الضبط المدني في المجتمع الإسلامي |
أحمد البدوي |
• تمهــــيد |
ضمن بُعدي الصيرورة والوجود - بالمعنى الاجتماعي لا الفلسفي، وللمجموع لا الفرد- يبقى المنحني البياني على طول التاريخ ذا علاقة رياضية يكون أحد إحداثييها الانضباط الذي يرافق حركة المجتمع في سمت علاقة (فرد - فرد) و(فرد - مجموع)، قبال الإحداثي الآخر الذي يترشح عنه، والإحداثي الأول هو الأركز في تمحور الفلسفات والأيديولوجيات الحديثة عليه، على امتداد ثلاثة قرون، أعني مسألتي (الحق والإلزام) في الدراسات القانونية. ومع انهيار وخروج مسألتي (الحق والإلزام) من موضعهما الحقيقي في خيوط العلاقتين السالفتين (فرد - فرد) و(فرد - مجموع)، يكون الانهيار الحضاري.. كون التشكل الحضاري في كل محطة من محطاته - مع الزمن، هو خطوة أيضاً من خطى الصيرورة التي تعتمد الزمن في فلسفتها لاعتماد الفعل (صار) على ذلك (الزمن)، وبذلك جاء القانون لضبط تينك العلاقتين في المجتمع وتوجيه مسألتي الحق والإلزام، وتسويرهما أو منعهما من الخروج عن السور الطبيعي لهما، ومن ثم إعطاء الصيروة الحضارية ديناميكيتها التي لا تعرف التوقف بغية الوصول إلى مسار التكامل الذي تؤسس له فلسفات المجموع البشري. بالتأكيد تحددت القوانين التي توجه علاقة الإنسان بالفرد والمجموع، ضمن بعدي الحق والإلزام؛ فدخل في أروقة ومفاصل - غالباً ما رافقها تهرؤات في الهيكل الاجتماعي - أفضت إلى إشكاليات ما زالت المجتمعات تئن تحت أثقالها، وتفاوت مع هذه الأطروحات شكل المنحني الحضاري في ارتقائه وانحداره.. هذا الارتقاء أو الانحدار الذي يوجه نقاط الدورة الحضارية بدايات ونهايات وما بينهما. بدخول الإنسان نطاق المجتمع المدني في العصر الحديث، وبتكثف خيوط العلاقة بين (فرد - فرد) و(فرد - مجتمع) نسبة لما كانت تحمله من بساطة في بدء التشكل لهذا المجتمع، أصبح القانون يحتاج إلى فتح قنوات أخرى تغطي ما تولد زمنياً من خيوط لتينك العلاقتين، حتى أضحت الأطروحات السابقة تنام في الأرشيف، إلا مع أسسها الكلية. كل ذلك الانحراف في المجموع والتوقف الذي يصيب صيرورته بل موتها، والانحدارات مع الخط البياني للدورة الحضارية، هو نتيجة للتعدي أو التملص من ثنائية (الحق والإلزام) - أي هو الذي يفضي إلى تغيّر اتجاه المنحنيات البيانية للصيروة نحو الانحدار، وهو أيضاً ما يفضي بالمتتبع إلى نهاية الدورات الحضارية. إذن انبثاق مسألة العقوبات في الاجتماع البشري، هو انبثاق لضرورة لصيقة بطبيعة الإنسان في حركته وسط المجموع، بما تبغيه من ضبط لهذه الحركة عن الاختلال المتوقع لها، لكن تبقى الإشكالية لدى رواد الفكر الفلسفي القيمي أي المبحث الأركيولوجي، هو كيف يكون ذلك الضبط في أسلوبه ومداه، وشدته؟ المهم يبقى المناط الذي يشكل مدار الحل هو ضبط حركة المجموع وإبقاء أسوار (الحق والإلزام) قائمة. الإسلام اهتم بهذا الجانب وأعطاه أولوية تشريعية، أخذت مساحة واسعة من فضائه، بل يمكن - وهو ما يتداول عادةً - تسمية الشريعة الإسلامية بالقانون الإسلامي، وهو ما يوحي به لفظ الشريعة على اعتبار أن هذه الكلمة تمتلك أصلاً انثربولوجيا في التداول إشارة إلى القانون، بل هو ما يوحي به الواقع للتشريع الإسلامي، فالأحكام الإسلامية قائمة على توجيه ثنائية (الحق والإلزام) التي تتمحور حولها الدراسات القانونية، وإن تناولتها الشريعة الإسلامية ضمن بعد الأحكام - فلا مشاحة في الألفاظ - في مقولة الحلال والحرام، وهي مقولة أشمل من مقولة (الحق والإلزام). بهذا ندخل إلى قانون العقوبات في الإسلام، تحت عنوان ما يسمى بالحدود والتعزيرات الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالقضاء الإسلامي، وإن كان القضاء أعم في وظيفته، ليشمل مسائل أخرى في المجتمع الإسلامي تعود بها إلى ثنائية (الحق والإلزام)، والملاحظ في وجه لفظة (الحدود) في فقه اللغة والارتباط الإصطلاحي من جهة في علاقة الاسم بالمسمى، فيما يشي به من مكنون يدل على روح الاسم تحت إطار القاعدة المنطقية (يسمى الشيء باسم لازمه)، نجد ارتباطاً قوياً بين لفظة (الحدود) وفلسفة قانون العقوبات بما أسلفنا من تمحورها حول عملية الضبط أو المحافظة على سور - وهو قريب من دلالة الحدود - (الحق والإلزام) الحق والواجب داخل ركب المجموع، وسنحاول أن نتعامل في طرح الفكر الإسلامي أمام إشكالية العقوبات داخل المجتمع المدني الحديث، ضمن اجتهادات الإمام السيد محمد مهدي الشيرازي. بادئ ذي بدء.. يتناول الإمام كلية من كليات الفكر الإسلامي طالما أفتُرق فيها، وأخذت سجالاً على مستوى النظرية والتطبيق، لا سيما مع دخول القرن العشرين، ودخول مسألة الإسلام وتطبيقه في بعض البقاع ضمن نطاق الدولة الحديثة، هذه الكلية تنحصر تردداً بين (أحقية وعدم أحقية الدولة الإسلامية في إجراء الحدود والتعزيرات مطلقاً، أي سواء طبق الإسلام بكل أجوائه أم لم يكن كذلك). يرى الإمام الشيرازي أن للدولة الإسلامية حق في إجراء الحدود والتعزيرات إذا ما طبقت الإسلام تماماً، ولا يجوز لها دون ذلك(1)، أي أنه يرفض الإطلاق في الكلية، ويعود في استدلاله إلى أسس عدة ترتكز على السنة الشريفة للمعصوم، فيجد أن الإمام علياً(ع) لم يطبق الحد على اللائط والسارق والزانية في الكوفة، وكذلك مع غيرهم، وذلك لجهة عدم تطبيق الإسلام في الكوفة قبل مجيئه إليها، لما كان من الفوضى التي كانت تحكم بلاد الإسلام قبل حكمه(2)، وإن رفعوا شعار الإسلام، وأجروا طقوسه. لكن هذه الكلية لا تنفي حق الحاكم الإسلامي في التأديب حين عدم تطبيق الدولة الإسلامية أحكام الإسلام في صورتها الحقيقية، فالزاني ونحوه يؤدب، وإن لم يجر عليه الحد ونحوه(3).. لماذا؟!. يستدل الإمام هنا عائداً إلى الحكم العقلي لاستقلاله هنا في إدراكه المصلحة والمفسدة التي تدور الأحكام مدارها، ضمن المقطوع به في التقائه وافتراقه عن روح الإسلام ومقاصده وأهدافه، إذ يلزم مع عدم التأديب (الفوضى، والهرج والمرج، والتعدي على أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، وانفصام النظام)(4)، وهو - أي انفصام النظام - يعتبر المرتكز الشامل لما قبله استدلالاً في أحقية التأديب بعد سقوط الحدود، إذا ما لم تطبق الأحكام الإسلامية في أجوائها النظيفة. أما ما يراد من تطبيق الإسلام في القاعدة الكلية المؤصلة سابقاً، التي ينحصر معها فقط جواز إجراء وإقامة قانون العقوبات، فيقصد به حسب رؤية الإمام الشيرازي، أن تكون الأجواء الإسلامية ذات توفر للحريات.. وعدم تفشي المنكرات وسهولة وصول الناس إلى حوائجهم الضرورية، إما بنفسهم أو بمعونة بيت المال والحكومة، ثم يتساءل الإمام الشيرازي في استفهام عقلاني ذي نتيجة تلقائية: (هل من المعقول أن يقال للسارق، عليك أن تعيش في فقر مدقع وهو لا يقدر على لقمة العيش، لأن الحكومة تمنعه عن ذلك، وإذا سرقت نقطع يدك، أو للشاب الشبق احفظ نفسك وهو لا يقدر على الزواج إطلاقاً، وإذا فعلت جلدناك الحدّ الكامل، أو لمعاقر الخمر لا تشرب والحال أن في بلده ألوف الحانات وعشرات الألوف من المعاقرين يومياً؟. فبعد الأمن والشبع - على رأي الإمام - يأتي معه الواجب الذي هو العبادة(5). يقسم الإمام الشيرازي الوضع الاجتماعي في أجوائه سلباً وإيجاباً: أولاً: الجو الإسلامي الكامل؛ وهنا الحدود والتعزيرات. ثانياً: الاضطرار؛ وهنا لا شيء من العقوبات إطلاقاً. ثالثاً: أمر متوسط بين الأمرين؛ وهنا تأديب لا حدّ. ويرى أن في الحالتين الأوليتين الأمر واضح في المعذرية والمنجزية للعقوبة، وأما في الحالة الثالثة فيما ليس الجو إسلامياً بحتاً، ولا اضطراراً بحتاً كما مثلنا من تفشي الخمور والقمار والفجور وما أشبه أو نحو ذلك.. فإن الجمع بين الدليلين يقتضي التأديب لا الترك المطلق، ولا الحد المطلق. ويعتمد في هذا على دليل عدم الفوضى ونحوه كونه مقتضٍ لذلك، فإذا تهيأت التجارة والزراعة والصناعة وحيازة المباحاة وبناء الدور وتوزيع الأراضي مجاناً، وسائر الأمور كانت حرة كما منحها الإسلام، حينها عمل كل إنسان عملاً يعطيه الرزق وبنى داراً يتمكن من السكنى فيه، وتمكن من الزواج، فلم يحتج إنسان من المال لشبعه أو سكناه حتى يبرر الاحتياج سرقته، ولم يزنِ من الفقر الموجب لعدم تمكنه من الزواج، وإلى غير ذلك.. فحقّ أن يجرى عليه الحد، وكذلك حال عدم تفشي المنكرات حيث الأدلة منصرفة عن هذا الجو، فهل يحد الحاكم الإسلامي كل يوم عشرة آلاف إنسان لأنهم شربوا الخمر مثلاً، ولنفرض إمكان ذلك بمجيء الدولة الإسلامية قبل إمكانها تصفية الحانات، وكذلك حال سهولة وصول الناس إلى حوائجهم الضرورية، فلو خاف الناس من الخروج عن دار الحرب أو عدو أو ما أشبه فلم يتمكنوا من الكسب ونحوه مما سبب انسداد حاجتهم التي هي من شؤونهم، وإن لم يبلغوا حد الاضطرار، ولم يكن هناك بيت مال يساعدهم على حوائجهم الضرورية، فهل جعلت الحدود في مثل هذا الجو، أو الانصراف وغيره يقتضي عدم إجراء الحدود(6). كما أنه ليس المراد من تطبيق الإسلام في أجوائه الكاملة الدقة المطلقة، وذلك لانصراف الأدلة في التطبيق إلى الأدلة العرفية لا الفلسفية(7)، كما أن المائز الاصطلاحي بين الحد والتعزير في القانون الإسلامي، هو أن الأول يراد به العقوبة المقدرة في الشرع قبال التعزير، الذي لم يأخذ قدراً أو حداً معينا في الشرع، وإنما أوكل إلى نظر الحاكم الشرعي، بتقدير في الكيف والقدر ضمن حدود المنطق العقلاني الموائم لروح الشريعة في مقصدها من العقوبة في حدود الضبط تحت مناط التأديب والردع. |
• الشدة والمنطق والحلول.. بين القانون الإسلامي والعلماني: |
بالتأكيد وكما هو معروف في التقاطع القائم بين الأطروحة الوضعية عموماً والقانون الإسلامي، نجد أن النقودات الموجهة من الاتجاه العلماني - سواء الغربيين منهم أو الشرقيين المتبنين أيديولوجيا الغرب - ترتكز تهمها على قانون العقوبات الإسلامي (الحدود والتعزيرات)، في محاولتهم إبعاد الإسلام عن ساحة المجتمع المدني من جهة الشدة في الحدود، وادعائهم أنها تنافي الرأفة الإنسانية واحترام الإنسان وحقوقه، وما إلى ذلك من مقولات تحاول أن تتصيد في الماء العكر، أي إنها تحاول أن تخوض في مفردات قانونية، ظاهرها فظ فتكون مبهمة ومزدراة، إذا لم تقس إلى فلسفة تشريعها، وهذا مردّه الجهل بالقانون الجنائي الإسلامي. يطرح الإمام هذا الوهم الأيديولوجي على شكل سؤال مفروض ليجيب عليه، فعنده لا يقال: إنا نرى شدة الحدود والتعزيرات الإسلامية وإنسانية العقوبات الديمقراطية الغربية. لأنه يقال: أولاً: التعزير ليس جلداً فقط كما سيأتي، فلا شدة هنا، بل التعزير في الإسلام أقرب إلى العقل من السجن والتغريم فقط، لأن الأمر يحتاج أحياناً إلى الشدة، وكما أن الشدة مطلقاً غير صحيحة عند العقلاء كذلك اللين مطلقاً. ثانياً: الحد بقانون الأهم والمهم يخفف أو يسقط. ثالثاً: للإمام الحق في إسقاطه مطلقاً أو تخفيفه. رابعاً: يحق لصاحب الحد كالقصاص العفو أو تبديله بالدية. خامساً: يلزم في الحد توفر الشروط الصعبة مما يقلل منه تقليلاً يوجب إلحاقه بالنوادر، مثلاً يشترط في حد السرقة خمسة وأربعون شرطاً، وفي حد الزنا واللواط رؤية أربعة عدول كالميل في المكحلة، أو إقرار أربع مرات، مع توفر الشروط في الإقرار. وبعد كل ذلك فهل يبقى الحد إلا كإرهاب للطغاة والمجرمين لندرة وجوده في الدولة الإسلامية الصحيحة(8)، ويرجع الإمام الشيرازي الكلام في البين إلى مرحلة حكومة الرسول(ص)، حينما يجد تلك الندرة واضحة تماماً، كما أن هذه الندرة ليست مبعثاً للقلق والخوف إطلاقاً، بل عدم الحد مبعث للخوف والقلق، حيث لا يأمن الإنسان على حاله وعرضه ونفسه، كما هو جليّ؛ أي الخوف في أوربا والولايات المتحدة الأميركية(9)، والإحصاءات والاعترافات التي تُنشر عادة في منشوراتهم وإعلامياتهم عموماً توضح مدى التدهور الذي وصلوا إليه بقانونهم الوضعي.. يدخل الإمام في وجهة مقارنة بين النظامين الإسلامي والوضعي، ومع نفس التهمة الموجهة في مسألة شدة ولين القانون، فنظام الغرب حيث عدم الشدة مقروناً بعدم الحريات، أما نظام الإسلام فالحريات كثيرة بما يوجهه فضاء الإباحة في أحكامه، أما الشدة في الجملة ففي أسوأ المخالفات، إضافة إلى أن الفوضى في الجنس وإباحة الخمر في الغرب من مآسي الغرب لا محاسنه، لأنها قررت قانوناً على حساب سلامة العائلة، وصحة البدن، وإمكان الزواج، فإن تلك الفوضى أورثت تشتت العوائل وتبعثرها، والأمراض الجنسية الهائلة، وحرمان الشباب من دفء العائلة، حيث العزوبة والعنس(10). وعلى هذا لا يمكن أن يُشكل الحل الوضعي أنه لا معنى لجعل العقوبة على الزنا واللواط والسحق بعد رضا الطرفين، أو كذلك مع معاقرة الخمر، كما أنه إضافة إلى الحكمة والاتزان في العقاب والأبعاد الإنسانية في الحدود وشكلها وقدرها وشدتها، التي تقوم على أساس روح الردع، واقتضاءاتها في سمت الضبط لحركة المجتمع، نجد أيضاً أبعاداً أخرى تكسر المقولات العلمانية في اتهاماتها الموجهة للقانون الإسلامي، منها: بُعد العفو كأساس متين في أدبيات القانون الجنائي بما يفرضه الدين في منطلقاته كونه جاء من أجل الإنسان رحمةً له، لا لعنة عليه، فمثلاً من تطوع بالإقرار بنفسه بجناية تقتضي حداً، ولم تقم عليه بينة، فهنا للإمام أن يعفو، وهناك أحداث كثيرة في تاريخ القضاء الإسلامي حيث نجد العفو ذا فسحة واسعة من فضاء القانون(11). ويمكن ترك هذه التفصيلات والإصغاء إلى الكليات الكبرى التي تمثل روح الإسلام في نظرته للإنسان، في حركته عموماً داخل المجموع، إذا ما توجهت هذه الحركة إلى خلل في المسار العام بارتكاب خطأ ما في جناية أو ما شابه، وهذا ما نجده في الصفحات التي لا يمكن للتاريخ أن يكررها في كتاب الإمام علي(ع) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر: (واشعر قلبك الرحمة للرعية) فهي إذاً أساس الحكم (والمحبة لهم) وهي أقصى ما يمكن أن يملكه المجتمع المثالي بما لم تأت به المدن الفاضلة منذ أفلاطون فالفارابي.. حتى مونتسكيو. فكيف تكون المدينة إذا كان حاكمها لا يترك لغير المحبة مكاناً في قلبه؟ وهذا ما يريده الإسلام و(اللطف بهم)، وهي المقولة المباشرة في ردّها تهمة المذهب الوضعي العلماني،بمقابلتها الشدة، ويرقى السياق في قوته لسحنة اللطف بمقولة الإمام(ع): (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم) لماذا؟. يبرز هنا المعطى الإنساني للقانون الإسلامي: (فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، وهو الأس الأرسخ لتدشين السمة الإنسانية لأي أيديولوجيا، إذا نظر بمنظار النظيرية في الخلق، ثم يأتي ما يراد الوصول إليه لتعلقه بإشكالية الدراسة في مسألة الجناية وخطأ الإنسان داخل المجموع في توجيه خطوة الحاكم أمام ذلك؛ يقول(ع): (يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووال الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك (...) ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة)، ولا أعتقد أن النص يحتاج إلى تفكيك ليعرف من خلاله القانون الإسلامي، مع أنه من جهة فلسفه الحكم لا يوقف تفكيك النص على قلة عدد كلماته. ويمكن الإتكاء على كلمات حفيده الإمام علي بن الحسين(ع) بما جاء في رسالة الحقوق - وهو ما استند إليه أيضاً الإمام الشيرازي - هذه الرسالة التي إذا ما اُستل من كلياتها منهاج يعمم على قوانين الأمم، تعرف حينها تفاهة بيان حقوق الإنسان سواء الصادر منه عن الثورة الفرنسية، أو الصادر من الأمم المتحدة عام 1948م، وما نجري به هنا من كليات حاكمة موجهة للجزئيات في القانون الجنائي، يعرض الأسس الأيديولوجية لجهة قانونية، التي على أساسها تنطلق الدفاعات الإسلامية أمام ما يواجهها من نقودات غربية، بما يقتضيه منهج السجال المعرفي في التحاكم إلى الأسس.. وهو ما سنجده في مقولة الإمام علي بن الحسين في رسالة الحقوق، يقول(ع): (وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة). فالحاكم المشروط في حكمه.. - حكماً - يشاكل العلاقة بين الأب والابن، وهي علاقة تختلف عن المعنى التقليدي للحكم؛ إذ تنطوي قاعدتها على منطلقات في الهداية والإيصال للهدف.. مرفقة بالرأفة والرحمة. |
• السجن في المجتمع المدني: |
الوجه الأبرز للعقوبة في المجتمع المدني عادةً هو السجن، بل هو المنحصر مع استثناء التغريم (المعنوي والمادي) والإعدام، فإعطاؤه أولوية في نطاق الحد ضرورة تأصيلية للمجتمع المدني الإسلامي. يرى الإمام الشيرازي أن هناك حريات في الإسلام وحقوقاً للسجين لا يمكن أن يشهدها النظام الوضعي الشرقي والغربي منه، فللسجين حرية في إجراء جميع المعاملات، من البيع، والشراء، والرهن، والإجارة.. الخ. كما يجوز للسجين ممارسة عقد النكاح أو الطلاق بأقسامه المختلفة لنفسه أو لغيره، وسواء بالنسبة للسجناء أو الخارجين من السجن، وكذلك الشهادة تحملاً وأداءً(12). كما يجوز للسجين ممارسة الخطابة والتعليم والكتابة الصحفية بمختلف أشكالها، والتعامل مع الراديو والتلفزيون، والمطالعة للكتب والجرائد والمجلات ومتابعة الأحداث عبر وسائلها، كذلك يجوز للسجين ممارسة المهن التي يمتهنها، ويجب توفير إدارة السجن لإمكانات ممارسة الرياضة، إضافة إلى توفير فضاء يخرج إليه السجين في أوقات معينة. ولا يجوز أن يمنع السجين عن هواياته الشخصية حسب ذوقه(13)، كما يسمح له بزيارة عائلته له، في أي وقت شاءوا، كما يسمح للسجين إبقاء عائلته معه(14).. وهذا ما لا تعرفه الساحة القضائية الحديثة. وللسجين الحرية في فصله عن غيره، كما يلزم الفصل بين الرجال والنساء والصبيان، خشية الفتنة، ويجب فصل الخطرين منهم عن غيرهم لراحة الآخرين(15).. ويجوز - وهذا ما لم تحمله أيضاً سمات السجن المدني الغربي - أن تكون العائلة مع ولي أمرها إذا لم يكن محذوراً، ومع مشية العائلة. كما يلزم توفير الشروط الصحية للسجناء، من حيث السعة والهواء والإضاءة والتدفئة والتبريد والأدوات الصحية، وتهيئة حمامات كافية يراعى فيها الفصول السنوية، فيتوفر فيها الماء الحار والبارد ويكون الذهاب للحمام حسب رأي السجين نفسه، وهو ما يعاكس السجون الشرقية - وما أدراك ما الشرق وسجونه - تماماً ناهيك عن الغربية. ويلزم أيضاً أن يتوفر للسجين ما يلزمه من الأطباء والأدوية، ويسهل عليه مراجعة أي طبيب شاء حتى خارج السجن(16). |
• كليات عقلانية في القانون الجنائي الإسلامي: |
الموازين العقلانية التي تنتظم القانون الجنائي الإسلامي كثيرة، تدخل وتتكاثف حسب المحل الذي تلزمه، وكونها تأخذ إطار الكليات فهي تغطي تمام وجه القانون الجنائي، ومن ذلك مثلاً قانون رفع القلم فلا عقاب - كما يرى الإمام الشيرازي - لغير المميز فيما يفعله وإن كان عليه الضمان أو على ذويه الدية، كما في النائم الذي يكسر إناء الغير وهو لا يشعر، حيث الضمان عليه، أو يقتل الغير بالتقلب عليه وهو لا يشعر، حيث الدية على عاقلته، والحكم فيهما من باب الجمع بين عدم الشعور وبين حق الغير، ومما يستند عليه الإمام الشيرازي الحديث الشريف: (إن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) (17)، كذلك من الكليات المستثناة من قانون العقوبات هي الشبهة بما ورد من قاعدة (درء الحدود بالشبهات) وهي قاعدة ذات منطق عقلاني في مقايسته للظرف وحدوده ومعاذيره، وإن ورد فيها نص، وهي تشمل شبهة الفاعل، والشاهد، والقاضي والمجتهد، مثل الشبهة في أصل الحرمة أو أصل الحد، أو خصوصية الحد هذا بالنسبة للفاعل(18)، وكذلك شبهة الشاهد حينما تشك في أن فلان شرب خمراً أو ماءاً، أو أن المجرم زيد أو عمر، أو أنه وطي زوجته أو الأجنبية، أو ما أشبه ذلك فلا تحق له الشهادة(19)، وكذلك في شبهة القاضي - الموضوعية لا الحكمية - كما إذا لم يعلم هل أن فلان زنى اضطراراً أو اختياراً وبقي القاضي دون قدرة على الاستظهار؟ أو هل أنه شرب الماء في شهر رمضان نسياناً أو عمداً؟ إلى غير ذلك من أمثلة الشبهة الموضوعية(20). ومن تلك الكليات هو الارعواء والتراجع عن المسلك الخطأ في صورة التوبة عن الخطأ قبل أن تقوم الشهادة عليه في ذنبه وجنايته، فمن زنا وتاب قبل قيام الشهادة درأت عنه التوبة الحد(21)، وهذه الكلية في ارتفاع الحد مع التوبة القطعية - ودليلها الاعتراف قبل قيام الشهادة - تؤكد لا انتقامية أحكام العقوبات وهدفيتها لصالح صلاح الإنسان وهداية المجتمع وانتظامه وسير حقوقه وواجباته، فإذا رجع الجاني أو المذنب مطلقاً عما اقترفه من أضرار لنفسه والمجتمع، كان المبتغى من الحد منجزاً فلا حاجة للحد حينها. ومن الكليات عدم جواز إجبار المتهم في شدة معينة على الاعتراف بشيء، فلا يجوز - كما يرى الإمام الشيرازي - ضرب المتهم وأيذائه وتعزيره وسجنه وما أشبه ذلك لكشف ما يحتمل أن يطلع عليه حتى يبينه للحاكم، وبذلك إجماع الفقهاء(22). وبهذا لا يبقى للأيديولوجيين الوضعيين بقية في علمانيتهم في عدم قدرة الإسلام على تغطية المجتمع المدني في مؤسساته - أقلها الجانب الجنائي -، وتركيزهم على آفاق في القانون الجنائي الإسلامي يواجهونه بادعاءاتهم مقتنصين الألفاظ التي يحاربها الرأي العام ذات الدلالة التاريخية في وحشيتها من عبارات بربرية الحدود والتعزير، وإنها لا تتناسب مع الرأفة الإنسانية.. إلا أنهم بقوا يحدقون في السطح ونسوا أو أغفلوا وتغافلوا عما يتحرك في الأعماق. |
الهـــوامـــش: |
(1) الشيرازي، محمد مهدي، الفقه: كتاب الدولة الإسلامية (101)، بيروت، دار العلوم، ط1 1420هـ - 1989 ص176. (2) ن.م، ص176. (3) ن.م، ن.ص. (4) ن.م، ن.ص. (5) ن.م، ص177. (6) ن.م، ص178. (7) ن.م، ص179. (8) ن.م، ص181. (9) ن.م، ص181. (10) ن.م، ص182. (11) انظر عدداً من الأمثلة على ذلك في ص186-187 من المصدر السابق. (12) الشيرازي، محمد مهدي، كيف ينظر الإسلام إلى السجين، بيروت، مؤسسة المجتبى، ط1/1420هـ - 1999م، ص9. (13) ن.م، ص10. (14) ن.م، ص11. (15) ن.م، ص11. (16) ن.م، ص12. (17) الشيرازي، محمد مهدي، القانون، بيروت، مركز الرسول الأعظم(ص)، ط2/1419هـ - 1998م، ص43. (18) ن.م، ص26. (19) ن.م، ص27. (20) ن.م، ص28. (21) الشيرازي، كتاب الدولة الإسلامية (101)، مصدر سابق، ص192. (22) ن.م، ص193. |