مجلة النبأ

 

حكاية شهادة لا تنتهي

د. عبد السلام فزازي(*)

 

للبنان أقول..

ما أبهاك يا لبنان وأنت تخرج من شظايا نار نمرودية، قاومت خزنتها بروح قتالية عشناها معك بقلوب مكلومة ذابلة بينما عاشها ضمير العالم الأخرس الذليل بسخرية مسرحية مكشوفة.. وما أعظمك صموداً وعناداً وكبرياء وشموخاً..!

أجل؛ لقد لقنت العالم أن عمر الطاغوت قصير مهما طغى وتجبر.. وأماسيه سرعان ما يفضحها سنا فجر قادم من تجاويف هوية تأبى الخنوع والمساومة والخذلان.. وما أروعك يا قبلة تاريخ أمة خدشتك أنياب الصمت الخجول.. لقد كنت فاتنة وأنت تقتحمين الوغى وتوارين أجساد شهدائك الأبرار.. راسمة في الأفق غلالة جنازة التحمت بآخر خيوط قوس قزح، راكبة صهوة الوعد والوعيد لغة حرب فرضت عليك ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف.. ما أطهرك وأنت تكنسين دنس الغزاة من أبراجك ودمنك الفاتنة.. هل حقاً نستطيع معشر العرب أن نرجع الابتسامة إلى أساريرنا بعد أن ودعتنا طويلا.. وهل يحق لنا بعد هذا العرس الطقوسي الفاتن أن نتهجى أبجدية ضادنا بعد أن واريناها التراب.. وهل بإمكاننا أن نردد: سنرجع يوماً إلى حيّنا.. آه.. ما أبشع العالم في خنوعه وصمته ومؤامراته المحبوكة الخسيسة.. وما أحقر الكلمات حين تحنط في مزبلة التاريخ المفتعل..!

بيروت.. يا بيروت.. يا قبلة أمتنا، ويا عروس الشطآن، آن لك أن تخرجي من أفواه البنادق والكلاشنكوف والكاتيوشا ترددين سمفونية العشق والانتصار، وآن لك أن تزغردي طويلاً.. طويلاً.. بين أدغال الشيح والعرعار والصفصاف والزيزفون.. وآن للمآذن والكنائس أن تصدح بالمسكوت وترجع الطقوس الإلهية إلى فضاءات بيروت.. إنها رسالة إلى العالم الأخرس كتبتها أيادٍ مرتعشة لما تنازل العالم عن عروشه وترك لبنان على حافة النسيان ليصنع وحده طهارته على وقع رصاص القناصين..

ماذا يجدي الكلام يا لبنان وانتصارك اغتال الغيبوبة ووارى الحيرة واختزل المرارات التي كادت أن تصبح فرداً في العشيرة؟!

 

لفلسطين أبوح..

ماذا بوسع صوت مبحوح أن يفعله والمطرقة والسندان يطوقانه؟!..

ماذا بوسع نظرة غائرة أن تفعله وقد ضاقت عنها فضاءات عيون أنهكها البكاء الصامت؟!..

ماذا بوسع أقلامنا البلاستيكية أن تكتبه وقد تجمد حبر كره مغازلة لغة الضاد الحائرة؟!.

ماذا بوسع من يحبكم - يا أطفال الحجارة - أن يعترف به وقد أجهضت مشتقات حقوق الإنسان في معاجمها الموبوءة..

أيحق بعد الآن للإنسان العربي أن يدلي بشهادة ميلاده.. وهويته فوضاه؟.. مَن مزق مخطوطات تاريخنا على أجسادنا المنهكة؟.. مَن عرّانا من جلدنا ورمانا في مزبلة التاريخ؟!..

مَن أنسانا هويتنا؟ وألبسنا مكرهين قلنسوة شارون، إرهابي القرن الواحد والعشرين؟.. خجول بني أمي من خطاي التي لم تعد تطيقني.. خجول من ظلي المكسور على دفاتري المدرسية.. خجول من انتمائي مذ كمّمته غرغرة محمد الدرّة، وصمة عار خطواتنا الباهتة.. ها أنا العربي، أجر ورائي كوابيسي المنقوعة.. وعبثاً أحاول الفرار من عاطفتي المهزومة.. أحاول عبثاً قراءة سيرة اليأس العربي فتتهجّاني أضلاعي، وتلسعني محرقة الذكريات.. أميال وأميال تفصلني عنكم يا سادتي، وفي القلب متسع لاحتواء آخر جريح يعلمني شرف الشهادة.. وها نحن نتساقط فرادى وعواصم أمام شاشاتنا.. نلوك الفجيعة تلو الفجيعة.. قابضين بيد على غصن زيتون، وبأخرى على رغيف خبز ماكدونالدز..

نبحث عن صكّ الغفران عند عواصم النحس لتمنحنا تأشيرة الحلم الذي يأتي ولا يأتي..

مَن باع فينا النخوة أخوتي..؟ لست أدري..! مَن رتق فينا ديباجة صلح »الشجعان«؟.. اسألوا زعماءنا فعندهم الخبر اليقين.. ها هي البنادق تقصف فينا الذاكرة لتتهاوى خطابات المؤتمرات المعقمة كآنية فارغة، وترتبك حواس الطواويس المموهة بالإرهاب، معلنة موت العواصم بعد أن ابتلعت ألسنتها خشية سماع نحيب أمهات الشهداء.. محمد الدرة فلتة طبيعية علمتنا كيف نغني لعزة الحرمان، وكيف تتعرى مكرهة الأفاعي الرقطاء، وكيف تتشقق الصخرة الصماء، وتحتضر نوايا السجان.. آه.. من عري الحقيقة الضائعة! فمتى رباه تصفو ينابيعنا لنزرع وردة على قبر محمد الدرة؟.. متى..؟ متى..؟ متى..

 

◄ تـــأمـــل..

سعال السنين قد يدفئ أيها الشهيد فضاء قبر لا ينحني لأحد.. وقد يقلق رغبة الحجر في جوف الأرض، ويستفز التماثيل في زمن خبز مالح طالع من طحين القنابل العنقودية.. تذكر أيها الشهيد، وحدها كانت لغة الصمت الخجول تمطرك بإيقاعات فراغات عروبة صامتة تماماً مثل الحقيقة في بلادك.. وحدها طحالب البحر تناسلت من شظايا الكلام المعلق إلى إشعار آخر..

أيها الشهيد! بربك أما سئمت التغني بسمفونية الموت، وتوحدت مع النسيان، وانتسبت للصمت!؟، بربك لا تحاول عدّ أدراج اليونسكو فهي فارغة من ذكراك.. ملقاة على الرصيف.. تمهل قليلاً أيها الشهيد، فعصرك يحتمل أكثر من وجهين؛ والبقية تأتي..

 

◄ حـيـــرة..

ألم يخطئ الشهيد حين عشق كتب التاريخ، واغتسل في أروقة الظلام مخافة أن يدركه ظله؟!!.. حقيقة أخرى تنسل إلى دفاترك المنسية، لتذكرها بزمن توحد بالهزائم إلى أن صارت غمامة تستعطف الحقول والمزارع، وتنتعل الكتمان محملة بعبء تاريخها الممتد من سلالة بني كنعان.. ها هي ذي قمصان موتاك على الرصيف أيها الشهيد تستهوي عشاق الأساطير، وتبحث فيك عن وجه الموت، فلا ترى إلا وطناً حزيناً يخترقه الليل البهيم.. وطناً مصلوبا على بوابة مشرعة في مهب الرياح الهوجاء.. وطناً أضناه الانتظار، واختصر المسافة نحو المتاهة.. ينام بعين واحدة ويعانق المنفى في حضرة لغة الضاد.. وطناً فر منه الفراغ ويأبى إلا أن يكون القاتل والمقتول..

 

ذكـــرى..

كانت الشوارع تهجره دائماً.. وكان ينام في دفء ألفة تسامره حروق السنين العجاف.. وكم كان يسأل الشوارع ذاتها، تلك الفارغة من عشاق الأمس القريب؛ ليكتب سيرة ذكريات منفلتة باهتة..! عيناه كانتا تقتاتان صفحات الجرائد الصفراء.. تبحثان عن ميلاد خانات الموتى ليرسم تضاريس أمه الأرض بدخان سيجارته المتآكلة..

سماواتك أيها الشهيد يحيط بها ثقب الأوزون.. وشؤمك مندس في زمانك المستعار.. فهل لك أن تطرد غواية الشيطان؟! الخليل باتت تخاف الورود البلاستيكية وتختزل الحرية في صمت عروبة الحداثة.. ورقم اعتقالك أيها الشهيد، صار ميلاد صيحة تثور ضد صهيل الموت.. وما عاد عطّار القبيلة يهديك عطره القديم.. تذكر كيف سقط الشهيد على الشهيد!.. وكيف فرت القبور مذعورة من صمت بني كنعان..!

 

◄ حقـيقـــة..

للموت ألف باب وباب، وللحياة سمّ الخياط، فماذا أعددنا لميلاد تاريخكم أيها الشهداء غير بكاء الحبيبة على الأطلال؟. وفي لحظة واحدة تأتي الأحداث مثقلة بالمفاجآت، وتتوعر المسالك إلى الضفة الأخرى مبشرة بقافلة الضياع.. إن الطريق إلى الحرية بني أمي تعرفه البنادق القديمة والجديدة، فلا تستعجل أيها الشهيد الأخبار، ولا تستغرق في صمت الأشياء.. كم كنت وحدك تسكن النكبات في زمن انسحب فيه الأحبة والخلان من الحلبات ليزدردوا الفاجعة في حضرة فيضان الدماء المغدورة..! أتكون حقاً أيها الشهيد أرضك زهرة من شواظ، وأحلامك بداية الخرافة الملعونة..؟! وهل بإمكانك أن ترجع ينبوعاً إلى أعالي الجبال الشاهقة، وتستحم في النهر مرتين..؟ لست أدري..! لست أدري..!

إلا أنك كم كنت ماسكاً يا محمد! جمرتك بفمك المكلوم..! وقصائد حبك تحترق أمام أنين العالم الجبان. من هنا مرّ التتار.. ومن حارة الأحزان تناسلت الأسئلة كتاباً مذبوحاً من الوريد إلى الوريد.. زمانك زمان موبوء، شرب من جمجمتك العنيدة، ودق باب صدرك ليغتال فيك القصيدة، فكان ميلاد التراجيديا الساخرة، قيل عنها عبثاً حضارة..

 

انتظار..

متطاول أنت أيها الشهيد من طول النظر إلى النخيل السامق.. تتحسس مدخل الحظائر الدافئة، حيث الأزهار تعانق وحدة الكينونة الخرساء.. وكأنني بك كنت تتطلع إلى من يستطيع أن ينافس الجبال رفعة وبهاء.. ويمشي على الأشواك، ويحاصر اليأس في حضرة شقائق النعمان الحائرة.. أنت الذي حاول غير مرة نبش الأرض بأسنانه، وتفجير الأرض العطشى بالفؤوس الزاعقة.. كنت أبداً مثل الشجرة المجدوعة التي تعود إليها البراعم رغم شراهة الفصول المستعارة..

كم وعدت أيها الشهيد بالمطر الواعد الذي يتحسس طريقه ليحيي أرض بوار..! هزائمنا شتى والحروب تبتدئ بتحطيم أسوار التاريخ الفاسد حتى النخاع.. غداً سترجع الطيور إلى أعشاشها، ونسمع عبر رحيلك الطقوسي همس العشاق الأحرار، يعيدون سيرة الشهامة الموشومة في ذاكرة تاريخ ما كان له أن يكون لولا شهادة سلالة الأبطال الأشاوس.. سلاماً لزرقة سماء الصحراء.. سلاماً للشارع العربي.. أما آن لفارسه أن يترجل..؟

الهـــوامـــش:

(*) أستاذ بكلية الآداب - عضو اتحاد كتاب المغرب - فرع أغادير