النبأ

أحمد البدوي

♦♦ تمهــــيد:

بدأت الإرهاصات الأولى لمسألة حقوق الإنسان في العصر الحديث -للقرون الثلاثة الأخيرة- مع المقولات التي بدأت تتناول مسألة العقد الاجتماعي لدى علماء الاجتماع السياسي في الشطر الغربي، مع (مونتسكيو) (1689-1755)، و(جان جاك روسو) (1712- 1778)، و(جون لوك) (1723-1804)، و(فولتير) (1694-1778) والتي -المقولات- تعتبر بدورها استجابة لتحديات تميز بها القرن الثامن عشر، وأيضاً هذا يتبع ما كان مع السابع عشر، حيث بدأت موجة الوعي تأخذ مكانها ضد الوجود الأرستقراطي الغربي في حكمه، وهذا النظام الكنسي بما كان يؤديه من دور في تغطية وتبرير ذلك الوجود الحاكم.

كان القرن السابع عشر يمثل قرن التنوير أو قرن المثقفين، وهذا ما أفضى إلى قرن الحريات، أي القرن الثامن عشر، حيث بدأت المشكلة (حق الإنسان داخل الدولة) تبرز أكثر مع احتدامات هنا وهناك، في ثورات وتمردات، وما يقابلها من ردع وردم، سيما للإصلاحيين الذين بدأوا يشكلون طبقة لا بأس بها.

وسط هذه الاحتدامات التي شكلت تحديات، بدأت الطروحات تبزغ مع نهاية النصف الأول للقرن الثامن عشر حول حقوق الإنسان، والتمحور في هذه الأطروحات حول أصالة الإنسان، كمذهب (Humouesim)، يمثل الأساس للفكر الحقوقي لتيار فلاسفة الأنوار، وهذا ما تمخضت عنه الثورة الفرنسية، بل ثوراتها، بكل تلك التاريخية في سلبيتها وإيجابيتها، وكان معها الإعلان الأول لحقوق الإنسان والمواطن الفرنسي في عام 1789م، وبدأت هذه المسألة تتجوهر وتتكاثف في قنواتها حتى غدت المحور الأهم في علم الكلام الجديد في العصر الحديث، بل إن هذا العلم، لم يستطع أن يأخذ فيه الجديد، سوى في تمحور مباحثه على ذات الإنسان في الجانب الحقوقي وغيره.

بدأ هذا الأفق يأخذ وجوده بكثافة لأسباب عديدة، منها ما كان قديماً، ومنها ما قررتها مسارات التحرر الجماهيري، على خلاف ما عرفته القرون القديمة في التحولات للحكم الذي كان يقوم على الغزو، أو من داخل العائلة المالكة، إلا نتفاً هنا وهناك في التاريخ تشابه ما بدا في هذا القرن، وبالتأكيد حينما يكون المسلك الثوري جماهيرياً، فهذا سيفرض شعارات تتمحور حول أصالة الإنسان واعتباره الأول والأخير في إقامة الدولة.

إذن، بدأت المسألة ترسخ في وعي الرأي العام، سيما بعد أن بدأ يحسب له حساب في الوسط السياسي- وهذا ما أفضى إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة في كانون الأول عام 1948م، ثم تلته معاهدتان دوليتان بشأن الحقوق الاقتصادية والثقافية والمدنية والسياسة، أقرتا من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، ومن ثم بيان مؤتمر القمة الأوروبية المنعقد في عام 1975م.

عموماً نستطيع أن نجد في مميزات التيار الذي عمل له (فلاسفة الأنوار)، الحركة الفكرية التي امتدت طوال ثلاثة قرون - السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر - تمثلت في المقولات التأسيسية لمسألة حقوق الإنسان داخل المجتمع الإنساني، وبالذات في مسألة الحريات والحكم؛ لذا كان القرن التاسع عشر يوسم بأنه قرن الأيديولوجيات، إذ إن الأيديولوجيات تشرع وتنظر للبنى التحتية في مسألة البناء الحضاري.. هذه البنى تتجوهر حول مسألة الإنسان في وجوده، والشكل الأمثل في حركته مع جميع الاتجاهات داخل المنظومة الكبرى للمجتمع، فكان مفهوما (الحق والإلزام) الأساس الذي ينطلق منه في توجيه مسألة الحقوق؛ إذ حتى الإلزام هو نقطة تفضي في ضرورتها إلى الحق ولكن حق الغير.

المهم أن هذه الأيديولوجيات انصبت على حل مسألة حقوق الإنسان، والكل يدعي المدينة الفاضلة وحلولها المثلى، فأخذوا أقصى اليمين وأقصى الشمال، كما مع الماركسية والرأسمالية، والوجودية، والمثالية، وغيرها من الأيديولوجيات التي زخرت بها الساحة العالمية.. وتطرفهم المعروف في الإفراط والتفريط، كان نتيجة طبيعية لعدم وقوفهم على حقيقة الإنسان وبالتالي حقيقة حاجاته، وهذا ما كان يحتم الإصغاء إلى السماء، فهي الوحيدة التي تعرف مخلوقها (روحاً وطيناً) أي حاجاته المعنوية والمادية؛ ولذا فقد أعطت الرسالات السماوية صورة واضحة لفهم الإنسان داخل هذه المنظومة الكونية، إلا أنهم لم يصغوا.

♦♦ ولادة مع الشرق:

في هذه الحقبة كان الشطر الشرقي بمسلميه لم يزل يتأوه من آلام قرون الضياع؛ فهو ما لبث أن تخلص من الحكم السلطاني الذي حكم الأمة فترات طويلة، حتى بدأت فترات الاستعمار، التي كانت في نفس الحين سبباً من أسباب اليقظة الإسلامية من جديد، في حوالي عام 1858م، مع أول شعلة لجمال الدين الأفغاني، إلا أن هذه اليقظة كانت ذات وجهة سياسية همّها التحرر، لذا كان رأي محمد عبده مخالفاً لرأي أستاذه الأفغاني، في أن يبدأ أولاً في مسألة التنوير والوعي، والاهتمام بالأمة في عملية تأهيل لها؛ أي الاهتمام بتخليصها من شوائبها الفكرية، ومن ثم مرحلة الدخول في مرحلة التحرر.. ولكن مع ذلك كان غالباً ما يبقى الصراع السياسي هو الذي يشغل المدار الأوسع للإصلاحيين في بداية النهضة، وهذا ما جعلهم في منأى عن المجال المعرفي، الذي من المفترض أن يكون المرحلة الأولى في قضايا النهضة؛ فهي لا تتحقق قبل أن تؤسس لها منظومة، يكون من أبرز عناوينها نشر الوعي.. والتنوير، بإعادة روح الإسلام من جديد، بإحياء مفاهيمه مجدداً في ضمير المسلم، ومن ثم تأتي المراحل التي أشبه ما تكون في ترتبها بالتلقائية، وإلا فمع غير هذا التسلسل، ستكون حالة ما يسمى بالقفز على المراحل؛ فلا تثوير دون تنوير، ولا تنوير دون أيديولوجيا تقف بها الأنا قبال الآخر، كما أنه لا أيديولوجيا دون تأصيل للمفاهيم من جديد، انسجاماً مع العصر؛ وذلك بأخذ العنصر المتغير في الشريعة، وتوجيهه على أساس العنصر الثابت فيها (المقاصد والخطوط العامة للشريعة في مبادئها وأهدافها العليا)؛ ومن هنا كانت مسألة تأصيل حقوق الإنسان متأخرة عند الإسلاميين، حتى منتصف القرن العشرين حيث بدأت هذه المسألة تلوح في الأفق شيئاً فشيئاً.

تعتمد هذه العملية (التأصيل) من جهة أولى على العودة إلى النصوص التراثية المليئة بهذا الشأن المحوري في الرسالة الإسلامية؛ إذ هي تبتغي في روح وحيها، تغطية مسألة الوجود الإنساني، في تكامله واستخلافه، إذ الأصالة في الفكر الإسلامي للإنسان، هي عينها الأس النظري في فكر تيار فلسفة الأنوار فيما يسمى بمذهب أصالة الإنسان (Humanesim)، المذهب الذي خرجت منه الموجة المتصاعدة لمسألة حقوق الانسان، مع الفارق بين الفكرين الغربي الوضعي، والإسلامي، في النظرة لهذه الأصالة.

♦♦ الإمام الشيرازي وتأصيل المسألة وأروقتها:

من هذه المقدمة لتأريخية ظاهرة حقوق الإنسان في الفكر العالمي، ندخل إلى هذا الشأن مع السيد الحسيني الشيرازي في الجانب التأصيلي لها، وإن كان بصور متفرقة ضمتها كتاباته، وهذا التناثر في طرق المسألة هنا وهناك، هو نتيجة لتشعب القنوات التي ترتبط بالإنسان وحقوقه، إذ أنها تدخل في كثير من المفاصل التي تمثل كتباً مستقلة في علاجها، الأمر الذي اقتضى تفرق علاج مسألة حقوق الإنسان هنا وهناك.

مع ذلك طالما نجده ينطلق في أسسه للتفريق اعتماداً على مسألة أصالة الإنسان وأصالة الحرية التي تصدر بالتبع عن الكلية الأولى، في أغلب مداراته التأصيلية.

♦♦ الحق وفلسفة الحاجة:

ما هي حقوق الإنسان؟.. يجذّر الإمام الشيرازي مع عناوين أولية يعطيها اسم الحاجات، وهي (الحاجات) بالتأكيد مناط الحقوق، ذلك لأن الحقوق الإنسانية تنبع من حاجاته التي يقتضيها وجوده في المنظومة الكونية، ولوازم ذلك الوجود.. فهي عند الإمام: (المأكل والمشرب والملبس، والمسكن، والزوجة، والمركب، والعمل قبال البطالة، والعلم، والصحة، والامن، والحرية، والعدالة في قبال عدم وجود القضاء الصحيح الذي يلتجئ إليه الناس في حل مشاكلهم حلاً عادلاً، والمساواة في مورد التساوي، إذ الإنسان بحاجة إلى المساواة في القانون حتى لا يكون إنسان أنزل من إنسان آخر، بينما كلاهما في الإنسانية متساويان، سواء في العبادات، أو في التعاملات، أو في الأحكام، كالإرث، والنكاح، والطلاق، والأمور السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، وغيرها، وخلاف ذلك يشاهد في كثير من البلاد من ترجيح لغة على لغة، أو عنصر على عنصر، أو لون على لون، أو تفضيل إنسان من أهل جغرافية خاصة على إنسان من أهل جغرافية أخرى، وغير ذلك(1).

ونراه يبدأ مع الحاجات التكوينية -كحق ضروري لتعلقه بمسألة البقاء- كالأكل والشرب إضافة إلى حاجة هي أقرب للتكوينية منها للمعنوية وهي الزواج، ثم يوالي الحاجات في الاتجاه المعنوي منها، التي تقع في المطاف الثاني من حاجة الوجود لهذا الكائن، وهي الحاجة الأهم، كونها تحقق ماهيته(أ) وشخصيته في الوجود، كالعلم مثلاً، والعمل، وحاجات أخرى تمثل مقدمات وآليات للماهية، من قبيل السكن والملبس والمركب، وحاجات ذات مرتبة أهم، والتي تدخل في الثلاثية الجوهرية للوجود الإنساني، فللإنسان أبعاد يحتاجها في مرتبة البناء الحضاري تحصرها ثلاثية مهمة وهي (الحرية، الوعي، الإبداع)، إذ لا يمكن للإنسان الإبداع - الذي هو الغاية والوسيلة في نفس الحين لمسألة فلسفة التقدم والتكامل في التاريخ - فلا استخلاف دون حرية، ولا يمكن الإبداع أيضاً دون وعي ومعرفة وعقيدة ورؤية كونية؛ لذا اعتبر الإمام الشيرازي بأن من أهم الحاجات التي يتوجب توفرها في المجتمع الإنساني هي (الحرية)، والتي تستبطن ضمنها حاجة (الأمن) وباقي المقدمات الضرورية لصنع الإنسان ومنها العدالة، والمساواة في القانون -وهي أخص من العدالة- وما يترشح عنها من عناوين، في الكرامة -مثلاً- كما مر ذكره من ترجيح لغة على أخرى، أو عنصر على آخر، أو لون على آخر، أو تفضيل إنسان من أهل جغرافية معينة على غيره، كما هو معروف عند الغرب في مقولاتهم العنصرية، مع ما يدعون أنهم حملة شعار أصالة الإنسان، ومذهبه وتمحورهم في حلولهم وخدماتهم المعرفية حوله، حتى أننا نجد أن الرائد الأول في مسألة العقد الاجتماعي -وإن كان في لمحات ريادية لا تأسيسية- الفيلسوف الإنكليزي (هوبنز)، وكان يرى - ضمن مقولة (أثينا هي العالم)، بأن الإغريقي الأوروبي هو الإنسان، وغيره ليس كذلك -: (إن غير الأوروبي هو عبارة عن ورقة بيضاء للرجل الأبيض يدون عليها ما يشاء) (ب).

♦♦ الإنسان والحقوق بين الشرق والغرب:

بل إننا حين ننبش التاريخ نجد في نفس تلك الفترات التي تمحور فيها فكرهم على حقوق الإنسان، وبتلك الشعارات الكبيرة في هذا الأفق، نجد تلك الشعارات وكأنها منصبة على الإنسان الغربي دون الشرقي بل عموم العالم الثالث، أي في نفس تلك الفترة نجدهم قد أشاعوا في البشرية فساداً و ظلماً.. لم تشهده البشرية من قبل في كثافته.

فالأمريكيون أبادوا ثلاثين مليوناً من الهنود الحمر.. السكان الأصليين لقارة أميركا، كما أبادوا أكثر من مليون أفريقي جلبوا -على حد وصف المؤرخين- بطريقة أشبه بشكل قطع السردين، في سفنهم وبعنوان أرقاء وباسم حق الرجل الأبيض الأمريكي، الذي هو وحده الإنسان.. ناهيك عن هذا ما نجده في فرنسا ومسارها التاريخي بعد الثورة الفرنسية، هذه الدولة الرائدة في إعلان حقوق الإنسان، والتي تتغنى بشعار الحرية والإخاء والمساواة.. هذه الدولة نفسها أبادت ملايين البشر من سكان مستعمراتها وبأساليب تقشعر لها الأبدان، من هذه الأساليب ما فعلوه بسبعة وأربعين ألفاً من الجزائريين عام 1847م، حين دفنوهم أحياءً بالكلس الأبيض، وكذلك ما ارتكبه الإنكليز في الهند وبورما وأفريقيا.

أما المسلمون والعرب، فنجد أن مبادئهم وأفعالهم بهذا الشأن، يمكن أن نعرفها من خلال اعتراف المحايدين من مفكري الغرب، كما هو مع مقولة (بيك دولامير اندول) كاتب (بيان عصر النهضة) حيث يقول: (علمني أجدادي العرب -وهو غير عربي ولكنه ينطلق من شعوره بالانتماء إلى المجموع البشري، كنسل واحد-، أن الإنسان هو أسمى ما في الوجود).

من الحقوق التي يجدها الإمام الشيرازي في الفضاء الإسلامي، والتي تمثل ضرورات في البعد الثاني - المعنوي الصانع للماهية الفردية والجماعية- هو حق تكافؤ الفرص(2)، هذا الحق الذي يمثل في جذريته أسا من الأسس التي تغطي مفهوم العدالة، وبالتالي فهو بعد محوري في مسألة حقوق الإنسان.

يصب الإمام هذا الحق في التكافؤ على عناصر ثلاثة وهي (البقاء، والنمو، والتقدم) (3)، وهي انتزاعة بالغة في فلسفة الحاجة، حيث يمكن أن نعيد تلك الحاجات الأولية التي بدأنا بها مداخل الإمام في التأصيل إلى هذه الثلاثية؛ (فللبقاء) كان المأكل والملبس والمشرب والزوج وكذلك الأمن وغيرها، (للتقدم) كان العلم والعدالة، والمساواة، والحرية.

هذا التكافؤ الذي يوجبه القانون الحقوقي للإسلام لا يتساهل فيه الإمام الشيرازي إطلاقاً؛ فذلك يتجاوز بالحق الإنساني إلى نطاق الظلم، فالتساوي في منصب دون ترجيح بين عالم عادل وغيره، هو سلب لحق العالم العادل.. إذ من حق العالم العادل ذلك المنصب حسب قانون الكفاءة، وفي نفس الوقت فإن سلب هذا المنصب هو حق الطرف غير الحامل لتلك الصفات، استناداً على المقولة الفلسفية في تعريف الحق أنه: (وضع الشيء موضعه)، وهذا ما جعل الإمام يرى أنه يصح خلاف التكافؤ في واجد الشرائط وفاقدها، مثلاً يحق جعل القانون لاشتراط المنصب بالعلم والعدالة سواء أكان الجاهل لا يمتلك ذلك بسبب نفسه، أو بسبب غيره كالظالم المناع له عن الدراسة وطلب العلم، أما الأول فواضح أن من سبب تأخر نفسه، لا يحق له تمني مقام الذي قدم نفسه بالعلم والفضيلة وما أشبه ذلك، أما الثاني فلأن المتأخر وإن لم يكن تأخره بسبب نفسه إلا أن احتياج المقام إلى المؤهلات الخاصة يقف دون فاقدها، فهل يصح للمريض أن يراجع غير الطبيب لشفاء المرض، بحجة أن غير الطبيب إنما لم يصل إلى علم الطب بسبب ظالم منعه عن العلم وكذلك الحال في الناقص كالأعمى لا يصلح لأن يكون كاتباً في مرافق الدولة، سواء أأعمى نفسه عامداً أم أعماه غيره(4).

فتكافؤ الفرص عند الإمام الشيرازي إنما هو في نطاق الشرائط التي تناسب المقام؛ إذ إن التكافؤ للفرص كتعريف -يقعّد له السيد- عبارة عما يوجب التكامل أو التقدم، بينما المساواة أعم من ذلك؛ فالحاكم يلزم عليه أن يساوي بين عقوبة الأبيض والأسود، إذا جنيا جناية متشابهة، إلا أن هذا ليس من تكافؤ الفرص في شيء(5).

ويرى السيد أيضاً أن من حقوق الإنسان الأساسية احترام المجتمع له، لكن وسائل التقدم في مختلف الأبعاد يعتبرها من الحاجات الثانوية، ومع ذلك لا يجوز عند السيد أن تتخلى الدولة عن أي من الحاجات أولية كانت أم ثانوية وسواء كان ذلك للمسلمين أو لغيرهم من الذين يقطنون البلاد الإسلامية بل على الدولة واجب إضافي، كحق لغير المسلمين من جهة لزوم هدايتهم، وهو مما لا يلزم مثله مع المسلم(6).

أما مفهوم الإخاء كعنوان راكز في مسألة البيانات التاريخية، فالإسلاميون عامة يركزون على تأصيلهم لهذا المفهوم، نظراً للنص المشهور عن الإمام علي(ع)، والذي يتكأ عليه الإمام الشيرازي أيضاً، فالإمام علي(ع) في عهده للأشتر يوصيه - بإعطاء قاعدة كلية توضح علاقة (إنسان - إنسان) في جميع الأبعاد - (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، والأمر ينصب في النص على ذيله (أو نظير لك في الخلق)، فهي تشي بوجه بالغ في النظرة التي يتوجب أن تتوفر عند كل طرف قبال الآخر، على أساس حقيقة هذا الوجود الآخر نسبةً لك، وهنا يصل النص في جذوره إلى مسألة المساواة؛ لذا سيكون معها نفي تام للنظرة العرقية وغيرها من الآفاق العنصرية، بل إن السيد يذهب بعيداً في تعامله مع نص الإمام علي(ع) السالف حتى يرى أن الكافر أخ(7)، ويعتمد هنا على النص القرآني، بحيث يكون مفسراً وموضحاً، إذ يقرر القرآن في آياته.. هذا الوجه من العلاقة، من قبيل قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هوداً) و(إلى ثمود أخاهم صالحاً) و (والى مدين أخاهم شعيباً).

كذلك يرى السيد أن الإمام(ع) أوجب الاحترام وعدم الإهانة للإنسان في المجتمع، كحق يقع في أهميته ضمن منزلة جعلها الإسلام ترقى أقدس مقدساته كما في الأحاديث القدسية التي تعتبر كرامة المؤمن تعلو كرامة الكعبة.

وهنا الإمام الشيرازي يذكر عدة روايات تتناول حق الاحترام وحفظ الكرامة، ليعطي منهجة اقتضائه التأصيلي في العودة إلى الموروث المعصوم مطلقاً، ومما يذكر من روايات كثيرة تتوحد في اتجاه دلالي ومقصدي واحد(8)، رواية أبان بن تغلب عن الباقر(ع) قال: لما أسرى بالنبي(ص) قال: (يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال : يا محمد من أهان لي ولياً بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع إلى نصرة أوليائي).

كذلك رواية معلى إذ قال: (سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: إن الله تبارك وتعالى يقول: من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي).

وأيضاً عن الإمام الصادق(ع) قال: (من حقر مؤمناً مسكيناً أو غير مسكين لم يزل الله عز وجل حاقراً له ماقتاً حتى يرجع عن محقرته أو يتوب).

كذلك جعل الإسلام للإنسان من حقوق أن لا تذاع فاحشة ارتكبها، حفاظاً على مروءته، أي أنه إذا ارتكب خطيئة ما داخل المجتمع فلا يجوز لأي فرد من أفراده، أن يأخذ بتلك الخطيئة وينشرها هنا وهناك؛ ولذلك يكون الإنسان في المجتمع الإسلامي، ذا ثقة وأمان وحصانة على مروءته وإن أهدرها هو بنفسه سراً، وفي ذلك آيات وروايات(9)، يؤصل عنها الإمام الشيرازي، منها الآية الكريمة: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة).

وعن رسول الله (ص) في حديث قال فيه: (من سمع فاحشة فأفشاها كان كمن أتاها، ومن سمع خيراً فأفشاه كان كمن عمله)، وكذلك عن رسول الله (ص) أنه قال: (من أذاع فاحشة كان كمبتديها، ومن عيّر مؤمناً بشيء لا يموت حتى يركبه).

كذلك يجد الإمام الشيرازي في مروره على الموروث مؤصِّلاً: (إن من أساسيات حقوق الإنسان، هي حرية المعتقد، وذلك استناداً إلى الآية الكريمة: (لا إكراه في الدين))، بل إن الإمام يرى أن العقل والمنطق(ج) يؤيدان ذلك تأييداً مطلقاً، فالعقل يرى أن صاحب المبدأ حين لا يحمل قوة في أفكاره يكون من السخف أن يكره أحداً على اعتناق مبدأه(10)، إذ لا يمكن ذلك، إضافة إلى أن وجود هذا المبدأ الذي لا يستطيع أن يجد لنفسه نفوذاً إلا بالقوة، يعتبر وجوده وهمياً ووقتياً، وهي سنة عرفها التاريخ، لأنه في الحقيقة هو الذي يفرض نفسه، إذ إن قوة المبدأ تكمن في منطقه وتوافقه مع الفطرة، وحينها يكون الإنسان معه طوعاً لا كرهاً، وعقيدتنا كذلك، وعلى هذا يدخل السيد الشيرازي -باختيارنا- إلى وجهين من المجتمع في شبكة علاقاته الاجتماعية؛ وجه يتحرك داخل المجتمع، وهم العمال، والذين يمثلون أزمّة الأيديولوجيات، ووجه يعاني بعيداً عن المجتمع في ظلام السجون، والذين يبقون بحاجة إلى حقوقهم الباقية؛ فما هي حقوق العامل في الإسلام؟.

من المسائل المهمة أيضاً والأساسية في جدول حقوق الإنسان هي حقوق العمال.. وهذه الأهمية تنبع من أهمية العمل ومحوريته في الوجود الإنساني، وصناعة حياته في ثلاثية (البقاء، النمو، التقدم)، لذا يدخل السيد الشيرازي إلى الرواق، فيرى أن الإسلام يشرع في قانونه، هذا الحق ويعطيه مساحة كبيرة من هذه التشريعات، بل إن معظم المعاملات تأخذ هذا الإطار.

والأساس في ذلك -بما يريده الإسلام- هو إعطاء العمال بقدر حقهم الواقعي وهذا الحق والأساس، يشكل وسيلة لغاية أولى، وهي أن يحقق للعمال حياة حرة كريمة، وفي هذا يقوم السيد بوضع اكثر من ثلاثين نقطة تعالج هذه المسألة التي ترتبط بمعظم حقوق الإنسان في الإطار الذي يتناول العامل وعلاقته برب العمل؛ لضرورة هذا البعد بما هو معروف في مسألة الاستغلال التي تحيط بالعامل عادة، والتي شكلت إشكالية ملحة مع معظم أيديولوجيات القرن العشرين سيما (الاشتراكية والرأسمالية).

فهو يرى أن العلاقة يجب أن تقوم على:

أولاً: إنهما (العامل ورب العمل) عضوان في مجتمع واحد، فلكل واحد منهما ما للآخر، وعليه ما عليه، فليسا طبقتين، وذلك للمرجح في عنوان الأمة الواحدة، المؤمنون أخوة.

ثانياً: اللازم أن تكون المعاملة بينهما غير استغلالية.

ثالثاُ: لا يجوز أن يجحف أحدهما بحق الآخر، كما يوجد ذلك في الرأسمالية المنحرفة بالنسبة إلى إجحاف رب العمل بالعمال.

رابعاً: أن يكون العقد بينهما بالتراضي الكامل، فلا يجوز العقد دون ذلك، وإلا -مع العقد الإكراهي- يكون باطلاً.

خامساً: ليس لأي منهما أن يبخس الآخر حقه، بأن يسرق المالك من أجور العامل أو يسرق العامل من ساعات المالك، أو ما أشبه ذلك.

سادساً: كل واحد منهما، العامل وصاحب العمل، له حقوق سياسية واجتماعية، متساوية وذلك لكونهما ضمن أمة واحدة.

سابعاً: يجب أن يلاحظ العامل قدر عمله، فلا يعطى أقل من كرامته الاقتصادية، ولو فرض أن عمله لا يساوي قدر كرامته الاقتصادية المتوسطة في معيشته ومعيشة عائلته، فاللازم على بيت المال إعطاؤه التفاوت.

ثامناً: إذا كان أحد الطرفين (المالك أو العامل) غبن في عقده كان له خيار الفسخ.

تاسعاً: لهما أن يتفقا على تعقيب شيء من أجوره لأيام شيخوخته ومرضه وما أشبه ذلك.

عاشراً: للعمال الحق في أن يشكلوا نقابة تحميهم من نقص الأجور أو الإجحاف أو نحو هذه الأمور(11).

ويمكن أن يرى من خلال هذه النقاط، الاهتمام الواضح بمسألة الحق كخيط من خيوط شبكة العلاقات الاجتماعية، بحيث امتلك التشريع كل هذه الدقة والتفصيل في حيثيات الحالة وما يلوحها من إشكاليات، فيزيد الإمام الشيرازي على ذلك بغية تغطية هذه الحالة إسلامياً.

فهو يجد أنه لا يجوز استخدام الأطفال إلا بإذن أوليائهم، وفي عمل لا يرهقهم، كما لا يجوز استخدام النساء بما يرهقهن، فالعسر في أي موضع لا ترتضيه الشريعة أبداً؛ فلا يحق لأي من العامل -ولو برضاه- أو المالك التصدي لهذا النوع من الأعمال.

كما يحرم على العامل العمل فيما يضر الناس ويفسد المجتمع، أي ما يتجاوز حدود الآخرين، وهنا نرى أن النظرة في تناول حقوق الفرد، لا تغفل أن تحسب حساب حد هذا الحق بالنسبة للفرد الآخر، أي الاحتراز من تجاوز حق الآخر، كذلك لا يجوز لرب العمل تأخير الأجرة عن وقتها، ولا عدم دفعها، والعكس أيضاً مع عدم تأدية العامل ما عليه، فللمالك حق يفرضه القضاء.

من الحقوق أيضاً التي تحدد للعامل في الإسلام، هو أنه إذا أصيب العامل بسبب حادث أثناء العمل، كسقوط جدار المنجم عليه أو ما أشبه ذلك، فإذا كان ذلك مدوناً في العقد على المالك، كان ذلك، وإلا فمن بيت المال يكون التعويض(12).

ومن الواضح أن هذه النقاط، استهلها السيد من الموروث بتمام منظومته اجتهاداً؛ لذا فهو يتناول مجموعة من الروايات في ذلك، منها ما روي عن الأئمة(ع) عن الرسول(ص)، قال: (من ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله، وحرم الله عليه ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام).

وروي عنهم (ع) عن الرسول (ص) في وصيته للإمام علي(ع) أنه قال: (يا علي من انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله، ومن منع أجيراً أجره فعليه لعنة الله).

كما روي عن الإمام الرضا(ع) عن آبائه(ع) أن رسول الله (ص) قال: (إن الله غافر لكل ذنب إلا من أحدث دَيناً، أو اغتصب أجيراً أجره، أو رجل باع حراً) (13)، وغيرها من الروايات التي توجه هذه المسألة..

يساوي القانون الإسلامي الذكر مع الأنثى في كل الأمور، أي إن هذا أصل في التشريع الإسلامي -كما يرى الإمام الشيرازي- إلا موارد خاصة استثنائية اقتضائية، مثل الإرث، وما أشبه، وخروج هذا التساوي لضرورة وحكمة.. كون هذا الاستثناء لا يدخل في باب العدل إلا من هذا الاتجاه في عدم التساوي، كونه يدخل في فلسفة الكفاءة.

إلا أن السيد الإمام يجد هناك مسائل عن المرأة، هي مورد اختلاف، ولم تنفتح وتنضج للآن؛ فمنهم من يعطي المرأة حقاً استثنائياً في ذلك ومنهم من يرفض، من قبيل مسألة الترشيح إلى مجلس الشورى، ويبقى الاختلاف فكرياً ليس في ملامح النص ودلالته بقدر ما هو في مورد العقل وما يرجحه حسب تحليلاته بشأن المرأة، فهناك من يعتبر أن المرأة عاطفية إلى درجة تغطي إضاءات عقلها، لذا فهم يسلبون منها امتياز حق الترشيح، بينما يعترض آخرون في أنها عاطفية لكنها أيضاً عقلانية، فكما هي عاطفية كذلك هي عقلانية، فلا يكون دليل المناوئين دليلاً عقلياً صالحاً(15).

♦♦ السجن وحقوق إنسانه:

الأصل عند السيد في الإنسان هو الحرية، لذا فلا يجوز حبس متهم قبل إدانته إطلاقاً إلا بقيد، وهو، إذا كان الضرر المحتمل أهم من ضرر الحبس، بحيث يكون التقنين هنا من باب الضرورة(16)، عموماً الحق الأول والأساس للإنسان هو الحرية وغيره استثناء لضرورة واقتضاء ولزوم ما.

أما مع ارتفاع هذه الحرية نسبياً في السجن، فكيف ستكون الحقوق الباقية للإنسان هناك؟ يتناول السيد هذه الحقوق توالياً: فللسجين الحرية في إجراء جميع معاملاته، من البيع والشراء والرهن والإجارة والمضاربة والحوالة والكفالة، سواء في داخل السجن أو خارجه حسب الاقتضاء، وكذلك بواسطة الهاتف أو عبر الوكيل أو ما أشبه، وللسجين أيضاً حق ممارسة عقد النكاح أو الطلاق بأقسامه المختلفة، لنفسه أو لغيره، سواء كان وكيلاً أو ولياً عليه.

كما يحق له تحمل الشهادة وأدائها، وله الحق في ممارسة الخطابة والتعليم والكتابة بمختلف أشكالها سواء للصحف أو للمجلات وغيرها، كما له الحق في عرض التمثيليات داخل السجن أو خارجه، بواسطة الراديو أو التلفزيون أو ما إلى ذلك، وله الحق في التعليم والمطالعة والمشاهدة للإعلام بشقيه المرئي والمسموع، كما لا يجوز سلب حقه في ممارسة المهن التي يمكن توفرها داخل السجن، ومما له الحق هو أن تكون له أماكن خاصة للرياضة، إضافة إلى ساحة يستطيع معها المشي، ولا يجوز سلبه تداول هواياته الشخصية.

من حق السجين أيضاً زيارة عائلته له، في أي وقت شاءوا، وكذلك زيارة المرأة لزوجها، بل يحق له إبقاء عائلته معه(17)، وبالتأكيد فإن الإمام الشيرازي يختزل هذه الحقوق كقانون إسلامي بتأصيلات لها أصولها الفقهية في الاستناد الشرعي بمصادره الأربعة، (القرآن، السنة، العقل، الإجماع).

الهوامش:

(أ) الوجود يتحقق أصالة إلا أن الماهية هي التي تتحقق على طول عمره بما بعد ذلك الوجود في طريقة مسلك الإنسان وموقفه ونوع اتجاهه وحركته داخل الصراع في داخل المنظومة التكوينية، مع عالم الإنسان والحيوان والطبيعة.

(ب) أحد الغربيين الذين يصنفون على حساب النخبة، كان يقول: »طالما الإله (يقصد عيسى) كان أبيض اللون، والبشر على شاكلته، فهؤلاء السود أو باقي الألوان (الأسمر والأصفر) ليسوا من جنس البشر«.

(ج) وهما مصدر تشريعي كما هو معروف، انطلاقاً من اتساقهما مع الشرع، حسب قاعدة الملازمة التي نشأت من المباحث الأصولية والكلامية -حيث تتداولان هناك- بتوجيهها، أن حكمة الخلق هي في منح التوازن للعالم بين الإنسان ومحيطه في مسألة الإدراك، فالعقل والشرع متممان لعملية الهداية، إضافة إلى مصدرهما الواحد في الخلق، أي أن العقل والنص كلاهما لله، إلا أن الأول ذو خلق تكويني والثاني ذو خلق تشريعي (إنشائي)، علماً أن المراد بالعقل هنا، هو ذاك العقل النقي من كل الشوائب القبلية التي تحيد به عن رؤية الحقيقة على ما هي عليها.

(1) الفقه كتاب الدولة الإسلامية: الشيرازي محمد الحسيني/ دار العلوم، بيروت، ط1، 1410هـ-1989م، ص7.

(2) ن. م، ص7.

(3) ن.م، ص7.

(4) ن.م، ص7-8.

(5) ن.م، ص8.

(6) ن.م، ص8.

(7) الأزمات وحلولها: محمد الحسيني الشيرازي/ مركز الرسول الأعظم (ص) ، بيروت ط1، 1420هـ- 1999م، ص86.

(8) الدولة الإسلامية: مصدر سابق، ص11-12.

(9) ن.م، ص9.

(10) ن.م، ص83.

(11) ن.م، ص142.

(12) لاحظ تمام النقاط التي أصّلها السيد اجتهاداً: ن.م، ص141-144.

(13) انظر مجموعة الروايات التي يذكرها السيد هناك: ن.م، ص129-132.

(14) القانون: محمد الحسيني الشيرازي/ مركز الرسول الأعظم(ص)، بيروت، ط2، 1419هـ-1998م، ص10.

(15) ن.م، ص12.

(16) كيف ينظر الإسلام إلى السجين: محمد الحسيني الشيرازي/ مؤسسة المجتبى، بيروت، ط1، 1420هـ- 1999م، ص36.

(17) ن.م، ص9-10.