مجلة النبأ - العدد61

 

 

 

عبد الكريم الحائري

الفقه بين الاجتهاد والتقليد تطورات العصر وضرورات التجديد (2/3)

قد تطرح أسئلة حول الفقاهة والاجتهاد، كأن يقال هل يتطور الاجتهاد؟ وهل يواكب العصر؟ وهل للحوزات العلمية اكتشافات ومختبرات علمية؟ وماذا صنعت للأمة الإسلامية وغيرها؟ وهل يكون الاجتهاد حكراً على جماعة؟ ولماذا التهويل من إبداء الشخص نظره في الشريعة والعقيدة؟ وكم حدود القداسة لفهمكم للنصوص؟ ولماذا الناس يحتاجون إلى المجتهد والتقليد، وهل للتقليد شرائط وحدود..

هذه الأسئلة وأمثالها تجيب عنها هذه الفصول وتعالجها بالأدلة العقلية والنقلية:

(الفصل السابع)

نظرية تطور الاجتهاد7

يكثر الكلام في بعض الأوساط العلمية بل وفي غيرها أيضاً، عن عدم تصدي علماء الدين لقضايا العصر، وعدم تقديم أطروحات كافية في هذا الصدد من قبل كليات الشريعة والمعاهد الدينية والحوزات العلمية، وعدم انفتاحهم على العالم وعدم مواكبة النهضة العلمية الجديدة في مختلف مجالات الحياة، أو لا أقل تقديم مناهج جديدة بما يتناسب مع تقدم العصر..

في الواقع إن التقدم الحاصل في الحياة المادية والتطور التكنولوجي والصناعي الهائل، هو مما يبهر العقول، ولكن ليس كل أمور الحياة على نسق واحد؛ فالقوانين والسنن الطبيعية والمادية هي غير القوانين والسنن المتعلقة بالمجال الديني ونهج البشر في الحياة؛ فإذا أمكن اكتشاف الأمور المادية الدقيقة وأمكن خلق الثورة التقنية وتفجير الطاقات، فإن ذلك لا يعني بحالٍ إخضاع القوانين الدينية للمختبر، وفهم أبعادها في المعامل، وأن يكون في الحوزة العلمية مثل ذلك من مختبرات علمية.. بل المناهج المتبعة هناك هي بشكل وبتخصص آخر، ولعل هذا القياس والانبهار هما اللذان يبعثان الحواضر العلمية على نقد الجانب الديني.. نتناول هذا الجانب على مستويين؛ المستوى النظري والمستوى العملي، أما على المستوى النظري فالواقع غير المتصور، إذ إن علماء الدين والشريعة يواكبون العصر وتقدمه العلمي، عبر تقديم نظريات جديدة في كل عصر، بل هم السبّاقون في هذا المضمار، وللتفصيل راجع كتاب (الشيعة وعلوم الإسلام) للسيد حسن الصدر حيث تجد أن الذين تقدموا في العلوم المختلفة من الطب والفلسفة والرياضيات والفلك كانوا من علماء الدين.

ولكن الفرق أن الناس في أوقاتهم من الليل والنهار صاروا يتعاملون مع الأمور المادية فيلتفتون إلى التقدم في هذه الأمور أكثر من غيرها، فتأخذ بمجامع قلوبهم، بخلاف العلوم الدينية التي أضحى التعامل معها أقل من ذي قبل بكثير، حتى غفل عنها الإنسان وندر أن يخصص لها وقتاً لمطالعة ما استجد في مضمارها؛ فمن المستغرب جداً أن نتطلع ونتوقع من علماء الدين والحوزات القفزات السريعة؛ إذ ليس من تخصصهم الخوض في الأمور الخارجة عن بحثهم، وقد عرفت سابقاً أن الفقيه له هدف خاص ويدور في فلك خاص من الأدلة. فالذي نتوقعه منه هو أن يأتينا بفهم جديد ليس بخارج عن اختصاصه ويتطابق مع العصر الحالي لا أن نتوقع منه ما نتوقعه من علماء الطب أو الرياضيات، نعم من الناحية النظرية قدم العلماء مثلاً في مجالات كثيرة أبحاثاً تعد جديدة في بابها؛ مما يعني أن الفقه واسع منفتح مع الحياة بكافة أبعادها، وهذه الكتب الفقهية قد ملأت المكتبات وتوزعت على التفسير والعرفان والمعاملات، وغيرها من الحقول، نعم لا تخلو بعض الكتب من السير على النهج التقليدي ولكن كتب التفاسير في القرن الأخير تغيّرت كثيراً عنها في القرون التي قبلها، وإن احتفظت بالجوهر، رغم أنها اصطدمت بالمعارضة والهجوم من قبل الذين يمارسون الإرهاب الفكري ويحبذون البقاء على النهج التقليدي، حتى في كيفية طبع الكتاب، ولكن ليس معنى ذلك أن رجال الدين إذا ذهبوا إلى الغرب، أو حصلت موجات الهجرة إلى أوربا، فاللازم أن يغيّروا المنهج، كأن تتغير النظرة الدينية إلى الحجاب - مثلاً - ويبطل حكمه لأنه غير مرغوب في الغرب!! فالمشكلة لا تكمن في كون رجال الدين لم يقدموا شيئاً، بل تكمن وراء الروح الانهزامية أمام بهرجة الغرب والتفسخ الخلقي فيه، فنحن نمتلك قيماً أصيلة لابد أن نرجع إليها ونحتفظ بها، والواقع التشريعي فيه مصالح ومفاسد وراء الظواهر، ولا يمكن الإحاطة بها؛ فلذا لا يمكن تغيير جوهر التشريع المبني على تلك المصالح والمفاسد الواقعية، نعم قد توجد مرونة في مقدار الفهم للنص، فالحجاب - مثلاً - هل هو التستر بغير الزينة؟ أو هل أن الستر ولو بالزينة لا إشكال فيه؟ كأن تلبس الباروكة أو الشعر الصناعي، مع حفظ موازين الستر، فتظهر بزينة كاذبة، أو لا يجوز لها ذلك لصدق الزينة وعدم جواز إبدائها (ولا يبدين زينتهن)(1) فالبحث يمكن أن يدور حول هذا الجانب، لا في الجانب الثابت أي أصل موضوع الحجاب.

ضرورات العصر:

وكون التطور ضرورة عصرية، فهو يعني عدم إبقاء الوسائل القديمة وتقديسها بل التماشي مع الجديد من الوسائل للوصول إلى الأهداف؛ إذ الأهداف المقدسة لا يمكن التهاون بها، فهناك فرق بين الأهداف والوسائل؛ نعم ليس لنا أن نقدس الوسيلة ونخرجها عن كونها وسيلة حتى تطغى على الجانب الغائي؛ فمثلاً كانت وسيلة التبليغ الديني منبر الجمعة والمناسبات في المسجد، فإنه لا يكتفى بذلك أبداً، نعم ليس من الصحيح إلغاء الموضوع لأن الحاجة إليه ما زالت باقية، ولكنه يترك ما يستغنى عنه إلى البديل الأفضل، فلابد حالياً من استخدام الوسائل العصرية للتبليغ وإيصال الصوت عبر ارتقاء منبر الجمعة والجماعة، وحضور المؤتمرات ثم التلفزة والقنوات الفضائية والانترنيت وغير ذلك، فلا يصح الجمود في نشر معارف الإسلام على الوسائل القديمة فقط؛ لأن الهدف هو إيصال الصوت، لا كيفية الإيصال، فكل شيء يوصل الصوت ويستفاد منه، لا يصح الاستهانة به كما لا يصح الاستهانة بالأهداف، وهكذا فالتغيير في الوسائل يعد من الأمور الطبيعية، شأنها شأن سائر وسائل الحياة الاعتيادية مثل ثياب الشتاء والصيف، وغير ذلك من الأمور الاعتيادية، ونؤكد أن التغيير في الوسيلة مع ثبات الهدف أمر مهم لأجل تغيير المجتمع أو الطقوس الحاكمة فيه؛ فإن النبي(ص) لما جاء لقريش بالإسلام قام قومه بوجهه بشعار أنه (سفّه أحلامنا وغير ديننا ويريد منا ترك الأصنام) وغير ذلك.. فلما رأوه يعارض أهدافهم وقيمهم عارضوه، وإن كانت أهدافهم وقيمهم باطلة، مما يعني أن الثبات على الهدف أمر مهم يتوجه إليه حتى القوم الضالون، فكيف إذا كان الهدف سامياً ومقدساً وصادراً من خالق البشر والكون؛ والعارف بمصالحهم ومفاسدهم والمنظم لهم حياتهم بقوانين عادلة مترافقة مع رحمته الواسعة.

ولكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن الاجتهاد لفهم النص الشرعي قد تطور كثيراً، فترى في الفتاوى القديمة والحديثة تفاوتاً كبيراً خصوصاً في المسائل التي لم تكن واضحة قديماً أو كانت واضحة، لكن لم يكن لموضوع المسألة مجال للبحث، كمسألة بيع الدم أو الميتة أو بعض النجاسات الأخرى حيث لم يكن لها فائدة آنذاك؛ فلذا جزم الفقهاء بعدم جواز بيعها والمعاملة عليها، لكن حينما تطور الطب وعرفت الفائدة، وأمكن نقل الدم والأعضاء، ظهرت الحاجة إلى نظر الفقه وهو بدوره لم يتراجع ولم يكن موقفه هو نفس ذاك الموقف القديم بل تبدل الموضوع عنده، لعظم فوائد نقل الأعضاء والجوارح ولو من الميت، بل حتى بعض جينات الجنين، فلذا جاءت فتاوى الفقهاء تواكب عصر التقدم مع الثبات على أصل الشريعة وعدم خرق قوانينها الثابتة، ومن هنا جاءت المقولة المعروفة أن الزمان يعد من العوامل المهمة لفهم النص الشرعي وفهم الحكم والاجتهاد، وهو أمر صحيح، على أن لا يتوهم البعض بأن الفقه لابد أن يتبدل وأن الشريعة المقدسة ليس فيها ثوابت، ولو أردنا أن نحصي المسائل التي تتبدل مع فروعها لتجاوزت المئات.

ولعل عكس ذلك كان يحدث أيضاً حيث أن أصحاب الأئمة (ع) - ولأنهم كانوا معاصرين لهم(ع)- فقد يفهمون النص بشكل أدق منا في بعض الجوانب، كما لو صدر النص حفاظاً على حياتهم أو كان لأجل ظروف طارئة، ولم تكن الصورة واضحة لنا، فهم بهذا الخصوص أعرف منا في فهم ذلك النص، خاصة مع ملابسات تاريخية لم تنقل إلينا بدقة، لكن ليس هذا على نحو العموم، والغرض هو الإشارة إلى أنه ليس بإمكاننا - في مطلق الأحوال - أن نجعل أنفسنا متفوقين في جانب فهم النص، فهناك بعض النصوص تأتينا من الرواة وهي متعارضة، وتعارضها واضح عندنا، لكننا لا نلمح إشارة إلى التعارض فيها من قبل الراوي، ولعله كانت هناك ظروف واضحة أوجبت له الفهم وعدم التعجب، فكان بإمكانه ترجيح بعضها على بعض، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، نعم هذا الأمر لا يجري لكثير من المحدثين، لأن غرضهم جمع الأحاديث وتبويبها، أو أن آرائهم كانت على التخيير في مجال التعارض أو غير ذلك من المباني الأخرى. وهناك أحاديث ألقيت على الرواة ولم يتوصلوا إلى مغزاها بل إنهم أخذوها من باب التسليم، والغرض من إلقائها إيصالها لنا، فلما وصلتنا ونظرنا فيها رأيناها تواكب العصر الحاضر، مثل روايات حدوث الكسوف والخسوف في شهر واحد، وإلى غير ذلك..

( الفصل الثامن )

نظرية احتكار الاجتهاد

إن أول ما يصيب الدين، ضربات تأتي من الداخل والتي ربما تكون محركة بأيدٍ خارجية حيث يجري التعرض لأهم المقدسات وتوجه التهم لعلماء الدين، وهذا ما حصل حتى قبل الرسالة الإسلامية وقد أشار القرآن الكريم إليه بقوله: (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون)(2) وأمثال هؤلاء أيضاً يوجهون إلى علماء الدين اتهاماً مفاده أنهم يقولون أن الدين والاجتهاد حكر عليهم، وهذا باطل جملة وتفصيلاً؛ أولاً لأننا نرى أن المنتمين إلى المعاهد الدينية ليسوا من عائلة أو أسرة واحدة ولا هم من بلدة واحدة، ولا من أهل لسان واحد، بل هم من ملل متفرقة، ومن أراد الوقوف على هذه الحقيقة فليلاحظ الحوزات العلمية فكثيراً ما يجد فيها دارسين من مختلف الجنسيات والانتماءات، وهذا مما لا يخفى على أحد. وثانياً: إن الاجتهاد والدين ليسا حكراً على أحد، كما أن الطب ليس حكراً على جماعة، وكذلك الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وغيرها من التخصصات؛ فلا يمكن لأحد أن يوجه التهمة إلى أهل التخصصات، إذ هم يقولون بوضوح أن الباب مفتوح للجميع، فكذلك باب الفقه والاجتهاد مفتوح للجميع وينادي بأعلى صوته أن هيا وهلمّوا للتفقه، ودعا إلى ذلك إمام المذهب الإمام جعفر الصادق (ع) حيث قال: (تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعراباً) (3)، بل قد شدد بحديث آخر على أهمية التفقه قائلاً: (ليت أسياط على رؤوس أصحابي ليتفقهوا في الحلال والحرام) (4).

فالتفقه للجميع، ولكن ليس معنى ذلك الاستهانة بالقدرات التي يبذلها الفقيه ويصرف حياته على ذلك، بل لابد من حفظ الحدود حيث ورد عن رسول الله (ص) قوله: (إن الله جعل لكل شيء حدّاً وجعل لمن تجاوز الحدّ حداً) (5). وهذا الأمر لا يختص بعلم دون آخر فهل تسمح الحكومات والجهات المسؤولة بأن يفتح شخص ما عيادة للطب - مثلاً - وهو لم يتخرج بعد من إحدى الجامعات الطبية؟ فكذلك الشرع المقدس لا يسمح للشخص الذي لم يصل إلى درجة الفقاهة والاجتهاد أن يتصدى للإفتاء ولو بلغ من المقام والسن ما بلغ؛ وذلك حفاظاً على قدسية النص وقداسة الفهم، وليس معنى ذلك التهويل على الناس بل هو إشارة إلى الواقع المعاش، حيث لابد أن ننظر إلى قداسة النص وأنه صادر عن صاحب القدس والجلالة فلا يصح أن ينسب إليه تعالى ما لم يكن مراده على نحو اليقين، وإلا فسيكون ذلك افتراء على الله ويكون كذباً، أما الذين تدرجوا في مدارج العلم حسب الصرح المبني والمعلوم، فلهم حق إبداء فهمهم للنصوص، ونظرهم الذي ليس هو نظراً شخصياً بل هو ممثل لنظر الشريعة المقدسة.

( الفصل التاسع )

قداسة الفهم أم النص

هل للفهم قداسة - بعد أن عرفنا قدسية النص -؟!.

إن الفهم لابد أن يكون مطابقاً للتدرج الطبيعي والاحتواء والسيطرة على المقدمات والمقومات، وأن قدسية النص راجعة لقدسية الشارع المقدس، وإن الله تبارك وتعالى تجلى للناس بكلامه، وجعل النبي الأكرم (ص) مبيناً لتفاصيل أصول الأحكام الملقاة إلى صاحب الشريعة بواسطة الوحي وعدم السماح له بالتفوّه من عنده فقال: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (6). فإذا لم يسمح لنبيه وطهر لسانه وحصنه بالقدسية وأيده بروح القدس والعصمة؛ فمن هنا تتضح لنا قدسية النص، ولكن هل للفهم قداسة كالنص؟!.

والجواب عنه: إن الفهم محترم إذا كان مطابقاً لما قلنا من التدرج العلمي، ولكن ليس له تلك القداسة التي لا تكون إلا مع العصمة، وحيث لا عصمة عند العلماء، فلا قداسة، وليس معنى ذلك هو الاستهانة بفهمهم لا بل إذا جاء الفهم جديداً طبق القواعد، فلا يقال إن الفهم الجديد يخالف الفهم الأول فيُرد، وهذا معنى عدم قداسة الفهم؛ أي إن اجتهاد مجتهد لا يكون حجة على مثله فكثير من المسائل المستجدة لم يبحثها المتقدمون وبحثها المتأخرون، فمسائل التشريح والاستنساخ وما يتعلق بالانترنيت من مختلف المسائل الفقهية المرتبطة بتأجير المواقع، وظهور الدعايات والإعلانات على موقع الشخص، والدخول إلى بعض المواقع بدون إذن أربابها، أو إدخال الفيروس إلى مواقع الأعداء أو التجسس أو غير ذلك..

وربما تكون هناك سرقات علمية أو معلوماتية أو غير ذلك، فلابد من بحثها بفهم يتناسب مع الواقع المعاش، وكذلك ما يرتبط بأحكام الفضاء والسفر إليه وغير ذلك مما حازه التقدم العلمي؛ فقداسة الفهم لا تلازم قداسة النص حتى يهول على الفهم الجديد ونبقى على الفهم التقليدي، وهذا لا يعتبر دعوة منا إلى ترك فهم القوم بل لعلنا نتدرب منه على فهم أقوى وأعلى، وبهذا نرد على من يزعم أن الحوزات العلمية والمعاهد الدينية لم تقدم فهماً جديداً وأنها باقية على الفهم التقليدي، وهذا الزعم خاطئ لوجود الفهم العصري لدى علماء كثيرين، وهذا واضح لمن راجع الكتب الحديثة والنظريات الجديدة من مثل كتب المسائل المستحدثة، ومناهج التجديد التي تعد مكملة لمسيرة القدامى، والدعوة إلى تجديد المناهج أو مناهج التجديد مما لا يعد خرقاً للقانون الإلهي ولا تخريباً لمسيرة القدامى بل هو ثمار تلك الدوحات العالية التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولعلّ هذه الدعوة تتلائم مع روح الشريعة أكثر من ظاهرة الجمود، لما نرى من مسيرة الأنبياء وتلائمهم مع عصرهم، فإذا جاءت الدعوة جاء معها ما يناسب العصر مثل النبي موسى(ع) حيث جاء بما يلائم العصر، والنبي عيسى (ع) بما يلائم عصره ونبينا محمد (ص) بما يلائم عصره أيضاً، والعصور التي تليه. وليس معنى ذلك أن نأتي بإعجاز مثلهم، إذ إن ذلك خارج عن مقدورنا، ويمكن الاستئناس بأن لكل عصر متطلباته، فلابد من التماشي مع العصور حتى تحفظ العلاقة بين أبناء العصر وعلماء الدين، ولابد أن نؤكد بأن السير على النهج الحوزوي هو كالسير على نهج العلوم الأخرى.

الحاجة إلى الاجتهاد:

لابد أن نشير إلى خطأ البعض بإعطائه القداسة للفهم الاجتهادي أكثر من النص، بل قد رفع القدسية عن النص تماماً مثلما فعل الدكتور أحمد الريسوي في كتابه (الاجتهاد والنص.. الواقع والمصلحة) حيث أراد أن يثبت الاجتهاد تعدّى إلى ساحة قدس النبوّة، بل رأى أن خطأ النبي في اجتهاده من المسلّمات؛ وذلك لأجل أن يكون لنا أسوة!! فنقول للدكتور إن الله تعالى نزَّل النبي منزلته العلمية حيث ربطها بالوحي والسماء وجعله مؤيداً بروح القدس، وقال عن كتابه (تبياناً لكل شيء) (النحل: 89)، فأي حاجة تدعو بعد كون الكتاب تبياناً وبياناً (وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة) (يوسف: 111)، لأن يجتهد ويخطأ؛ فالحاجة إلى الاجتهاد تكمن وراء حاجة الوصول إلى مقاصد الشريعة وفهمها، ولا يكون الفهم إلا طبق الكتاب والسنة، فما حاجة صاحب الكتاب والسنة إلى الاجتهاد الاصطلاحي؟!، فالدكتور أحمد وإن قطع شوطاً في المعارف، لكنه دخل الباب بفكرة مسبقة عن اجتهاد النبي (ص) وتوهم أنه قادر على تطبيقها وحاول إيجاد بعض الآيات أو الروايات لتأييده؛ فيا ترى هل معنى كون النبي (ص) معصوماً لا يجتهد أنه لا يجوز لنا الاجتهاد؟، أو ندخل إليه وجلين خائفين؟. ولماذا الوجل والخوف مع وجود المدخل الآمن؟ نعم ندخل ساحة الاجتهاد دون وجل وتهيب من الناس، ولكننا نشعر بوجل وتهيب من ساحة القدس الإلهي؟، فلذا نراعي الاحتياط والدقة في الفهم ولا نقول كما قال الدكتور حيث أظهر إعجابه بفتح باب الاجتهاد ونادى بقوله: (ألا فليقدم المجتهدون والباحثون وليقدموا مطمئنين مرتاحين غير متهيبين ولا وجلين)، وقد غفل الدكتور عن أن باب الاجتهاد مفتوح عند علماء الشيعة منذ الغيبة الكبرى إلى يومنا هذا، فليته طالع كتب المسلمين من غير إهمال لمذهب دون آخر، بل على الباحث القدير الأخذ بنظر الاعتبار كل الفرق لئلا يبخس الآخرين حقهم، ولئلاّ يتصور أنه الأول الذي وصل إلى نتيجة البحث.

هذا ويقول البعض: (إن النص مقدس والتأويل حر) وهي عبارة جميلة براقة بحد ذاتها ولكن لابد من تقييد الحرية بحدودها، فهي هنا ليست بسعة مفهوم الحرية، بحيث كل يأخذ من النص حسبما يروق له، بل لابد أن يكون فهم النص مطابقاً للأطر العامة للفهم دون خرق لقوانينها بداعي الحرية، بل لابد أن يكون الفهم فيه انضباط حيث لا إفراط ولا تفريط، فتحميل الاصطلاحات الجديدة على المعاني اللغوية قبل وصولها إلى حد الاصطلاح يعد خرقاً لقوانين الفهم، بل تعدياً، مثل ما رأى البعض بأن الحكمة في القرآن هي إشارة بل عبارة عن حكمة ملا صدرا حتى كتب الآية (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (7)، على صدر كتابه، بل واستشهد بالآية على صحة حكمة ملا صدرا..

ونحن لا نمانع من الفهم الجديد؛ ولكن لابد أن لا يحمل الاصطلاح في الحكمة المتعالية لملا صدرا على الآية القرآنية التي استعملت الحكمة في معناها اللغوي الذي فهمه المعاصرون لنزولها قبل وجود حكمة ملا صدرا بألف سنة تقريباً، وهذا أنموذج أردنا التأكيد من خلاله على ضرورة التقيد بحدود الفهم وأن التأويل حر ولكن مع الانضباط ودونما إفراط أو تفريط.

وقد ذهب البعض إلى قبول الأحاديث والروايات المروية في كتب القدامى إلى حد يقبل معه الحديث ويعده صحيحاً ولو خالف كتاب الله، وهذا خطأ فاحش ابتلي به بعض المسلمين لفترة طويلة، حيث راحوا يقدسون بعض الكتب ويعتبرونها صحيحة دون نقاش، ولا حق لأحد التعرض لها!!.

فلابد لنا من الاعتراف بحاكمية الكتاب الكريم وأن النبي والأئمة (ع) أرجعونا إليه لتمييز صحيح الحديث من سقيمه؛ وذلك لقول النبي (ص): (ستكثر بعدي الكذابة) (8)، فكيف يقبل الحديث دون بحث ونقاش ولو خالف محكمات القرآن الكريم، وهذا ما تجده واضحاً عند من يقدس الصحاح ويقبل كل ما ورد فيها، فلذا جاءت الدعوى من قبل المصلحين في زماننا لتطهير التراث من كل ما دخل فيه فهي دعوى ضرورية لكن لابد أن تكون تحت ضوابط خاصة لئلا تأخذ الغث والسمين بتلك الحجة.

( الفصل العاشر )

شرائط التقليد والنقل

واضح أن الله تبارك وتعالى لما أوجب علينا أعمالاً منها العبادات ومنها مراعاة القوانين في المعاملات والسياسات وغير ذلك.. جعل حدود المرجع في فهمها هو الكتاب الكريم؛ وحيث أن الكتاب الكريم فيه أصول الأحكام، وأمرنا بأخذ فروعها عن النبي الأكرم (ص) وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(9)، وهذا معلوم لا إشكال ولا غبار عليه؛ إذ قد أوجب الله علينا الصلاة وفصلها رسول الله مع أعدادها وتفاصيل أوقاتها وفروعها وكذلك الزكاة والحج فقال (ص): (خذوا عني مناسككم) (10). وقال (ص):(صلوا كما رأيتموني أصلي) (11). فعرفنا أن تفاصيل الأحكام لابد أن تؤخذ من صاحب الوحي والرسالة وهو(ص) قد أرجعنا إلى كتاب الله تعالى وعترته بقوله المعروف لدى الفريقين: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً) (12)، ومعلوم أنهم قرناء القرآن ولا يفترقوا عنه، فالتفاصيل التي تؤخذ عنهم هي حقائق عن القرآن لأنهم لا يفترقون عن القرآن حتى يردوا الحوض، هذا من جهة، ومن جهة ثانية منعنا من اتباع الظن وأمرنا باقتفاء العلم؛ فقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (13)، فلا يمكن أن نعمل في الأحكام الشرعية وفي الشريعة الإسلامية المقدسة بآرائنا الخاصة، لأنه كما أسلفنا أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعة التي لا يحيط بها علماً إلا الله تعالى، ومن أطلعه الله عليها؛ فلذا لابد أن نأخذ من النبي(ص) وأهل بيته(ع) تفاصيل أحكام القرآن الكريم في جميع سنن الحياة.

وخلاصة القول فإنه يجب علينا اتباع العلم والحجة الشرعية في أعمالنا، فكل عمل لابد أن يحتاج إلى حجة ودليل عاذر أمام الله تعالى، والذي نعتذر به في التكاليف أمام الله هو الرجوع إلى النبي (ص) وأهل بيته(ع) إذ هم الحجة علينا من قبل الله وأمرنا بالرجوع إليهم، ولكن لا يتيسر لكل أحد الوصول إلى النبي وآله في زمانهم فضلاً عن الأزمنة المتأخرة عن زمانهم، فلذا عينت لنا طرق شرعية خاصة، باتباعها تبرّأ ذمتنا عن التكليف، ونكون بذلك معذورين أمام الله تعالى؛ فمن تلك الطرق ما أشار إليه القرآن الكريم: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (14)، وهذا أمر عقلائي مرتكز عند الإنسان؛ حيث يرجع فيما لا يعلمه إلى العالِم به ويأخذ عنه.

ومعلوم أنه إذا رجعنا إلى الرواة الذين هم بدورهم رجعوا إلى الأئمة الطاهرين(ع)، فرجوعنا بعد معرفة كونهم ثقاة، هو رجوع إلى الأئمة(ع) وإلى أهل الذكر وهو أيضاً رجوع الجاهل إلى العالم، ومعلوم لنا أننا لما لم ندرك زمان الأئمة(ع) ولم نأخذ عنهم مباشرة، جاز لنا الأخذ ممن أخذ عنهم، ولكننا أيضاً لم ندرك الذين باشروهم بالخطاب، فنأخذ ممن أخذ عن المشافهين، وهكذا يكون أخذنا عنهم بواسطة الثقاة.. يفهم من قوله تعالى: (إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (15)، أنه جلّ وعلا أراد أن يحدد طريق الأخذ عن الثقاة المؤمنين، لا أن يسد الباب ويوصده علينا بل قد يتساهل بعض الناس في أخذ أخبارهم فقيّدهم بأن لا يأخذوا أخبار الفاسق إلا بعد التبيّن من صدقه، هذا بالإضافة إلى أن طريقة العقلاء في الاعتماد على الثقاة لم يردع عنها الشارع المقدس فنحن نثاب على الأخذ من الثقاة الذين نقلوا لنا الأخبار عن الأئمة الطاهرين(ع)، ولكن من جهة ثالثة إننا لما نظرنا إلى الآيات والأخبار وجدنا فيها العام والخاص والمطلق والمقيّد، بل هناك تعارض ظاهري بين الأخبار وبعبارة أخرى وردتنا أخبار تحتاج إلى تنقيح وعلاج ولما لم يكن هذا الأمر متيسراً لكل أحد بل يحتاج إلى تخصص كما هو حال العلوم الأخرى؛ فحينئذٍ تخصص رجال اهتدوا بهدي القرآن والسنة المطهرة ونظروا إلى العمومات والمطلقات والمخصصات والمقيدات والمتعارضات ومشاكل الأخبار فعالجوها واستنبطوا منها الأحكام، ومن هنا جاء جواز الأخذ من ثقاة أهل الخبرة والتخصص، وهذا هو التقليد، ويأتي هنا دور الفقهاء والمجتهدين الذين نظروا في حلال الله وحرامه وأحكامه، فاستنبطوا منها دون أن يتدخل في استنباطهم رأي شخصي أو هوى النفس، بل ساروا على نهج القرآن الكريم، وإلى هذا المعنى أشارت الآية الشريفة: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) (16)، حيث ذمهم الله تعالى باتباع آراء الذين لا يعلمون ولا يهتدون، ومنه يفهم أن الذين يعلمون ويهتدون بهدي القرآن يجوز اتباعهم، ومعلوم أن الجميع لا يمكنهم أن يتفقهوا في الدين فلذا يرجعون إلى أهل التخصص، وإلى هذا المعنى أيضاً أشارت الآية الشريفة: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (17)، فتخرج طائفة وتنفر للتفقه، ثم ترجع إلى قومها ليأخذوا عنها لئلا يلزم اللغو إذا لم يقبلوا منها، فاكتفاء طائفة وجماعة من كل فرقة يدل على جواز أخذ الباقين عنهم وإلا كان الواجب على الجميع الخروج للتفقه.

من كل ذلك عرفنا أن الرجوع إلى العلماء المتخصصين هو مثل الرجوع إلى أهل التخصص في كل علم، وهذا ما يصطلح عليه الفقهاء بالتقليد؛ مما يوضح أن مسألة التقليد هي مسألة الرجوع إلى أهل الخبرة وإلى الحجة في العمل، حتى يكون الإنسان في عمله معذوراً أمام الله تعالى وهذا الأمر من هدي القرآن ومن مرتكزات الفطرة وبناء العقلاء.. ومع ذلك نشير إلى بعض الروايات المؤيدة لما تقدم في شأن التقليد والرجوع إلى أهل الخبرة والرواية، ومنها:

1- ما رواه ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (ع): إن ليس في كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه، فقال (ع): ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً(18).

ومثل هذه الروايات كثيرة تجدها في نفس باب صفات القاضي في الوسائل.

2- ومنها ما جاء في التوقيع الشريف عن الإمام الحجة (عج): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم) (19).

3- ومنها ما روي عن الإمام العسكري (ع): (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) (20).

إلى غير ذلك من الروايات التي دلت بصور مختلفة على مسألة الرجوع إلى العلماء والفقهاء الذين أخذوا عن أهل البيت(ع)، بل حتى في زمانهم كان الرجوع إلى الرواة متعارفاً حيث هم أرجعوا الناس إلى الرواة لعدم إمكان وصولهم جميعاً إليهم، بل حتى أنهم نصبوا جماعة للافتاء مثل أبان بن تغلب.. فمسألة التقليد ليست بدعاً من المسائل بل هي معروفة ولا غبار عليها، وإنها من باب الرجوع إلى الحجة والمنجزية والمعذرية وبعبارة أخرى هي من باب رجوع المؤمّن إلى العالم أمام الله تعالى، وأنه معذور فيما جاء به من عمل وأنه عن حجة وعلم.

الهـــوامـــش:

(1) سورة النور: 31.

(2) سورة يس: 30.

(3) البحار: ج1 ص214 ح18.

(4) البحار: ج1 ص213 ح12.

(5) الوسائل: باب الحدود مقدمة الحدود.

(6) الحاقة: 45-46.

(7) البقرة: 269.

(8) البحار: ج2 ص225 ح2.

(9) الحشر: 7.

(10) صحيح البخاري: ج1 ص15 بحاشية السندي.

(11) صحيح مسلم: ج2 ص943.

(12) مسند أحمد: ج5 ص112 وص189.

(13) الإسراء: 36.

(14) النحل: 43.

(15) الحجرات: 6.

(16) المائدة: 104.

(17) التوبة: 122.

(18) الوسائل: ج8 كتاب القضاء باب 11 أبواب صفات القاضي ج23.

(19) المصدر السابق: ج9.

(20) المصدر السابق: ج20.