النبأ

حامد السعيدي

حلّت الألفية الثالثة على عالمنا وها نحن في السنة الثانية منها وأنفقت ملايين الدولارات احتفاء بدخولها، والذي ركّز فيه العالم المسيحي على إمكانياته البذخية التي أعلن فيها عن فرحه الأبدي في عالم تتجاذبه التناقضات على جميع مستويات الحياة، التي انقلبت فيها المقاييس والمعايير الإنسانية والحقوقية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في أكبر نسبة لها بعد الحرب العالمية الثانية، ابتداءً من الفقر والبطالة والأمراض البيئية وارتفاع معدلات مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، إضافة إلى الصراعات العرقية والأثنية والطائفية والتمييز العنصري، كما شهد العالم في دخول الألفية الجديدة شكلاً ذا إطار جديد ولغة جديدة من العنف والقتل والتشريد والإبادات الجماعية، وممارسة كافة أنواع العنف المضاد من قبل الطرف المعتدى عليه وبالشكل نفسه وبدون أي ضوابط أخلاقية أو قانونية..

هذا ما شاهدناه على الأقل في كوسوفا ومقدونيا وأفريقيا وإندونيسيا والباكستان والهند والشيشان، وكذلك القضية الأكثر مركزية واهتماماً هي فلسطين، حيث دشنت الحكومة العبرية في الألفية الجديدة وسائل مبتكرة جديدة لإلغاء المجتمع الفلسطيني العربي المسلم الذي عاش على هذه الأرض منذ عهد الكنعانيين، هذا الشعب الذي شهد مختلف أنواع العنف السياسي والاجتماعي، وممارسة التمييز العنصري الوحشي، رغم كافة القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والتي تدين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية؛ فإنها لا تبدو - أي القرارات - ذات فاعلية حقيقية لأنها لازالت تخضع لديناميكية العقل الأمريكي وأصحاب رؤوس الأموال والشركات، فضلاً عن (اللوبي العنصري اليهودي) الذي يتدخل لحسم الصراع لصالحه وتفريغ القرارات من محتواها، لتبقى مجرد قرارات إعلامية ليس لها أي تأثير على الواقع المعاش.

بدا مشهد العالم وخصوصاً في الليل أكثر زينة وتفاؤلاً وجمالاً لتغطية العيوب التي يمارسها ضد مجتمعاته والشعوب الأخرى، هذه الشعوب التي عبرت احتجاجاتها ومظاهراتها عن سقوط الحكومات في الألفية الجديدة في مستنقع الفساد والأنانية المقيتة.

كان الموعد في (سياتل) الولاية الأمريكية التي عقد فيها المؤتمر العالمي للتجارة في عام 1999م، والتي شهدت احتجاج الآلاف من الأميركيين على سياسة البلدان الغربية والولايات المتحدة، في تحطيم الإنسان والبيئة، وتوسيع رقعة البطالة والفقر، من أجل مصالح استراتيجية وأمنية وعسكرية، لا تؤمّن الحد الأدنى من حقوق الإنسان في هذا العالم؛ العالم الذي بدا كقرية صغيرة لا تفصلها مسافات كبيرة أو حدود جغرافية شاسعة في منظومة جديدة من العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ونظام شبكة الاتصالات المتطور، وشبكة الانترنيت والأقمار الصناعية والفضائيات، منظومة شبكية وبرمجية هائلة ذات ضبط رقمي وإلكتروني دقيق، فمن الطبيعي أن النظام المستحدث الجديد الذي تضطلع به الولايات المتحدة من جهة، وإقامة مشاريع الفضاء والسيطرة على مجمل الحركات الجوية والأرضية لأمريكا ودول العالم، يعطيها الامتياز لتوفير سقفٍ أمني لبلدها وحتى ضد شعبها إذا تطلب الأمر، هذا بالإضافة إلى مشروع الدرع الصاروخي الجديد الذي نجح بعد إخفاقات كثيرة ومحاولات عدة لتأمين الحماية الكاملة للأمة الأمريكية كما تزعم الولايات المتحدة. هذا المشروع ضاعف من حجم العقدة الكامنة بين أمريكا والخصم التقليدي لها المتمثـل بروسيا التي راحت هي الأخرى تحذر من مغبة هذا المشروع الأمني الاستراتيجي الذي لا يهدف إلى شيء غير التهديد وفرض الوصاية على دول العالم، وعلى الأثر دشن حلف جديد بين روسيا والصين ليبدأ العد التنازلي لبداية حرب باردة بين الطرفين وإن كانت غير معلنة بصورة مباشرة.

من المؤكد أن هذه التناقضات في القرارات السياسية العالمية، وخصوصاً الدول الكبرى، سوف لا تجد أساسها الأخير في الإنسان المضطهد الذي مازالت تسحقه الآلة الحديثة والمستمرة بالحداثة بصورة مرعبة.

في إيطاليا وتأكيداً على الحسّ البشري تجاه القلق العالمي من الفلسفة السياسية التي تحكم العالم، والمشاريع التي لا تحسب حساباً للإنسان وقيمه، لأجل المزيد من المنافع والأرباح والهيمنة على الطبيعة وثرواتها مهما كانت الأسباب المؤدية إليها؛ هذه المرة كان الموعد في مدينة (جنوا) التي مثلت القلق العالمي تجاه كل أشكال الحياة المهددة بالخطر والانقراض، التظاهرة كانت ضد مؤتمر الدول الثماني المنعقد في إيطاليا، وكانت فحوى ومضمون هذا التجمع البشري ضد هؤلاء المؤتمرين هو إعلان فشل الأيديولوجيات والأطروحات السياسية التي آمن بها منظرو الفلسفة الغربية حول العلاقة بين السياسة والأخلاق، التي آلت إلى تناقض في بيئة المجتمع الغربي وإثارة علامات استفهام كبيرة حول هذه الفلسفة، ومدى تطابقها مع المجتمعات الإنسانية التي تروم الخير والحرية والسلام والتعايش مع المجتمعات بصورة عقلانية وبدون أي تفرقة وتعالي. هذه الشعوب صارت الآن تدرك أهمية العودة للالتزام بالمتبنيات القديمة، والعلماء يأتون في المقدمة، حيث قدموا دراسات بحثية فكرية حول إعادة النظر في الكثير من القضايا التي تهتم بعلاقة هذا الإنسان مع الطبيعة وكيفية إيجاد فهم جديد لأن يكون هذا الإنسان هو محور الاهتمام وهو الغاية، والرجوع إلى التقييم الأخلاقي والروحي للمنظومة الاجتماعية.

مفهوم الحداثة ومراجعته النقدية

إن العالم الأوروبي بشّر منذ القرن التاسع عشر بالحركة الحداثوية الجديدة التي وصل إلى تقاطعاتها بعد الثورة الفرنسية وكسر سجن (الباستيل) ليبشر بالتناقضات الإنسانية وليضع في مقدمة أعماله تحرير المنفعة واللذة على حساب الحرية والانعتاق من ربقة الآلة المرعبة وسقوطها - الإنسانية - في الفكر العدمي، وقلب القيم واستلاب الإنسان من حاضره نحو أفق المستقبل المجهول، وإقحامه في عصر الآلة وهيمنتها على مجمل القضايا.

الآلة هي التي تنتج، والآلة هي التي تربح، وهي التي تقتل، وهي التي تجعل الأقوى يمتلك الفضيلة، ويمتلك ميزان الحق، ويمتلك الثروات والشعوب ليضعها في جيبه، ليمتلك العالم، ويكون هو صاحب الوصاية الأبدية وصاحب التاريخ.. إنها الحداثة التي تنكشف الآن للجميع لتضعنا أمام عدة أسئلة لم يجب عليها حتى الآن بصورة واقعية.

(آلن أوين) المفكر الفرنسي صاحب كتاب (نقد الحداثة) قدم أطروحته حول نقد الحداثة متطرقاً لتعريفها ومراجعتها مفهوماً وممارسة، ليخرج بعدة حلول لابد من أخذها بعين الاعتبار وجعلها في أولويات دراستها، ومعلوم أن الحداثة هي أوربا الحديثة بكل انعكاساتها الفكرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الحداثة هي كما عرفها (اوين): (الفصل المتعاظم بين عالم الطبيعة الذي تديره قوانين يكتشفها ويستخدمها الفكر العقلاني، وبين عالم الذات الذي يختفي فيه كل مبدأ متعال لتعريف الخير).

الحداثة هي الفصل المستمر؛ وهذا يعني أن القانون الطبيعي سوف يضطلع بتفسير الإنسان وكل مكوناته النفسية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية ضمن الإطار الفكري الطبيعي والعلمي، تفسيراً آلياً آخذاً بعين الاعتبار ما يحصل من هذه العملية من معطيات مادية بحتة؛ أمّا الذات فستبقى في المشروع الحداثوي مستبعدة تماماً لتعيش في عالم العزلة، وستنتقل من الذات الكلية إلى الذات الفردية، من النظرة العامة إلى النظرة الخاصة، وكما يقول (آلن أوين): (لأن الحداثة - لا كنظام جديد بل كحركة خلاقة - وإذا شئنا أن نردد تعريف الرأسمالية (لشمبز) فهذه الحركة -الحداثة - تجذب الذين حبسوا زمناً طويلاً في الجمود، وهي تتعب وتغدو دواراً عندما تكون دائمة ولا تقود إلاّ إلى تسريع ذاتها).

بينما يرى (ماكس ويبر): (إن الحداثة هي فصم الائتلاف والوحدة بين السماء والأرض مما يخلي العالم من وهمه ويلغي سحره)، ويرى (بودلير): (إن الحداثة هي حضور الأبدي في اللحظة العابرة فيما هو مؤقت)، ويرى (شوبنهاور): (إن الحداثة تعني الأنانية والتخلي عن الطابع الاجتماعي، لا لتخلق نظاماً جديداً مستحيلاً، بل طلباً للإخلاد إلى الحياة والرغبة. يجب تدمير الأنا ووهم الوعي، كما ينبغي الاحتراس من وهم النظام الاجتماعي الذي يحمي الشهوات الأنانية فقط).

هكذا نجد أن الحداثة كحركة شاملة اشتغلت بكل تمفصلاتها في الحياة لتخلق نوعاً جديداً من المفاهيم والقيم التي سوف تعزل الإنسان من ذاته وتفرغها من محتواها الداخلي، فلابد وفق هذا المنطق، من ممارسة قطيعة حقيقية وأبدية بين الإنسان بوصفه ذاتاً والإنسان بوصفه موضوعاً، لابد أن تكون المعطيات الإنسانية وفق المنظور الحداثوي معطيات أكثر ابتعاداً عن أخلاق الاقتناع وأكثر اقتراباً من أخلاق المسؤولية أمام الروح المطلق عند (هيجل) وصولاً إلى النظام النهائي للدولة مهما كانت الأسباب الداعية لهذا النظام، ومهما اختلفت عن روح العقل وقوانينه.

من المؤكد أن نرى الحداثة التي دشنت في القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية التي كانت مرحلة حاسمة في تاريخ أوروبا، مرحلة انهيار وعي تاريخي بالموروث القديم لمرحلة العصور الوسطى وبداية، وعي جديد شكّل فيه الإنسان المحور والجوهر الأساس للانطلاقة، لإثبات ذاته الموضوعية في مركز الكون، حيث ابتدأت الانعطافة في التاريخ البشري نحو شمولية الإنسان لنظامه الخاص وفق المعايير الذاتية، مرحلة جعلت مناضلي الأمس والمدافعين عن مبادئ الثورة الفرنسية: (الحرية والعدالة والمساواة.. ) خونة لابد أن يأخذوا نصيبهم من المقصلة، التي لا تفرق بين واحد وآخر أبداً.

ينقل صاحب كتاب (العملية الثورية والوعي الثوري) (يفغيني بليماك) أنه: (كان الإرهاب في عام 1794م الذي انتهت به الثورة البادئة باسم (النزعة الإنسانية) في عام 1789م فضحاً عجيباً مؤلماً لهذا التباين وكان (راديشيف) المفكر الروسي قد بين مدى التناقض الحاصل بين زعماء الثورة الفرنسية، فيما أشار (أنجلز) إلى أن تحول الاشتراكية من الطوباوية إلى العلم، قد مهدت له تلك الهزة العنيفة التي تعرض لها التنوير في القرن الثامن عشر، فقد تجسدت دولة العقل في الإرهاب اليعقوبي الذي أنقذت منه البورجوازية المرعوبة في البداية بفرض الدكتاتورية، ثم تسترت تحت جناح الاستبداد النابليوني، وبدا النظام العقلي نظاماً للتناحرات المتطرفة والتسلّط الذي لم يسبق له مثيل والاشتباكات المتكررة - ولازال الكلام لأنجلز - بين البروليتاريا والبورجوازية التي تبعث على الخيبة المرّة في الوعود البراقة التي أطلقها المنوّرون).

كانت الحداثة بداية للموت وإنتاج القيم العدمية للأشياء ابتداءً من إعلان (موت الإله) عند (نيتشه) إلى موت الإنسان ما بعد نيتشه وكما ينقل صاحب (نهاية الحداثة) (جياني فاتيمو) تحت عنوان (أزمة الخط الإنساني) قوله: (فإنه يمتنع علينا إنكار صلة تربط بين أزمة الخط الإنساني وموت الإله، بادئ ذي بدء ترسم هذه الأزمة العلامة المميزة تماماً للإلحاد المعاصر الذي لم يعد بإمكانه أن يكون إلحاداً من النمط (المستعيد) - أي استعادة الإنسان لماهيته - ولكن بعد ذلك وبشكل أعمق تؤشر بشكل حاسم إلى وقوع الخط الإنساني هو ذاته في أزمة، إذ لم يعد بوسعه بين جملة أمور أخرى أن يقرر الرجوع إلى أساس متعالٍ). من هذا المنظور والكلام لـ(جياني فاتيمو) يمكن القبول بالقضية القائلة بوقوع الخط الإنساني في أزمة لأن الإله (مات) - وهذا يعني أن الجوهر الحقيقي لأزمة الخط الإنساني هو (هذا الموت) الذي حدث للإله والذي أعلنه نيتشه المفكر الأول اللاإنساني بشكل جذري لعصرنا، ولم يكن هذا الإعلان طارئاً.

إن هذه الأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر هي أزمة ملازمة، مادام أصبح هو المتقلد الأساسي لشأن هذا الوجود بكل جوانبه، وتصدير القيم التي لا تجد أساسها الأخير والنهائي في هذا الإنسان كذات. المشكلة هي أن بعد حصول الانفصام التام بين السماء والأرض، بين الله والإنسان، وانتقال الزعامة والوصاية إلى الإنسان، لم يكن من الإنسان إلاّ أن يثبت ذاته الفردية المطلقة أمام الوجود، أمام الطبيعة، أمام رؤوس الأموال، أمام التقنية.. وابتداء مرحلة الفلسفة العدمية؛ مرحلة وعي العلاقة مع التقنية عند (شبنجلر ويونجر) وإن الحقيقة هي الواقع والواقع هو النموذج الحضاري المتحقق في الخارج، كونه يملك قيمة ملموسة ذات أبعاد تجريبية واضحة وكونه المثل الأعلى للحقيقة، حينها يبدأ إعلان (تقننة الوجود)؛ هذا المشروع التعقيلي أو العقلاني لرأس المال والمعمل الاجتماعي هو بالحقيقة مشروع يهدف بصورة أساسية إلى إلغاء الذات والتلاعب بمصيرها واستخدامها موضوعاً في هذا المشروع، شأنه شأن أي موضوع آخر، إنه تحويل ومسخ للذات عبر وسائل التقنية الحديثة.. بالطبع كانت الذات الإنسانية هي الأساس لبداية المشروع لضمان حقها القانوني الطبيعي، يقول (جياني فاتيمو): (في الوقت الذي أوجد فيه هذا التعقيل الشروط التاريخية الاجتماعية لتصفية الذات، أقرت الفلسفة وعلم النفس، وكذلك التجربة الفنية والأدبية من جانبها بأن هذه الذات لا تمتلك أي حق حتى تطمح لأن يدافع عنها، وأكثر من ذلك؛ إذ كان التحليل الهيدجري للصلة بين الميتافيزيقيا والخط الإنساني والتقنية تحليلاً متماسكاً يظهر أن الذات كانت بالضبط هي نفسها في جذر عملية هذا التجريد من الإنسانية، ونظراً إلى أن الذات التي لم يعد بالإمكان تحديدها مذذاك إلاّ كذات لموضوع، تكون تابعاً خالصاً لعالم الموضوعية وتنزع هكذا، وبشكل تمتنع مقاومته إلى أن تصير هي ذاتها موضوعاً للتلاعب).

إن التقنية الحديثة تساوي الأزمة الإنسانية الحقيقية في حال وصفها بأنها ذروة الميتافيزيقيا ونهاية الكائن البشري؛ إذ عندما تكون هي المثال والنموذج الأعلى فسوف تلغى كافة الهموم البشرية وتسحق سحقاً تاماً؛ إن الاستسلام لمنطق التقنية الحديثة يعني الانعدام والإلغاء والتلاشي لهذه الذات التي من المفروض أن تكون هي المحل الأخير لنداء التكنولوجيا والتقنية الحديثة .

العودة إلى الذات

رأينا أن التقنية هي الأساس لأزمة الخط الإنساني؛ إذ اعتبرت هي النهاية وهي المورث الجيني للتأريخ المعاصر، وهي الحدث الذي يمثل الأساس.. إن الذات الإنسانية سجلت غيابا ملحوظا في القرن الماضي وخصوصا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، هذا الغياب كان نتاجا منطقيا لأزمة الخط الإنساني وضياع الذات وانمحائها في مستنقع التقنية والتي انبثق عنها أكبر سلاح تدميري في التاريخ المعاصر بل التاريخ كله؛ إذ البشرية لم تعرف سلاحا تدميرياً مثله وهو القنبلة النووية التي ألقيت على الشعب الياباني في (ناكازاكي وهيروشيما) والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الشعب الياباني، هذا السلاح مثل بحق خطر المشروع العقلاني والتقني الذي انبثق من الحداثة التي ألغت امتيازات الذات على حساب المعيار النفعي وقيمة مبدأ المصلحة العليا والروح المطلق وشكل الدولة الأخير الذي هو الخطوة المتقدمة الرائدة واليقينية للعقل المعاصر.

لقد اتجهت الحداثة نحو الذات الفردية من جهة، وتغييب الذات العامة من جهة أخرى؛ لتتّحد في التقنية التي تلغي الذات بصورة مطلقة لتأكيد شخصها وفردانيتها على حساب العالم والكون؛ الفكر الإنساني يواجه الآن إشكالية حقيقية حول الذات!.

والأسئلة التي توجه بشكل ملح،هي: ما هي مكونات الإنسانية؟، هل يمتلك الإنسان وعيا إلهياً؟، هل يمتلك رؤية كونية واضحة حول الكون والعالم بصورة يقينية برهانية؟ هل الإنسان المعاصر الذي هو مسؤول بصفته إنساناً واعياً لله و للذات وللطبيعة حقق إنسانية الإنسان عبر المشاريع العقلانية والعلمية؟، ثم ما مقدار القيمة الخيرية لهذه الحركة الإنسانية الكبرى ابتداءً من أبسط الحقوق إلى آخر الواجبات المناطة به؟، وهل القيم التي حددها تستند إلى المعيارية الأخلاقية؟، وهل هذا المعيار الأخلاقي الذي حدد حسب الفلسفة العلمية معيار نهائي ليس قابلاً للمراجعة والنقد بصورة موضوعية حاسمة؟.

إن المنظومة الفكرية الغربية المنشأ هي قيد النظر والبحث في دوائر المؤسسات الفكرية والأطروحات الدراساتية العليا الآن، هي تحت المجهر المعرفي الأبستمولوجي والسوسيولوجي للمجتمع الغربي. إذن المراجعة الأولية الضرورية هي العودة إلى الذات لمعرفة الانحطاط الذي تواجهه الإنسانية في مسيرتها التاريخية وتعثرها في تمفصلات واقعها، مما يستدعي العودة والمراجعة لهذه الذات ضمن المعايير الأخلاقية وإعادة الإنسان إلى إنسانيته وعدم فصله عن الله.

ينبغي احترام السلم التراثي مع دراسته والتنقيب عن الأساسات التي يضطلع بالتمسك بها ليكون ضمانا للمجتمع الذي لا يمكنه أن يعيش في عزلة عن هذه المنظومة التراثية الأخلاقية والنفسية التي تكوّنت ذاكرته منها على مرّ التاريخ - وأن يمتلك الإنسان معرفة أخلاقية مستقلة عن الأيديولوجيات والأذواق والأمزجة لضمان الحرية والعدالة والمساواة بين البشر جميعاً؛ لأن الإنسان بوصفه ذاتا يشترك مع كل إنسان بذات الصفة سواء اشترك معه في إطاره العقيدي أو لم يكن كذلك، المهم أن يحتفظ بالرصيد الإنساني بدون أي انغلاق لتمييز عنصري أو أي شكل من أشكال التفرقة باللّون أو اللغة أو الدّين أو العرق.. بدون عقد أو أنانية في دراسة الدين أو التاريخ.. هذه النظرة هي التي تلبي للعالم وبدون أي امتياز تحقيق التوازن السلمي والأمني.

الدين ينظر إلى الجميع نظرة واحدة بغير أي امتياز لأحد على آخر إلا بما يمتلك من الأخلاق والتقوى وانحباس أذاه عن الآخرين، هذه الرؤية إلى الأشياء باستقلالية وموضوعية هي التي تضطلع بتأسيس رؤية مشتركة بين الجميع ضمن معايير أخلاقية واحدة يخضع لها الجميع بدون أي استثناء والتي بدورها سوف ترسم الحدود والممرات لمسيره الآن.

الدين في ظل الألفية الثالثة

الحقيقة التي لابد أن يعترف بها الجميع هي أن الدين حقيقة تأريخية لازالت لها معطياتها الواقعية، وستبقى مادام هذا الإنسان موجودا. ليس من حق أي نظام أو أي فكر أن يصادر الواقع في جعبته الفكرية، وهذا بدوره يعطي الأحقية القانونية والإنسانية لهذا الإنسان الذي يتعاطى الدين بوصفه علاقة قائمة بين الأرض والسماء، علاقة ثابتة بين الإنسان والله، وبين الله والإنسان ضمن نظام أخلاقي روحي يكون الله فيه هو المصدر الملهم والمنبّه، مع عدم - ضياع قيمة الإنسان التأملية - وهو - الخالق سبحانه وتعالى- الرابطة لهذا العالم والخلق، وأياً كانت هذه الاعتقادات المتجلية لهذا (الإنسان المؤمن) بها سواء كان مسلماً أو غير مسلم من الديانات الأخرى، لابد أن تجل وتحترم كونه حقاً شخصياً يتمتع أي إنسان به في إعلان انتمائه إلى عقيدة أو دين، وكونها الحقيقة المتجلية لهذا الإنسان عبر منظومته الدينية التاريخية التي ينتمي إليها. لكن شهدنا نحن المسلمين على تداعيات كثيرة على الإسلام في قطّاعات كبيرة من العالم، وتفرقة واضحة يدركها الجميع، هذه التفرقة سوف تسمح للمسلمين بالجواب المضاد - بوصفه حقاً - وتكوين فكرة سيئة عن جميع الأفكار المناوئة لهم.

المسلمون يمرون براهنية صعبة في معادلات سياسية واجتماعية واقتصادية من قبل الدول العظمى للتغطية على دور المسلمين في الحضور العالمي أمام الديانات الأخرى ولإبراز الدور المسيحي بصورة أكبر. لقد شهد المسلمون في القرن الماضي، واستمر الحال إلى دخول الألفية الثالثة، حرب إبادة وتشريد ومسخ هوية وإذلال واضح لعقائدهم وآثارهم التي تمثل دينهم كالمساجد والكتب المقدسة كالقرآن وكتب الحديث وغيرها من الأشياء التي تمس بواقعهم الديني، والآثار المعنوية والمادية التي تمثل لهم رموزا مقدسة يجلونها ويحترمونها، بل وإثارة النزاعات تارة أخرى بين المسلمين أنفسهم عبر وسطاء محليين أو أجانب لخلق مساحة للنزاع الطائفي والعقائدي بينهم حتى يتسنى لهؤلاء إشغالهم في أمور جزئية.

بينما تظل الأهداف الكبرى والجوهرية بعيدة عنهم، إن هذا الدور الدولي لازال يعبر عن عقدة تاريخية سببها هزائم الصليبين أمام المسلمين في الماضي أبان الدولة الإسلامية الكبرى التي اجتاحت العالم، وظلت هذه العقدة ملازمة للعالم المسيحي حتى اليوم؛ وهذا ما يؤكد انحياز أقطاب المسيحية العظمى كأميركا وأوروبا للكيان الصهيوني وإعطائه الامتيازات في الشرق الأوسط، في قلب العالم العربي والإسلامي، رغم العنجهية والعنصرية الممارسة ضد هذا الشعب العربي المسلم .

إن ممارسة الدول الكبرى سياسة تعسفية رعناء إزاء المسلمين في البوسنة والهرسك والشيشان وألبانيا والعراق وكشمير وكثير من دول العالم، وعدم احترام مشاعر المسلمين، أسقطت كل الدعاوى التي ترفعها بشأن الديمقراطية والليبرالية التي تتبناها كفكر ومنهج حياة بالنسبة لها تجاه شعوبها، وتحاول التشدق بها في الأوساط الدولية في الوقت الذي تمارس أبشع الأساليب العنصرية والابتزازية تجاه شعوب العالم.

يقول (ثورو) في كتابه (كيف تصوغ القوى الاقتصادية الراهنة عالم الغد): لقد سارع الأمريكان إثر نسف عمارة أوكلاهوما إلى اتهام (الأصوليين المسلمين) بالحادث، حين لم يكونوا يعرفون الفاعل، لكن حينما عرفوه رفضوا أن يستخدموا مصطلح (الأصوليين المسيحيين) في وصفه، والذين اعتقلوا كانوا على علاقة بمليشيا من ولاية ميشيغان ينظمها اثنان من القساوسة المسيحيين، في الوقت الذي فجرها (أصوليون مسيحيون) كما اعترفت بذلك الولايات المتحدة، وكذلك المجزرة التي ارتكبها يهودي ضد مسلمين فلسطينيين يؤدون صلاة الجمعة وعرفت بمجزرة القدس التي راح ضحيتها العشرات من الشهداء.. لا تفضل أن تسمي الولايات المتحدة ذلك (أصولية يهودية) بينما الفلسطينيون الذين يدافعون عن أرضهم وتاريخهم تصف مقاومتهم لتحرير الأراضي المحتلة بأنها أصولية إسلامية.

صار الإنسان المسلم الذي يهتم بطقوسه الدينية التي هي حق شخصي وطبيعي وتاريخي لكل إنسان، يرمى بالأصولية والتطرف الذي لابد من محاربته والوقوف بوجهه.. الجزائريون الذين فضلوا في انتخابات 1991 اختيار الإسلام كنظام لهم كلفهم ذلك مصيرهم السياسي وصعود السلطة العسكرية المدعومة من قبل الولايات المتحدة وبلدان أوروبا إلى سدة الحكم، كذلك الحال في السودان التي جعلت الولايات المتحدة الأميركية اسمها في قائمة الدول الراعية للإرهاب.. في العراق كان الأمر أسوأ حيث تعرض هذا الشعب ولا يزال لممارسة وحشية بحق أبنائه.

إن المشهد التراجيدي الذي نشاهده يوميا ما هو إلا نتاج الحركة الغربية التي لم تستطع التخلص من تناقضاتها، فيما تراكمت بفضلها الكثير من المآسي والويلات التي لا توجد رؤية تفاؤلية في إيجاد مخرج منها في الوقت القريب؛ ليتحمل الإنسان المزيد من العذابات والويلات وأنواع الظلم من قبيل القتل والنفي والتشريد والاعتقال؛ ليبقى العالم التقني هو المالك للوجود، بينما تبقى الإنسانية أسيرة العقل الحداثوي المجنون!!.