مجلة النبأ - العدد61

 

آلية الإرهاب ومظاهر القمع

 

 

علـــي الشمــــري

العدوان من الظواهر التي تؤثر في حياة الفرد والجماعة، فيجر عليهم أو على ممتلكاتهم الأذى والضرر، وربما ارتد العدوان على الإنسان نفسه فيدمرها، وذلك عندما يصل العدوان المرتد على الذات إلى ذروته؛ فينتهي إلى الانتحار.

وظاهرة العدوان تؤثر على نمط العلاقات السائدة بين الأفراد والجماعات فتصيبها بالتفكك والانهيار والتصدع، فتنخر في كيان التماسك الاجتماعي، فضلاً عن أن انتشاره يجعل ضحاياه يفقدون الشعور بالأمن والأمان والاطمئنان والاستقرار، ويشعرون بالتهديد والخوف على حياتهم، فينال من (أمنهم النفسي)، بل ويصل إلى المعتدي نفسه، إذا كان لديه ضمير حي وخّاز، فيحرك لديه الشعور بالذنب ولوم الذات وتأنيب الضمير.

ومصطلح العدوان؛ تدخل في دائرة تعريفه ومضامينه، عناوين ومفاهيم عديدة، جميعها متشابهة في الفعل وذات صلة بالسلوك والممارسة، فالاستبداد والديكتاتورية والإرهاب والقهر والتعسف والقمع، كلها وجوه تشكل بمجملها سلسلة المظاهر والممارسات العدوانية السائدة قديماً وحاضراً في الكثير من أنحاء العالم وأوساط المجتمع الإنساني، وعلى الصعيدين الفردي والجماعي.. والعدوان والإرهاب الرسمي، أي الذي تمارسه السلطات الحاكمة في الدول، يأتي في مقدمة الحالات المتفشية بأوسع نطاق وأشد قساوة، فالحكومات الظالمة والحكام المستبدين، لا يرون سبيلاً لفرض وبسط هيمنتهم على الشعوب والأمم، غير سياسات القهر والإرهاب وأسلحة التعذيب والسجون والقتل والإبادة، اعتقاداً منهم بأن ذلك كفيل بإسكات الأصوات المنادية بالحرية والمطالبة بالحقوق والكرامة، والحؤول دون تفجر الانتفاضات والثورات الشعبية من أجل الحرية والتحرر.

تعــــــريف الإرهـــــاب:

يُعرف الإرهاب بأنه محاولة نشر الذعر والفزع لأغراض سياسية، والإرهاب وسيلة تستخدمها حكومة استبدادية لإرغام الشعب على الخضوع والاستسلام لها.

وهو وسيلة تتخذها دولة تفرض سيادتها على شعب من الشعوب لإشاعة روح الانهزامية والرضوخ لمطالبها التعسفية، أو تستخدم الإرهاب جماعة لترويع المدنيين لتحقيق أطماعها حتى تفرض الأقلية حكمها على الأكثرية(1).

والإرهاب هنا يتخذ أشكالاً عدة، منها الإجراءات القمعية التي تشمل صور الاعتقال والتعذيب والاغتيال والنفي.. الخ، ويعرف القمع كذلك في غالب الأحيان، بأنه الإرهاب الرسمي أي إرهاب الدولة، الممارس بقرار من السلطة السياسية للدولة، لتحقيق جملة غايات أو تمرير مشاريعها الهادفة لتكريس سلطتها وإدامتها في الحكم، وهذا يتمثل بعدد هائل من الممارسات والأعمال التي تشكل في مجموعها وفي شموليتها نوعاً من الهيمنة الكاملة والمتعددة الأشكال والجوانب على حرية الشعوب والدول، وبحيث توضع هذه الشعوب وهذه الدول في خضم كابوس مرهق يتألف من مجموعة عوامل الضغط والقهر، وهذا شائع - غالباً - في الكثير من دول آسيا وأفريقيا، بما فيها منطقة الشرق الأوسط، حيث التحكم بالقرار السياسي، ونهب الثروات، والحصار الاقتصادي والعسكري، والانقلابات العسكرية، والهيمنة الضمنية على المراكز الإعلامية، والقيام بممارسة الاضطهاد الفكري والجسدي، وافتعال أو تغذية الخلافات القبلية والطائفية والدينية وإيصالها إلى حد الصراع والتصفيات الدموية، واستنزاف طاقات الشعوب في النزاعات والحروب الإقليمية المدمرة، واستغلال ظروف المجاعة والتخلف في بسط الهيمنة والنفوذ على المجتمعات(2).

الآثار المترتبة على القمع:

القهر والعجز وانعدام الضمانات المستمرة - ماضياً وحاضراً - يصبغ المستقبل بالتشاؤم، فتنسد آفاقه، ويفقد الإنسان الثقة بإمكانية الخلاص، مما يزيد من آلام الحاضر ومشكلاته، ويبعث على اليأس من الخلاص، عبر الجهد الذاتي، وهو ما يميز نظرة الإنسان المقهور إلى المستقبل، ولذلك فإن قلق الحاضر ومصاعبه يأخذ طابعاً متأزماً، وكل شيء يثير في نفسه خوف الكارثة؛ إذ إن المعاناة الحاضرة التي لا تجد لها إمكانية خلاص في مستقبل منظور تحول الحياة إلى جحيم، وتثير توترات انفعالية عالية بشكل غير طبيعي مما يجر ردود فعل متطرفة، وذات طابع انفعالي خال من العقلانية والتقدير الموضوعي للواقع.

إن عمليات القهر والتنكيل وسلب إرادة الشعوب والجماعات، قد رافقتها دائماً محاولات لمسخ الثقافات والتراث والتقاليد الخاصة بالشعب أو الجماعة المغلوبة على أمرها، وكثيرة هي الشعوب التي انقرضت الأبجدية الخاصة بها بفعل وقوعها تحت نير احتلال طويل الأمد، وتعرضها لعملية (مسخ) لخصائصها، أو لدمج قسري أو فرض تماثل مع القومية (الغالبة)(3).

تحتاج علاقة القمع باستمرار إلى تغذية نرجسية السيد أو الطاغية المتسلط، وإلى مزيد من تضخم أناه، حتى لا يتهددها بروز الحس الإنساني، بروز التعاطف النابع من التكافؤ بين الذاتية والغيرية؛ ومن هنا استمر العنف والتعسف، واستمر البخس الذي يصيب إنسانية الإنسان المقهور، وفي هذه الحال لا يتم التفاهم والحوار إلا بلغة السياط؛ إذ يسعى الطاغية إلى خنق كل انتفاضة لإنسانية الإنسان المقهور، أو حتى مجرد التفكير بهذه الانتفاضة، والتفكير بالتعبير عن حقوقه؛ فالحق هو حق السادة والحياة هي حياتهم فقط كما يعتقدون، فهم ينظرون إلى الفئات المُستغلة أو المستضعفة ككائنات هزيلة وجبانة، ولابد أن تبقى على هذه الحالة، لا بالإقناع والمنطق، بل بالقوة والقسر، وبمقدار ما يبخس الإنسان المقهور، ويفرض عليه الانحطاط والشقاء، يصبح إتكالياً مستكيناً مستضعفاً، وهذا بدوره يؤكد في ذهن المتسلط أسطورة تفوقه وخرافة غباء وعدم آدمية الإنسان المستضعف، وبذلك تتسم علاقة المتسلط بالمستضعف أو الرئيس المستبد بالمرؤوس بهذا النمط التسلطي المتعالي ومنظور القوي فوق الضعيف.

وهكذا، كيفما تحرك إنسان العالم الثالث، في العمل كما في المدرسة، في البيت كما في الشارع، يجابه باستمرار بأشكال متنوعة من علاقات التسلط والقهر، تفقده الشعور الأساسي بالأمن والسيطرة على مصيره، وتجعله نهباً للاعتباط والقلق(4).

عندما يتحول المجتمع إلى غابة ذئاب، وينعدم الشعور بالانتماء مع ما يستتبعه ذلك من انعدام الشعور بالعدالة والمساواة والعدل في نيل الحقوق، يولد عند الإنسان قلق الوحدة، وقلق التهديد، يأتيه من الآخرين، مما يفجر عدوانيته دون حدود، وتتخذ العدوانية هنا طابع تغليب المصلحة الذاتية بشكل مطلق، وقد تتخذ طابع السلب واستباحة الآخرين في حالات خاصة، بالإضافة إلى أن انهيار الانتماء الاجتماعي والمشاركة في المواطنية، يجعل من صورة المتسلط نموذجاً سلبياً يشجع على فقدان الالتزام تجاه الآخرين، السلطة في المجتمع المتخلف فرصة من أجل الاستئثار والاستغلال، وهكذا فكل من تمكن من شيء من القوة أو السيطرة، فإنه سيسلك النهج نفسه، لأن ذلك هو النموذج الشائع، ذلك هو القانون الفعلي الذي يحكم السلوك من خلف القانون الرسمي الذي يكاد يفرغ من كل معنى ومحتوى في المجتمع المتخلف.

وهكذا فإذا كان القهر من خلال الإرهاب والقمع هو الحقيقة التي تعشعش في بنية المجتمع المتخلف فتنخرها وتلغمها، فإن العنف على مختلف صوره لابد أن يكون السلوك الأكثر شيوعاً حين تسنح الفرص، تلك هي كارثة الرباط الإنساني طالما لم تتغير العلاقة بأخرى أكثر مساواة تعيد الاعتبار إلى الحاكم والمحكوم.

الإنسان وحالة القهر:

يتلخص وجود الإنسان المتخلف في وضعية مأزقية، يحاول في سلوكه وتوجهاته وقيمه ومواقفه مجابهتها، ويسعى للسيطرة عليها بشكل يحفظ له بعض التوازن النفسي، الذي لا يمكن الاستمرار في العيش بدونه، هذه الوضعية المأزقية، هي أساس وضعية القهر الذي تفرضه عليه السلطة الممسكة بزمام الحكم في مجتمعه، والتي تفرض عليه الرضوخ لها بشتى السبل والوسائل القسرية القمعية، وعلاقات القهر والتسلط من ناحية، ورد الفعل عليها من رضوخ أو تمرد من ناحية ثانية في كل ثنايا وجود الإنسان المتخلف، لأنها تكاد تكون من الناحية البنيوية، الخاصية الأساسية للمجتمع المتخلف؛ حيث تكوين الإنسان المتخلف النفسي، وتركيبه الذهني، وحياته الخاصة اللاواعية محكومة كلا بالاعتباط والقهر وما يولدانه من قلق جذري، وانعدام الشعور بالأمن والإحساس بالعجز أمام المصير، ولا يقف الإنسان المقهور مكتوف اليدين إزاء هذه الوضعية العسيرة الاحتمال، نظراً لكونها تزلزل التوازن الوجودي(5).

إن عالم التخلف هو عالم التسلط واللاديمقراطية، يختل فيه التوازن بين السيد المهيمن والإنسان المقهور، ويصل هذا الاختلال حداً تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته، وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها، وغياب علاقة التكافؤ الإنساني.

فعلاقة الإنسان مع السلطة في المجتمع المتخلف، وعلاقة هذه معه خاصة جداً؛ حيث السلطة لا تعرف من أسلوب للتعامل سوى الإرهاب والقمع، سوى الإخضاع دون حدود، أو هي تنحو منحى التضليل، وتكون ردود فعل السلطة عنيفة ومباشرة، وتأخذ طابعاً مادياً. البنية الاجتماعية التي تنتج عن هذه الوضعية جامدة متصلبة، لا تتضمن أي صمامات أمان، أو أي تقنية للعدوانية التي لابد أن تتراكم، ولذلك فإن هذه العدوانية لابد منفجرة في الخارج أو الداخل تبعاً للظروف، إذ كلما زاد جمود البنى نتيجة سيطرة سلطة فردية تحكمية تفرض مرتبية قطعية كلما زادت العدوانية، ولكن العدوانية تعزز بدورها هذه البنى؛ إذ إن الخوف من نتائج العدوانية يدفع المرء إلى البحث عن سلطة تمارس المزيد من القمع والإرهاب.

ليس هناك علاقة تكافؤ، أو حوار بين السلطة والجماهير في المجتمع المتخلف، ليس هناك اعتراف متبادل، أو سير متبادل للالتقاء عند نقطة تحفظ التوازن العلائقي في مناخ مرن ومتكيف، السلطة لا تريد مواطنين، بل أتباعاً؛ إنها تخشى المواطنية التي تعبر عن ذاتها، تخشى المواطنية التي تنزلها من مكانتها الجبروتية إلى مستوى اللقاء الإنساني، فالسلطة القمعية تصاب بالذعر من اللقاء الإنساني مع المواطن، ذلك اللقاء الذي يتضمن اعترافاً متبادلاً، وتساؤلاً متبادلاً في الوقت نفسه؛ إذ إن السلطة في المجتمع المتخلف تخشى وضعها موضع التساؤل وهو شرط الاعتراف بشرعيتها.

وهكذا فإن علاقة القهر بما تتضمنه من قمع وإرهاب وتضليل، تتسبب بوضعية خاصة جداً مولدة العنف بمختلف وجوهه، وهي ذات قطبي علاقة: صورة الذات عند الإنسان المقهور، وصورة المتسلط التي تتكون لديه.

أما صورة الذات فتتلخص بشعور ممض ومثير للذعر، بانعدام القيمة، بهدر الإنسانية، بإحساس بالاختناق، نظراً لاستحالة التعبير عن الذات وتوكيدها من خلال صرخة احتجاج أو نداء؛ تثير هذه الصورة جرحاً نرجسياً جذرياً، يحدث أثراً سلبياً على مجمل حياة الإنسان.

وأما صورة المتسلط فهي عامل تفجير للعدوانية، إنها لا تمثل الأب الحامي العطوف، بل تثير صورة الأب المهدد القاسي، تعاش كسلطة مهددة لا يتمكن المرء من التماهي الإيجابي بها، الذي يتم عادة مع صورة الأب الطيب، والذي يفتح السبل أمام نشأة العلاقات الإنسانية الإيجابية، وانعدام التماهي هذا يجعلها تظل خارجية وتعاش بشكل اضطهادي، وهي في حقيقة أمرها كذلك، نظراً لما تتصف به من عدوانية وما تحمله من تهديد، والرضوخ يظل ممكناً إزاءها بشكلها الخام، مع سيطرة مشاعر الذنب وما تفجره من أزمات داخلية.

والاحتمال الآخر تجاهها هو التحالف ضدها، تحالف الأبناء ضد الأب المتعجرف، ومحاولة التمرد عليه حين تسنح الفرصة، وأما الاحتمال الأخير فهو التماهي بها؛ مما ينشأ عنه (أنا) أعلى قاسًٍ واضطهادي، ويفجر العدوانية التي تتوجه نحو الخارج بصورة أفعال سيطرة ونيل من الضعفاء واعتداء على كل ما يمكن الاعتداء عليه.

الحرية والدين.. نقيضا الاستبداد والقمع:

لما كانت الحرية حاجة إنسانية دائمة ومتجددة لدى كل إنسان تهدف إلى تخليصه من الضغوط والعوامل الخارجية التي تحول دون أمانيه، وفوق ذلك عتقه من قيود السلطة والحكم، ولما كانت السلطة ظاهرة اجتماعية ضرورية تهدف إلى حفظ النظام الاجتماعي من الفوضى والظلم والحد من التطرف لدى ممارسة الحرية.. عند هذا كان لابد من وجود قانون وضابطة تتكفل بتحقيق تعايش سلمي بين السلطة والشعب، بحيث تضمن للإنسان كل حقوقه وحرياته في الوقت الذي تراعي الأمن والنظام العام، كما أن منح المجتمع للسلطة السياسية الحق في استعمال نوع من الضغط والإكراه وتحديد بعض حريات الأفراد بدعوى فرض الأمن والاستقرار، يجب أن لا يستخدم كمبرر وذريعة تتمسك بها الحكومة لإعمال القهر وممارسة الاستبداد ومصادرة حريات المواطنين، كما صنعت الدكتاتورية بالإنسان في العالم الثالث بما فيه العالم الإسلامي والعربي(6).

إن إنسان العالم الثالث يعيش في أجواء سياسية تفتقد الرحمة والمحبة والإخلاص، لذلك تنمو في نفس المواطن الشخصية الازدواجية، وتتفشى أمراض التزلف والانتهازية والابتعاد عن القيم والأخلاق والتخلي عن كل أصناف التحدي والمقاومة القائمة على الأهداف الإنسانية المشروعة والتطلعات الشريفة، لأنه إنسان يعيش أولاً حالة رضوخ ظاهري واستسلام مطلق للحاكم وكل أجهزته ومؤسساته وأفراده خوفاً من البطش أو طمعاً في الهبات، وفي نفس الوقت فإن هذا الإنسان تلتهب في وجدانه شرارة الانتقام المشفوع بالكراهية والرفض للسلطة الحاكمة المستبدة، وهو دائماً يتربص بالحاكم ومؤسساته كي ينال منها كلما استطاع وبالأسلوب الذي تسمح به الظروف، أملاً في دفع الظلم النازل عليه، ورفع سوط القمع والبلاء من على رأسه(7).

إن هذه العلاقات المفككة والثقافة المنحطة التي يجرها الحاكم المستبد إلى الشعب، تدل على مدى الانهيار الذي يلم بقيمة الإنسان ومدى المسخ الذي يتعرض له كل يوم، حينما يتحول إلى مضلَّل أو ضحية تضليل، وبذلك تقبر الإنسانية ويموت فيها الشعور بالقيم والحس الوجداني.

في مقابل ذلك جاء الإسلام بالنظرة المتكاملة حول الكون والإنسان.. الفرد والمجتمع، والتي تحمل في طياتها فاعلية التجسيد على ساحة الواقع، حيث أن كل نظرية - عادةً - تواجهها شتى أنواع المشاكل والصعوبات عند التطبيق، ولا يمكن تذليلها إلا بالإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة وأمام الله سبحانه وتعالى.. فالإنسان المؤمن الذي يستمد هدفه من العدل المطلق لا يمكن أن يقف دون تحقيق العدل وإقامة مجتمع السلم والحرية والأمن؛ إذ إن الإسلام يعد العدل ثاني أصوله الخمسة، وتاريخ الإسلام أكبر شاهد على ذلك، فقد استطاع الإسلام بما يحمل من مبادئ العدل والمساواة، أن يجعل حتى من العبيد سادة وقادة، وجسدت كذلك الدولة الإسلامية العدل والمساواة بين الحاكم والمحكوم، فترى الحاكم يعيش بين الناس كأي مواطن عادي لا يتميز عليهم بالقصور الفخمة ولا يستأثر بالأموال دون الرعية، ويظهر ذلك جلياً بممارسة النبي الأكرم (ص) لمهام الحكم الإسلامي وقيادته للدولة الإسلامية، وكذلك حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)(8).

القرارات التي تتخذها الحكومة الإسلامية لا تكون عن استبداد في الحكم والرأي، بل بعد الاستشارة والاعتبار برأي الأكثرية وملاحظة المصلحة الإسلامية العامة، حيث قال تعالى: (وشاورهم في الأمر)(9).

وللمجتمع ضمير هو غير ضمير كل فرد؛ وذلك الضمير هو الذي يولّد الرغبة في بقاء دولة أو هدمها، وهذا الضمير هو الذي يهيمن على الحكومات الظالمة، ويحرك الأفراد نحو مقاومتها، إلى أن ترجع عن غيها فتكون عادلة، أو إلى أن تزيلها بالوسائل الديمقراطية أو بالوسائل العنيفة المشروعة، وأياً كانت الحكومات، وأياً كان الظالم، فإن الظلم يردي الظالم، مهما تصور أنه قوي وأنه مزود بالسلاح والحرس، فإن الذي يحفظ الإنسان هو العدل وحده، أما الظالم فبيته من زجاج، وإن تصور هو أنه من فولاذ (إن ربك لبالمرصاد)(10).

والعدل ليس خاصاً بالحكام، ولا خاصاً بأمور الدنيا، ولا بالأمور الشرعية فقط بل العدل مرغوب فيه في كل إنسان وفي كل الأمور؛ فاللازم أن يكون الحاكم عادلاً في رعيته، والفاتح عادلاً في البلاد التي فتحها لأجل إقامة العدل، والعالم عادلاً في إدارة الأمور الدنيوية والدينية، وكذا المدير والمسؤول ورب الأسرة.

إن كلمات الإسلام ومبادئه بمعانيها الكبيرة وغاياتها السامية التي جاء من أجلها، تحمل شعارات وحقائق تهدف إلى تحرير الإنسان وعتقه من كل قيد إلا قيد السماء، وتنهاه عن الاستسلام والخضوع لأي قوة على ظهر الأرض إلا الله سبحانه، إذ ليس في دين الله استبداد سياسي، لأن الاستبداد السياسي بكل أنواعه عمل غير صالح يأتي على كل شيء ويدعه هشيماً تذروه الرياح؛ لأن الاستبداد لا يصادر تراب الإنسان وأرضه وحريته فقط، بل يلغي الإنسان ويدوس كل قيمه وحقوقه وكرامته..

الاستبداد والدين لا يلتقيان؛ ذلك أن الاستبداد هو سيادة الغرور على الحق، والتعصب الأعمى على الحقيقة، وهو سيطرة الظلم على الحرية، وكذلك الدكتاتورية التي هي بؤس وشقاء دائم، صورها التسلط والقهر والقمع، وأسلحتها السيف والرشاش وزنزانات التعذيب، وإذا كانت قادرة على تكميم الأفواه وقطع الألسن وحزّ الرقاب، إلا أن المبادئ لا تعتقل والعقائد لا تموت، وسياط الجند والجلادين وكل أجهزة الأمن والمخابرات لا تزيد حملة المبادئ والأفكار إلا تفانياً وإصراراً؛ لأن الرأي المكظوم يتحول داخل النفس إلى قذيفة خطرة إذا لم ترفع عنه القيود والقواهر.

وفي الواقع ليس الدين في استنكاره للاستبداد وسلطة الإرهاب والقمع إلا استجابة حية لأماني البشر وتصويراً صادقاً لطبائع الأشياء، وهو بالتالي رحمةً للعالمين، مجسدةً في شخص الرسول الأكرم(ص) الذي وصفه الله تعالى فقال: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (11).

العنف المضاد سبيل الرد:

يمد العنف، في مجابهة المتسلط، بنوع من الإحساس بالقوة التي تصبح رمزاً للحياة، والمهمة الأساسية أو المرحلة الحاسمة في هذه المجابهة هي التغلب على خوف الموت، إذ إن تحدي الموت وقهره يحمل في النهاية معنى الانتصار على القهر والرضوخ اللذين يعنيان موتاً معنوياً ووجودياً، ومنذ اللحظة التي يبدأ فيها الإنسان المقهور بتحدي الموت والاستهانة بالصعاب يكون قد قلب، من الناحية النفسية الذاتية المحضة، معادلة التسلط والرضوخ وانتصر على ذاته؛ مما يتيح له الانتصار على قوى القهر فيما بعد.

يشكل الموقف الاضطهادي مرحلة وسطى بين حالة الرضوخ ومرحلة التمرد والانتفاض، ففي الوقت الذي تنشأ فيه حالات رضوخ اضطهادي على طرف، يقابلها حالات اضطهاد تمردي على الطرف الآخر، وتتوقف هذه المرحلة من حيث امتدادها وشدتها على نوعية بنية المجتمع من ناحية، وعلى المعادلة الشخصية للفرد تبعاً لقواه النزوية وتركيبه النفسي من ناحية ثانية، وتتحول الحالة النفسية في مناخ العنف لتتخذ مظاهر متنوعة تتناسب مع هذا المناخ، ويصل المجتمع المتخلف بالضرورة في مرحلة من مراحل تطوره إلى العنف، بعد فترة شيوع الاضطهاد، وهنا يتوجه العنف ضد القوى المسؤولة عن القهر (المستعمر أو المتسلط الداخلي)(12).

ويتضح للشعب المقهور - ولو بعد حين - أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد كرد يعبر من خلاله عن نفسه وعن حقه في الوجود، لقد يئس هذا الشعب من إمكانية الوصول إلى الحق الذاتي بالرضوخ أو العنف الداخلي، وليس هناك من لغة ممكنة مع قوى التسلط سوى لغة مماثلة للغتها، لغة القسوة، لغة الغلبة ومع ترسخ اليأس من الحوار السلمي أو الرضوخ، يترسخ الإحساس بضرورة العنف المضاد، وإلا فإن الشعب سيتحول إلى ضحية دائمة ونهائية.

إن الانتصار على الموت هو قضاء على الشعور بالتبخيس الذاتي الذي يعني النقص والمهانة، ويعني بالتالي انعدام القيمة الذاتية، ومن هنا يلاحظ أهمية الشعارات التي تُطرح في بداية مرحلة التحدي والانتفاض: استعذاب الموت والشهادة، قوافل الشهداء، تمجيد الكفاح المسلح.. ذلك أن الحاجة إلى قهر الموت هي المدخل إلى عملية التحرير؛ ففي ذلك انتصار على كل العقد الذاتية، انتصار على الخوف والاستكانة، انتصار على اليأس، انتصار على قلق الحاضر والمستقبل، وتحول في المصير(13).

وإلى ذلك فإن قهر الموت ينسف مشاعر الخوف المتأصلة في نفسية الإنسان المقهور، كما أن العنف ينسف مشاعر التنكر للذات وللجماعة وصب الحقد عليها، إنه يوحد الشعب أو الأمة، يقيم صلحاً بين الذات والجماعة، ويرد إليهما معاً الاعتبار الذاتي، يحفظ كيانهما، ويحقق الأمل المشترك في الوصول إلى الإنسانية؛ ولذلك تنشأ لحمة قوية بين أفراد الشعب المقهور، وتبرز مشاعر الاعتزاز بالانتماء إليه، وتتغير دلالة الذات والجماعة من سلبية مطلقة إلى إيجابية مطلقة، من أشد درجات التبخيس إلى أقصى درجات التقدير.

إن الحاصل اليوم في العديد من الدول إنما يكشف بوضوح عن حقيقة القمع الرسمي الممارس ضد الشعوب، حيث ممارسة التنكيل ضد القوى والطبقات الداعية للحرية والانعتاق من الظلم والاستعباد، وتنفيذ المجازر الجماعية والزج بالناس في غياهب السجون، وتطويق المدن والقرى وتحويلها إلى معسكر اعتقال كبير، وقطع المواد الغذائية عن سكانها والمعارضين لسياسات السلطة الحاكمة، والتعامل معهم بشكل مذل وقاتل، ونهب المياه وتفريغ المناطق.

الكفاح.. سبيل الرد:

وفي قبال مقاومة الشعوب لظاهرة الإرهاب والقمع السلطوي بثمن الكفاح المشروع والتضحيات، تفرض الحالة الإنسانية على مختلف أعضاء الأسرة الدولية مضاعفة الجهد في التصدي وإنهاء حالات القهر والاضطهاد المتفشية في الكثير من أنحاء العالم إلى اليوم بمختلف السبل والوسائل، وإن تصدير أسلحة ومعدات القمع والتعذيب ونقل الخبرات والتدريب إلى الدول ذات السمعة السيئة في مجال حقوق الإنسان، يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان؛ إذ تستخدمها هذه الدول ضد الناشطين السياسيين والنقابيين ودعاة حقوق الإنسان والمطالبين بالاستقلال وغيرهم من المعارضين للأنظمة غير الديمقراطية، كما تستخدم للسيطرة على المتظاهرين ومعاقبتهم ورصدهم وتعقبهم واستهداف النشطاء منهم، بواسطة أحدث المعدات التكنولوجية، وتشمل قيود القدمين والأغلال وقيود الأصابع وأحزمة الصدمات الكهربائية والعصي الكهربائية والغاز المسيل للدموع والمدافع المائية والهراوات وأنظمة المراقبة والرصد والألغام الأرضية ومعدات الإعدام(14).

الهـــوامـــش:

(1) أحمد عطية الله، القاموس السياسي/ مادة إرهاب.

(2) نبيل هادي، أمراء الإرهاب، ص47-51.

(3) نفس المصدر السابق، ص16.

(4) الدكتور مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، ص37-38.

(5) نفس المصدر السابق، ص8.

(6) فاضل الصفار، ضد الاستبداد، ص19-20.

(7) نفس المصدر السابق، ص28.

(8) الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، العدل أساس الملك، ص6-7.

(9) آل عمران: 159.

(10) الفجر: 14.

(11) الأعراف: 157.

(12) الدكتور مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، ص48.

(13) نفس المصدر السابق، ص52-53.

(14) المجلة العراقية لحقوق الإنسان - العدد الثالث - كانون الثاني 2001م، ص61-66.

المصـــادر:

* نبيل هادي، أمراء الإرهاب في الشرق الأوسط - 1985م بيروت.

* أحمد عطية الله، القاموس السياسي.

* المرجع الديني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، العدل أساس الملك - 1998 بيروت.

* فاضل الصفار، ضد الاستبداد - 1997م بيروت.

* الدكتور مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي وسيكولوجية الإنسان المقهور - 1986م بيروت.

* المجلة العراقية لحقوق الإنسان، العدد الثالث - كانون الثاني 2001م.