العدد62

من هدي المرجعية

 

 

 

 

 

 

 

 

بين شرع الله والقوانين الأرضية

بحث مقارن على ضوء فكر الإمام الشيرازي (دام ظله)

 ● تمهـــيد.. 

لقد وضع الدين الإسلامي الحنيف أنظمة وقوانين مستوعبة لسائر شؤون الحياة الإنسانية، من كافة الجهات والجوانب، دون أن يغفل أو يغمط حق جانب منها، أو يركز على جانب ويهمل آخر، لينشئ منظومة تامة البناء، واضحة المعالم، متراحبة الآفاق، لا تبلى، ولا تتعطل، مهما تقادم بها الزمن، أو اختلفت العصور والأمكنة؛ لأنه بمجموع أحكامه وقواعده صادر من قبل الباري تعالى الذي يعلم السر وأخفى..

والإسلام إنما وضع قوانينه لأمور ستة:

1- علاقة الإنسان بربّه.

2- علاقة الإنسان بنفسه.

3- علاقة الإنسان بالإنسان.

4- علاقة الإنسان بالحيوان.

5- علاقة الإنسان بالنبات.

6- علاقة الإنسان بسائر الأمور الطبيعية المخلوقة في الكون.

وقد وضع الإسلام لهذه الأمور عشرات الألوف من القوانين، التي قد جمع جملة منها بعض الفقهاء، فكانت أكثر من ربع مليون قانون - في الفقه فقط - دون قضايا العقيدة والأخلاق والآداب وما إلى ذلك.. والقوانين التي قررها الله سبحانه أصلح من القوانين التي يضعها البشر، لثلاثة أمور:

أ) إن الله عالم بحقيقة الإنسان، وحقيقة الكون؛ فيعلم الصالح من القوانين من فاسدها.. والإنسان مهما كان نزيهاً أو عالماً، فهو ليس بمطلع على جميع الحقائق؛ ولذا نجده قد تمكن من الوصول إلى القمر، وإلى أعماق البحر، حيث عرف حقائقهما في الجملة، بينما لم يتمكن من وضع قانون لنفسه، بحيث يتخلص من الفقر، والجهل، والمرض، والفوضى، والرذيلة، والحرب، وما أشبه ذلك.

ب) إن الله سبحانه لا تملي عليه الشهوات شيئاً؛ ولهذا يكون قانونه في صالح الإنسان بما هو إنسان، أما البشر فمهما كان نزيهاً عند نفسه، تملي عليه الشهوات والأهواء والمجتمع ما يسبب حرف قانونه الذي يضعه؛ مما يجعله غير صالح لكل البشر؛ ولذا نجد المقننين في البلاد ذات الوجهة الشيوعية، يضعون القانون في نفع ديكتاتورية الحكام، ونجد المقننين في البلاد الرأسمالية يضعون القانون في نفع الرأسماليين، وهكذا.. ومن المعلوم أن كلتا الطريقتين خطأ؛ فالقانون المتولد منهما يكون خطأ لا محالة.

ج) إن قانون الأرض لا يُحترم؛ حيث أن المنفذ له هو البوليس؛ ولذلك لا يسيطر إلا على بقع خاصة ظاهرة للبوليس في المجتمع؛ ولذا كثرت الجرائم والمفاسد في كل أنحاء الأرض، بينما قانون الله سبحانه يُحترم من الأعماق، حيث احترام المؤمن لله، وخشيته منه، ولذا تقل الجرائم عند المتدينين، إن لم تنعدم رأساً، وليس كذلك غير المتدينين، حيث تكثر عندهم الجرائم.. وعلى هذا فاللازم اتباع قوانين السماء، بغض النظر عن الثواب والعقاب في الآخرة؛ فإن قوانين الإله أصلح لحال البشر.. أما إذا لوحظت الآخرة والجنة والنار؛ فالقوانين الإلهية هي وحدها المنجية، بينما في اتباع سائر القوانين الأخرى العقاب والنكال.

مزايا قانون الله على قانون الإنسان

يمتاز القانون الإلهي بمزايا مهمة، لا يدانيها شيء من القوانين الوضعية، نذكر منها على نحو الإجمال ما يلي:

أولاً: أن يكون الحاكم (أو من يكون مجرياً لأحكام الله سبحانه) ممن يرضاه الله تعالى؛ بأن يكون فقيهاً، صائناً لنفسه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه(1)، والصائن لنفسه بأن لا يأتي بالمحرمات، والمطيع بأن يأتي بالأوامر، والمخالف لهواه بأن لا يتطلب المحرم - نفسياً - والحافظ لدينه بأن تقف نفسه على الواجب..

ثانياً: أن يؤخذ القانون من الأدلة الأربعة، ومن الواضح أن الحكم الذي وضعه الله سبحانه خير من حكم البشر، من جهة:

أ) عدم تأثير الظروف والأهواء في الأول بخلاف الثاني.

ب) علم الله سبحانه بما يصلح البشر، وجهل المشرعين مهما كانوا نزيهين ومعتدلين.

ج) الحكم الذي مصدره الله تعالى يوجب اطمئنان الإنسان في الاستناد إليه، بخلاف الحكم الموضوع من قبل البشر، حيث لا يصلح للاستناد؛ فإن كل شيء من الخلق والأمر، لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات وإلا كان وراءه شيئاً..

ولذا قال سبحانه: (له الخلق والأمر) (2)، وقال أيضاً: (وأن إلى ربك المنتهى)(3)، ولنفرض أن أغلبية المجلس (في الحكم الديمقراطي) وضعت قانوناً، بكل نزاهة، فهل الأقلية الذين هم نواب الملايين - مثلاً - المخالفون لذلك القانون يعتمدون عليه؟ وإذا لم يعتمد عليه أولئك - نفسياً - فهل مثل هذا القانون يكون مبعث رضا الجماهير؟ وحيث لا اعتماد عليه عند أقلية الجماهير، فإنه لا يهمهم خرق القانون. وهذه هي من مشاكل القانون التي تحير فيها عقلاء الغرب، ولا يجدون لها حلاً..

وقد رأى الغرب أن أهم ما يتمكن به من تمزيق أوصال البلاد الإسلامية، ونهب خيراتها، واستعباد أهلها، أن يفرقها بالقوميات، والإقليميات، واللغات، وأن يضع القانون الوضعي مكان القانون الإلهي..

قال (غلادستون): (ما دام القرآن قانون بلاد الإسلام، والعلماء مسيطرين على الأمة، والكعبة محل اجتماعهم، لا تستقر أرجل بريطانيا في هذه البلاد.. فقالوا له: وهل نحرق القرآن، ونقتل العلماء، ونهدم الكعبة؟ قال: لا، قالوا: ماذا نفعل؟، قال: ضعوا القانون مكان القرآن وفرقوا بين الدين والدولة، وارموا العلماء بما يفرق الشعب من حولهم، واجعلوا الكعبة محل ظهور خلافاتهم، حتى تكون مبعثاً للتفرقة بدلاً من كونها مبعثاً للتأليف)(4).

وهكذا فعل الغربيون - كما أوصى غلادستون - ومطالعة كتب (الغارة على العالم الإسلامي) و(مذكرات المس بل) و(التبشير والاستعمار) و(مذكرات كينياز) و(مذكرات مستر همفر) وعشرات الكتب الأخرى.. تدل على هذه الحقيقة المرة، هذا بالإضافة إلى ما رآه المسلمون في هذا القرن، من تطبيق المبادئ الغلادستونية:

1- من إحياء القوميات في بلاد العرب، والهند، وتركيا، وأفغانستان، وإيران، وإندونيسيا، وغيرها..

2- ومن فصل الدين عن الدولة، ليأخذ مكانه القانون الوضعي، حيث صار لكل بلد قانون مخالف للقانون في بلد آخر، إمعاناً في التفرقة.. فمثلاً أخذ القانون في إيران (أبان العهد الملكي) من بلجيكا، وفي العراق من بريطانيا، وهكذا..

3- ومن إحياء الإقليميات؛ فلكل بلد حدود، وكل مسلم في غير بلده أجنبي، بينما الكافر وطني أهلي!!.

4- والعلماء حوربوا جهراً، كما حاربهم البهلويان، وأتاتورك، وناصر، والمسيطرون على الحكم في بغداد.. ومن إليهم.

بين نص القانون وروحه:

الدستور الإسلامي في الحكم له روح تنبع من الفطرة الإنسانية، كما قال سبحانه وتعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (5)، وحيث أن الإنسان بني في خلقته على السماح والتعاون والحرية، واحترام الإنسان ومساواة أفراده، والخضوع للقوة التي خلقته؛ فقد وضع الدستور الإسلامي على تلك المبادئ، كما أشار القرآن الحكيم إلى كل تلك المبادئ بقوله: (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين) (6)، وقوله: (تعاونوا على البر والتقوى) (7)، وقوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (8)، و(جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (9)، و(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً) (10).. إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وحيث أن القانون بنفسه لا يتلائم مع الإنسان، لاختلاف البيئات والمناخات والشعوب وما أشبه ذلك؛ فقد لاحظ الإسلام في جعل القوانين ثلاثة أمور هي:

1- الأمور الأصلية التي لا تختلف إطلاقاً، كالمبادئ السابقة.

2- القوانين الكلية التي هي إطارات تصح ضمنها مختلف التطبيقات؛ فلكل ظرف تطبيقه الخاص.

3- الأحكام الثانوية التي تطبق عند تعذر أو تعسر الأحكام الأولية، مثل قوانين (ما لا يعلمون، وما اضطروا(11)، وما استكرهوا، والحدود تدرأ بالشبهات..(12)) وقاعدة العدل والإنصاف، وقاعدة الأهم والمهم، وغيرها.. وبسب هذا التنويع في الأحكام، أصبح للدستور الإسلامي جسم وروح، تستقى منهما التطبيقات في مختلف الظروف والأحوال..

أما القوانين الوضعية، فقد اختلف القائمون بها، بين أن يعملوا بالنص أو بالروح عند التضارب، سواء في التشريعية (إذا خالف الدستور الظروف، فهل يتقيد المتشرعون في وضع القوانين الجديدة بإطار الدستور، أم لهم الخروج عنه إلى المماشاة مع الظروف؟) أو التنفيذية (فيما إذا كانت السلطة التنفيذية ترى المضادة بين قوانينها وبين متطلبات الظروف الخارجية) أو القضائية (كما إذا رأى القاضي المخالفة بين (روح القانون الموضوع لأجل الحق والعدل) وبين القانون الموضوع، مثلاً: كانت البينة في جانب المدعي، لكن كانت القرائن في جانب المنكر..) ولهذا التضاد والتناقض تجبر الدولة على تعديل القوانين، بين حين وآخر، وليس التعديل في الحقيقة إلا تقييداً لمطلق القانون، أو إطلاقاً لمقيده، أو شطباً لقانون لتضع مكانه قانوناً ملائماً.. لكن الإسلام غني عن كل ذلك؛ حيث أن قوانينه وضعت ذات روح وجسد، والأمر لا يخرج عنهما أبداً؛ ولذا ورد: (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة) (13).

الاستعمار وترقيع القوانين!

وقد وقعت البلاد بعد أن دخلها المستعمرون وعملاءهم، في اضطراب شديد، من جهة الدستور، حيث أن المشرعين الغربيين - حقيقة أو ائتماراً - وقعوا في حيرة بين قوانين الإسلام السائدة في البلاد، والتي لا يتمكن المسلمون، بحكم دينهم، أن يغضوا الطرف عنها، وبين القوانين الوضعية التي أرادوا إجراءها؛ لتلوين البلاد بلون الغرب، ضماناً لتبعيتها للغرب، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية التي استعمرها الشرق - ومن هذه الجهة جرت ترقيعات مشينة في القوانين، مثلها مثل تركيب (فهد مع طائر) - وأصبحت الدساتير متهافتة، متناقضة، كما أصبح المجرون لتلك القوانين كيفيين يعملون بحسب أمزجتهم.

وفي بعض البلاد كالعراق، جعل المستعمر (بريطانيا منذ أول العهد الملكي وإلى اليوم) ثلاثة أشكال من القوانين: القانون المدني، القانون الشرعي، القانون العشائري، والثلاثة متناقضة بعضها مع بعض، بالإضافة إلى تناقض نفس كل واحد من هذه القوانين، في مواده المتعددة؛ حيث أنهم أرادوا خداع المسلمين، فأدخلوا في كل واحد من الثلاثة أموراً إسلامية وغير إسلامية.

أما دساتير سائر البلاد، فمن الواضح أنه لم يكن للمسيحية وغيرها من الأديان السائدة إلى ما قبل الحضارة الحديثة، دستور سياسي اقتصادي اجتماعي، بل كان الشعار (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، ولما أن وضعت الدساتير تداخلت الأطماع مع الإخلاص؛ فالمخلصون الذين أرادوا تحرير الإنسان ورفاهيته، لهم اتجاه في كتاباتهم وأشعارهم وشعاراتهم (كالعدالة والحرية والمساواة وتخليص الإنسان من استغلال الإنسان).

وأصحاب الأطماع والأهواء، أمثال الرأسمالية والشيوعية، كان لهم اتجاه آخر من النفعية، والسيطرة (الليبرالية الاقتصادية ودكتاتورية البروليتاريا)، وبين هذين الاتجاهين: المخلص والطامع، وضعت الدساتير؛ ولذا كانت الدساتير ترقيعاً مشيناً، بالإضافة إلى أن التطبيقات صارت وفق الأهواء.

هذا بالإضافة إلى أنه قد اختلفت الدساتير من بلد إلى آخر، مع أن الإنسان فيها واحد؛ فإذا غضضنا الطرف عن المناخات المختلفة، والطبائع المختلفة، لم يكن وجه للاختلاف في الدساتير، فضلاً عن أن المناخات والطبائع لا تغير من الأمر المشترك، مع أن الدساتير تختلف في الأمر المشترك، مثلاً: نجد بلداً يحكم بالإعدام على بائع المواد المخدرة، بينما ترى بلداً آخر يبيح بيعها!!..

وحينما كان بلد غربي أو شرقي يريد تصدير دستوره، كان لابد له من ملاحظة البيئة والمناخ ومزاج الشعوب، فكان عليه أن يؤقلمه مع صفات البلاد المصدر إليها هذا الدستور؛ وبذلك كان يقع التناقض بين دستور المستعمر - بالكسر - والمستعمر - بالفتح -.

وحسب هذه الأمور، وضع الدستور الغربي - غالباً - على العقيدة المسيحية والفكر الرأسمالي الديمقراطي، بينما وضع الدستور الشرقي على الإلحاد والفكر الشيوعي الديكتاتوري، مع العلم أنه اختلفت البلدان الغربية والشرقية في وضع الدستور المأخوذ من نفس تلك المبادئ التي آمن بها زعماؤها، بين متشدد ومستسهل.

قانون الله.. وقانون (قيصر):

المسيحية الحالية تقول: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)؛ فكل أمر مرتبط بالعبادة والكنيسة مرتبط بالله، من صلاة ودعاء وقراءة الإنجيل وما أشبه، أما الأمور الدنيوية فيجب أن تكون برضى (قيصر) وحسب قوانينه، بينما الإسلام يرى ما ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم: (إن الحكم إلا لله) (14)، (ألا له الخلق والأمر) (15).

فالحكم يجب أن يكون صادراً عن الله تعالى، وليس لأحد من الأمة أو للدكتاتور أو للأشراف أو للشعب حق وضع القوانين، بل يلزم أن يؤطر عمل الإنسان برضى الله سبحانه وبقوانينه، لا برضى قيصر وقوانينه، ومن الواضح الفرق الشاسع بين القوانين التي يضعها (قيصر) - سواء قيصر الفردي أو الأشرافي أو الشعبي - والقوانين التي وضعت من قبل الله سبحانه وتعالى.

وهكذا نرى أن الفكر الشيوعي - مثلاً - يرى الدكتاتورية في الحكم، أي جمع رأس المال والسلطة بيد إنسان واحد أو جماعة واحدة وهي الحزب الشيوعي (وإنما قلنا بيد إنسان واحد أو جماعة واحدة، لأن من طبيعة الديكتاتورية جمع القدرات إلى أن تصل إلى القمة كما حدث في أيام ستالين).

وعليه فكل قانون شيوعي إنما يصدر على أساس هذا المنطلق، أي منطلق الديكتاتور، سواء أكان فرداً أم حزباً.. بينما الإسلام يرى لزوم ملاحظة حرية الإنسان في كل قانون يوضع، طبقاً لقوله تعالى: (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (16)، ولقول أمير المؤمنين (ع): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)، والقانون (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)؛ فأي قانون يوضع ضد هذه الحرية فهو باطل في نظر الإسلام، بينما هو صحيح في نظر الشيوعية.

وحيث أن من المعلوم أن (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة) هو المحكّم في كل الأمور؛ فليس مرادنا بوضع القانون في الإسلام - الذي يجب أن يكون مطابقاً للحرية - وضع القوانين الأصولية، وإنما مرادنا تطبيق القوانين الكلية في الإسلام على الصغريات الخارجية؛ فإن التطبيق بالنسبة إلى الصغريات المنافية للحرية غير جائز، بينما التطبيق على الصغريات الملائمة للحرية جائز في الشريعة الإسلامية.

مثلاً: لو كانت المصلحة الاجتماعية في رخص البضاعة، وأمكن ذلك بطريق تسعير الحاكم للبضاعة، مما يسلب التاجر حريته، وبطريق استيراد الحاكم للبضاعة وبيعها رخيصة، مما يفتح باب التنافس الحر، فيرخص التاجر بضاعته، لم يجز للحاكم سلوك الطريق الأول؛ لأن ذلك خلاف قانون (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) وإنما الواجب عليه سلوك الطريق الثاني، حيث أن هذا الطريق لا يوجب سلب التاجر حريته في التسعير.

وفي مثالٍ ثان: إذا اضطر الحكم إلى جعل قانون ينافي حرية الناس المالية أو البدنية، وكانت هناك صغريان: صغرى تعطي ضغطاً أقل للمال والنفس، وصغرى تعطي ضغطاً أكثر؛ فاللازم وضع القانون الذي يعطي الضغط الأقل؛ لأن (الضرورات تقدر بقدرها)؛ فإن قانوناً يزيد في سلب الناس حرياتهم لا يوضع في وقت يمكن فيه وضع الأقل من ذلك.. وهكذا في سائر القوانين التي توضع بالنسبة إلى تطبيق الكبريات على الصغريات؛ ولهذا فإن البرلمان - مثلاً - الذي يسمى في الغرب بالسلطة التشريعية، لا يمتلك عندنا سلطة (التشريع) بل له قدرة (التطبيق والتأطير)؛ أي إن للبرلمان الحق في تطبيق القوانين الإسلامية على الصغريات الخارجية، مع ملاحظة (الأسهل فالأسهل) و(الأكثر حرية فالأكثر حرية) و(الأهم والمهم).. وهكذا، بينما في الغرب ونحوه يكون للبرلمان الحق في تشريع القوانين؛ لأنهم يقولون: (دع ما لقيصر لقيصر.. )، فالقوانين الأرضية كلها تابعة لقيصر ولا تتبع السماء!.

أما في الشيوعية، فالأمر أفظع حيث أنهم لا يعترفون بالله تعالى إطلاقاً؛ فليس عندهم بند (ما لله لله)، وإنما كل منطقهم يتلخص في أنك يجب أن تكون تابعاً لقيصر في كل ما يقول ويعمل ويضع..

فهناك إذاً فرق ظاهر بين هذه الأنظمة الثلاثة: (إن القانون كله لله)، (إن القانون بعضه لله وبعضه للناس)، (إن القانون كله للديكتاتور).

ومن الواضح أن هذه الأنماط الفكرية والعملية تؤثر في حياة الناس وأسلوب عيشهم؛ فالاقتصاد - مثلاً - في منطق الإسلام هو في خدمة الإنسان؛ لأن الإنسان هو المحور، بينما صار الإنسان في النظام الغربي هو في خدمة الاقتصاد، كما أن العلم والعلماء في المنطق الإسلامي في خدمة الإنسان، بينما هم في الشرق والغرب في خدمة الاقتصاد، الذي أصبحت أزمّته بيد الرأسماليين، سواء من التجار كما في الغرب أو من الحكام كما في الشرق؛ ولهذا حرم الإسلام كل اقتصاد وكل علم يضر الإنسان، بينما أباحهما الشرق والغرب؛ حيث يدران المال الوفير للرأسماليين الغربيين والشرقيين..

مثلاً: الإسلام يحرم - بالنسبة إلى العلم - السحر والشعوذة والغناء والقيافة والكهانة وكتب الضلال وما أشبه، كما أن الإسلام - بالنسبة للاقتصاد - يحرم الربا والاحتكار وصنع المواد الضارة والأسلحة المدمرة، على الأسلوب الغربي، بينما الغرب والشرق يبيحان كل ذلك، بل ويجعلون الأنظمة والقوانين المسهلة لكل هذه الأمور.

جور القوانين الأرضية:

هذا، ونلحظ في القوانين الأرضية - سواء في السابق أو في الحال - ظواهر سلبية كثيرة، منها: إن القانون منحرف؛ حيث أنه لا يعطي نتيجة عمل كل إنسان له، ففي القانون الغربي تعطى أكثر النتائج للرأسماليين من التجار ومن إليهم، وفي القانون الشرقي تعطى النتائج للحكام، بينما يعيش الناس في فقر مدقع وسوء تغذية، وما إلى ذاك..

أما بالنسبة إلى الحكام، فحيث لا يشترط الديمقراطيون والشيوعيون في الحكام (العدالة) والخوف من الله سبحانه وتعالى، يكون القانون أيضاً ألعوبة بيد الحكام، حتى إذا فرض أن في القانون شيئاً من العدالة، فإن الحكام لا يطبقون هذه العدالة الموجودة في القانون، ولو بقدر قليل.

ففي السابق كانت القدرة المباشرة من الحكام تحول دون توزيع السلع الاستهلاكية، وسائر الحاجيات، توزيعاً عادلاً؛ فبينما كانت للحكام مئات المقاطعات وعشرات الأزواج (!!) كان كثير من الناس يعيشون أهوال الجوع والفقر، وليس لهم حتى زوجة واحدة.

أما في الوقت الحاضر، فإن القدرة غير المباشرة الموجودة بيد الحكام، والمغلفة بغلاف (قانوني) من الرأسمالية والشيوعية، تعمل من وراء الكواليس نفس العمل السابق، وتخلق بين الطبقات فجوة سحيقة؛ فيعيش حفنة من الناس في بحبوحة من العيش الرغيد إلى حد التخمة، في كل شيء، في حين يعيش أكثرية الناس في أحضان الفقر والمرض والجهل والتأخر، دون توفر على أبسط الحاجيات، من مأكل ومشرب ومنكح وتعليم وأمن وصحة وما أشبه..

وهكذا تظهر النتائج بين جعل الإنسان هو المحور، وبين جعل المادة هي المحور.

وهذه الأمور الثلاثة - وهي (محورية الإنسان أو المادة) و(استقامة القانون أو انحرافه) و(عدالة الحاكم أو جوره) - تؤثر، بالنتيجة، الأثر البالغ في إعطاء الحاجيات الأساسية لكل البشر، أو عدمه.

وقد وضع الإسلام القوانين الصحيحة الكفيلة بتوفير كل هذه الأمور، على حين انحرفت كل هذه الثلاثة في الغرب والشرق؛ مما أدى إلى إلحاق الضرر البالغ بالإنسان الذي بات يعيش أكبر أزمة، وفي شدة وقلق ومرض وحروب وثورات وفقر وغير ذلك مما لم يعرف مثله العالم في أي زمن من الأزمنة السابقة، ولا يحدثنا التاريخ بمثل هذه المآسي التي انصبت على الإنسان؛ فالإنسان لما كان المحور، كما في تعاليم الأنبياء(ع)، كان هو كل شيء، وكان كل شيء يفدى لأجله، وكان كل شيء تلاحظ قيمته الذاتية (لا قيمته باعتبار تحوله إلى المادة) وكان يخفف يوماً بعد يوم، من فقر الإنسان ومرضه وآلامه.

أما في هذا اليوم، فالإنسان يفدى لأجل المادة؛ فبينما في تعاليم السماء تخفف آلام الإنسان يوماً بعد آخر، تبعاً لإعطائه حاجياته - لأن كل شيء في خدمته - نرى في المجتمع المادي ازدياد آلام الإنسان؛ لأن الحاجيات تعطى لأجل المزيد من المادة، لا لأجل الإنسان ذاته.. فالإنسان يعطى لأجل المادة، وليس المهم بعد ذلك أن يصبح أكثر أهل العالم جائعين، كما ليس المهم أن يموت كل عام خمسون مليوناً من البشر، لفقدهم الغذاء والدواء والعناية، كما ليس المهم أن يقتل الملايين بالوسائل الحديثة، ولا أن يبتلي آخرون مثلهم بمختلف العاهات والأمراض من جراء استعمال الأسلحة الفتاكة، وإنما المهم أن يحصل الرأسماليون على أكبر قدر ممكن من الربح.. وهذه حالة مرضية ابتلي بها العالم الغربي ثم الشرقي، ثم صدّروا أمراضهم هذه إلى العالم الثالث!!..

القانون ما جاء في الكتاب والسنة:

من أوجب الضروريات على كل مسلم - يحب إعادة حكم الإسلام، وسيادة المسلمين وعزتهم وكرامتهم - العمل على إزالة القوانين المنافية للإسلام.. والمعيار في القوانين الإسلامية هو الأدلة الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل. والخبراء الذين يفهمون هذه المصادر الأربعة، هم الفقهاء العدول الذين قال الرسول الأكرم(ص) عنهم إنهم خلفاؤه، كما رواه الشيعة والسنة عنه، فقال (ص): (اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي) (17).

وإليك جملة من الأحاديث التي تشيد بالعلماء العدول، وأنهم هم المرجع في كل شيء، على أن يعملوا بالشورى حسب ما قرره الإسلام، فعن الإمام الباقر (ع) قال: (من عمل من الناس بغير علم ولا هدى من الله، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه) (18).

وعن الصادق (ع) قال: قال رسول الله(ص): (يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً‍!، فيقال له: خرجت عنك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام، وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام، وعزتي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئاً من جوارحك) (19).

وعن الإمام الصادق (ع) أيضاً أنه قال: (الحكم حكمان: حكم الله عز وجل وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية) (20).

وعن أبي عبد الله (ع) قال: (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم) (21).

وعن الإمام أمير المؤمنين (ع) في ضمن حديث له، أنه قال: (إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكن أتاه عن ربه، فأخذ به) (22).

وعن رسول الله (ص) أنه قال: (من حكم قيمة عشرة دراهم فأخطأ حكم الله جاء يوم القيامة مغلولة يده، ومن أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض) (23).

وعن الإمام جعفر بن محمد(ع) أنه سئل عما يقضي به القاضي، قال: (بالكتاب، قال: فما لم يكن بالكتاب؟ قال: بالسنة، قيل: فما لم يكن في الكتاب ولا في السنة؟، قال: ليس من شيء هو من دين الله إلا وهو في الكتاب والسنة، قد أكمل الله الدين، فقال جلّ ذكره: (اليوم أكملت لكم دينكم)، ثم قال: (ع): يوفق الله ويسدد لذلك من يشاء من خلقه، وليس كما تظنون) (24).

وهكذا، فاللازم على المسلمين إزالة القوانين المنافية للإسلام، وقد عرف أن أكثر القوانين في الوقت الحاضر مخالفة للإسلام، وما دام المرتبطون بالجهات الأجنبية يقننون مختلف القوانين باسم الإسلام أو باسم العلمانية أو بأسماء أخرى، فلا يعود إلى المسلمين عزهم الغابر، وسلطانهم الذاهب، وسيادتهم الغاربة..

  الخاتمة 

وفي الختام لابد أن نؤكد بأن تبديل قوانين الشرق والغرب التي غزت بلاد الإسلام بقوانين الإسلام، أمر صعب من ناحية الاستنباط، ومن ناحية التطبيق؛ لأنه قد حدثت في الاجتماع الإنساني متغيرات كثيرة كلها بحاجة إلى استنباط أحكامها من الأدلة الأربعة.

كما أن وضع قانون السماء مكان قانون الأرض أمر يحتاج إلى المزيد من الدراية والخبروية، لئلا تحدث الفوضى في المجتمع، فاللازم أن يستعين مجلس الشورى الإسلامي بمئات الخبراء والفنيين، في مختلف مجالات الحياة، وبمئات العلماء الراشدين الفاقهين للدين عن اجتهاد واستنباط؛ فيقسم المجلس إلى لجان، لجنة للشؤون الاقتصادية، ولجنة للشؤون الزراعية، وأخرى للشؤون التجارية، ولجنة للشؤون العسكرية، ولجنة للشؤون الثقافية، وهكذا..

وبمعاونة القسمين من الخبراء، خبراء الدين وخبراء الدنيا، توضع القوانين المؤطرة بالإطار الديني، والملائمة للتطبيق الدنيوي، ثم تطبق هذه القوانين على الحياة، بمساعدة السلطتين التنفيذية والقضائية.

وبدون ذلك لا يمكن تطبيق قوانين الإسلام بيسر، إن سلم أنه ممكن، ولم نقل أنه مستحيل؛ فإن صلاحية ذلك هي من شأن المجلس، والمجلس وحده لا يقدر إلا بالأسلوب الذي مرّ ذكره.

المصـــادر:

(1) موسوعة الفقه: ج106، كتاب السياسة، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

(2) الصياغة الجديدة: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

(3) طريق النجاة: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

الهـــوامـــش:

(1) الوسائل: ج11 ص101 ب11، من صفات القاضي ح9.

(2) الأعراف: 54.

(3) النجم: 43.

(4) انظر: شبهات حول الإسلام: ص17.

(5) الروم: 29.

(6) الأعراف: 198.

(7) المائدة: 3.

(8) الأعراف: 156.

(9) الحجرات: 14.

(10) الأنعام: 79.

(11) انظر: الوسائل: ج11 ص295 الباب56، من جهاد النفس.

(12) المستدرك: ج3 ص219 الباب21، من الحدود ح4.

(13) الوسائل: ج18 ص124 الباب 11، من صفات القاضي ح47.

(14) الأنعام: 57.

(15) يوسف: 40.

(16) الأعراف: 157.

(17) الوسائل: ج18 ص66 ح53 ب8، معاني الأخبار: ص374.

(18) الوسائل: ج18 ص89 ح1، الكافي: ج1 ص33 ح3.

(19) الوسائل: ج18 ص10 ح4.

(20) الوسائل: ج18 ص11 ح7.

(21) الكافي: ج7 ص408 ح2.

(22) الوسائل: ج18 ص25 ح12.

(23) الوسائل: ج18 ص9 ح1.

(24) انظر البحار: ج2 ص111 ب16، وص172 ب22، وص283 ب34.