مجلة النبأ

العقيدة في وجوه الإيمان الثلاثة

 

محمد محسن العيد

  المقدمــة 

قال أمير المؤمنين (ع): (الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان) (1).

هذا التوجيه يشير إلى وجوه ثلاثة تبتنى بأبعاد ثلاثة أيضاً.. فمثل الإيمان الذي يعبر عن كيان العقيدة وجوهرها، بما هي العلم الذي انطوت عليه النفس وانعقدت على معانيه، كما يقول الإمام (ع) في خطابه لكميل بن زياد (عليه الرحمة):

(يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها..)، وقال له (ع): (العلم دين يدان به) (2).

إن في نفس كل واحد منا حجماً خاصاً لعقيدته يتفرد بها وتميزه عن كل الناس، بل حتى عن أقرب المقربين إليه. والذي يؤكد خصوصية هذا الحجم أو هذا الوعاء كجوهر للنفس الإنسانية، أنها المقصودة بالنشور والبعث والحساب والجزاء ثوابه وعقابه.

وقد بين أمير المؤمنين (ع) في موضع آخر؛ دعائم الإيمان، ودعائم الكفر، فقال (ع): (الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. . ) (3)، وصرف هذه الدعائم الأربع إلى معانيها وضرب أمثلة لها.

وقال (ع): (الكفر على دعائم أربع: على التعمق والتنازع والزيغ والشقاق.. ) (4)، ثم صرف أيضاً هذه الدعائم الأربع إلى متصرفاتها وبين معانيها.. وعلى أساس من فهمنا لما وجه به الإمام (ع) وعلى قدر معرفتنا نبين كيف يتكون حجم العقيدة في الإنسان.

  حجــم العقيـــدة

تبتنى العقيدة في كل نفس بثلاثة أبعاد، مثلها في ذلك مثل أي مخلوق نامٍ، وهذه الأبعاد هي:

أولاً- البعد الموضوعي:

ويتمثل في المادة الثقافية، التي تتضمن نصوص من مضامين الحسن ومعانيه، بشكل تشريعات مبادئ ونظم آداب العقيدة في كتب (مكتوبة)، وفي وقتنا هذا قد تكون في مواد ثقافية متعددة مثل: أشرطة التسجيل أو الأفلام أو الميكرو فيلم أو الديسك، ويلحق بها الاجتهادات والتحقيقات وكل ما يثري العقيدة من نصوص أخرى مكتوبة أو محفوظة بأي شكل ثقافي. ولذا فإن المعتقدين بأي عقيدة يتفاوتون في مدى (بعد) ما يعرفون أو ما يحفظون من نصوص تلك المضامين لعقائدهم، بل وحتى في العقيدة الواحدة، بشكل نظريات وتشريعات ونظم وآداب وإمداداتها؛ فمنهم من يحفظ نصوص الأصول والنصوص المهمة من مضامينها، ومنهم من يتخصص فيها، فيحصل التباين في مديات أبعادهم الموضوعية في العقيدة، والدافع الذاتي للنفس لمضيها في استيعاب مدى هذا البعد هو رغبتها، وسعيها الفطري بإنماء التعلم من أجل تمام المطابقة بين إرادات سننها التكوينية وبين السنن الكونية حيث تستقر بتمام المطابقة معها؛ وتبرز في النفس:

1- من خلال إرادتها في معرفة المعاني بثوابت أسمائها ولولا ثوابت الأسماء فلا علم.

2- من خلال إرادتها في معرفة الأسباب والعلل بثوابت الرحمة والتي بدونها لا وجود ولا حياة ولا عقل يعرف مطلقاً.

3- من خلال إرادتها في معرفة الحق وطلب العدل بثوابت الصدق في الواقع والتي بدونها لا حقيقة تعلم ولا إنصاف يعرف.

4- من خلال إرادتها في معرفة الأحسن و الأفضل بثوابت المقاييس والمعايير، ولولا تلك المقاييس أو المعايير الثابتة فلا تمايز ولا معرفة.

5- من خلال إرادتها في معرفة القوانين بثوابت النسب بين المعاني والحقائق، ولولا تلك النسب الثابتة فلا قانون يعرف.

6- ومن خلال إرادتها في معرفة الغيب من خلال ثوابت الإيمان، والتي هي ثوابت مدركة من خلال ثوابت كونية وتاريخية وتجريبية، لذا فهي لا تتوفر لكل نفس إلا بالمتابعة مع الصبر.

7- ومن خلال إرادتها في معرفة التوحيد والوحدانية من خلال ثوابت الكون وثوابت شروطه ووحدتها.

8- ومن خلال إرادتها في معرفة المعرفة من خلال ثوابت الرسل الذين لم يخل منهم زمان ولا مكان، مع ثوابت الوعي المكتوب في الكتب المنزلة وثوابت المعجزات القائمة، كما هي ثابتة معجزة القرآن التي تتحدى العقول عبر العصور والى الأبد.

كل هذه المعارف بحدودها في النفس تشكل فواصل في بناء بعدها الموضوعي.

ثانياً- البعد الروحي:

ويتمثل في مدى عمق الوحي (البعد) الذي يمتد في روح المعتقد، باعتبار أن العلم هو نتاج الإرادات كما قلنا، والإرادات هي مظهر الروح؛ فالعلم هو نتاج الروح مثلما هو غذاؤها من كل معنى لنص من نصوص البعد الموضوعي في نظرياته وتشريعاته وأخلاقياته؛ ولذا يتفاوت المعتقدون أيضاً بمقدار هذا الوعي إزاء كل نص، فالبعد الروحي هو تعبير ظاهر وبارز لمعاني تطابق السنة التكوينية في موضوعها مع السنة الكونية في ذات الموضوع لكل نفس إنسانية. والمعرفة التي تأتي في البعد الموضوعي، إنما يستقبلها المتلقي أولاً بالتسليم، ثم بعدها تكون أساساً لأحد أنماط تعلمه الأخرى، وهو في سبيل السعي للمطابقة مع واقع الكون من أجل الاستقرار عند تلك المطابقة حيث تنطوي نفسه وتنعقد على واقع تلك المطابقة كليتها وجزئيتها، كمعرفة عقائدية يعيها بين نفسه والكون، فهو البعد الروحي.. ولذا قال الإمام علي : (يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها.. أوعاها). وقال له (ع): (العلم دين يدان به) (5). والقلب هو جوهر النفس وأصل مكوناتها. ومن أجل بيان معاني البعدين الموضوعي والروحي للعقيدة وكيف يتمايز بهما الناس حتى في العقيدة الواحدة، نأخذ المثال التالي:

في عقيدة الإسلام لنأخذ النص التالي: (محمد رسول الله (ص))، حيث هو أحد أهم فواصل البعد الموضوعي؛ ولنأخذ نماذج من الذين يحفظون هذا النص كبعد موضوعي لعقيدتهم كمسلمين، لنرى مقدار التفاوت في البعد الروحي بين هذه النماذج المدروسة:

1- سمع الناس أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول هذا النص، فما مقدار بعده في روحه؟!.

2- وقال هذا النص أبو سفيان من قبل وفي نفسه شيء منه -كما يقول هو- فما البعد الروحي لهذا النص عند أبي سفيان؟!.

3- وقال هذا النص الصحابة كلهم، فما بعده الروحي عند كل واحد منهم؟!.

4- وقال هذا النص الإمام علي (ع) فما بعده الروحي عنده؟.

5- وكل مسلم يقول هذا النص (محمد رسول الله (ص)) فما البعد الروحي عند كل واحد منهم؟.

أما معاوية؛ فها هو يقول بنفسه عن مدى عمق هذا النص في روحه في كلماته المشهورة، ومنها وهو يسمع الآذان يجهر بها: (أشهد أن محمداً رسول الله) كان يقول: (إلا ابن أبي كبشه يذكر على المنابر خمس مرات في اليوم والله ألا دفناً دفنا) (6) .

وكي نجيب على بقية الأسئلة نورد فيما يأتي هذه الرواية المشهورة مختصرة: (كان في المدينة أحد الصحابة -وهو طبعاً يحفظ النص ويقوله (محمد رسول الله) ويشهد به- له متاع في مكة قبل فتحها، فأرسل رسالة مع امرأة إلى مكة يخبر المشركين فيها عن تحركات المسلمين، ظناً منه أن ذلك يجعل له عند المشركين هناك حظوة تحفظ له ذلك المتاع، ولقد اخبر الله تعالى رسوله بذلك، فأرسل الرسول (ص) أحد الصحابة بأثر تلك المرأة وأمره أن يأخذ الرسالة منها ويأتيه بها، وفعلاً لحق الصحابي من فوره بالمرأة، وأدركها في الطريق إلى مكة، ولكنها حلفت له وحلت صرائرها وأقنعته بأن لا رسالة معها، فقفل راجعاً ليخبر الرسول بما حصل.ودونما عتب أرسل الرسول (ص) علياً (ع) بأثر المرأة فأدركها وأتى بالرسالة وسلمها للرسول(ص)) (7). من هذه الرواية ندرك:

1- الصحابي الذي أرسل المرأة بالرسالة، بعده الروحي محدود جداً لمعاني رسالة محمد (ص) التي كان يشهد بها، فلا يتعدى مداها مجرد النطق بها.

2- والصحابي الذي اعتمده الرسول ليأتي بالرسالة كان يشهد برسالة محمد (ص) ويجاهد معه، ولكن عمق وعيه لما يشهد به كان إلى الحد الذي يظن معه أن الرسول يمكن أن يتوهم والمرأة العادية صادقة.

3- أما الإمام علي (ع) أمام إنكار المرأة، فقد استل سيفه ليخيفها: (أخرجي الرسالة وإلا أخرجتها بذبحك)، فالرسول (ص) لا يتوهم ولا يخطئ ولا يكذب ولا ينسى ولا يخطل في أمر وفعل ولا ينطق عن الهوى، بل إن عمق الوعي عند علي(ع) برسالة محمد (ص) أعمق مما نعي أو نقول في وضعنا هذا، يؤكد ذلك قول الرسول (ص) في علي: (يا علي لا يعرفني إلا الله وأنت.. ). هكذا فكل نص يشكل موضوعاً في العقيدة له عمق في نفس المعتقد، والناس يتفاوتون بمدى ما عندهم من النصوص وبمدى عمق وعي تلك النصوص.

ثالثاً- البعد الزمني للعقيدة:

ويتمثل بمقدار الوقت الذي تستغرقه النفس في تجسيد اقتران البعدين الموضوعي والروحي في الواقع؛ إذ من خلال هذا الوقت المستغرق يبرز حجم العقيدة في كل موضوع من مواضيعها في نفس الإنسان، وهكذا يتجسد أيضاً وعي النفس بعقيدتها وعلى قدر بعدها الروحي؛ سئل الإمام علي (ع) عن الإيمان فقال: (معرفة في القلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان) (8).

والإقرار باللسان هو البعد الموضوعي.. والمعرفة بالقلب هو الوعي أو البعد الروحي وعمل بالأركان، هو البعد الزمني، حيث هو إقران البعدين الروحي والموضوعي بالزمن لقيام حجم العقيدة الفاعلة في نفس المعتقد بها؛ فلا يمكن معرفة حجم العقيدة في أية نفس إلا من خلال الزمن، فالزمن هو مطية إجبارية في معنى الوجود والحياة ومعنى الفعل ومعنى العقيدة في كل نفس، والإنسان هو الراكب لتلك المطية بحافظته ووعيه أو بدونهما، شاء أم أبى؛ فهي تسير به إلى حيث نهايته المحتومة، فإذا اقترن فعل الإنسان وقوله بمعاني ما يحفظ من عقيدته، كان فعله وقوله هو بيان لحجم عقيدته، وإلا فهو كأي داب من دواب الأرض، لأن الزمن في حالته هذه هو الذي يركبه فهو المطية.

إن معنى حضور العقيدة في النفس يبرز ظاهراً في إشغال الزمن من قبل تلك النفس في تجسيد اقتران بعدي تلك العقيدة في الواقع، وبه يبرز الحجم الظاهر للعيان من العقيدة، ولذا فحتى الذي له نصيب من الاعتقاد ومهما كان، إذا لم يستغل الزمن في تحقيق سعة في أبعاد عقيدته أو في تجسيدها، فإنه لا يرقى في اعتقاده هذا؛ ولذا فمن أجل حجم نامٍ للعقيدة في أي نفس، فعلى تلك النفس أن تستغل الزمن في استيعابها للبعد الموضوعي بحفظ نصوصها، وأن تستغل الزمن أيضاً في استيعاب وتحقيق عمق أكبر في وعي تلك النصوص، وبما كان من المعصومين(ع) والتأسي بهم، والتفكر في مضامين الحسن الكوني الرباني؛ ولذا نجد معاني الكمال في العقيدة الإسلامية أنها جعلت: (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة(، وقال الله تعالى: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) (آل عمران:191) ويحتاج التفكر لكي يكون نافعاً في تعميق ذلك الوعي بالعقيدة إلى صدق النية واستحكامها خالصة بقصد القربى للحسن سبحانه، لان في ذلك انطباق مع فطرة النفس في السعي للحسن وانجذابها إليه، وبالصبر وعلو الهمة والتحمل في استغلال الزمن لتخليص النفس من الهوى في رؤية المعاني الحسنة في كل نص، فالتعلق بالله وحده يخلص النفس من النظرة المزدوجة لمعاني الحسن في المنفعة واللذة، كما أن محبة المعصومين (ع) من رسل وأنبياء وأئمة، هي داعي لتعميق الوعي وزيادة مدى البعد الروحي للنصوص بالإحاطة بمعانيها من خلال متابعة سيرتهم بشغف تلك المحبة وبمقدارها؛ فكلما كانت المحبة لله ولرسله ولأئمة العترة الهادية شديدة، كلما كانت داعية الوعي أعمق في النفس، وجدير بالذكر أن بغض أعداء الله تعالى وأعداء رسوله وأعداء الأئمة هو قرين المحبة الصادقة لله ولرسوله وللعترة الطاهرة. ولا تصح المحبة تلك إلا بصدق البغض لأعداء الله تعالى.. قال تعالى عن إبراهيم في قصته مع عمه، وهو (ع) سيد الموحدين: (فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه)(التوبة:114) وقال تعالى: (ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح) (التوبة: 120) فلا تصلح المحبة لله ولرسوله وآله (ص) إلا ببغض أعدائهم.. وباستطاعة أي آدمي أن يرى مقدار النمو في حجم عقيدته في نفسه من مقدار حضورها مع الزمن قياساً بصدق حبه للمعصومين (ع)، باعتبار الكمال في عقائدهم بدين الله تعالى؛ ففعلهم وقولهم تجسيد لمضامين الحسن الرباني وبياناً لمعانيه، لخلوها من الهوى والخطل في أي موضوع من مواضيع العقيدة، ويتم ذلك ويبرر ظاهراً لمن كان له وعي بسيرتهم الصحيحة(ع). فمثلاً في العقيدة الدينية، تعتبر العبادة مقياساً لطاعة الآدمي لربه، ولكن الحقيقة هي أن حجم العقيدة لا يقاس بكثرة العبادة، بل يقاس من خلال الحضور النفسي في العبادة، أي الوعي لمعاني العبادة في النفس؛ ولذا يكون معنى المقياس في العبادة هكذا: إذا كانت العبادة عند الآدمي تزيده قرباً من ربّه بارزاً في مقدار ما يحسن، فنعم العبد ونعم العبادة، وإذا كانت عبادة الآدمي لا تقربه من ربه، بارزاً في مقدار ما يسيء فبئس العبد وبئس العبادة. وخلاصة القول: (إن الزمن بعد حاسم في قيام حجم العقيدة في أي نفس، وإن العقيدة لها في نفس الإنسان حجم ينمو بنمو جسده، وبكيانه) ذلك بافتراض أن الفرد يبقى محتفظاً بإرادته للحسن مع الزمن، أما إذا افتقد الآدمي إرادته للخير، وركبه الزمن، بدلاً من أن يركب هو الزمن لصالح عقيدته، عندها فلا نماء لحجم عقيدته في نفسه، وقد تبقى العقيدة مجرد أثر في بعض النفوس، كما هي الحال في الذين تكون عندهم العقيدة نسباً وليس ديناً يخضع له. فاليوم، نجد مثلاً في كثير من البلدان وخصوصاً الغربية منها أن النصرانية بمذاهبها واليهودية والإسلام، إنما هي مصطلحات متداولة لمن ينتسب بالأم والأب إلى تلك الديانات، ويبقى لكي نتأكد من حقيقة كون هذه المصطلحات لها معنى يدل عليها كعقيدة لهؤلاء المعنيين بها، فلابد من التأكد من وجود حجوم نامية لتلك العقائد في نفوسهم من خلال تعابيرهم اللغوية والسلوكية كمبرزات لتلك الحجوم؛ فقد نجد -على سبيل المثال- مسلماً أو مسلمة له حجم في نفسه لعقيدة لا تمت للإسلام بصلة، فنجدهم مثلاً، يضعون على صدورهم الصليب بقلائد يلبسونها أو يتشبهون في تعابيرهم اللغوية والسلوكية وملبسهم باللمة التي صنعها الغرب بعقائده الوضعية، ولا تمت حتى للمسيح (ع) بصلة. وفي مثال آخر قد نجد العكس، فمن المسلمين من يتشبه في كل شيء يمت للإسلام بصلة من ملبس وغيره، وينطوي في حافظته على مدى كبير من البعد الموضوعي للإسلام وفي نصوص لا حصر لها، ولكن لا مدى - في نفسه - لبعدها الروحي، فلا يعي ما يحفظ بل وحتى ما يقول، وإن كان له حظ من الوعي في بعض النصوص فلا حضور نفسي زمني لوعيه فيها؛ ولذا نراه لا يخجل من أن يقلد الغربيين كالقرد.

  حجم العقيدة والشعور بالاستلاب 

1- حجم العقيدة والشعور بالدونية:

إن الشعور بالدونية من قبل بعض من ينتسب إلى الإسلام إزاء حضارة الغرب مثلاً، يعني استلاب أصالتهم؛ إذ الإسلام هو أصل عقيدة الله تعالى الذي هو سبحانه مصدر الحسن في كل خلق، فالإسلام دين آدم ونوح وملة إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين (ع) كلهم... قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران:19) وقال تعالى: (وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) (آل عمران: 67) وقال تعالى عن إبراهيم (ع) وهو يوصي بنيه بأن الدين هو الإسلام: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (البقرة: 132) وفي آيات القرآن الكريم كثير من مثل هذه الدلالات على أن الدين لله هو الإسلام؛ فالدين الحق كما يقول أمير المؤمنين (ع): (الإسلام، هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل الصالح) (9)، بمعنى أن العقيدة، هي ما أقرته النفس أصلاً في ذاتها وانعقدت عليه من العلم... فقد مر معنا قوله (ع): (إن العلم دين يدان به)، والعلم يبدأ دوماً بالتسليم بالمعاني من خلال ثوابت الأسماء بالتطابق، وبهذا الوصف العلمي الدقيق للمعصوم صلوات الله عليه، يكون الدين بحقيقته نصاً وعقلاً، هو الإسلام، وكل ما عداه تسميات ما أنزل الله بها من سلطان لمعاني الدين.. قال تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إيّاه، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (يوسف: 40) أما الشعور بالدونية، فهو الظن بأن الغربيين هم الأحسن في سلم الرقي، وأن كل الناس من غيرهم إنما هم دون هذا الرقي، ولو أن الدين عند الناس من أولئك المستلبين كان عقيدة، وله في نفوسهم حجماً، لما وجد الشعور بالدونية إزاء الغرب سبيله للعبث في أخلاقهم وتدني القيم في إنسانيتهم؛ لأن الذي له عقيدة، لا يظن أن عقيدة غيره هي أفضل من عقيدته، وإلا لما اعتنقها واستقرت في نفسه. والدونية: هي استلاب العقيدة من النفوس بالظن أن غيرهم أرقى منهم في عقيدته وانهم دونه، مما يدفعهم لتقليده، لتعويض مركب النقص الذي يشعرون به كما أن الشعور بالاستلاب قد لا يبدو فقط من اقترانه بالدونية إزاء الغير، بل قد يظهر من الشعور بالفوقية في عقيدته.

2- العقيدة والشعور بالدونية:

يقع الآدمي تحت تأثير الشعور بالفوقية عندما يتوهم أن حجم عقيدته في نفسه هي أكبر مما عليه في حقيقتها في سلم الكمال العقائدي، وهذا الشعور قد يدفع بهذا الآدمي إلى استلاب مواقع متقدمة في العقيدة، هو بالحقيقة غير مؤصل من ذاته؛ فمثلاً يكون الآدمي غير معصوم، فيتقدم لاستلاب موقع المعصوم من العقيدة، وذلك لشعوره بالفوقية، وقد جاءنا التاريخ بكثير جداً من المضحك في سلوك من تقدم دون أهلية من عقيدته لاستلاب منصب خلافة رسول الله (ص) في إمرة المؤمنين، وشر البلية ما يضحك، وكذلك مثلاً قد يكون المؤهل قد استلب موقع المجتهد فيها في العقيدة، وهو في هذه الحال، إما أن يعمل بتكليفه من هذا الموقع، فيعطل هذا الموقع الكبير عن العطاء؛ فمثلاً اليوم قد نجد حتى ولو قامت دولة إسلامية بالمعنى الذي يقترب من الصدق في المعاني الإسلامية، نجد فيها قوانين لا تمت للإسلام بصلة، بل وتخالف دستورها، وليس هناك دافع لتلك القوانين التي لا تمت للإسلام بصلة، بل ولا حتى للإنسانية بصلة، ولا تتناسب مطلقاً مع معاني الدين لله وبقصد القربى إليه، لوجدنا أن ذلك الدافع هو الشعور بالفوقية لا غير. إن الشعور بالاستلاب، سواء في الدونية أو الفوقية، هو خلل في عقيدة الآدمي، يأتي أصلاً من ثغرة في بناء حجم عقيدته في نفسه، والمصاب بهذا الخلل لا يعي أنه دوني أو فوقي، لأن شعور المصاب بهما يأتي من اللاوعي (العقل الباطن)، مما يتشكل بهما بعد موضوعي أصلي لعقيدة المصاب بهذين الشعورين؛ فهما أحكام عقلية باطنة لم تتح الظروف لها الخروج إلى حيز الواقع بسبب استقباحها من النفس المصابة ذاتها بالاستلاب، فتأخذ طريقها إلى أعماق النفس -اللاوعي- فيتشكل بعدها الروحي به. ولو توفر لهذين البعدين اللاوعيين الوقت للظهور والاقتران، لتشكل منهما حجم باطن لعقيدة داخل عقيدة الآدمي المصاب بهما؛ إذ كما يوجد عند الإنسان عقل باطن في اللاوعي، كذلك توجد عنده في البعض عقيدة اللاوعي، فهي بطن يغلف الحجم الظاهر للآدمي من الداخل دون وعي للآدمي بها، ولكنها حتمية في توجيهه بأحكامها، ولذلك فإنك إن نبهت الدوني لدونيته، أو الفوقي لفوقيته، فإنه ينكر ولا يرضى وربما يثور، ويتهمك بأنك تظلمه وتضطهده، أو أنك تعيش في عالم آخر لا تعلم بشيء مما يجري في دنياك.

3- حجم العقيدة وحالة النفاق:

وهي الحال التي يبدو بها الآدمي بحجمين لعقيدته؛ فالآدمي الذي سلك النفاق، إنما أبطن عقيدة الكفر في نفسه وأظهر الإيمان أو تظاهر به؛ ولذا فهو إنما يفعل ذلك عن وعي ومعرفة ومهارة ومكر، عكس الدوني أو الفوقي، فهما في حالة من العقيدة يصعب على النفس المبتلية بهما أن تكتشف دونيتها أو ترى فوقيتها، في حين يسهل على الناس الآخرين تشخيص الدوني أو الفوقي وبسرعة. أما النفاق فهو حالة في العقيدة يصعب على الناس اكتشافها في الذات المنافقة في حين تعرف هي بنفسها وبالضبط ما هي عليه، فهي نفس كافرة العقيدة، ومع كفرها خبث وتخطيط ومغالطة في العقيدة التي يظهرها.

4- عندما تصبح العقيدة لدى البعض واجهة!

قلنا ما دام هناك عقل باطن يسمى باللاوعي فإن هناك دوماً عقيدة تغلف من الداخل باطن العقيدة الظاهرة للنفوس قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (يوسف: 106) لأن كثيراً من النفوس يلتبس فيها مضمون الحسن ومعناه بمضمون المنفعة الفردية، فلا ترى تلك النفوس معنىً للعقيدة إلا من خلال منفعتها الشخصية، إن مثل هذه النفوس إذا نمى فيها الحجم الباطن للعقيدة التي استقرت وتوجهت فيها بمعاني الانتفاع من العقيدة الظاهرة، ففي هذه الحالة تصير العقيدة الظاهرة لتلك النفوس واجهة، القصد منها تحقيق المنافع. والآدمي من خلال العمل الواجهي في العقيدة يصير مأجوراً لأنانيته، وفي الدين يصير لا معنى لقصد القربى عنده لله تعالى، وإن كان يقولها، بل المعنى هو قصد النفع، وهو ما تعنيه الآية المباركة: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، فالنفس النفعية إذا أحبت العقيدة التي تظهرها، دافعت عنها، إنما تحبها وتدافع عنها متوجهة من اللاوعي حيث تستقر المنفعة. والفرق بين النفاق والعمل الواجهي في العقيدة، هو أن المنافق يكره العقيدة التي يظهرها ويحاول محو آثارها، أما النفعي فإنه يستميت في حب ما يظهره من العقيدة ما دامت تحقق له نفعاً في حياته، لكن في حالة تعارض منفعته ومصالحه يوماً ما مع مضامين تشريعاتها، بانت حقيقته، وتصرف بغباء واضح وألقى اللوم على الآخرين واتهمهم بأنهم أعداء الله وأعداء الدين، أما المنافق الذي يتصرف بذكائه ومهارته، فإنه إذا اكتشف يجد مخرجاً غير هذا وبلباقة، والسبب هو أن المنافق يتصرف بالفعل الظاهر، أما النفعي فإنه يتصرف باللاوعي الذي يصعب على النفس ذاتها إدراكه، وفي حين يكون واضحاً للآخرين، لأنهم مراقبون مستقلون خارجون على ذات غيرهم. وفي الوقت الذي يكون فيه المنافق خطراً على الأمة كلها، يكون النفعي، كذلك خطراً على ذاته، إلا إذا توحدت النفوس على المنفعة في مجتمع ما، فإن الخطر يعم والعياذ بالله. إذاً ليكن حجم العقيدة بأبعاده الثلاثة في نفس كل منا بسيط غير مركب بعقائد باطنة من الدونية والفوقية والنفعية، عن طريق صدق النية بقصد القربى إلى الله تعالى دون ضميمة، والإصرار بمراقبة النفس، بالتزام ذلك في كل ما يصدر عنها، مع التزام حسن الظن بالله وحسن التوكل عليه... ثم لننمي بعدها ذلك الحجم بمحبة محمد وآله (ع) وبغض أعدائهم والتزام سيرتهم بعد معرفتها وتمحيصها والله تعالى ولي التوفيق.

الهـــوامـــش:

(1) نهج البلاغة: الجزء الرابع ص50.

(2) المصدر السابق: ص36.

(3) المصدر السابق: ص7.

(4) المصدر السابق: ص9.

(5) نهج البلاغة: محمد عبده ج4 ص36.

(6) أخرجه الزبير في الموفقيات عن المطرف بن المغيرة بن شعبة في كتاب محمد بن عقيل بن عبد الله العلوي (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية) ص/123.

(7) جاء في كتاب (استتابة المرتدين والمعاندين) (النص والاجتهاد) ج4 ص235 وأخرجها البخاري في صحيحه عن عوانه عن حصين، وفي (تفسير الجلالين) بهامش أسباب النزول للسيوطي.

(8) نهج البلاغة: محمد عبده ج4 ص50.

(9) نهج البلاغة: محمد عبده ج4 ص29.