مجلة النبأ

الإعلام وسيكولوجية الخطاب السياسي.. البحث عن التبرير

 

د. شامل رضوان

  المقدمة: 

يشكل الإعلام اليوم أحد أهم دعامات الثورة التكنولوجية الحديثة في الاتصالات، وانعكس ذلك على كل إنسان معاصر نظراً للتغييرات المستحدثة في آلياته والمستجدات في نمط حياة الإنسان مقارنة مع ما كانت عليه في العهود السابقة، حيث أحدث الإعلام انقلاباً شبه جذري في كل مجالات الحياة المعاصرة وسلوكيات أفراد المجتمع؛ وطالت التغيرات الأعراف والقواعد والقيم الاجتماعية، هذا فضلاً عن ما تعرضه وسائله المتعددة في الأجواء العالمية، بعدما حولت العالم إلى قرية صغيرة... وقد نجحت السياسة بكل مقوماتها وأساليبها في توجيه دفة الإعلام نحو أهدافها الاستراتيجية المرسومة رغم تناقض أقوالها مع أفعالها، وتعريض البشرية لحروب وأزمات مفتعلة تارة وحقيقية تارة أخرى. فتوجيه العالم نحو أهداف السياسة بات من مهام الإعلام ووسائله المؤثرة، والأهم من كل ذلك يكمن في الوقت نفسه في التأكيدات المستمرة والملحة في وسائل الإعلام وخطابه السياسي على مفاهيم كالحرية والديمقراطية والتحرر ودعوة الشعوب إلى نبذ الخلافات وبناء مجتمعات قائمة على الاختيار وإبداء الرأي.. ولكن أين تكمن الحقيقة، هل في الخطاب المعسول لوسائل الإعلام أم في الاستراتيجيات بعيدة المدى، وتغيير اتجاهات الشعوب نحو قضية معينة كالعولمة مثلاً أم اقتصاديات السوق الحرة، أم مفاهيم مبطنة تدعو إلى رفض القهر والاستغلال وتحطيم القيود الاجتماعية واعادة التنشئة على وفق مفاهيم وتربية جديدة في السلوك الاجتماعي وإقامة العلاقات؟ يؤكد لنا التاريخ مرة أخرى أن الإعلام هو القوة الأكثر تأثيراً في مسار حياة الشعوب واتجاهاتها وقيمها، ويعمل بنفس قوة السلاح، والإعلام بحد ذاته أداة إذا أحسن استخدامها استطاعت أن تؤثر كما تؤثر الأسلحة الفتاكة الأخرى وربما أكثر، إذا ما وجهت نحو قضية أو شعب ما، فإنه يحدث بأسلحته المختلفة الكثير من الآثار والنتائج.. وهكذا أصبح زمننا زمن قوة تأثير الإعلام في إدارة حياة الشعوب وخلق معاناتها أو سعادتها...

وظيفة الإعلام في العصر الحديث..

على الرغم من معارك التحرير التي خاضتها دولنا ضد كل أشكال الاستعمار والتبعية، فقد كان الوعي يقظاً بالقدر الذي يفرق فيه بين مقاومة الاستعمار والتبعية من جهة، وبين تقدير تراثه الإنساني العظيم من جهة مقابلة(1-3) إلا أن الأداة الكبرى التي تستطيع أن تبين للعالم أحقية قضيتنا في الدفاع والوجود والمحافظة على تراثنا غير فاعلة، تكاد تكون معطلة تماماً، وهي الإعلام الذي يعد بحد ذاته سلاحاً أقوى فتكاً من أي أداة أخرى، سواء لإظهار قضية ما أو الرد على قضية أخرى.. فالإعلام في عصرنا الحديث بات من ضرورات الحياة المعاصرة، وأن استخدامه في الدفاع عن الرأي والمعتقد وقضية الوجود هو أمر لا مفر منه. وان تخلفت هذه الأداة، فإن الكثير من الحقوق تتشوه صورها أو تفقد أحقيتها وربما تتحول إلى صورة أخرى غير الصورة الحقيقية، كما هي صورة الإرهاب التي ألصقتها وسائل الإعلام بجماعات دون غيرها خلال عقد التسعينات من القرن الماضي. أو تحويل حركات التحرر والمدافعين عن حقوق شعوبهم إلى إرهابيين، كما حدث للقضية الفلسطينية ولرجالاتها خلال العقد الماضي.

فالإعلام هو أداة للسياسة، وهو القادر على التأثير على عقول الناس واتجاهاتها حيث قال (ماك كويل) عالم الاجتماع المتخصص في الاتصالات الإعلامية: (نحن نستطيع تقصي بعض الظواهر على عدة مستويات -خصوصاً- الرأي والمعتقد واللذين قد يكونان من أمور الرأي الفردي والتعبير الجماعي للمؤسسات والمجتمعات كذلك، ومن ناحية أخرى تتطلب منا دراسة تأثير وسائط الإعلام على الطريقة التي تعمل بها المؤسسات أن ننظر في العلاقات بين الناس الذين يقومون بأدوار مختلفة وفي تركيب تلك الأدوار ومضمونها، والسياسة مثال مناسب، حيث ربما أثرت وسائط الإعلام ليس على الآراء السياسية للفرد فحسب بل وعلى الطريقة التي تدار بها السياسة وعلى طريقة تنظيم نشاطاتها الرئيسية. وربما تغيرت الأدوار السياسية)(2-36).

لذا فإن الإعلام أصبح في عالمنا اليوم أداة قوية للتأثير على عقول وسلوك الناس كأفراد أو مجموعات، سياسيين أو ناس عاديين، وأيضاً أداة للتغيير عن بعد، وخاصة فيما يتعلق بالسياسة العامة لتلك الدولة بوساطة الإيحاءات الإعلامية باستخدام اللغة والبلاغة في الحديث أو التأويل الكلامي.

إن الرسالة التي تحملها وسائل الإعلام اليوم عبر قنواتها المتعددة والمختلفة الاتجاهات (إذاعة، تلفزيون، فضائيات، سينما، مسرح، صحافة، إنترنت..) تتضمن أبعاداً غير محسوسة وغير مباشرة لا يمكن تجاهل البعيدة وحتى القريبة (الآنية) أو التقليل من شأن هذه الوسائل، أو الابتعاد عنها، فهي أصبحت شراً لا بد منه يدخل بيوتنا دون استئذان.

التضليل الإعلامي وسيكولوجية الإنكار والتبرير:

لكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر، لا بد من إخفاء شواهد وجوده، أي إن التضليل يكون ناجحاً عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية، بإيجاز شديد نقول: (إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعاً زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلاً) (3-20)، ولو تأملنا جدياً في فكرة التضليل الإعلامي لوجدناها قائمة أساساً على فكرة نفسية بالدرجة الأولى تستمد تطبيقاتها العملية من استخدام آليات الدفاع اللاشعورية عند الإنسان وبالتحديد ميكانزمي الإنكار والتبرير، وهما آليتان دفاعيتان يلجأ إليهما الفرد في مواقف يحتاجها لاعادة توازنه النفسي والشخصي، ولكن حولت هذه الفكرة وطُبقت تطبيقاً واسعاً على الإعلام والتضليل الإعلامي. ويقوم عمل آليات (ميكانيزمات) الدفاع أساساً لدى الفرد لغرض تشويه وتزييف الواقع من خلال خلط الأفكار والخبرات والدوافع والصراعات التي تمثل تهديداً له، ويقوم مبدأ الإنكار على فكرة مؤداها أن الأفراد ينكرون الواقع ويتجاهلونه، أو يرفضون الاعتراف بوجود الخبرات غير السارة والتي يدركونها تماماً وذلك لحماية أنفسهم، وتدخل دائماً في عملية خداع الذات، الأفكار المختلفة غالباً، وتعد استراتيجية الإنكار استراتيجية شائعة لدى الإنسان، ونشاهدها بكثرة لدى الأطفال عندما يصر بعضهم على القيام بعمل غير مرغوب فيه، ويخافون عقاب آبائهم(4-626).

أما آلية التبرير (ميكانيزم دفاعي) أيضاً، وهي عملية إعطاء أسباب مقبولة اجتماعياً للسلوك بغرض إخفاء الحقيقة عن الذات، فمثلاً يقول الولد لنفسه: (كان بإمكاني أن اجتاز هذا الامتحان لولا أن المدرس وضع تلك الأسئلة الصعبة) بدلاً من الاعتراف بتقصيره في الاستعداد للامتحان. ويحدث التبرير أيضاً حينما يخدع الناس أنفسهم بالتظاهر بأن الموقف السيئ في الحقيقة موقف جيد، أو أن الموقف الجيد في الحقيقة سيئ، وكما يعتقد الشخص الفقير بأن الفقر نعمة وأن الثروة تجعل الإنسان بائساً (628-4)، وينطبق ذلك تماماً على المثل الشعبي الشائع (الماينوش العنب يقول مر).

فالإعلام عندما يستخدم التضليل، إنما يلجأ إلى آليات نفسية في التأثير على عقول الناس وقلب الحقائق كما هو الحال بإعطاء الفرضية التبريرية التي ترى أن الأفراد العدوانيين يرغبون في مشاهدة أفلام العنف؛ وذلك لأنهم يستطيعون اتخاذها كذريعة لتبرير سلوكهم العدواني بكونه سلوكاً سوياً بالمماثلة، وهذا الأمر يماثل عملية تبدل الموقف ولكن باتجاه معاكس(5-51).

إن حقيقة وسائل الإعلام (الصحافة، الدوريات، الإذاعة، والتلفزيون، الفضائيات، الانترنت) هي جميعاً وبلا استثناء تخضع لسياسات دول أو شركات تتلقى دخولها وتمويلها من مؤسسات متخصصة، توجهها نحو سياسة معينة، تستهدف الدول الأخرى تارة والمؤسسات الاجتماعية تارة أخرى، أو سياسة عالمية نحو قضية ما تتعلق بالوضع الدولي واستراتيجيات تلك الدول والمؤسسات، فهي لن تكون محايدة أو موضوعية إطلاقاً، وان ادعت بشكلها الظاهري هذا الادعاء، ولكنها في الحقيقة على العكس تماماً مما تدعي، فالنقد الموجه لسياسة دولة ما، إنما ينطوي بداخله على أبعاد ليست مرئية للعيان لدى الأفراد العاديين أو بالإمكان ملاحظة تلك الأبعاد بشكل مباشر، كما هو الحال عندما يزعم المضللون أن نظام التعليم بدءاً من مرحلته الابتدائية وحتى مستوى الجامعة، يخلو تماماً من أي غرض آيديولوجي مقصود، ومع ذلك فلا بد من أن يعكس الناتج النهائي للعملية التعليمية ما تم تعلمه (3-22) ولكن في الحقيقة ليس المقصود في هذا النقد هو التعليم، بقدر ما هو أبعد من ذلك أي السياسة الموجهة نحو بلد بعينه. فاستهداف أية ظاهرة وتضليلها إنما المقصود من ذلك بعداً استراتيجياً في السياسة.

الإعلام وتغيير الاتجاهات..

يعرف الاتجاه Attitude بأنه دافع مكتسب يتضح في استعداد وجداني، به درجة ما من الثبات يحدد شعور الفرد ويلون سلوكه بالنسبة لموضوعات معينة من حيث تفضيلها؛ فإذا بالفرد يحبها ويميل إليها (إن كان اتجاهه نحوها ايجابياً) أو يكرهها وينفر منها (إن كان اتجاهه نحوها سلبياً).

أما موضوع الاتجاه فقد يكون شخصاً معيناً (صديقاً ما أو عدواً ما) أو جماعة ما أو شعب ما، أو مدينة ما، أو مادة علمية ما، أو مذهباً ايديولوجياً ما، أو فكرة ما (كالاتجاه نحو عمل المرأة أو تعلمها أو تشغيلها في القضاء) (6-23)، فالاتجاهات تعد سلوكيات لأفراد المجتمع، وترتبط بالقيم والمعايير والأعراف والتقاليد السائدة في ذلك المجتمع، وهي من الثوابت التي تستند عليها المجتمعات في بنائها، فلو تساءلنا إزاء هذه الثوابت في السلوك ومدى ارتباطها عند الإنسان في أي مجتمع، لوجدناها صلبة ومن الصعب زحزحة تكوينها، ولكن استطاع الإعلام بكل وسائله المتاحة أن يهز هذه الاتجاهات ويغيرها نحو موضوع معين أو قضية وطنية أو قومية أو دينية.. وقد نجحت تلك الوسائل في خلق الاهتزازات القيمية في السلوك لدى المجتمعات الثابتة نسبياً؛ لذلك تجد أن الإعلام يغير الأهمية الاجتماعية والمعنى السياسي للأوصاف التقليدية وبعض الرموز الرئيسية في المجتمع، فضلاً عن قدرة الإعلام في توجيه عقول الناس نحو الموضة في الملابس - مثلاً - والمنتجات التجارية ومحاولة تشتيت الانتباه نحو قضية ساخنة أخرى لغرض تقليل أهمية موضوع أو قضية تثير الرأي العام.. وقد أثبتت الدراسات أن الإعلام نجح في ذلك عندما استخدم استراتيجية الإعلام الدعائي، وهو شكل من أشكال الفن الذي يصعب تحديد إطار لهويته نظراً للتطور المستمر الذي يبديه من أجل مواكبة المزاج العام، كما يخلو هذا الفن من أي إجماع على ما يمكن اعتباره سلوكاً صحيحاً أو خاطئاً أو تكتيكاً فعالاً أو غير فعال.. وعلى كل حال يمكن الحديث عن استراتيجيتين أساسيتين تهدف كلتاهما إلى اجتذاب عدد أكبر من الناس، وهاتان الاستراتيجيتان هما:

1- بث رسائل حول موضوع أو قضية معينة أو شخص ما.

2- بث رسائل سلبية عن موضوع مناقض أو شخص منافس له (7-89)، ويعالج الإمام الشيرازي موضوع تأثير الإعلام والدعاية على عقول الناس واتجاهاتهم حول رأي ما أو قضية تهمهم تتحدد من خلال استخدام الطرق والوسائل الكثيرة في التأثير، بقوله: (كُتبتْ في هذا الشأن كتب سخرت لها أقلام اجتماعية ونفسية وتربوية ، ومن الأساليب التي يتبعها أصحاب الدعايات الباطلة هي:

1- استغلال مواضع الضعف عند الإنسان.

2- استغلال ضعاف الشخصية لأجل قبول الدعاية.

3- تسخير الألسنة المقبولة مثل خطيب أو مدرس أو مذيع.

4- التأثير في المجتمع بسبب أقلام الأدباء.

5- تحري الجماعات لأجل نشر دعايتهم، مثل جمعية خيرية، أو جمعية الرفق بالحيوان، خصوصاً إذا كان للجمعية عنوان براق.

6- تحري الحق النصفي؛ أي ذكر بعض الحقائق والسكوت عن بعضها الآخر.

7- تأويل الحق باطلاً، أو الباطل حقاً.

8- خلط الباطل بالصحيح؛ حتى ينخدع السامع والقارئ والناظر بالصحيح الموجود، فيظن أن كل ما يرى ويسمع صحيحاً.. إلى غير ذلك من الأساليب) (8-16). ويقول الله سبحانه وتعالى في ذلك: (يحرفون الكلِم عن مواضعه) (سورة النساء: 46).

الإعلامي.. واللغة.. وسيكولوجية المتلقي..

يعد الإعلام الوسيلة السهلة في التأثير على المتلقي، وباللغة التي تتناسب مع قوة ذلك التأثير على عقله، وكيفية اختراقه، ولا سيما أن تعدد الوسائل الإعلامية أتاح للقائمين على الإعلام حرية الحركة وتحقيق الأهداف؛ لذا نستطيع تشخيص تأثيرات وسائط الإعلام على ثلاث مراحل رئيسية وخلال فترات زمنية:

في المرحلة الأولى: يقوم على تشكيل الرأي والاتجاه ثم المعتقد وهي محاولة لتغيير عادات الحياة، ومن ثم قولبة السلوك بفاعلية وفرض الأنظمة السياسية حتى ضد المقاومة المحتملة.

في المرحلة الثانية: لقد تشكلت إلى حد كبير بفعل أبحاث من خلال وضع تقاليد احترمت، وهذه الأبحاث والدراسات اختصت في البحث النفسي - الاجتماعي لدراسة تأثيرات الأفلام ووسائط أخرى تتناول الجريمة والعدوان والمواقف العنصرية.

في المرحلة الثالثة: النظر في بنى المعتقدات والآراء والسلوك الاجتماعي، والتأكيد على المضمون.

وعند معرفة الأساليب المستخدمة في عملية التأثير الإعلامي على المتلقين، لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار أهمية لغة التواصل ولغة الحوار مع المتلقي عن بعد، وإزاء ذلك يقول (جاك لاكان) عالم النفس، عن قوة تأثير اللغة على الإنسان.. (إنها الظاهرة التي تجعل من الكائن البشري كائناً متكلماً)، ونستطيع بذلك أن نحد الإنسان بكونه (المتكلم) لا بكونه كائناً تكون إحدى صفاته التكلم، وهذا يقودنا إلى التساؤل عن ماهية المتكلم جسدياً وذاتياً، إذ يقول (لا كان) أيضاً: (إن تحديد الإنسان بالمتكلم يستقي قوته من ظاهرة أن كائنين بشريين لا يستطيعان أن يتصلا (يقترنا) أحدهما بالآخر، إلا إذا تكلما. إذاً اللفظة تأخذ دلالتها من عملية تجعل منها رغم انفصالها ووحدتها، ممكناً من الممكنات التي يتألف منها النظام الكلي للغة، أي إن الكلمة الواحدة عندما يتلفظ بها تكون كل الكلمات الأخرى موجودة بالقوة) (9: 147).

وعليه فإن لغة التواصل تقوم على أساس الأبعاد النفسية "السيكولوجية" في قوة التأثير وبفعل وسائل الإعلام المجندة لهذا التأثير، ويكملها الضلع الآخر للمثلث وهو المتلقي باعتباره الهدف والغاية في النتيجة، حتى قيل إن أحد مقاييس فقدان أمة ما لسيطرتها على وسائل إعلامها يتمثل في درجة اختراق وكالات الإعلان الأجنبية لميكانيزمات التسويق في تلك الدول (3: 181). وهذا يحقق واقعاً فعلياً في التأثير على أفراد ذلك الشعب وتعرضه للاختراق وتحييده على الأقل عن قضاياه الوطنية أو القومية، ويميز مثل هذا الاختراق أو التغلغل أيضاً تغيرات أساسية في البيئة الثقافية للبلاد فضلاً عن بنية الاتصال التي تنقل وتعزز على نحو متزايد مواقف تتوافق مع متطلبات(32-181) ذلك الشعب أو تلك الأمة، وما هي درجة المقاومة المتوقعة إزاء هذا الاختراق أو التأثير عن بعد، وفي هذا المضمار يتحدث (ريتشارد نيكسون) الرئيس الأمريكي الأسبق عن قوة تأثير الإعلام عن بعد وتوجيه العقول في السيطرة السياسية المباشرة بقوله: (من السمات الأساسية لأسلوبنا في الحياة إيماننا بأنه عندما يعمد الحكام إلى الاستئثار المنظم بالمعلومات التي هي حق خالص لجمهور الشعب، فإن أفراد الشعب سرعان ما يصبحون في وضع يجهلون معه كل ما يتعلق بشؤونهم الخاصة، كما سيفتقدون الثقة في هؤلاء الذين يسّيرون أمورهم، وسيفتقدون في نهاية الأمر إلى القدرة على تحديد مصائرهم الخاصة) (3: 207)، ويقول الإمام الشيرازي في هذا الصدد: (ليس الاستقرار بالادعاء، والكلمات الفارغة، والخطب التي تلقى من على منبر الإذاعة والتلفزيون (10-285) وإنما الفعل الذي يؤدي إلى تحريك الشعوب باتجاه أهدافها واستخدام وسائلها الناجحة في تحقيق تلك الأهداف، وإلا فستتحول الشعوب لحقول تجارب من قبل وسائل الإعلام المُسيِّرة لسياسات مؤثرة وكبيرة).. وهذا ما هو موجود فعلاً في الواقع، من خلال اللغة التي تتحدث بها وسائل الإعلام وتؤثر على مسامع أو مرأى المتلقين من الناس.

نفوذ الدعاية والإعلام وتأثيراتهما..

الدعاية في جوهرها عملية إقناع منظمة، وهي تنقضّ على العقل، وهي نفسية (11-32)، وقد وظفت الدعاية في شتى الميادين الحربية لغرض إنهاك الجيوش المتقاتلة والتأثير على المعنويات، وفي التجارة، حيث كانت عاملاً مساعداً في النشر والإعلان عن تسويق منتوج معين، وفي التأثير على الناس من خلال السينما والمسرح والتلفزيون وتوجيه عقولهم نحو برنامج اجتماعي أو التأثير على عادات الشعوب وابراز ظاهرة معينة لشعب من الشعوب و(التأكيد على أهمية القوة والعنف كوسيلة لبناء المجتمع) أو التأكيد على إغراق الشعوب الأوروبية بالمخدرات بأنواعها بشكل غير مباشر.. وهكذا لا يوجد حصر لعدد الطرق التي يمكن بواسطتها تقديم المقولات الترويجية أو الهجومية عبر عملية الدعاية أو الإعلام، ولكن هناك بعض الأساليب التي تحظى بأفضلية خاصة (7-91) ومن تلك الأساليب الإيجابية:

1- إظهار قصة نجاح شخصية معينة أو دواء (عقار) معين أو أسلوب معين في الحياة.

2- التحدث عن شركة تجارية أو برنامج اجتماعي أو حدث مؤثر في نفوس الناس.

3- شهادة: إعطاء شهادة من أفراد حول قضية معينة أو شخص معين أو إجراء لقاءات مع نساء أو رجال مرموقين في المجتمع.

ومن الأساليب السلبية:

1- سجل سيئ: إعطاء الصورة السيئة أو المأساوية لما قامت به شركة ما رغم تحذيرات الصحة أو المنظمات الاجتماعية على ما تتداوله هذه الشركة، أو ما يفعله شخص ما مهم ذو نفوذ في المجتمع، مما يؤدي إلى إسقاطه شعبياً.

2- المتقلبة: تتميز هذه الشخصية بالأمزجة المتقلبة، أو نشر دعاية سيئة عن شركة لها تورطات في قضايا ضد الشعوب في العالم الثالث مما أدى إلى وضعها غير المستقر تجاه قضايا الإنسانية، أدت إلى تغيير اتجاهات الناس ضد هذه الشركة.

3- إنه الشيطان: إظهار صورة شخصية معينة أو محددة لها مستقبل سياسي أو من المؤمل أن يكون لها دور فعال في الحياة السياسية أو الحياة التجارية، وإظهار بعض العيوب السابقة وتجسيمها واعتبارها أخطاء لا يمكن السكوت عنها، واعتباره الشيطان بعينه.

ومن خلال ما تقدم يمكننا أن نستنتج أن لأساليب الدعاية والإعلام تأثيراً كبيراً على عقول المتلقين وتغيير اتجاهاتهم عن موضوع ما، وإيجاد التبريرات الملائمة لهذه القضية، حيث يقول الإمام الشيرازي: (إن القلم واللسان هما اللذان يسببان تحرك الناس نحو الجهاد (10-18) ونحو التغيير أو قبول الجديد أو رفضه).

إن الأزمة الحالية التي تسود العالم اليوم في قوة تأثير مجموعة وكالات عالمية لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، تفرض نفسها على كل وكالات الأنباء العالمية التي تجاوزت المئات، ولكن فاعليتها ظلت بسيطة من حيث التأثير الإعلامي أو قوة إدارة الأخبار أو البرامج سواء في الوكالات بنقل الأخبار أو غير ذلك، وبعد هذا صرنا أمام ذلك التناغم الجبار بين تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، ولم تكن هذه التحولات مجرد مستحدثات وابتكارات لجعل العالم أكثر سعادة بل قادت إلى نمط استهلاكي محموم يسعى (للاندماج) في الجديد والتعطش واللهاث وراءه في نظرة كلية قوامها تخليق نمط (للتلقي) مبني وبإحكام على ركائز نفسية -اجتماعية- فكرية (212-11).

الإعلام وبناء استراتيجيات جديدة..

إن أهمية الإعلام لا تخفى على أحد، والصحافة باعتبارها من أبرز وسائل الإعلام أخذت حيزاً مهماً في حياة المجتمع العصري؛ وذلك أن الإعلام له دور كبير وفاعل في مختلف المجالات منها:

- توعية الناس وتوجيههم، بإعطائهم الأفكار الجاهزة والمعلنة والمقترنة بأساليب الإقناع.

- فضح الممارسات الخاطئة للحكام وتسليط الأضواء على مواطن الخطأ والغلط في تصرفاتهم.

- وسيلة مهمة في الدعاية الانتخابية، حيث تكون منبراً للمرشحين لبيان أفكارهم وآرائهم ووعودهم وغير ذلك (13: 108) وعليه فإن الإعلام لكي ينجح، لا بد له من وضع استراتيجيات واضحة المعالم ومساقات مبنية على أسس علمية وتقوم هذه المساقات على مقاصد أربعة وهي:

- دعاية الدول للإعلام بكل أنواعه ودعمه.

- العمل بجدية على ضخ المعلومات.

- التدخل في بعض المنافذ الإعلامية الأخرى كالمسرح والصحافة والتلفزيون وبرامج التنمية الأخرى، دون توجيهها على وفق سياستها.

- تغيير السياقات القديمة بأخرى تماشي التطور التكنولوجي في الاتصالات.

وإذا ما استطاعت الدولة بمركزيتها أو المؤسسات الإعلامية الخاصة غير الخاضعة لسلطان الدولة أن تضع لمؤسساتها استراتيجيات تتماشى مع القفزات النوعية السريعة التي اخترقت حاجز الصوت في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فإنها من المحتمل أن تلحق ولو بعد حين بهذه الثورة المعلوماتية.

إن قوة فعل وسائط الإعلام لا يمكن قياس تأثيراتها، ولا يعني ذلك عدم وجود أجهزة قياس خاصة تقيس قوة التأثير أو ضعف أداة القياس، بل إنما الأمر يتعلق بشدة فاعلية هذه الوسائط التي فاقت التصور العقلي في الوقت الحاضر ومدركات الإنسان الحية في استيعاب هذا التأثير. حتى أن دراسة أجريت في أمريكا لقياس الثقة بالمؤسسات الإعلامية من حيث قوة تأثيرها على المتلقين وجدت أن الإيمان بشرعية النظام الإعلامي كان قوياً دائماً، وأن حرية المعلومات تعد مهمة بشكل رئيسي، إلا أن ناشري وسائط الإعلام يصيبون نجاحاً أقل، وربما كانت أكثر النتائج مدعاة للدهشة أن الأمريكيين يثقون في مؤسساتهم أكثر مما يثق الأوربيون في مؤسساتهم هم، وينطبق هذا على وسائط الإعلام بقدر ما ينطبق على المؤسسات الأخرى، فالأغلبيات في ثلاثة أقطار: ألمانيا، بريطانيا، إسبانيا لا تثق بوسائط الإعلام، أو تثق بها قليلاً، بينما69% من الأمريكيين لهم ثقة كاملة أو بعض الثقة بها، وفي فرنسا ينقسم الرأي، إذ يقول 48% إن لديهم على الأقل بعض الثقة بوسائط الإعلام، ويقول 49% انهم يثقون قليلاً أو لا يثقون بوسائط الإعلام، و باستثناء إسبانيا فإن وسائط الإعلام تمثل مركزاً قريباً من اسفل قائمة جميع المؤسسات (2-96)، إن الأمر إذاً منحصر في إقامة بناء إعلامي بكل فنونه قائم على تنوع الاتجاهات في التعبير الملتزم والقائم على استراتيجيات بعيدة. ويكفينا الاستشهاد بحديث الرسول الأكرم(ص) في هذا الصدد حيث قال: (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء) (10: 18).

المـــصــادر:

(1) الكتابة مهنة مقدسة: نبيل فرج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، (1998).

(2) سلطة وسائط الإعلام في السياسة: دوريس ايه، جريبر،ترجمة اسعد لبدة، دار البشير، عمان (1999).

(3) المتلاعبون بالعقول: هربرت، ا، شيللر، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة: الكويت، العدد (243)، آذار(1999).

(4) مدخل علم النفس: ليندا، ل، دافيدوف، ترجمة: سيد الطواب وآخرون، دار ماتجروهيل، القاهرة (1983).

(5) أفلام العنف والسلوك العدواني: محمد حمدي الحجار، مجلة الثقافة النفسية، العدد (38) شباط (1999م).

(6) موسوعة علم النفس والتحليل النفسي: فرج عبد القادر طه، دار سعاد الصباح، الكويت (1993م).

(7) لعبة وسائط الإعلام: ستيفن اينزلابير ودوي بير وشاتتواينجر، ترجمة شحدة فارع، دار البشير، عمان(1999م).

(8) الاجتماع ج1: السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، بيروت (1992م).

(9) التعبير اللغوي وعلاقته بالنفس والجسد: بسام بركة، مجلة الثقافة النفسية العدد (9) ك2 (1992م).

(10) السبيل إلى إنهاض المسلمين: السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت (ب،ت).

(11) قصف العقول: فيليب تايلور، ترجمة: سامي خشبة، عالم المعرفة، الكويت العدد (256) إبريل/نيسان (2000م).

(12) من ندرة المعلومات إلى ثورة المعلومات (الحق في الاتصال أم الحق في الهوية): طاهر عبد مسلم، مجلة الكلمة، العدد (27) ربيع (2000م).

(13) الصحافة الحرة بين المشروع واللامشروع: السيد جعفر الشيرازي، مجلة النبأ، العدد (47) تموز (2000م).