مجلة النبأ - العدد61

 

                                                               العالم المسلم.. بين تحصين الذات والانفتاح على الآخر

 

محمد خليل

ترتد جميع الدعوات المفتوحة في حقيقتها إلى موقف دخيل من الآخر؛ كما أن دعوات تحصين الثقافة تؤول إلى موقف من الذات (التراث) وهما معاً يشكلان موقفاً ذا وجهين.. جوهره البحث عن إطار لاستيعاب ثقافة الآخر التي لا تزال تهدد باقتلاع معالم الثقافة الأصيلة وتدفعها للسير في طريق مجهول النهاية.

وقد برزت هذه الإشكالية كأحد المنعطفات التاريخية، حيث تحركت العقول والأذهان باحثة عن إطار يجد كامل أبعاده في النجاح في الاتفاق على مستوى من القبول بحضور الآخر.

ذلك الحضور الذي امتاز بنوعين من فرض النفوذ الثقافي، الأول قهري وبقوة التكنولوجيا، والثاني طوعي، يجد مسوغات لدى فئات من الأمة صارت ترى فيه سبيلاً للنجاة من التردي، وبذلك أثار عاصفة من التأرجح الذي يتراوح بين الرفض القاطع للآخر وبين القبول المحدود.

إذن فالقضية برمتها ليست أكثر من ضياع في إطار البحث عن موقف لابد من اتخاذه باتفاق جميع الآراء على ضرورة اتخاذه، لكن تختلف الآراء حول طبيعته ولذا (اقتضى ذلك حدوث جدل بين المفكرين.. كل من منطلقاته وانتماءاته الخاصة حول قضايا الهوية والتجديد والنهوض، استجابة للتحديات التاريخية الجديدة) (1).

وقد شكل الغزو الثقافي الحافز الرئيسي لهذه الأزمة؛ لأنه حفز - من جهة-، الأمة للتخلص من الضعف حينما كشف الغزو عن وجوده وأجج الرغبة في التقدم واللحاق، كما أنه من جهة أخرى لفت الأنظار إلى خطورة الذوبان في الثقافة الغازية، إما للانسحاق نتيجة للضعف أو نتيجة لذيوع وسيادة دعوات اللحاق الداعية للذوبان في ثقافة الآخر.

ولنا عندئذٍ أن نستنتج من طبيعة الأزمة وطبيعة التفاعل معها أن الأمة تفاعلت كذات واحدة تمتلك درجة عالية من التماسك أتاحت لها عملية الدفاع، حتى لو آل الأمر إلى صراع داخلي حاد وعنيف بين التيارات؛ ذلك أن أحداً لم يستطع التفرد في توجيه المسارات الوجهة التي يريد، وبالتالي يظل جزءاً من الأمة معادلاً للأجزاء الأخرى.

على أن ذلك لا يعني المراوحة، بل كانت الأمة تتحرك لامتصاص صدمة الغزو العسكري، ثم انتقلت لامتصاص الآثار الثقافية، ولذلك فإن الحركة كانت في أتون صراع رموز الثقافات في جسم الأمة، هذه الرموز التي مثل فيها عالم الدين الإسلامي الثقافة الأصيلة وخاض الصراع دفاعاً عنها ولا يزال الآن يلعب هذا الدور بجدارة.

ومعنى هذا، أن أصل تشكيل وبناء الأمة انطوى على عناصر قوة قد لا يلتفت إليها البعض، لأن النظر يتوجه إلى العناصر المادية من الثقافة، لكن من يلتفت إلى جانب صناعة الوعي يرى القدرة الهائلة التي مكنت الأمة من الصمود سنين طويلة، محافظة على بقائها وعلى تحينها لفرص انطلاق ونمو جديد ومستأنف.

ذلك البناء الذي مكن الأمة من التصدي لكافة أشكال التردي، سواء منها ما كان داخلي المنشأ، ومنطلق من الجوانب المعتمة في ذات الأمة، أو خارجي المنشأ كعمليات الغزو التي تأتي من حضارات أخرى.

لقد نجح الإسلام في تأسيس نموذج خاص به يقع (في مقابل نموذج (صراع الحضارات) الذي تبناه الغرب وهو نموذج (حوار الثقافات) الذي تبناه الشرق القديم حتى ظهور الحضارة العربية الإسلامية، وهو نموذج يقوم على الأخذ والعطاء على مستوى النِّدية بين الطرفين.. وقد تأكد هذا النموذج وبلغ الذروة في الحضارة العربية الإسلامية)(2).

كما أنه من جهة أخرى تعاطى مع الحركات الداخلية بالصورة التي تحفظ الذات الثقافية في مسار محدد يحافظ على بنية أصيلة قادرة على الامتداد والنماء التاريخي.

وفي كل ذلك يلعب العالم المسلم دوره في إنجاز هذه العملية بوجهيها (مع التحفظ على الإطلاق بالنسبة لهذا العالم) أي وجهة التصدي للغزو الخارجي أو الانحراف الداخلي، فقد برز إسهام العلماء في فترة الصراع الإسلامي مع الروم، وتجلى كذلك دوره في الصراع مع الغزو المغولي ثم في فترة الحروب الصليبية وأخيراً في فترة الصراع مع الحضارة الغربية.

أما بالنسبة للتيارات الداخلية، فقد لعب العالم دوراً تاريخياً حفظ للتاريخ درجة معقولة من سلامة المسارات والتوجهات، رغم شدة وعنف الأساليب التي استخدمت لتكريس الانحراف.

وفي النهاية فإن المشهد لا يزال نفسه منذ أن نزل الوحي على قلب رسول الله (ص) وأسس هذه الأمة المرحومة، فإن فئات داخلية تحاول أن تخرج الأمة عن طريق النجاة، إما لجهلها بالصواب أو أنها تحاول ذلك عمداً وعن علم، لكن الله قيض للأمة، العلماء الأعلام، الذين علموا فعملوا وحافظوا على خط السير التاريخي بالقدر المتاح نحو بر السلامة، بالتصدي للانحرافات القادمة من الخارج، أو الأخرى المنطلقة من الداخل.

المنعطف المعاصر..

إن الدوافع التي تحفز على اتخاذ الموقف هي دوافع واقعية؛ فالإحساس بوجود عوامل تفرض الاستعارة تشكل جوهر قراءة الواقع الاجتماعي، ولمس الحاجات التي تفرض الاستعارة، كما أنها من جهة أخرى تفرض الحذر من الانجرار وراء الإشباع غير السليم، الذي يقود إلى الوقوع في قبضة الآخر، والذوبان في ثقافته، تحت شعار الخلاص منه أو التغلب عليه، كما أن العملية على الصعيد العملي مستحيلة واستحالتها قد ثبتت بالتصدي الحاسم لأي عملية خروج على ثوابت الثقافة.

وفي النهاية فإننا نحتاج، سواء في جانب رفض الآخر أو الاستعارة منه، إلى بيان حدين؛ الأول هو بيان حد الاستعارة أو التأثر أو الاحتكاك أو التلاقح.. الخ، والحد الثاني هو بيان حد الذات الصالح للبقاء والاستمرار والإشارة إلى المعالم الثقافية الموروثة التي لم تعد ملائمة لهذا العصر.

ومن الطبيعي أن يلعب العالم المسلم الدور الرئيس في هذه العملية؛ ذلك أن الأمة قد فوضت هذا الرمز بتجديد المواقف كل المواقف وإزاء أي منعطف تواجهه بحكم مستوى الوعي الذي يمتلكه والذي يتفوق به على الآخرين، كما أنه من الطبيعي للآخرين ومهما ادعوا امتلاك الوعي من أن تصبح أدوارهم مكملة لدور العالم وأن لا تتقاطع معه لنفس السبب، ولأنه الوحيد الذي يمثل الثقافة الأصيلة تمثيلاً مطلقاً، وأن الآخرين لا يمثلون إلا أنفسهم مهما كانت وجهات النظر تبدو قيِّمة وعظيمة؛ ذلك أنها لا تمتلك شرعية التمثيل وتاريخيته.

وعلى صعيد الواقع الخارجي فأنه قد مارس دوره بجدارة من خلال تشبثه الصارم بالثقافة المراقبة الواعية للواقع، وبالتالي الاستعداد لعمل تفاعلي مع منتجات الحضارة الإنسانية بما لا يتناقض مع الثوابت.

ولهذا فإن سجالاً واعياً ظل يدور على امتداد مساحة التاريخ بين العلماء للتعاطي مع المستجدات، يقوم ابتداءً على منع الخروج على الثوابت والذوبان في أي اتجاه لا يحتمله النص في جوهره وليس في فضاء اللفظ.

وبعبارة أخرى لقد وجدت دائماً طبقة من العلماء تقاتل باستمرار على جبهتين: الأولى منع الجمود على مقولات محددة ومعينة تحاول تحجير الفكر والممارسة الإسلاميين بدعوى الحفاظ على الأصالة، والثانية منعها لمحاولات فتح النص على مصراعيه لولوج كل الاجتهادات ونتاج الفكر البشري بلا ضابطة أو معها إذا كانت فضفاضة.

وهكذا يلاحظ قارئ التاريخ موقف الحوزة العلمية في العالم الإسلامي حيث قاتلت ضد تيارات حاولت الإفادة من النص للقضاء على الأبعاد الأساسية في الدين؛ من قبيل الصراع مع البهائية أو البابية، كما أنها خاضت صراعاً حول مفصل صغير من مفاصل الإسلام من قبيل الصراع حول المشروطية.

فمثلاً (في الفترة ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين، قامت ثورات شعبية كان طابعها مناهضة الاحتلال المغولي وكانت هذه الحركات وأهدافها مزيجاً من التشيع والفكرة الصوفية) (3)، على أن المتتبع يصاب بالذهول من مستوى التفوق الذي تميز به العلماء سواء في مواجهة العدوان واحتوائه، أو دحره والتغلب عليه حيث تأتي إقامة الدولة الصفوية في إيران - رغم جميع المثالب والعيوب - كأهم إنجاز سياسي استطاع علماء الأمة إنجازه؛ ذلك أنه فتح الباب واسعاً لإنجازات أخرى متلاحقة تكاد تمسك بالمستقبل.

ولهذا يجب النظر بدقة إلى الظواهر في الساحة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي لعب (العالم المسلم) دوراً رئيسياً فيها، وبصمت اقتضته طبيعة الأوضاع الحاكمة في تلك الظروف من أجل فهم هذا الدور الذي لعبه بجدارة، من أجل دحر كل محاولات التزييف أو الهدم التي تعرض لها الإسلام منذ لحظة نزول الوحي وحتى اللحظة الراهنة.

التـــوفيقــــية

إذن نستطيع الجزم بأن الإسلام بالأصالة تفاعلي وليس توفيقياً، ذلك أنه منذ البدء قدر الواقع الاجتماعي والسياسي البشري، ووضع آفاق العلاقة التفاعلية بين النص والواقع، لأنه قصد منذ البدء الاستمرار فترة طويلة من الزمن، وبالتالي فإن أي قدر عقلائي من الرغبة في تحقيق هذا القصد - واقعياً - يفرض تنبوءاً بسعة التطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية، التي يمكن أن تقع خلال هذه المساحة الواسعة من التاريخ، ثم وضع آليات مرنة للتعاطي معها، ليس بهدف جعل النص متحركاً تبعاً لحركة الواقع، بل على العكس جر الواقع إلى آفاقه باعتباره هدفاً، ووسيلته الانتقال والحركة في دائرة الممكن.

ولهذا جاءت المرجعية الدينية لتمثل هذا الجهاز الذي يمارس قراءة النص قراءة متواصلة تواكب حركة الواقع؛ فهي لا تتوقف في أي ظرف، وبالطبع هذا بحسب الفرض لكن ليس بالضرورة أن تأتي جميع المقاطع التاريخية مجسدة لهذه الفرضية؛ ذلك أن المرجعية كأي مؤسسة إنسانية تحقق هذا الفرض بدرجات متفاوتة بحسب العوامل، لكننا نجزم وبشكل قاطع وجود قدر معين داخل هذه المرجعية اضطلع دائماً بأداء دوره أداءً رائعاً، حفظ الدين خلال كل هذه التقلبات التاريخية، وهذا طبعاً جزء من الأداء الإعجازي الذي تميز به هذا الدين، وخصوصاً في الجانب الذي ظل أشد وفاءً للأئمة من أهل البيت(ع) باعتبارهم الأعلم والأقدر من الجميع على إعطاء الأشكال الدقيقة لنمو وتواصل دور المرجعية التي شيدوها بأيديهم وتحت إشرافهم، وعن هذا قال الإمام علي (ع): (أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطي الهدى ويستجلي العمى، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم) (4).

ولهذا فإن العلماء تصدوا دائماً لنوعين من المحاذير؛ الأول هو الوقوع في السلفية والقبول المطلق بالإرث الثقافي على علاته الذي هو إيجابي من جهة، لأنه يحافظ على معالم الثقافة، لكنه من جهة أخرى سلبي، لأنه سيكون عاجزاً عن مواكبة التطورات، وبالتالي سيؤدي إلى مروق فئات واسعة من أتباع هذا الدين من تعاليمه، وهذا ما حصل في العصر الحاضر تحت ذريعة التخلف والجمود، أما المحذور الآخر وهو محذور الاستعارة، فينشأ لا عن نفس الاستعارة بل عن درجاتها المخلة التي تتخلى عن ركن أساسي شرعه الإسلام في جانب العلاقة بالنص، وهي علاقة الأتباع وليس علاقة الهيمنة على النص أي حاكمية النص على الواقع وليس العكس، وطبعاً تمثل بعض هذه الدرجات من الاستعارة مروقاً مستتراً على النص أيضاً، وهي أشد خطورة من دعوات الذوبان بالآخر (التغريب) لأنها تمتلك درجة عالية من التسويغ بحكم الانتماء إلى دائرة النص ظاهرياً؟! وقد شخص ذلك الإمام علي حينما قال: (إلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أأمرهم بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم نزّل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أو أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول  عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (فيه تبيان كل شيء) وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق) (5).

وهنا قد رد الإمام على كل مبررات الاختلاف أو الاستعارة من بعض البشر، وأبطل كل احتمالاتها.

وبناءً على ما تقدم يمكن افتراض بقاء منهج التعاطي الإسلامي على حاله منذ عصر البعثة وحتى اللحظة الحاضرة دون حدوث تغيرات، لكن ضمن التيار الخاص الذي وصفته روايات الثقلين بنصوصها المتعددة، بأنه التيار الممتد من رسول الله وحتى الورود على الحوض، فالرواية التي تقول: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.. ) تدل على التواصل والاستمرارية منذ لحظة نزول الوحي والتيارات المنتسبة إلى الإسلام وحتى الورود على الحوض، وهذا الاستمرار ليس عاماً، بل هو ضمن خط واحد من خطوط الإسلام، وإن الإقرار بهذه الحقيقة يعني دحض شبهة التوفيقية عن الإسلام في تياره الأصيل لامتلاكه آليات البقاء والاستمرار والتفاعل الواعي مع الحياة الذي يعني القدرة على هضم منتجات الثقافات الأخرى ذات القابلية (وقد تم تصوير الإصلاح الحديث - في أكثر الأحيان - كرد فعل على تحدي الغرب.. إن جذوره إسلامية - موروثه الديني التجديدي - وغربية - و(ردة فعل على الاستعمار الأوروبي) - يمتلك الإسلام موروثاً دينياً كبيراً وغنياً، من التجديد والإصلاح الإسلاميين، فعبر العصور جدد الأفراد (اللاهوتيون) والعلماء القانونيون والأسياد الصوفيون والمبشرون الشعبيون) (6).

وكان وراء أغلب هذه الحركات علماء الأمة كمتعاطين وموجهين، ولنا في الدولة الصفوية في إيران خير مثال؛ حيث بدأت عملية التغيير بواسطة ناس متجولين يدورون في الأحياء وينشرون الأفكار.

ومن هنا فإن الضجة المعاصرة المثارة حول الموقف من الحداثة لا تشمل هذا التيار، بسبب وجود الآليات الحاضرة للتعاطي مع أي مستجد، نعم يمكن أن يكون التعاطي من قبل بعض العلماء ليس دقيقاً، وهذا أمر يعتمد على مستوى علمية العالم وخلفيته، وبالتالي لا نعدم من بين العلماء من يقدم الموقف الصواب.

إلا أن المشكلة التي واجهت علماءنا خلال العصور أنهم سلطة روحية، وبالتالي فإن الحياة لا تتبع آراءهم بل إنهم غالباً ممنوعون حتى من مجرد الإدلاء بآرائهم إزاء المنعطفات التاريخية، لكن ورغم هذه المعوقات لعب العلماء أدوارهم وساهموا في صناعة الواقع السياسي والاجتماعي من موقع المعارضة، ولعل التاريخ الحديث خير شاهد على هذه الحقيقة.

فلعلنا نستطيع أن ننسب إلى علمائنا الدعوة إلى الدستورية ونشر هذه الفكرة في أوساط المسلمين في جميع أصقاع العالم الإسلامي، وقد وجدت هذه الدعوة آذاناً صاغية وتناقلتها النخب المثقفة كما أن الدعوة إلى التحرر ومقاومة الغزو الاقتصادي تنسب إلى الأفغاني ولحد اللحظة الراهنة استطاع العلماء إثبات جدارة هذا المنهج التفاعلي.

الأصالة التفاعلية..

وإذا كان هذا المنهج قادراً على حل إشكالية الحداثة فإنه أيضاً قادر على الحفاظ على الأصالة؛ ذلك أن وضع حركة التفكير غالباً ما أدى إلى خلق تيارات فكرية في الأوساط العلمية ذات التنوع، ثم يدور السجال الذي يؤدي في النهاية إلى حسم القضية لصالح أحد الأطراف، وهنا نريد إلفات النظر إلى أهمية وجود الفضاء الفكري الحر، وهو فضاء خاص بالطبقة المتقدمة من العلماء وهم الذين حصلوا على أدوات كفيلة بجعلهم من ذوي الأهلية للإدلاء بالآراء، ومع ذلك فإن بعض الآراء لا تنال العناية لأنها منطلقة ممن لا تعتد الحوزة العلمية بآرائهم.

وهكذا فإن فضاء التفكير سيكون مفتوحاً على قاعدة امتلاك أدوات المنهج الأصيل في استباط الرأي وتقديم الرؤى على أساس من الشرعية البعيدة عن الارتجال، وهو الأمر الذي أصيبت به حركة النهضة، حيث أشار أغلب الدارسين إلى أنها أصيبت بمرض التعاطي المرتجل، وإنها انتقلت من مرجعيتها الموروثة دون أن تؤسس مرجعية جديدة.

إذن، هذا التيار استطاع حل قضية الأسس والمعايير في نفس الوقت الذي أفسح فيه الأفق لحركة مضبوطة من الأفكار المستندة إلى تلك المعايير.

وإذا شئنا تحليل هذا الضجيج مما يعرف بجدل الحداثة والأصالة، فإنه يعود إلى عنصر أساسي واحد هو عدم الاستفادة من المنهج التفاعلي الإسلامي، ذلك المنهج الذي أشار الرسول(ص) إلى استمراريته وتواصله في أحاديث كثيرة، من قبيل الحديث الذي مضمونه أن فئة من الأمة لا تزال عالمة بالحق، عاملة به، لا يضرهم من خالفهم، بينما أشار في أحاديث أخرى إلى الوجه الآخر، أي أولئك الذين سيقودون الدين إلى حالة شديدة من الانحسار، والذي يصفه بأن الدين سيعود غريباً؛ فالدين موجود لكنه غريب.

وبصورة عملية فإن الفئات التي ستعتمد على المنهج التفاعلي ستستمر ولو بصورة فئة قليلة، بينما تكون الخطوط الأخرى فاقدة للإسلام كمضمون لكنها متبعة له في بعض المظاهر.

ولهذا فإننا نلاحظ تشعب الموقف الإسلامي العام من المنعطف المعروف بالحداثة انشعاباً ملفتاً للنظر، ففي بداية الدعوة للنهوض، انطلقت دعوات لخلق النهوض من دائرة تقع خارج النص، وعبر القطيعة معه؛ لأن هؤلاء لاحظوا (هامشية النص) في الحياة، وإن سيطرته تقع على الجانب العبادي والطقسي، بعدما تم تنحيته عن السياسة والاقتصاد والفكر، وخصوصاً في أواخر عهد الدولة العثمانية(!!)، لكن دعوات القطيعة اندحرت خلال قرن من الزمن لتأتي الدعوات إلى التواصل، غير أنها حملت في طياتها دعوات إلى التواصل الشكلي مع النص أي عمليات حقن النصوص بمضامين (جديدة) والاحتفاظ به (النص) كإطار للتبرير السائد والمنقول من الثقافات الأخرى.

وخلاصة القول أن ما حدث كان يعني الافتقار إلى صياغة دقيقة لحدود ما يجب القبول به، أو رفضه من الآخر، ثم ما يجب القبول ورفضه من الذات؛ إذ لا يختلف السماح بتسرب الدخيل سواء من الذات أو الآخر؛ لأن المدار دائماً عبارة عن جدلية الوحي النقي مع أفكار الإنسان، وهو يعني مديات متفاوتة من التدخل؛ فمرة تكون فهماً بشرياً للوحي لم يأذن به الوحي، ومرة أخرى رفضاً كاملاً لمرجعية الوحي، ومرة تدخلاً بهذه الدرجة أو تلك فيما بين الدرجتين، وهذه الجدلية هي جوهر الصراع التاريخي على طول التاريخ، مهما تنوعت الأشكال والأٍساليب، وبالتالي فإن ما يعرف بجدلية الحداثة والتراث ليس سوى الشكل المعاصر من الجدلية، وإن المعيار في حلها هو الحفاظ على نقاء الوحي أي الشكل الإسلامي الأصيل لحل الإشكالية، أي اتباع المنهج التفاعلي.

ويمكن أن نوجه التعاطي مع الإشكالية بالصورة التالية:

إن حقيقة الموقف الداعي إلى التجديد تنطوي على إشكالية غير معلنة يتساوى فيها أصحاب التيار الديني مع سواهم، ألا وهو النظر إلى الدين في المآل والنتيجة، وكأنه صناعة بشرية يملكها البشر وهم أحرار في التصرف بها نقداً وتعديلاً، مستندين إلى معيار واحد وهو العقل وهذا الموقف رافق حركة النهضة ومارسته حركة الإصلاح الديني الأوروبية في بدايات الحركة، ولهذا فإن بعض التيارات الدينية المعاصرة ورغم كل الشعارات البراقة التي تحمل سمات الأصالة والثبات، فإنها تؤمن بضرورة وجود شيء من التدخل في توجيه الدين، قد مورس بوضوح.

وقد حفز هذا التدخل الكم الهائل من التعدد والدعوات التي تتساند في بعض المعالم، وتختلف في معالم أخرى، وبالتالي تفرض على العقل التدخل للفرز وتحديد الأجزاء المؤهلة للبقاء، وهكذا تنشأ مرجعية العقل مع أن دور العقل يجب أن يبقى محدداً أيضاً، وهكذا فإننا سنصل إلى إشكالية مهمة لا حل لها بدون العودة إلى الآلية التالية:

1- الاستفادة من العقل في قراءة التاريخ لغرض تحديد المعالم الحقيقية للشرع (الوحي الخالص).

2- ينتهي دور العقل عند هذه النقطة ليمارس مهمة جديدة، وهي مهمة تطبيقية خالصة لا علاقة لها إلا بإيجاد السبل الكفيلة بجعل هذا الشرع حياً ومتحركاً في الواقع بعد أن يتم تجديد الأدوات الشرعية لهذه العملية، مع أن جميع هذه الخطوات لا يمكن أن تكون صحيحة إلا إذا كان الممارس لها هو عقل هضم الشرع، بجميع أبعاده وأقام الأدلة على صحة نسبة الأحكام إلى موضوعاتها.

وهكذا يمكننا الوصول إلى عملية الفرز التي أشرنا إلى أنها لعبت دوراً في هذه الإشكالية، لأن الجزم حاصل وقاطع من جهة عدم تناقض معطيات الشرع الصحيحة مع أحكام العقل والعلم القطعيين، ولذا تنحصر عملية التناقض في دائرة التعارض بين البشري مع الوحي أو العلم غير القطعي مع الوحي.

ولذلك فإن عملية التحديث والتأصيل هي عملية واحدة تعتمد على فرز الوحي عن الإضافات البشرية التي ادعت أنها جزء من الوحي، كما أننا يمكن أن ننتفع من الأدلة التي أكدها الوحي في فرز الخطوط والدعوات المنتسبة إلى الوحي وهي كالآتي:

لقد أكد الوحي استمرارية القرآن والسنة، وهو ما نراه قائماً إلى حد الآن، حيث تجمع الأمة على سلامة القرآن كما تجمع على سلامة بعض الأحاديث، ولهذا فإن هناك قدراً ثابتاً ومتفقاً عليه لدى جميع المسلمين وهذا طبعاً سيكون خارج نطاق البحث؛ إذ يمكن الجزم بأنه وحي نقي.

وبالنسبة للخلافات فإنها مرة تكون بين تيارات إسلامية ميتة وأخرى حية وموجودة وهذه الأخيرة هي المهمة، لأن التيارات الاعتقادية والفكرية الميتة تخرج عن نطاق البحث؛ فهي لم تعد تهم أحداً كما أن موتها دليل على منافاتها للوحي وبشريتها، لأن الوحي - كما يؤكد بنفسه - مستمر ولا ينتهي قبل يوم القيامة؛ وبخروج التيارات المنقرضة عن دائرة البحث لا يبقى سوى التيارات الحية.

والمتأمل يرى أن التيار الرسمي الذي حكم وساد في التاريخ الإسلامي هو تيار مسؤول عن التراجع والانهيار الذي ساد، وبالتالي يحكم على خطأ هذا النهج وبشريته؛ لأن إتباع الوحي النقي والصافي لا يمكن أن يؤدي إلى التراجع والانهيار؛ وبذلك نستطيع الحكم على التفسيرات التي سهلت لهذا التيار السيطرة بأنها بشرية.

كما نستطيع أن نؤكد وبلا تردد وجود الوحي النقي لدى التيار المعارض الحي، لأن حياته دليل على صدقه وخصوصا صموده أمام كل محاولات التصفية التي تشير إلى أن أسلوب بنائه وتأسيسه كان عملياً، ولذلك فإنه جسد التفاعلية الإسلامية واستطاع من خلال المعارضة، الحفاظ على التيار الإسلامي العام وفي نفس الوقت الحفاظ على نفسه فجسد قول الله تعالى: (إنا أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

نقد التراث..

وعلى أساس ما تقدم نكتشف التعميمات التي سادت الساحة السياسية والفكرية، والداعية إلى نقد التراث بصورة عامة بلا تمييز بين هذا التيار وذاك، وحتى لو قلنا بصحة المبدأ بصورة عامة، فإنه لابد من التمييز بينها لاختلاف درجة الحاجة إلى التغيير من تيار لآخر.

ولعلنا حين نستخدم هذه المساواة بين جميع التيارات، فإننا نرى ضرورة توجيه النقد، لأننا سوف نرى الإسلام ليس سوى عدد من التيارات والرؤى والتفسيرات التي لا يمكن الحديث فيها عن إصلاح أو تغيير وأنها أولى جميعاً بالترك.

وهذه النظرة بالطبع ناشئة عن الاستناد إلى المرجعية العقلية في قراءة الدين وهي مرجعية متأثرة بالمنظومة الغربية أصلاً ولهذا فإنها لا تستطيع التمييز بين هذا التيار وذاك.

ومن هذا المنطلق فإننا إزاء إشكالية وقع فيها أبناء التيار الأصيل، لأنهم لم يعودوا يستطيعون اكتشاف حقيقة هذا الانتماء، وصاروا يتجهون من خلال ادعاء العلمية أو التطابق مع العصر، إلى نسف عناصر القوة في هذا الدين، وصاروا ينظرون إلى بعض المعالم التي كانت وراء استمرار الدين بصورته التفاعلية نظرة تساوي بينه وبين سواه من الآليات التي فرضت على مجموع الأمة التراجع كما بيناه في الصفحات السابقة.

وإذا كان من ضرورة لهذا النقد فإنه كما قلنا يجب أن يكون نقداً تطبيقياً لهذه التفاعلية والوصول إلى الأشكال الناجحة من التفاعل دون الاتجاه إلى نسف هذا الخط التفاعلي، إنها عملية تحتاج إلى إنضاج العقل المسلم بالسنة النبوية والقرآن لإنجاز التحولات على قاعدة التفاعلية الإسلامية.

ومن هنا نكتشف عدم وجود مبررات لتعميم دعوات النقد لجميع التيارات والاتجاهات، إلا من باب حشر مع الناس عيد، وإذا قلنا بوجود مثل هذه الضرورات فإننا نكون قد أصدرنا حكماً على ضياع الوحي بين جميع التيارات الإسلامية، وبالتالي فإن عقولنا هي التي ستنتزع هذه الأشلاء الموزعة على التيارات والمذاهب.

إذن فالتطوير ممكن ومشرعن منذ أصل تأسيس الدين الإسلامي، ولا داعي للحديث عن إشكالية أو أزمة، كما أن اكتشاف الخلل في هذا الاتجاه أو ذاك إنما يكون صحيحاً إذا استند إلى المرجعية الإسلامية التي أشرنا إليها، وإن العالم المسلم الذي اطلع بدرجة كافية على الإسلام هو وحده الذي يستطيع أن يكون صاحب رأي في هذا الاتجاه، كما أنه ليس أي عالم وصاحب رأي سيكون ذا رأي صحيح، بل إن ذلك متروك إلى بحث معمق تقوم به الطبقة العلمائية لتقرير ما يمكن أن يكون اتجاهاً تطورياً ومقاماً وفق المباني الشرعية لهذا الأمر.

الهـــوامـــش:

(1) المجتمع العربي في القرن العشرين، بحث في تغيير الأحوال والعلاقات، الدكتور حليم بركات، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 بيروت 2000م ص816.

(2) الفكر العربي المعاصر، العدد (115-116) 2000م، ص41 مركز الإنماء القومي - بيروت.

(3) الفكر الإسلامي المعاصر في إيران، جدليات التقليد والتجديد، محمد رضا وصفي، دار التجديد ط1/2000م - بيروت ص23.

(4) عصرنا يسأل والإمام علي (ع) يجيب، إبراهيم محمد خليفة، بيروت - لبنان ط1، دار المودة 1994م ص60.

(5) المصدر نفسه، ص63.

(6) الفكر العربي المعاصر، العدد (118-119) 2001م، ص117 مركز الإنماء القومي - بيروت.