مجلة النبأ - العدد61

 

العالم الديني.. المصطلح والدلالة والتكوين

 

 

 

السيد مصطفى السادة

تمتاز الشريعة الإسلامية عن غيرها بميزة عظمى وهي أنها ليست منزلة لطبقة أو لفئة معينة، وإنما هي الشريعة التي أراد الله تعالى لها أن تكون شريعة الحياة، حيث تشتمل على قوانين ونظم عديدة تحمل في داخلها عناصر القوة والقدرة على البقاء والاستمرارية وإصلاح شؤون الإنسان - بما هو إنسان - بعيداً عن كل الخصوصيات بشرط أن يرتقي الإنسان بفكره إلى مستوى الفكر الإسلامي الحضاري، وأن يلتفت إلى نقاط عظمة الإسلام خصوصاً القدرة على الاستيعاب والتكيف - زماناً ومكاناً - مع الخصوصيات المجتمعة الأخرى.

وهذا ما يؤكده كل الدارسين المحايدين الموضوعيين في مجال الأديان المقارنة والدراسات الأنثروبولوجية من العرب والأجانب غير المسلمين، إن الإسلام دين متكامل المنهج ينظم حياة الناس على وفق تداعيات الخير لدى كل إنسان وتقليل نزعات الشر وحل الصراعات التي تنشأ داخل النفس الإنسانية(1).

فالدين يشكل أهم العوامل والمرتكزات التي تضمن استقامة حياة الإنسان، ويمارس عليه دور الضابط لكل سلوكياته وممارساته، عن طريق إيقاظ بعض الكوامن في نفس الإنسان وتفعيل دورها كما يعبر القرآن الكريم: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) (القيامة1-2)، وفي آية أخرى: (وما أبرأ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف: 53)، وهو ما تؤكده الدراسات النفسية عن طريق ما يعرف بمحكمة الضمير الإنساني وما تمارسه من دور المراقب والكابح أحياناً، وهذا ما لا يمكن أن نجده - كمقارنة سريعة - في أي نظام وضعي فجوهر رسالة الإسلام أنه نظام حياة وبهذا يفضل غيره فهو رسالة السماء إلينا (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) (المائدة: 3).

استطاع الدين وبفضل المجهودات والتضحيات الجسام أن يكون تجربة ناجحة ورائدة خلال عدة حقب زمنية مرت على المسلمين، واستطاع أن يقدم نتائج ومعطيات إيجابية، وأن يعمل على تحويل مسار الفكر البشري نحو الحضارية ورفده بمفردات الرقي ومصطلحات التطور.

وكوافد جديد على المجتمع العربي الذي كان يعيش حياة لا تتناسب والمستوى الأدنى لحياة الإنسان، استطاع الإسلام أن يقوم بنقلة نوعية مهمة في حياة هؤلاء المتسلحين بفكر البداوة والجهل واللذة الحسية فقط، غير ملتفتين إلى ما حولهم من حضارة وتطور فكري يتناسب وتلك الحقب من الزمن، والإسلام وحده استطاع أن يجعل هذه البيئة الشاسعة الموزعة تشعر بأنها تكوّن وحدة هي وحدة الحضارة، وعن الإسلام نشأت الحضارة العربية وبلغت أوج نضوجها الروحي، فالمدنية الإسلامية حتى الحروب الصليبية كانت تمثل الصورة العليا لهذه الحضارة التي سماها (شبلنجر) الحضارة العربية(2).

وهذا يدفعنا إلى التأكيد على أن الفكر الإسلامي في مراحله المختلفة، استطاع أن يقدم صوراً مشرقة للحضارة الإنسانية، بيد أن كل هذا السرد لا يمنعنا من القول أنه لا يكفي أن نتغنى بالأمجاد ونقف على الأطلال، فإن الأمم لكي تتقدم وتبني حضارتها لا يكفيها أن تمتلك المبدأ الصحيح، وإنما ينبغي أيضاً أن تمتلك رجالاً مخلصين يعملون على حمل هذا المبدأ والتبشير بقيمه عن طريق تحويلها إلى كائن قيمي متحرك، وهذا ما عمل القرآن على ممارسته أثناء الدعوة إلى قيم الحق؛ وذلك عن طريق نصب المصاديق المتمثلة لهذه القيم، ففي حديث القرآن عن قيمة الصبر في الدعوة إلى الله تحدث عن نوح (ع): (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.. ) (العنكبوت: 14)، وحين تحدث عن قيمة الإيمان واليقين فإنه ذكر المصداق الأكمل لهذه المسألة (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (الأنعام: 75).

وعن قيمة التواضع يحدثنا القرآن في واحدة من أجمل وأروع القصص القرآنية حين تحدث على لسان النبي موسى (ع) في محاورته مع العبد الصالح: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً) (الكهف: 66)، وأيضاً تحدث القرآن في مورد آخر عن كل هذه القيم مجتمعة في شخص النبي الكريم محمد (ص) في قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) (القلم: 4).

العلم والعلماء (بين العالم ورجل الدين):

الحديث عن العلم والعلماء حديث يحتاج من الباحث جهداً مضاعفاً، لأنه يختلف عن بقية المواضيع من حيث تواجد مفهوم الأصالة وحضور مفردات غائبة عن استعمالاتنا اليومية في مختلف الحقول، خصوصاً حقل الكتابة بعد أن برزت ظاهرة تغييب المفردات الأصيلة لمصلحة الوافد الغربي بمفرداته ومصطلحاته، وبالتالي ثقافته؛ فقد غابت عن ساحة الواقع - بقصد وبدونه - مفردات نحن اليوم أحوج ما نكون إلى ترسيخها ومركزتها والتبشير بها، لما لها من مدلولات لفظية وتموجات معنوية لها وقعها على الساحة الإسلامية.

فقد ظهر مصطلح (المثقف) وغاب مصطلح (الفقيه) أو حوصر في مجالات دينية ضيقة، وظهر مصطلح المثقف والمفكر وغاب مصطلح (العالم) و(المتكلم)، وغاب مصطلح الاجتهاد وبرز مصطلح التجديد؛ لقد كانت المصطلحات الجديدة تمثل البلورة النهائية لنزوع فكري علماني يهدف إلى تخفيف أو محاصرة الصلة التي تربط الفكر بالدين (الإسلام)(3).

وهذا ما كان يسعى إليه البعض من المثقفين حيث إفساح المجال لاستبدال مصطلح العالم بمصطلح رجل الدين، الذي ظهر بعد الثورة الفرنسية، والتي جاءت كرد فعل على تصرفات رجال الكنيسة المسيحية، الذين مارسوا نوعاً من الاستبداد الديني والفكري والتعاون مع رجال الإقطاع ضد المصلحة العامة للمسيحيين، فنشأ بعد الثورة ضد الكنيسة ورجالاتها هذا المصطلح بغية الفصل بين رجال الدين ورجال الدنيا، وتحديد وظيفة هذه الفئة من الناس في الإشراف على الكنائس وخطب الوعظ والإرشاد فقط، بينما العالم الإسلامي لا يؤمن بهذا الفصل الشديد، ولا نقبل بهذا المصطلح المعاصر لتعريف العالم، نعم؛ يوجد عندنا عالم ويقابله الجاهل ولذا يعرف الفقهاء التقليد، برجوع الجاهل إلى العالم(4).

ولم يقل أحد برجوع رجل الدين إلى رجل الدنيا وبالعكس، وهذا ما نطقت به الآيات والروايات أيضاً، فقد ورد في القرآن في فضل العلم والعلماء: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. ) (الزمر: 9)، وقوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.. ) (المجادلة: 11)، وجعل القرآن العلم ميزاناً وطريقاً للطاعة كما في قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) (سبأ: 6)، وقوله تعالى: ((وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) (الحج: 54)، وكذلك جاء ذكر العلم والعلماء في الروايات التي جعلت طلب العلم فريضة على كل المسلمين فقد ورد عن الرسول الكريم (ص): (طلب العلم فريضة على كل مسلم.. به يطاع الرب ويعبد وبه توصل الأرحام ويعرف الحلال من الحرام) (5)، وورد عن الإمام علي (ع): (معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته) (6).

بل جعل الله العلم أصل كل خير كما ورد عن الإمام علي (ع): (العلم أصل كل خير والجهل أصل كل شر) والعلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طراً، وكفى بذلك جلالة وفخراً، قال الله تعالى تذكرة وتبصرة لأولي الألباب: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وإن الله قد أحاط بكل شيء علما) (الطلاق: 12) وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم لا سيما علم التوحيد الذي هو أساس كل علم ومدار كل معرفة(7).

المجتمعات وعلماء الدين (دور علماء الدين):

هناك دعوة يحمل لواءها بعض المثقفين الذين يعيشون حالة الغربة عن الفكر الأم، حيث يؤكد هؤلاء على عدم قدرة الدين وعلماء الدين أن يكونوا عاملاً في صنع الحضارة وانطلاق عمليات التطور، وبالتالي تبرز القضية الأكثر خطورة وهي العمل على عزل الفكر الديني وإقصائه عن ساحة الواقع بحجة عدم قدرته على الموائمة والمجانسة بين الأصالة والمعاصرة، وتعتقد هذه الفئة من المثقفين بصحة ما تنتجه الآلة الغربية، وما تقدمه للحضارة البشرية؛ وبسبب هذا الانبهار والإعجاب بالحضارة الغربية ذهب البعض إلى حد الانسحاب عن فكره وقيمه الدينية والأخلاقية والتنازل عنها لمصلحة الفكر الآخر، ومحاولة إقامة جسر من الممانعة ووضع الحواجز بين الدين والمعاصرة وكأنهما ضدان لا يجتمعان، وما تلك الجرعات المكثفة والهادفة إلى إيصال العالم الديني إلى صحراء التيه بعيداً عن الفكر الديني، والانشغال بالتعاطي المطلق والذوبان الكامل في الفكر الغربي، وليس غريباً أن نجد ممارسات عديدة لطمس العقل المسلم وتحميله الوزر - وكأنه المسؤول - عما نعيشه نحن اليوم من أزمات خانقة تعصف بعالمنا الإسلامي ويعملون على إيصال قناعاتهم - والتي مفادها أن الفكر الإنساني الحقيقي لا يوجد في الشرق إنما في الغرب كما يروق لبعض المشرفين على توجيه الفكر العلماني في العالم الإسلامي - إلى أبناء الأمة.

بيد أن الدارس الموضوعي للفكر الإسلامي يجد أن له التأثير الكبير على ماضي وحاضر الإنسان المسلم، وتعد وظيفة الضبط التي يمارسها الدين على أفراد المجتمع وظيفة مزدوجة فهي وظيفة لتحديد السلوك الصادر من أفراد المجتمع باتجاه معايير السواء المتعارف عليها في المجتمع والأخرى إرشاد النسبة القليلة باتجاه التقويم الصحيح للسلوك ضد الانحرافات التي تظهر في كل مجتمع(8).

ولكن مع كل ذلك نجد أن مقياس درجة العلاقة بين علماء الدين والواقع الاجتماعي المعاصر في المجتمعات الإسلامية تتفاوت حسب التطور الفكري والثقافي، ففي بعض المجتمعات قد يرتفع ترمومتر العلاقة ودرجة الارتباط والتواصل بين الطرفين إلى درجة قياسية عالية، بحيث يكون لهذه العلاقة الأثر الأكبر والدور الفاعل في ساحة المجتمع، بينما نجدها في مجتمع آخر تنخفض وتقل بحسب وعي الإنسان وإدراك الطرفين لأهمية مد الجسور مع الآخر، والارتباط والتعاون معه، للنهوض بالمشروع المشترك والتبشير به، ويضاف إلى كل ذلك أن المجتمعات الإسلامية اليوم وأمام هذه الهجمة الشرسة والتي تستهدف القضاء على المعارف الدينية ومنابعها - أعني الفكر الإسلامي - هي أحوج ما تكون إلى مد الجسور وتفعيل دور علماء الدين على الوجه الصحيح، وهذا الدور يمكن إيضاحه في الأمور التالية؛ ولكننا قبل ذلك ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أننا ومن خلال هذا البحث لا نهدف إلى تحديد هوية العالم الديني في المجتمع الإسلامي، وإنما نريد هنا أن نحاول تسليط الضوء على واحدة من المسائل المهمة في عملية الدعوة إلى المشروع الإسلامي، ومتسلحين بما قدمه الفكر خلال حقب زمنية مختلفة ومجالات عديدة، وأهمها في مجال الإحياء الديني الذي برز مع فجر الدعوة الإسلامية كما يقرر القرآن (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) (الأنفال: 24)، وذلك عن طريق التفاعل والاستجابة لمنهج الدعوة وتعطيل العمل بقيم الشرك والمحيط الاجتماعي السلبي.

العلماء وعملية الإحياء الديني (الفكري):

بداية ينبغي القول أننا لا نقصد أن الفكر الديني يحتاج إلى إحياء جديد كما قد يعتقد البعض، وإنما تراكم الحقب الزمنية والبعد الزمني والروحي والعملي أيضاً عن مصادر الشريعة - بسبب علوق بعض الطفيليات بجسم التفكير الإسلامي- يؤدي إلى صيرورتها واقعاً ممارساً ومع مرور الزمن قد تنسب إلى الدين، وهذا ما يسبب نشوء أزمات ومشاكل تقف حائلاً أمام مهمة الدعوة إلى الدين، وينشأ ما يمكن أن يسمى (أزمة عدم التمييز بين الديني وغير الديني) وهي أزمة تعصف بالوعي وتجعله غير قادر على الفصل بين المقدس وغير المقدس، فقد يلتبس الأمر بين ما هو فكري بشري لا يتعالى على النقد وبين ما هو الدين لا تمسه يد المراجعة والتقويم(9).

والوحي وهو المعطى الأساسي في الدين الإسلامي يبقى متعالياً على الزمن بمعنى أن الوحي أوجد جملة من المبادئ والقيم المطلقة والخالدة والتي لا تتأثر بزمان أو مكان محدد(10).

ومن هنا يبدأ دور علماء الدين الواعين، فليست وظيفتهم مراجعة الظواهر والأحداث السلبية في جسم المجتمع الإسلامي فقط، وإنما تتسع لتصل إلى حد التقويم وتقديم القراءات الواعية القادرة على رفع مستوى الأمة وإبعادها عن اعتناق الفكر أو التعامل مع الفهم التسطيحي للأحداث، وهذا يستلزم بذل المجهود المعرفي والفكري في سبيل الوصول إلى وعي أفضل؛ لأن المعرفة هي المسؤول الأول عن إصلاح الوسط الاجتماعي والفضاء الفكري وبالتالي المراجعة والنقد بغرض التقويم والتبشير بالقيم والمبادئ الإنسانية الصادرة عن الوحي الإلهي، القادر على بناء الإنسان، وهذه أولى الخطوات التي ينبغي أن تناط بعالم الدين في المجتمع الإسلامي، بل من أهم خطوات المجابهة الفعلية لأي اختراق أن نبني الإنسان البناء المتكامل ليكون في مستوى التحدي القائم وتربيته على أخلاقيات عقائدية تمنحه الحصانة الحضارية المطلوبة، ولعل أهم مرحلة في هذه التربية هي العمل على إشاعة وترسيخ القيم العقائدية والإيمانية، لأن بها وقف الجيل الأول من الأمة في وجه كل اختراق، بل واستطاعوا من خلالها ترسيخ المبادئ العامة للإبداع الحضاري الذي يكرم الإنسان(11).

فالعالم الحقيقي لابد أن ينحاز لمجتمعه ويلمس معاناتهم ويعمل على تخفيفها، وإزاحة كل الموانع النفسية وغيرها من العوائق التي يمكن أن تقف أمام عملية النهوض العلمية والتثقيفية، وبهذا يكون العالم المرآة العاكسة لهموم مجتمعه، وبالتالي تقع على عاتقه مسؤولية أخرى ألا وهي مسؤولية رفع حيف الجهل وإزاحة الأغلال النفسية والمساهمة في العملية التوعوية والدعوية (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الأعراف: 157).

العلماء والتنمية الثقافية:

ليست التنمية هي مجرد التعاطي مع الصناعات الثقيلة وزيادة الوسائل المادية الإنتاجية للمجتمع والعمل على تحسين الوضع المعيشي ودخل الفرد الاقتصادي، وإنما هي مفهوم عام يتسع ليشمل الجانب التربوي والثقافي والفكري أيضاً إن لم نقل أنها أهم أولويات مفهوم التنمية، ولذا فقد حظيت التنمية باهتمام كبير من المفكرين والفقهاء المسلمين الذين أكدوا أنها ليست عملية إنتاج فحسب، وإنما هي عملية كفاية الإنتاج مصحوبة بعدالة في التوزيع وإنها ليست عملية مادية وإنما هي عملية إنسانية تهدف إلى تنمية الفرد وتقدمه في المجالين الروحي والمادي(12).

ومسألة التنمية الثقافية مهمة تضاف إلى المهمات الملقاة على عواتق علماء الدين، خصوصاً إذا ما التفتنا إلى تحديات العولمة وتسخيرها التكنولوجيا والتقنية المتطورة، والتي تفرض علينا موقفاً صريحاً وجاداً خصوصاً مع تسارع حدة السباقات العلمية وظهور أكثر من ساحة سباق وصراع علمي على الأرض أو في الفضاء الخارجي.

والدارسون لتاريخ التحولات في حياة البشر، يلحظون مدى علاقتها بالمستوى الفكري والعلمي للإنسان والذي يعد المفتاح الأهم في لغة الخطاب والتعامل مع العصر بإيجابية، وكما يشير إلى هذا الأمر القرآن الكريم ويركز عليها في مسيرة الأنبياء (ع) وممارساتهم في مجال الدعوة إلى الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.. ) (إبراهيم: 4)، وورد عن الرسول (ص): (إنا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) (13).

فمعرفة الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هي مفتاح العالم للتواصل الإيجابي مع العصر ومساعدته على التفاعل مع أدواته بصورة صحيحة، والقيام بأداء مسؤولية الكلمة التي هي مهمة جسيمة لم تناط بالعلماء تشريفاً، وإنما هي مسؤولية شرعية ملقاة على عواتقهم (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) (الأحزاب: 72).

وبهذا أصبح للعلم والعالم فضل عند الله تعالى لأنه يساهم في إعطاء الرشد الفكري للأمة، وفي سبيل ذلك لابد من الجهاد بالقلم واللسان، وبمختلف الوسائل الإعلامية العصرية المؤثرة، وهذا أفضل من الجهاد في المعركة ولذا نجد الحديث الشريف يقول: (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء) (14).

نحو مؤسسة علمائية جديدة:

لأن حياة الإنسان ملازمة لطريقة المعرب النحوي، فهي تمتاز بالحركة والتطور الدائم والبحث عن الكمال ولا يقف الإنسان عند حد معين بخلاف غيره من الكائنات الأخرى التي تشاركه الحياة، فهي تلازم طريقة البناء النحوي، فهي مبنية على نسق واحد في الحياة، فتقوم مهامها من دافع واحد وهو الذي يسير حياتها، ولذا فإن جيلنا الحالي يبدو كأنه قد ولد في منتصف التاريخ، لأن ما حدث لجيلنا منذ ولادته حتى الآن يعادل تقريباً كل ما حصل في التاريخ البشري منذ آدم (ع) حتى اللحظة الراهنة، وكمثال على ذلك في سنة 600 قبل الميلاد كانت أسرع وسيلة نقل للمدى البعيد متوفرة لدى الإنسان هي الجمال بمتوسط 8 أميال في الساعة، وظل هذا المستوى إلى حوالي 1600 قبل الميلاد حين اخترعت العربة ذات العجلات وارتفع معدل السرعة إلى حوالي عشرين ميلاً في الساعة، وبقي هذا المستوى آلاف السنين، وفي الثمانينات من القرن الماضي وبفضل القاطرات البخارية استطاع الإنسان أن يصل إلى سرعة (100) ميل في الساعة، ولكنه بعد (58) عاماً على استخدام القاطرات البخارية استطاع سنة (1938م) أن يطير بسرعة (400) ميل في الساعة، وبعد عشرين عاماً وفي الستينات من هذا القرن وصلت سرعة الطائرات إلى (4000) ميل في الساعة، واستطاع الإنسان أن يدور حول الأرض في كبسولات الفضاء التي تسير بسرعة (1800) ميل في الساعة(15).

ولا يغيب أن غرضنا من هذا السرد المعلوماتي أن نشير إلى القدرة التي امتاز بها الإنسان، وهي قدرته على الحركة والتطور في العمل وهذا يعني ضرورة مواكبة الحركة التطورية للعالم المعاصر، حيث بات العمل المؤسساتي أحد أهم الميزات التي تتميز بها كل التجمعات العالمية وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث التكتلات العرقية والإقليمية والدينية أيضاً، فهي ضمانة بقاء واستمرار العمل، والقدرة على التأثير في هذا العالم؛ فلم يعد للفردية فيه مجال.

وفي نظرة للمؤسسة المسيحية في العالم نجد:

- 5 ملايين طالب إفريقي مسلم يدرسون في مدارس المنصرين.

- 98 منظمة كنسية في السودان تعمل على تشجيع المسلمين للانحراف ضد عقيدتهم ولا يواجهها إلا منظمة إسلامية واحدة وهي منظمة الدعوة الإسلامية.

- 450 ألف منظمة في أفريقيا وحدها تبشر باسم الفاتيكان.

- عدد المؤسسات التنصيرية ووكالات الخدمات المسيحية بلغ (120) ألفا و(88) وكالة ومؤسسة.

- لدى مجتمع الكنائس العالمي (الذي تشكل رسمياً في هولندا عام 1948م) مندوبين من 150 طائفة بروتستانتية وأرثوذكسية في 44 بلداً من العالم لإيجاد شركة بين الكنائس..) وحسب إحصائية قبل التأسيس عام 1937م نجد:

14 ألف منصر - 16 ألف معهد ديني - 500 مدرسة لاهوتية - 600 مستشفى تنصيري - 500 مستوصف تبشيري.

هذا ما تملكه مؤسسة واحدة فقط وهدفها المعلن (إقامة شركة تجمع الكنائس فقط)(16).

ومن هنا نحن بحاجة إلى الانفتاح على حركة العصر ومستجداته العلمية والفكرية والتعاونية - حيث أمامنا خيار - ولا نعتقد أن هذا الانفتاح يولد شيئاً من الضرر على أصالتنا وهويتنا ما دام المهتمون حذرين في توجيه عملية الانفتاح بطريقة إيجابية مع الالتفات إلى أننا هنا لا نريد أن نبرئ ساحة العولمة وما تحمله من أضرار ومخاطر، فكما أنها تمدنا بالكثير من المعلومات والاكتشافات العلمية إلا أنها تحمل بين طياتها خطراً وتحدياً لثقافتنا وهويتنا وقيمنا، وخصوصياتنا، خاصة إذا ما التفتنا إلى الفرق الشاسع في الجانب العلمي والتقني بين عالمنا الإسلامي والعالم الغربي.

وأيضاً لا نريد القول هنا أن العمل المؤسسي مفردة وافدة إلينا من الغرب - كما يعتقد البعض - بل لها أصالة في المشروع الإسلامي، وقد مارسها المسلمون؛ ففي البدء كانت المؤسسة والعمل الاجتماعي ومساعدة الآخر تنطلق من المؤسسة الأولى في المجتمع الإسلامي وهي المسجد، وتجلت المسؤولية المجتمعية في أحسن صورها من خلال تشريعات الإسلام في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنموذج الواجبات الكفائية، التي تعني أن المجتمع مسؤول عن الشؤون والقضايا المختلفة ولا تسقط هذه المسؤولية إلا بامتثال المجتمع - ككل - من خلال امتثال بعض أفراده بما يحقق كفاية امتثال الواجب(17).

أضف إلى ذلك أننا اليوم أمام مرحلة استحقاق وتساؤلات كثيرة ومثيرة تظهر وتتوالد كلما تقدمت حركة العالم وتطورت إمكانياته وتكاثرت مصطلحاته العلمية المكتشفة، وليس من طريق إلى التفاعل معها والإجابة عن كل هذه التساؤلات العلمية وغيرها إلا عبر بلورة مشروع المؤسسة الدينية، فهي الوحيدة القادرة على تناول هذه المفردات ورصدها ومواكبة تطور المفردة الواحدة والمتوالدة مع النشاط العلمي العالمي، وبذلك نستطيع إيجاد ليس فقط الإجابات على هذه التساؤلات، وإنما نستطيع بلورة مشروع التعامل مع الآخر، وهذا يتطلب جهوداً حثيثة مسبوقة بعقد الجلسات والندوات الحوارية الفكرية والثقافية داخل المؤسسة الدينية، الأمر الذي يعني القدرة على تفعيل دور القائمين على المشروع، والإسلام اليوم في حاجة ماسة إلى مبلغين يحسنون عرض أفكاره وقيمه ومثله ومبادئه وأخلاقه على الشبكات الإلكترونية والقنوات الفضائية بأسلوب جذاب وشيق وجميل كي يقبل الناس - كل الناس - على ثقافة الإسلام وفكره(18).

وهذا إنما تتكفل به المؤسسة الدينية التي ينبغي أن تكون المشرف الوحيد على أمر الدعوة والتعريف بالدين والدفاع عنه.

ولذا من المهم جداً أن تبرز المؤسسة كمصداق مهم من مصاديق العمل والدعوة إلى الله تعالى، وأن تعمل هي أيضاً على إبراز مصاديق تستطيع ترجمة القيم والمبادئ الإسلامية وتجعلها واقعاً ممارساً على الأرض، وهذا ما كان يفعله الرسول (ص) وأهل البيت(ع) حيث كانوا جميعاً الترجمان الحقيقي للقرآن والسنة المطهرة.

وهذا الأمر يؤكد ضرورة حضور هذه المصاديق في ساحة الواقع، فالمطلوب على المستوى التطبيقي إبراز مصاديق عملية تؤكد إمكانية ترجمة المفهوم إلى ممارسة ملموسة لها آثارها وتفاعلاتها(19).

الهـــوامـــش:

(1) مجلة النبأ: العدد 52 ص87 الدين ودوره في الضبط الاجتماعي، د. سعد الإمارة.

(2) مجلة الكلمة: العدد21 ص32، نظرات حول الوحدة والتعدد في الفكر الإسلامي، محمد محفوظ.

(3) تجديد الفكر الإسلامي: ص61 جمال سلطان، طبعة دار الوطن.

(4) كفاية الأصول: ص472 الآخوند الخراساني، ولمزيد من التوضيح يراجع موسوعة الفقه: ج1 ص30 لآية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي.

(5) أمالي الطوسي: ص488/10-69.

(6) نهج البلاغة: الحكمة 147.

(7) منية المريد: ص93 الشهيد الثاني.

(8) مجلة النبأ: العدد 52 ص86 الدين ودوره في الضبط الاجتماعي، د. سعد الإمارة.

(9) إشكاليات التجديد: ص31 ماجد الغرباوي.

(10) مجلة الكلمة: العدد 21 ص31 محمد محفوظ.

(11) نفس المصدر: ص137 عبد العزيز اغيرات.

(12) مجلة المنهاج: العدد الخامس السنة الثانية ص70.

(13) البحار: ج1 ص85.

(14) السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص18 آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي.

(15) مجلة قافلة الزيت السعودية: ص16 عدد محرم 1416هـ نقلاً عن مجلة الكلمة: العدد 28 ص32.

(16) مجلة البصائر: العدد 12-13 ص56.

(17) تأملات في التأهيل الاجتماعي: ص32 محمد العليوان.

(18) مجلة الكلمة: مصدر سابق ص46 مستقبل ثقافتنا في ظل المتغيرات العالمية الجديدة، عبد الله اليوسف.

(19) إشكاليات التجديد: ص101 ماجد الغرباوي.