مجلة النبأ

 

حصاد الأفكار في شهر

منتخبات مما ينشر في الصحف والمجلات من رؤى وأفكار تسهم في عملية تفعيل الوعي الإنساني

المثقف وعلاقات القوة:

المثقفون العرب: وهمي كاذب، أو مهاجر منسحب، أو حقيقي مقتول

يعتبر (نعوم تشومسكي) عالم الألسنيات الأمريكي أن المثقف الحقيقي هو من صدع بالحق في وجه القوة. ويعتبر القرآن أن المثقف الذي لا يقوم بتوعية الجماهير وخدمة الفكرة يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، ويرى (الصادق النيهوم) في كتابه (محنة ثقافة مزورة) أنه: (منذ عصر سومر وحتى ظهور الإسلام كانت الثقافة سلاحاً مهمته تجهيل الناس أكثر من تثقيفهم، ولهذا السبب سكتت جميع الثقافات عن قضايا الإنسان، وفشلت في تطوير مجتمعات حقيقية محررة من عبادة الأصنام الحية والميتة)..

و(خياطو) الفكر العربي يفصلون لنا اليوم ملابس بأصناف؛ فمنهم من يرى أن التفكير حرام وخطر، ومن يرى أن التفكير لا بأس به في حدود، ويجب أن ينسجم التعبير مع نغم الجوقة، وعلى المفكر أن يقول كلاماً لا يزعج مستيقظاً ولا يوقظ نائماً في ظل أنظمة حريصة على راحة النيام، وهناك فصيلة (منقرضة) من المفكرين ترى أنه يجب تحريض التفكير وإطلاق التعبير بدون حدود وبدون خوف من المساءلة، ولكن الفصيلة الأخيرة (الشاذة) ليس لها وزن ولا تشكل تياراً يعتد به وسط جماهير عمياء ومتدينة يطلقون البخور يسبحون بحمد الحاكم بالعشي والإبكار، ومن تجاوز الخطوط الحمر صعقه التيار مرتين فاتهم بالخيانة عند السياسيين أو الردة على يد المنشدين.

إنها ثقافة تريد خنق مجاري التعبير، وإغلاق سريان أوكسجين الحرية عن كل خلية عصبية تتألق بالتفكير، وإغلاق منافذ الفهم، واعتبار الآخر رجساً وخطراً، وعليه أن يحسن الإصغاء ويتقن فن الخرس الجماعي، وأن ثقافتنا كلها صدق وعدل، وأن الخطأ لا يقاربنا والوهم لا يتخللنا، وان مفاتيح الحقيقة النهائية بأيدينا، فلا يسمح للمواطن أن يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان (ألا ساء ما يحكمون).

المثقفون اليوم في العالم العربي ثلاثة أنواع: المثقف الوهمي أو الكاذب والمثقف (المهاجر) والمثقف (الحقيقي)، والمثقف الوهمي بدوره مركب من ثلاثة أصناف: فيلسوف (السلطة) ومفكر (الحزب الإيديولوجي) ومثقف (البضاعة) المشتري بثمن بخس دراهم معدودة. مثقف السلطة يفلسف وينظِّر لثقافة الاستبداد تحت مقولة (المستبد العادل) كمن يجمع بين الماء والنار، والشيء ونقيضه، ووجود الشيء وعدمه.

ولكن هكذا كانت مهمة مثقف السلطة في التاريخ فمن مائدة السلطان يأكلون وبمدحه تنشد القصائد العصماء.

أما مثقف الحزب فهو الذي يستولي عليه شعور امتلاك الحقيقة النهائية وأن الآخرين يجب أن لا يتجمعوا ولا يتحزبوا لأنهم حزب الشيطان كتب الله عليهم أنهم في الأذلين، وأما المثقف (المشترى) فهو الذي يكتم الحقيقة ويلبس الحق بالباطل واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون، ويلحق بالمثقف (التقدمي) بثقافة أوروبية بنسخة (معربة)حريص على تدمير ثقافته المحلية وحقن وعي المريض العربي بأفكار (قاتلة) منتزعة من وسط غريب ونقلها بغير شروطها كما يقتل المريض بنقل الدم بزمرة مختلفة على حد تعبير (مالك بن نبي).

لقد نصحنا (ديكارت) منذ ثلاثة قرون أن لا نهدم بيوت الناس قبل أن نهيئ ما هو أفضل فإذا دعوناهم إليها هجروا القديمة بدون تدمير. ولكن ما هي وظيفة المثقف الكاذب أو الوهمي؟.

إنها ثلاثة (تبرير) و(تخدير) و(تزييف) فأي شيء صدر من السلطة يحمل التناقض واللامعقولية يمكن صبه بقوالب ممتازة، وأي معاناة من الأمة تتم معالجتها (بتخدير الوعي) العام على يد أطباء خسروا شرف المهنة، حرفة الثقافة خطيرة ومليئة بالتحدي وغير مربحة عموماً، فالمفكرون في العادة فقراء مفلسون وهم يتعاملون مع أخطر الكائنات، الكلمة التي اخترعها البشر. وتتحول الكلمات أحياناً إلى مشانق والسطور إلى الغام أرضية تفجر المثقف ومصيره، ويبقى الخيار ذا ثلاث شعب: الثقافة كرسالة ومسؤولية أو الالتفاف على الواقع بالكلمات بعمل أقرب إلى السحر أو الجنون، أو تأجير القلم وممارسة مهنة بغير مهنة. إن (فلسفة الباطل) تقوم على التلاعب بالحقائق أو يسميها (نعوم تشو مسكي) في كتابه (ردع الديمقراطية) فبركة المعلومات.

الصنف الثاني من المثقفين هو (المهاجر)؛ وهو أيضاً نوعان: مهاجر إلى ربه، وإلى دول الديمقراطيات بالزواج واللجوء السياسي وهي الهجرة الخارجية، وتقابلها هجرة (داخلية) بالانسحاب إلى زاوية في وطن لم يبق وطناً وليس فيه مكان للمواطنة، والتقوقع في شرنقة يجتر فيها أفكاره، ضمن جدار سميك من العزلة تحفظ عليه حياته وكرامته في ظروف جفاف صحراء الفكر العربية.

أما الصنف الثالث فهو المثقف (الحقيقي)؛ وهذا يتم اغتياله بطريقتين: اغتيال أفكاره في لعبة (الصراع الفكري) التي تحدث عنها (مالك بن نبي) طويلاً في كتابه (شروط النهضة)، وإذا حزم أمره تمت معالجته بـ(القتل الاجتماعي) بعزله كإفراد البعير المعدي حتى لا تنتقل عدوى أفكاره إلى الجوار، ولا حرج من حشره في زنزانة انفرادية لمدة 17 سنة.

لا شك أن هناك علاقة جدلية بين المرض و(المضاعفات) ولكن فك اللغز في هذا المثلث يبدأ من (المثقف) البريء المختبئ، فالسياسي حفيد المثقف وتلميذه البار، ولكن كيف لمثقف وحيد معزول منقرض ممنوع من الكلام في مجتمع محرمة فيه حرية النشر مهدداً بالتكفير أو الخيانة وتمنع فيه السلطة تبادل الأفكار، كيف يمكن لمثقف في هذه الظروف الجهنمية أن يمارس دوره في التوعية؟. هل هذه صورة سوداوية للواقع بين مثقف مهاجر ومستأجر ومقتول ومن يعيش في شرنقة أو من كان بنسخة أوروبية معربة؟. ويذكر المؤرخ البريطاني (ويلز) في تاريخه (معالم تاريخ الإنسانية) أن: (الورق حرر عقل الإنسان) ولم يتقن (الكتابة) أيام الفراعنة وسومر سوى الكهنة حتى علم الأنبياء الجماهير الكلمة في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى، فهذه الصحف التي كانت تنقش على الطين تهب اليوم من ثبج البحر الأخضر الإلكتروني من الملكوت العلوي، والعلم يحطم الجغرافية ويكسر الحدود السياسية وتفلت المراقبة من أيدي رجال المخابرات فهم في حسراتهم يتأوهون وبدأوا ينتسبون إلى العصر القديم كما انقرضت الديناصورات من مسرح الحياة وأخلت حياتها للثدييات الصغيرة قبل 65 مليون سنة؛ فهذا هو منطق التاريخ إنه يمضي دوماً نحو الأفضل.

خالص جلبي: الشرق الأوسط/ العدد8184

من نزاعات السلوك العدواني عبر التاريخ

إن الإنسان هو المرجع الجذر للإنسان، إنه يتواصل مع العالم عبر بعضه البعض وعبر أجزائه وتراكيبه، فأي تاريخ حاضر هو استمداد لتاريخ مضى، ولكن الإنسان عليه أن يتعلم من أخطاء الإنسان ذاته. مثل هذا الحديث بطبيعة الحال يبدو ضرورياً، وبنفس الوقت يحمل الكثير من الحساسية، ولذلك أعترف بالمعاناة الحادة التي واجهتني في أثناء التراكيب التي بدت معقدة، فها نحن بعد كل عمر الإنسان على كوكب الأرض قد ودعنا أقرب القرون إلينا نحن الذين ما نزال نعيش، وهو أكثر القرون البشرية دموية وعنفاً وشراً وحروباً وانتهاكاً لحقوق الانسان، باختصار أكثر القرون دماراً على الإطلاق. وإذا نظرنا في مرآة قرننا الذي نودعه أو نتركه أو يتركنا فسنرى حربين عالميتين بكل معنى الكلمة من الرعب لم يشهد لهما التاريخ الإنساني أي شبيه، وسنرى أكثر من ثلاثين حرباً إقليمية ومحلية كبرى قتلت أكثر من مئة وسبعين مليوناً من بني الإنسان بين المدنيين والعسكريين، هذا إضافة إلى الحروب الصغيرة والجرائم الكبرى والجماعية، وكافة أشكال العنف، لكننا نسعى إلى الأمل.. إلى أن نتواصل بكل الطاقات في سبيل نزع الأسلحة وأسلحة الدمار الشامل، وليس لنا إلا أن نسترجع تاريخ العنف الأسود لنزداد إصراراً على فتح صفحات جديدة مع الدخول في الخطوات الأولى لقرن جديد.

الإنسان كائن مظلم يعيش في عالم مظلم ويتعرف بنفسه من خلال أفعاله ومن خلال تعرفه بالمحيط، وهو قابل بصورة إيجابية للتغيرات المذهلة. إن لدى الإنسان قوة خارقة تؤهله لممارسة عنف يفوق عنف كل حيوانات الطبيعة والبحار. وتتجلى هذه القدرة بصورة فردية وجماعية عبر التاريخ البشري الذي هو في جانب منه سلسلة جرائم ومحاولات لتفجير الكرة الأرضية وإفناء الإنسان نهائياً، إلى جانب محاولات أخرى لإعادة بناء ما دمرته الحرب في الطبيعة والإنسان نفسه.. وهكذا يلبث يدور في دوامتي الخير والشر، الدمار والعمار: الشر المتمثل بالجانب الأبرز منه في الحروب الفردية والجماعية، العالمية والإقليمية، السيكولوجية والميتافيزيقية، والخير المتمثل في صناعة كل وسائل البناء.

العنف السياسي..

ما يجمع الطغاة أنهم دوماً يعطون صورة على أنهم ينفذون أوامر الله، وأثناء ذروة عنفهم بحق الناس يروجون لهذه المقولة أو يسعون لدور الإله نفسه، ورد في القرآن الكريم :(وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)(القصص: 38)، وثمة مقولة هامة للمنصور العباسي يقول فيها: (يا أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه).

لقد مارس الإنسان أشكالاً مختلفة من ألوان العنف، فكانت النتائج متفاوتة، وفي نهاية المطاف فإن كل من حارب الإنسان ينتهي نهاية فاجعة في هذا التاريخ، فالإنسان - من مختلف مواقعه - لا يرتوي بكل أشكال العنف بحق الآخرين ولا بد له في النهاية أن يتوج العنف بحق نفسه.

امتلاك الحقيقة..

من منا يجرؤ على الإعلان بأنه يملك و يعرف كل الحقيقة، ألا تكون على خطأ عندما تعتبر الآخرين يهذون ولا تثق إلا بامكاناتك، فكل إنسان لديه ما ليس لدى الآخر، ويعلم جزءاً من الحقيقة التي لا يعلمها الآخر، كل إنسان عالم كامل بذاته ويحمل أسراره وأسرار الطبيعة وأسرار الملايين من أجداده؛ من حق الإنسان أن يرى ما لا يراه غيره وأن يقول ما لا يقوله غيره وأن يخالف الرأي في سبيل الأصوب؛ فدوماً ثمة الأصوب ودوماً ثمة الجديد والمجهول، وفي النهاية فإننا جميعاً نلتقي عبر قنوات الخلاف تلك، ليس الخلاف من أجل الخلاف، بل الخلاف من أجل الإضاءة والاكتشاف وبالتالي الخلاف من أجل اللقاء. هناك في أعماق كل شخص يستقر عالم كامل مستقل، عندما يولد الإنسان يولد معه عالمه المختلف كلياً عن عالم أي شخص غيره، إنه إنسان جديد بمفاهيم ورؤى ونظريات جديدة، إنه يرى الشمس لأول مرة، يتعلم أبجديات اللغة لأول مرة رغم أنه ابن الإنسان لكنه ليس صورة مكررة عنه، إنه إنسان جديد كائن جديد ومن حقه أن يعطي جديداً، ويطور في بيئته وفق ما يرى، علينا أن نحترم كل شخص نلقاه ونتعلم منه لأن لديه بالتأكيد ما ليس لدينا وعلينا أن ندع للأجيال الطالعة حرية اكتشاف الحياة، وسنرى بأنهم سيأتون بالجديد ويزرعون الجديد ويقطفون الجديد حتى أطفالنا الصغار الذين نخاف عليهم ونعتبرهم مراهقين، إنهم سيأتون بمكتشفات جديدة.

ليس هناك أسوء من أن يتعرض إنسان للإهانة أو من يفرض عليه السكوت بالقوة والتهديد. ليس بوسع شخص كائناً من كان أن يدرك كل تفاصيل شخص آخر في الوقت الذي يجهل فيه تفاصيل ذاته، وما نزال ننشد المعرفة وما أتيناه منها لهو قليل قليل، فها هي الطبيعة تحتفل بالإنسان وتكون سعيدة عندما تراه أليفاً محباً مبدعاً، وها هي ذاتها تسخط عليه وتنفر منه عندما يقدم الشر والعدوانية، ليس هناك حل سوى تكاتف الإنسان مع بعضه البعض لمواجهة الشر، وأظن أن المحبة ستقدم الكثير في هذا المسعى. كل فرد يمكن له أن يبدأ بعلاقاته الشخصية والأسروية ويصر على أنه لا سبيل للمعرفة إلا عن طريق الآخرين سواء من خلال الإبداعات أو من خلال العلاقات الشخصية والدخول في حشود ومناسبات كبرى للالتقاء بعدد أكبر من الناس والتعلم منهم، من مشيهم، من حديثهم، من ثيابهم، من كل تصرفاتهم، من كبيرهم وصغيرهم، ويمكن للقراءة أن تحل مشكلة التعرف على وقائع شخصيات المجتمعات البشرية عبر العصور والتاريخ؛ فها هو تاريخ العنف يعيد نفسه بصور شتى ويتطور بأشكال أقسى، ففي الوقت الذي يتم فيه نزع الأسلحة وتموت احتمالات الحروب فإنه تشتعل حروب أخرى لأشكال الغزو النفسي. صحيح أن القسم الأكبر من العالم نال حريته بما فيه الوطن العربي، لكن ليس هذا القسم ذاته الذي كان تحت الاستعمار في السابق مغزو في الجانب الأكبر ليس جغرافياً هذه المرة ولكن سيكولوجياً. فما كانت تنفقه هذه الدول أثناء الغزو ما تزال تنفقه لدفع أورام هذا الغزو الجديد، وهذا بذاته هو العنف، وليس من خلاف أن يتم القتل بالرصاص أو المخدرات أو الإيدز أو قتله أخلاقياً. إننا ندعو إلى نزع الأسلحة السيكولوجية أيضاً. إن اعظم انتصار يحققه الإنسان يكون في انتصاره على قوة الشر الغير محدودة لديه. يكون الإنسان بطلاً حقيقياً عندما يتمكن من السيطرة على نزعاته العدوانية.

عبد الباقي يوسف: العالم/ العدد23

التلفزيون مملكة (الكائن التلفزيوني) الوهمية

إذا كان الإنسان القديم بحكم خروجه للصيد تعرض لشتى أنواع المخاطرة قد طور مهارات حسية وجسدية معينة، فإن كائننا هذا، وبحكم جلوسه وقلة حركته واستقباله لسيل لا ينتهي من الصور والأصوات، سيطور أيضاً قدرة حسية وحركية متميزة. لكن ترى هل للكائن التلفزيوني خصائص معينة دون غيره تجاه ذاته وتجاه محيطه؟. إن كائننا هذا يقر ضمنياً في قرارة نفسه أنه بمجرد ما يجلس للتفرج يدخل في علاقة غير عادلة مع مرسل يستبد وينفرد بالحديث، وبالتالي يوجه الرسالة بشكلها ومضمونها حيثما يريد وبالطريقة التي تحلو له، ولذلك ظهر في السنين الأخيرة ما يسمى بالوسائط المتعددة التي تعمل جهد الإمكان على إشراك المتفرج من خلال طلب أو بث معلومات سواء كانت بصرية أو سمعية، ومن شدة الإفراط والانغماس في لذات المشاهدة تنمو لديه حوافز جديدة يستجيب لتحقيقها كلما تجاوب ولو من جانب واحد مع آليات الإرسال؛ ونظراً للإعادة والكثافة والتشويق وبالتالي طرح (جماليات جديدة) بوسائل تعتمد أحياناً على الألوان والإيحاءات الصوتية تنغرس في ذاكرة المشاهد، على اعتبار أن المؤثرات الخارجية تستقبلها الحواس بكل عفوية، عروض لا محسوسة تتحول إلى رغبات ملموسة تلبى من خلال الإقبال على الحاجة إلى مشاهدة التلفزة كما لو كانت كباقي الحاجات الأخرى مثل الأكل والارتواء من العطش.

إن علاقة التبعية التي تنمو بجرع قليلة، ولكنها مداومة في حواس الكائن التلفزيوني، لا يمكن أن تكسر أو توضع موضع سؤال ما دامت الماكينة الجهنمية للإنتاج، والتصوير والتوزيع، والإشهار لا تتوقف في تكوين ثم إشباع رغبات لا حدود لها، إلا أن التوفيق بين العرض والطلب كما هي الحال بالنسبة لأي سوق يفرض بشكل قسري على المشاهد، فيقدم نفسه كتلبية لحاجات ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها في عالم (الحداثة)، إنها تقدم الحلم الحلو مقابل الواقع المر، فلا يجد الكائن التلفزيوني ملاذاً أمامه سوى التغذي على أسطورة التواصل التي يخلقها لنفسه خلقاً؛ وتأسيساً على هذا، قد تذهب هذه العلاقة الشبقية إلى حدود التقليص من أهمية أو فعالية التواصل المباشر مع الواقع بدعوى أن هذا الأخير يقدم إلى عقر دارنا دون أدنى عناء أو تعب، وقد تمسخ العلاقات مع المحيط القريب العائلي مثلاً، ثم خلق وشائج من نوع خاص مع أشخاص وعائلات افتراضية كما هي الحال في مسلسل (دالاس) أو ليالي الحلمية لمدة معينة تستمر مع نماذج أخرى في أمكنة وأزمنة أخرى، لا تذهب طبعاً إلى حد إلغاء علاقات الدم، ولكنها بكل تأكيد تخلق ضبابية في الرؤية إلى مفاهيم من قبيل الانتماء إلى هوية وثقافة ما. فيغدو المواطن التلفزيوني مواطناً لا وطن له، ولا لغة له، كائناً هجيناً يغير جلده بقدر ما يغير إعجابه بنجومه أو ببرامجه،مواطناً يتحدث عن قضايا مواطنين آخرين في أوطان أخري مغيباً قضاياه. وهذا ينمي عنده تشويشاً في علاقته، وقد يرمي به في لجنة سلوكيات تحادي تخوم الإدمان والاستلاب إن لم تكن تصب فيها معاً. هذه الكائنات التلفزيونية تتنوع بتنوع درجة وعيها إن بقي لها وعي وبكيفية استغلالها لأوقات فراغها، ثم أيضاً بمدى وقدرة الاستفادة إن كانت هناك على الشاشة أشياء مفيدة حقاً. فالكائن التلفزيوني الأمي، والعاطل ثم المبهور أمام كرنفال الألوان والأجساد الجميلة هو بامتياز أحط أنواع هذه الكائنات. وبفعل ولهه بلعبته المفضلة -التلفزة- فإنه لا يحاول وعي طبيعة العلاقة اللامتكافئة بين ترسانة من البث العابر للقارات وبينه ككائن مجرد من السلاح في بقعة بعيدة يجيئه العالم فيصدمه كي يتحول إلى كائن تحت رحمة هذا التخدير الذي لا يتوقف. إن الكائن التلفزيوني لا يملك قوة أمام الواقع السياسي والاقتصادي الذي يتجاوزه يوماً بعد يوم، ولا يفتح له مجالاً للمشاركة؛ لذا فإنه ينسحب من جبهات الفعل لاعتقاده بلا جدوى لهذا الفعل ما دام الواقع لم يتوقع. وبصورة كاريكاتورية فإنه يفرض على نفسه هذا الانسحاب اللامسؤول ليشرع بعد ذلك في تأسيس علاقة يكون فيها هو على الأقل كدأب قطب من أقطاب الحضور ولو كان هذا الأخير صورياً فقط.

ولعل الارتماء في أحضان هذا الغريم أو الحريم من شأنه أن يجيء كشكل من أشكال رفض كوابيس اليوم، ومن هنا تتأكد علاقة الكائن التلفزيوني بمملكته الصورية وتصبح التلفزة كأداة من أدوات القولبة الاجتماعية تسكن الآلام وتداوي الجروح وتمجد بكل عصبية وثنية الحفلات الرياضية والكروية منها على وجه الخصوص، وعلاقات الزواج والطلاق في المسلسلات البليدة، ثم الانهماك في أغاني وسهرات الحب المكرور بشكل عصابي؛ فهذا الكائن يكتفي في كثير من الأحيان بالتفرج وهذا الأخير يحوله مع مرور الوقت إلى حيوان مسلوب الفعل مكبل بقوى لا مرئية. الأخطر هو عندما يقف مواقف من وضعيات عاينها بواسطة المشاهدة ليطبقها على أرض الواقع في معيشه اليومي لتصير المشاركة في الحياة اليومية بتعدد مجالاتها شكلاً من أشكال التفرج على مسلسل درامي فقط.

إن التحول إلى كائنات تلفزيونية يطابق إلى حد ما تصور فرانز كافكا حول الإنسان الممسوخ؛ ففي كلتا الحالتين يخضع الرعايا من قبل مؤسسات بيروقراطية ومقاولاتية بواسطة وسائط إعلامية تكرس نظاماً دكتاتورياً ذا سلطة ناعمة.

جريدة الفنون: العدد 4

اللسان العربي وتحديات العولمة

الهوية الثقافية هي تلك الحصيلة المشتركة من الدين واللغة والمعرفة والعمل والفن والأدب والتراث والقيم والتقاليد والأخلاق والتاريخ والوجدان ومعايير العقل والسلوك، وغيرها من المقومات التي تتمايز في ظلها الأمم والمجتمعات. وليست هذه العناصر ثابتة بل متحركة ومتطورة أبداً باعتبارها مشروعاً مستقبلياً يواكب مستجدات العصر؛ وهي قابلة للتأثير والتأثر. وكما يوجد قدر كبير من الثقافة، إنساني مشترك، نتيجة التواصل والتفاعل بين ثقافات الأمم المختلفة، يوجد قدر خاص يحفظ هوية مجتمع من المجتمعات، وتمثل اللغة أخص خصائص الهوية الثقافية.

والمقصود بعولمة الثقافة هو جعلها تصب شطر أهداف النظام العالمي الجديد، حيث تفرض نموذجاً لغوياً معيناً، وآخر استهلاكياً يساعد على هيمنة الأقوياء وإضعاف طموح الأمم الأخرى ذات الحضارة العريقة، أو تلك التي تحمل بديلاً فكرياً وثقافياً، كما يحدث الآن لبعض دول العالم الثالث، العربية الإسلامية بخاصة.

ومن هذا المنطلق سيكون للعولمة تأثير خطير في عناصر تشكيل الهوية الثقافية للأمة، وبخاصة وسيلة التواصل التي هي اللغة؛ إذ بات تأثيرها في اللسان أمراً واقعاً، وسيبلغ التسابق على الصدارة بين اللغات الحية في الألفية الثالثة أشده، مما سيؤدي إلى نفوق كثير من اللغات الضعيفة التي لا تستطيع أن تواكب مستحدثات العصر، وتفرض نفسها في التواصل والتعامل مع مستجدات العلوم والمعارف بوسائل تكنولوجية متطورة.

تأثير العولمة في المجال اللغوي..

من المقولات الاستشرافية في هذا التوجه، ما أشار إليه الكاتب صامويل هانتينغتون من أن العالم يتوجه نحو حرب حضارية تكون فيها القيم الثقافية والرمزية هي الحدود القتالية، ويقول السياسي الفرنسي بينوت Pinot (وزير سابق في الحكومة الفرنسية): (لقد خسرت فرنسا إمبراطورية استعمارية، وعليها أن تعوضها بإمبراطورية ثقافية). وهذا يعني أن المدخل الحقيقي للاستعمار الجديد هو الهيمنة اللغوية والثقافية.

ولما كانت اللغة أهم هذه المقومات الرمزية، يسعى النظام العالمي الجديد منذ أمد في تكريس هيمنة لغات معينة، ويروّج لها باعتبارها لغات العلم والعمل، حتى بات يعتقد أن اللغات الأنغلوسكسونية هي سر التقدم، ومن المؤشرات الدالة على بداية الصراع اللغوي:

1- التنافس الرهيب في مجال المعلوماتية وشبكات الانترنيت ومحطات الإرسال التلفزيوني بلغات معينة ومحدودة، مما يحاصر كثيراً بعض اللغات القومية.

2- العمل على إنتاج ثقافة استهلاكية، تخدم النظام العالمي الجديد، وتوجّه المقومات الأساسية لدولة ما وتقلّص من خصوصيتها.

3- محاولة إضعاف اقتصاديات بعض الأمم من أجل تقزيم حضارتها، وإضعاف لغاتها مع تشجيع الأقليات اللغوية، ودفعها إلى خلق صراعات داخلية.

4- التأثير في ذاكرة الأمة، بالسعي إلى طمس التراث الثقافي الأصيل للأمة ومحاولة تشويهه، وذلك وفقاً لنظرية الحتمية اللغوية التي قال بها الفيلسوف الألماني ولهالم همبولت، حيث ترى النظرية أن الناس إنما هم تبع في تفكيرهم وإحساسهم ومشاعرهم ونظرتهم إلى الكون، للعادات التي اكتسبوها من خلال ممارستهم للغة قومهم.

5- استغلال صدمة الحداثة من أجل تحقيق العولمة، وتصدير ثقافات معينة للغات معروفة بوسائل متطورة إلى شعوب لا تقوى على مواجهتها، مما يؤدي في النهاية إلى الاستسلام والتقاعس.

مواجهة العولمة لغوياً..

إن تحديات العولمة في المجال اللغوي لا يمكن مواجهتها إلا بانبثاق (عوربة) قادرة على تحصين العربية في الممارسة اليومية ضمن جملة من الشروط يأتي في مقدمتها:

1- إصلاح المنظومة التربوية والتعليم العالي بخاصة إصلاحاً جوهرياً يمسّ الجوانب البيداغوجية واللغوية والمعارف العلمية عامة في علاقتها بالتنمية الوطنية ومستجدات العصر.

2- بعث الإرادة الحضارية لمتكلمي لغة الضاد باعتبار اللسان منطلقاً لتشكيل شخصانية الفرد والمجتمع من حيث الوجود والتمايز والبقاء، وجعله عضواً منتجاً وشريكاً في صناعة الدفع الحضاري لا تابعاً أو مستهلكاً. وإيقاظ مشاعر الهوية الوطنية المعززة بالقيم الحضارية الثابتة، لتقف سداً صفيقاً أمام الاختراق اللغوي والثقافي.

3- إثراء الرصيد المفرداتي بالمستجدات من الألفاظ الحضارية والمصطلحات العلمية التي تدخل في هندسة الخطاب التقني والتكنولوجي المعاصر.

4- توفير المعجم الوظيفي العادي والحاسوبي بأنواعه المختلفة (لغوي - مختص - موسوعي)، أحادي وثنائي ومتعدد الألسن.

5- إغناء المكتبة العربية بالكتب العلمية تأليفاً وترجمة، استعداداً لاستكمال تعريب التعليم العالي بجميع شعبه.

6- إنشاء مخبر لتصنيع البرامج الحاسوبية وبرامج شبكات الانترنيت في جميع المعارف الإنسانية بلسان عربي مبين، وتطوير بدائل المنافسة اللغوية في التواصل العلمي والثقافي، مع تأسيس شبكات عربية موجهة عبر الأقمار الصناعية لبنوك المعلومات والحصص التلفزيونية العلمية والثقافية الهادفة ابتغاء منع الاختراق اللغوي والثقافي، وإعطاء بديل مناسب وثري للباحث العربي.

7- إصدار نشرة سنوية أو دورية لمواليد المصطلحات العلمية موحدة ومنمطة، تتولى إصدارها المجامع اللغوية العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتنسيق مع الجامعات والمؤسسات التعليمية والصناعية في الوطن العربي.

8- التعامل بشجاعة حضارية وثقة تامة مع الألسن الأخرى، ومنح اللسان العربي حقه لإظهار عبقريته في احتواء المجالات التكنولوجية والطبية والمعلوماتية وشبكات الانترنيت.

د. حلام الجليلالي: مجلة المعرفة، العدد 451