظواهر هذا التحول الكبير والسريع، والحافل بالأزمات والذي لا يقتصر على مجالنا الحضاري، ولكنه يشمل العالم كله، وإنما يبدو عندنا بدرجة أكثر حدة بسب تفاقم المشكلة.

هذه الفرضية التي تقول بالتفرقة بين الثقافة والوعي ليست للدفاع عن الثقافة، بل للوصول إلى درجة من الفهم الموضوعي الذي يمكن من قراءة هذه الظواهر في عائديتها ونسبيتها، بحيث يمكن القول أنها ستستمر باستنادها إلى رؤية للعالم تنتمي إلى هذا العالم الثقافي بشكل أصيل، وإلى الظواهر العابرة الناتجة عن التحول العميق والسريع والذي تخالطه أزمات كثيرة؛ فإذا سلمنا بهذه النظرية فكيف يمكن الحديث عما يسمى (تنمية ثقافية)؟، أو ما هي الآفاق التي يمكن الحديث عنها في نطاق تنمية ثقافية؟!، بمعنى أنها تحررنا إلى حد ما من إرغاماتها وقراراتها السريعة والمختصرة، لتعيد تواصلنا مع عالم الثوابت - ليس بمعنى العودة إلى الوراء - بل بمعنى أنها التواصل مع النظرة الأصيلة والعادية والهادئة للعالم، والتي ينتظر أن تكون فعلاً ذات تأثير عميق في حاضرنا وفي مستقبلنا؛ بمعنى أنها ليست ظواهر عابرة لكنها نتاج طبيعي لهذا التجديد والتجدد والتغيير في منظومتنا الثقافية الأصيلة.

أول ما يلفت الانتباه الخلل الذي يحول دون تنمية في قراءتنا لما نسميه (وعياً تاريخياً) أو (تواصلاً تاريخياً) أو (استمراراً تاريخياً) فعلاقتنا بثقافتنا التاريخية هي أول ما يمكن اعتباره أساساً من أسس التنمية الثقافية؛ طبيعة علاقتنا، إشكالية هذه العلاقة، والتي أجريت التجارب حولها كثيراً؛ فهي أول ما ينبغي التركيز عليه لتصحيح علاقتنا بماضينا، وبالتالي في جوهر ما نعتبره ثقافتنا؛ وتصحيح العلاقة يكون بالاستيعاب والتجاوز، لكن ما يحدث في الوعي هو الذي أدّى إلى هذا الانقسام الثقافي الإعلامي الكبير في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة، أي أننا انقسمنا إلى فريقين كبيرين؛ الفريق الذي يتحدث عن هذا الاستمرار والتواصل في ثقافتنا والذي يمكنه بفهم أصح - كما يقولون - وباجتهاد أن يحدد حاضرنا ومستقبلنا بناءاً على هذه الثوابت التاريخية التي بعضها نصي وبعضها عالٍ وبعضها إجماعي نتيجة إجماعات، ولكنها في مجموعها تشكل - إذا أحسن فهمها وتجديدها - تحليلاً ممكناً لحاضر زاهر ومستقبل زاهر، بينما رأى فريق كبير آخر وهو مقسوم في الحقيقة إلى قسمين؛ الفريق الذي يعتبر أن التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية والعربية فيها تقدميون وفيها رجعيون، ونستطيع أن نستلهم التقدميين ونهمل الرجعيين، بينما رأى آخرون أنه ينبغي أن تترك هذه المسألة تماماً و أن تكون هناك قطيعة من أجل أن نتمكن من التجديد، وكلا الأمرين جربتهما الأمم، وليست هناك أمة من الأمم - عدا الصين - منذ حوالي عشرين سنة تتخثر وتتورد وتمرض فيها ظاهرة العلاقة بتراثها مثل الأمة العربية والإسلامية، هذه الإشكالية إشكالية متفجرة بسبب وجود هذين الفريقين، وطبعاً فريق التواصل والاستمرار أكبر بكثير من الفريق الثاني، الفريق الذي نعتبره أحياناً فريقاً علمانياً، في الواقع هذا الفريق الأول ومنه أكثرية الباحثين والمثقفين في العالم العربي والإسلامي يمارس عملية الاستيعاب والتجاوز، وبطريقة تشبه تماماً ما تفعله الأمم الأخرى، لكن إدراكه لهذه العملية هو بخلاف ممارسته، بمعنى أنه ينظر في نص من النصوص، أو ممارسة من الممارسات، أو في إجماع من الإجماعات، فيجدد ويجتهد فيه ويفهمه فهماً جديداً، لكنه يظل مصراً على أنه في ذلك متّبِعٌ وليس متّبعاً، الخوف من البدعة يحكمه، ويحكمه أكثر الخوف من أن يكون قد تجاوز مسألة الأصالة، ومسألة التأصيل هذه داء كبير من أدواء المعاصرة عندنا، من أدواء النهضة الإسلامية الحاضرة عندنا، بمعنى أننا نهتم دائماً أن نجد أصلاً يبرر ما نفكر فيه أو ما نسلكه، مع أننا مسلمون كاملو الإسلام، أي نملك القدرة على هذا الاستيعاب وعلى هذا التجاهل، دون أن يؤدي ذلك إلى تشكيك لا في ثقافتنا ولا في ديننا، لكن كما ذكرنا هناك مستويين لهذا الأمر، نحن نقوم بهذا الأمر الصحيح في أمر الاستيعاب والتجاهل، لكننا ندرك أننا لم نفعل شيئاً مثلما يفعل الشاعر العربي القديم الذي يبدع قصيدة عظيمة ثم يقول (هل غادر الشعراء من متردم) يعني أنا لم أنتج شيئاً وإنما هذا من إنتاج الأجداد، أو كما يأتي المؤرخ المسلم أو مؤلف كتاب السيرة النبوية، وكتابة السيرة النبوية لا علاقة لها بالحديث النبوي، وكتابة التاريخ الإسلامي لا علاقة لها بالحديث النبوي التشريعي الذي تقام على أساسه الأحكام الفقهية وأحكام الحل والحرمة، لكنه يريد أن يتشبه بكاتب حديث، فيبتدع إسناداً لخبره التاريخي، ولكتابة السيرة النبوية في مكة المكرمة حيث لم تكن هناك إمكانية لتركيب إسناد، وكذلك مع الطبري يفعله أيضاً أمثال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب (الأغاني)، في خبرٍ أدبيٍ عاديٍ أو في رواية شعر أو في نثر شعر، يركب إسناداً ليقول إن هذا الخبر صادق أو إن هذا الشعر أصيل مع أن الإسناد صار تقليداً مستحباً، لكن عندما تحاسبه - كما يفعل المحدثون - على الإسناد يتبين أن الإسناد موضوع، وبالتالي يتسلل التكذيب إلى المتن نفسه؛ لأن المؤرخ وكاتب السيرة النبوية وكاتب الخبر الأدبي كل هؤلاء الناس اتبعوا هذا التقليد، تقليد الإتباع، يعني لم يخلقوا ولم ينتجوا مناهج مختلفة للشؤون الأدبية المختلفة، وإنما تبنوا كلهم منهج المحدثين وهو لا يصح إلا في الحديث النبوي، وكذلك نفعل نحن الآن - نحن الذين ننضوي تحت لواء هذه النهضة الإسلامية التي تسمى (صحوة إسلامية) - إذ زدنا من تأزم مشكلة علاقتنا بماضينا، علاقتنا بتراثنا، علاقتنا بثقافتنا التاريخية، نتيجة منهج التأصيل الذي أكدنا ونؤكد عليه مع أنه لا يمكن تطبيقه في90% من الحالات ولكننا ندعي - ونحن لسنا كاذبين - سلامة النية؛ إذ لا نقصد التزييف والتزوير والضحك على القراء بشأن منهج التأصيل.. نحن هذه رغبتنا ورغبتنا الحارة جداً وغير الممكنة طبعاً.

هذا الوعي المتفاوت والمضبوط بالعلاقة بالماضي عائق كبير من عوائق التنمية الثقافية، وهنا أقصد الإدراك أو الوعي ولا أقصد الممارسة، لأن الممارسة تسير كما تسير عند سائر الأمم وعلاقتها بماضيها وبتراثها المقدس منه وغير المقدس.

الأمر الأول إذاً هو أمر الاستيعاب والتجاوز؛ أن يصبح ذلك جزءاً من ثقافتنا، وأن لا نظل خاضعين لإرغامات هذا الوعي الخائف من الاعتراف بأننا نحن هنا وماضينا جزء منا.. وعندما نقول أنه لا يستوعبنا بل نحن نستوعبه نقع في خطأ، ذلك لأننا نظل مسلمين، ونظل عرباً، وتظل ثقافتنا ثقافة إسلامية، وسيعمل أبناؤنا وأحفادنا على اعتبارنا جزءاً من ماضيهم؛ باعتبارنا أنتجنا جديداً في الإسلام. وقد نكون أنتجنا إسلاماً جديداً لا بمعنى أنه منفك الجذور، بل بمعنى أنه مُستوعب لما قبله.

هذه هي إشكالية وآلية الاستيعاب والتجاوز التي تتصل اتصالاً كبيراً بمشكلة الهوية التي هي أساس مسألة التأصيل والخوف عليها؛ الخوف من الذوبان، أو الخوف من الإنقطاع، الخوف من الذوبان في الغير، أو الخوف من الانقطاع عن الجذور؛ وهاتان مشكلتان متصلتان بمسألة الهوية وبمسألة القصور الذي تعاني منه الأمة.

فأول أمر بل أنه من أهم الأمور، في مسألة التنمية الثقافية، أن نعترف على مستوى ثقافي بأن علاقتنا بثقافتنا التاريخية هي علاقة استيعابٍ وتجاوز، والأمر الثاني أنه ليست في المعرفة هوية، وأن قصورنا إلى حد كبير هو قصور معرفي، أنا أنظر إلى مثقفينا الحريصين على الهوية، ولا أعني الإسلاميين وحسب بل القوميين أيضاً بل وحتى اليساريين، أنهم في الحقيقة حريصون على امتيازاتهم، يعني أنا - مثلاً - ما دمت أخوض في ملعب صغير وأنا واحد من لاعبين لا يتجاوز عددهم الخمسمائة عندئذٍٍ أخاف أن ينفتح هذا الملعب؛ فلذلك أنا مصر على أن يظل الملعب مقفلاً على الخمسمائة لاعب؛ فالمشكلة هي علاقتنا بالعالم، المشكلة أنه ليست للمعرفة هوية، وأن هذا القصور المعرفي يجب تجاوزه بالاندفاع نحو العالم وبالاتجاه إليه، هذه المسألة لا يعاني منها ابن الطبقة الوسطى في العالم العربي أو الإسلامي ولا يعاني منها المسلم العادي، بل يعاني منها المثقف المسلم، أي تعاني منها النخب الثقافية والسياسية والإدارية العربية والإسلامية؛ لأنها تخشى أن تفقد إلى حد كبير امتيازاتها إذا صارت جزءاً أصيلاً من العالم تتأثر به وتؤثر فيه بسبب اتساع المساحة؛ ولذلك نؤكد على مسألة الهوية وعلى مسألة الانحصار، ونؤكد من جهة أخرى على أننا لا نعاني من قصور معرفي، وأنها (مسألة الهوية) تستطيع أن تخدمنا، وعندها نستطيع نحن أن نكفي هذه الأمة ونقود وسائلنا لحماية هذه الحمى التي نسيطر عليها، ونعتقد أننا نسيطر عليها، وأن نعطي للمعرفة الهوية بحيث يمكننا القول بأن هناك معارف ضارة ومعارف حسنة، بل في الحقيقة أن استعمال هذه المعارف هو الذي يتعرض لهذه السمة أو تلك بالإيجاب أو بالسلب، أما المعرفة بحد ذاتها فهي الآن أم العالم وأبوه، ولم يعد هناك شيء غيرها.

وعلى طريق اكتساب هذه المعارف ونشرها، ما زلنا نعاني من عجز كبير على المستويات الثقافية والسياسية والإدارية، وهذا الذي يجعل تلك النخب الثقافية والسياسية والإدارية تحت وطأة الإحساس بالخوف من جراء الوعي المضغوط في مسألة الهوية، هذا من جهة ومن جهة أخرى الخوف على الامتيازات الخاصة والذي يؤدي إلى أن تعطى المعرفة إلى هذه الهوية أو تلك وتحدد بهذه السمة أو تلك، ولا يطلق السراح أقصد لا تجري الدعوة إلى وعي جديد بأهمية الانفتاح على العالم، وبأهمية الدخول فيه، وبأهمية السيطرة على معارفه، وبأهمية التأثير فيه والتأثر به؛ في أن نتخلله من الداخل، وأن نعمل معه وفيه من الداخل، لما يخدم مصالحنا وبما يخدم حاضرنا وبما يصون مستقبلنا.

الهـــوامـــش:

(*) من محاضرة ألقيت في المركز اللبناني للدراسات والأبحاث الحضارية - بيروت - راس النبع.