nba

 

الاقتصاد الإسلامي في حكومة الرسول(ص)

 

 

محـــمد آدم

إن النظام الاقتصادي في حكومة الرسول(ص) هو نظام منفرد متميز متكامل لا يماثله أي نظام قديم أو مستحدث لأنه نظام كامل لا نقص فيه، وهو من إبداع خالق البشر.

لا تناقض بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة في نظر الإسلام، لأن الدولة في التشريع الإسلامي جهاز يكفل تنظيم المجتمع وحمايته، وتوزيع الأدوار على الأفراد ليقوم كل واحد منهم بما يلزم في حياة الأفراد والجماعة من حقوق وواجبات في حدود مبادئ الشريعة، وقواعدها وأحكامها الخالدة التي لا تتوفر القيم الإنسانية الحقة إلا في ظلالها. والدولة في الإسلام ليست دولة الأكثرية أو الأقلية أو الطبقة العاملة أو النبلاء، إذ إن نظام الحكم في الإسلام هو فوق القوميات والعصبيات الجاهلية، وفوق التكتل على أساس روابط العرق واللون أو الطائفية.

نزل القرآن، فكان كتاباً لا ريب فيه هدى للمتقين، وما فرط فيه من شيء، أنزل لتدبر آياته فما كان من أحكامه مجملاً، كان لا بد من الرجوع إلى بيان من أنزل إليه الذكر ليبين للناس ما أنزل إليهم فقد أمرنا بطاعته لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر: 7). (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب: 7).

فكان على رسول الله (ص) أن يبين منه ما كان مجملاً، وأن يفسر ما كان منه مشكلاً، وأن يحقق ما كان منه محتملا، فإذا أنشأ حكما سكت القرآن عن تشريعه، وجبت علينا الطاعة فيه، وما يتنازع فيه وجب رده إلى الله والرسول.

كان نظام الحكم في الإسلام وكذلك الجانب الاقتصادي في حكومة الرسول (ص) يقوم على النص الإلهي في القرآن الكريم فإن الرسول (ص) لا يصدر تشريعاً أو سنة إلا في إطار التخطيط الرباني. فالقرآن هو الأصل (الدستور) والسنة (يقصد بها ما صدر عن الرسول(ص) من قول أو فعل أو تقرير فيكون هذا تشريعاً)، وهكذا كانت السنة بمثابة ما يدعى اليوم بالقوانين. وقد اشتملت حكومة الرسول (ص) في الجانب الاقتصادي على الأحكام العامة وأحكام الصدقات والإنفاق والزكاة والفيء والخمس والخراج والجزية والحسبة والموازنة بين نفقات الدولة ومواردها وغير ذلك.

الملكية ومصادرها وواجباتها في الإسلام

في ملكية المال في الاقتصاد الإسلامي:

إن المُلك لا يعتبر مُلكاً إلا بتداول الناس له، لذلك كانت علاقته بالإنسان هي التي تعطيه خواصه المالية والشرعية، وقد قرر الشارع الإسلامي تلك العلاقة ورتب عليها ثمراتها ونتائجها، وهي معنى نسبي بغرض تعيين النسبة والعلاقة بين المال والإنسان.

وقد عرّفه الفقهاء بتعريفات كثيرة متقاربة في مداها، ومن هذه التعريفات قولهم: (إن الملك هو تمكن الإنسان شرعا بنفسه أو نيابة عنه من الانتفاع بالعين، ومن أخذه العوض أو تمكنه من الانتفاع خاصة) (1).

وهذا التعريف واضح فهو يبين أن الملك هو التمكن من الانتفاع، ولكن ذلك التمكن لا يكون إلا بسلطان من الشارع المقدس، فالشارع في الحقيقة هو الذي أعطى الإنسان الملك بترتيبه على السبب الشرعي.

وعلى هذا الأساس فإن الملكية لا تثبت إلا بإثبات الشارع المقدس وتقريره وهذا أمر متفق عليه بين فقهاء الإسلام، لأن الحقوق كلها، ومنها حق الملكية، لا تثبت إلا بإثبات الشارع لها، وتقريره لأسبابها، فالحق ليس ناشئاً عن طبائع الأشياء، ولكنه ناشئ عن إذن الشارع المقدس وجعله السبب منتجاً عن مسببه شرعاً.

فالملك أو الملكية؛ هو العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمال وجعله مختصاً به بحيث يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعاً وفي الحدود التي بيّنها الشرع الحكيم.

أنواع الملكية في الإسلام:

الإسلام يقرّ بجميع أنواع الملكية المعروفة؛ ولكن بشروطها التي أوضحها الشرع، فيقرّ الملكية الفردية، وهي التي تتصل بفرد معين لا يشاركه فيها غيره، أو بأفراد معينين بالذات يملكونها شراكة بينهم عن طريق الشيوع بأنصبة، يكون المالك فيها شخصاً معنوياً متمثلاً في هيئة أو جمعية أو أسرة.

ويقر أيضاً الملكية الجماعية العامة الواسعة النطاق، ولهذا النوع من الملكيات مظاهر:

أحدها يشمل الأمور التي لا يجوز للأفراد ولا للهيئات احتجازها، بل يجب تركها شائعة لجميع أفراد المجتمع بوصفها ضرورية لهم جميعاً، وقد ذكر الرسول (ص) منها ثلاثة أشياء (الماء والكلأ والنار) فقال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار) (2)، واختصّ هذه الأشياء لأنها كانت ضرورية للحياة الاجتماعية في تلك البيئة العربية، والضروريات في حياة الجماعة تختلف من بيئة لأخرى ومن عصر لآخر.

والمظهر الآخر للملكية يتمثل في ملكية الدولة لجميع ما يشتمل عليه سطح أرضها وباطنها من أشياء لا تشملها الملكيات الأخرى، ولجميع ما يصل إلى بيت المال من ضرائب وخراج وجزية وزكاة وخمس وأموال مصادرة وأموال لا وارث لها، وعدّت ملكية الدولة من الملكيات العامة لأن جميع ما تملكه الدولة يعود نفعه على المجتمع ويوجه في الصالح العام.

قابلية الأموال للتملك والتمليك:

المال بطبيعته محل لأن يملكه الإنسان، لكن الأموال من حيث قابليتها للتملك والتمليك شرعاً تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما لا يجوز تمليكه ولا تملكه؛ وهذا يشمل المحال التي أعدت لحفظ الحدود، والثغور من قلاع وحصون، وما يتصل بذلك من المعدات اللازمة لها، ويشمل أيضاً ما جعل للمنافع العامة كالطرق والشوارع والقناطر، والجسور ونحو ذلك.

الثاني: ما يمتنع فيه التمليك والتملك إلا إذا وجد مسوغ شرعي لذلك؛ وهذا يشمل العقارات الموقوفة، والأرض التابعة لبيت المال، (فلا يجوز بيع الوقف إلا بمسوغ شرعي كما لا يجوز لولي الأمر أن يتصرف في بيت المال إلا إذا قضت بذلك المصلحة الراجحة أو الضرورية، فإن أموال بيت المال تحت يد ولي الأمر كأموال اليتيم تحت يد الوصي) (3).

الثالث: ما يجوز فيه التمليك والتملك مطلقاً وهو ما عدا القسمين الأولين؛ ومن ذلك الأراضي الزراعية، وأراضي البناء وسائر الأموال المحترمة شرعاً.

وضع الملكية في تعاليم الإسلام الاقتصادية:

من المعلوم أن تعاليم الإسلام الاقتصادية لم يؤت بها منعزلة عن غيرها من التعاليم، بل كان دائماً يربط بينها وبين تعاليم خلقية عقائدية تستقر في وجدان المسلم، وتجعله يذعن للتعاليم الاقتصادية إذعاناً منبعثاً من وحي الضمير عن طواعية واختيار، ثم يشفعها بتعاليم تجيز لولي الأمر أن يتدخل بسلطانه إذا اقتضت ظروف المجتمع تدخله لضمان نفوذها، وهذه سنة الإسلام في بناء المجتمع وتنظيم شؤونه، وهو يسلط على تنظيمه لملكية المال تعاليمه الخلقية والقضائية، فيجعل منه نظاماً فريداً في بابه، فالتعاليم الخلقية للإقناع وضمان التلبية والإتباع عن طواعية واختيار، وتعاليم السلطة لإجبار من يأبى الانقياد للنظام المفروض أو ينحرف عن الطريق المسنون.. ويهدف ذلك إلى صياغة المجتمع في قالب هيئة تعاونية تتوازن فيها بالعدل جميع المصالح المتضاربة، والنزعات المتنافرة توازناً قويماً ومستقيماً.

عقيدة الاستخلاف وأثرها في وضع الملكية:

هذه العقيدة تقرر أن كل شيء في الوجود إنما هو ملك لله تعالى خالقه وخالق السماوات والأرض وما بينهما، وإن الإنسان فيما لديه من مال إنما هو حائز لوديعة أودعها الله بين يديه، فالله وحده الذي له ملك السماوات والأرض، هو مالك المال كله سواء تمثل هذا المال فيما يسميه الاقتصاديون سلعاً اقتصادية أي سلعاً ذات قيمة تبادلية بين الناس أو دور وعقارات وأموال منقولة ونحوها.. أما التمييز القائم على أساس القدرة فهو تمييز من صنع البشر.

(والإنسان هو خليفة الله في الأرض أمره خالقه بالانتفاع بهذا المال في صورتيه، ومكنه من هذا الانتفاع منسجماً مع مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، ومصلحة الإنسانية جميعاً بوجه عام، وسوف يحاسب عن ذلك يوم الحساب) (4).

وقد غرست الآيات القرآنية الكريمة، هذه العقيدة في وجدان المسلم المؤمن إيماناً صادقاً، ونذكر بعض الآيات لبيان هذه المعاني الشريفة فقد قال الله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض، واستعمركم فيها) (هود/61)، وقال: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة/30)، وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) (الأنعام/165).

فالله جلّ شأنه استخلف البشر في الأرض وسخر لهم ما في السماوات والأرض جميعاً، وألزمهم أن يتبعوا هداه، وأن يطيعوا أمره وينتهوا بنهيه، ومقتضى ذلك أن الاستخلاف في الأرض رتب للبشر حقوقاً وألزمهم بواجبات، ونصوص القرآن الكريم جاءت قاطعة في أن الله مالك السماوات والأرض وما بينهما، فقال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) (البقرة/29)، وقال (لله ملك السماوات والأرض وما بينهما) (المائدة/17)، وقال: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه/6).

فهذه المواد الكونية المخلوقة لله والمملوكة له قد سخرها للإنسان وهيأ له استغلالها واستثمارها فقال تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نِعَمَه ظاهرة وباطنة) (لقمان/20).

فعقيدة الاستخلاف تجعل المؤمن يحسّ دائماً (إن الله خالق هذا الكون ومالكه الأصلي، والمال الذي في أيدي البشر هو مال الله وهم فيه خلفاء لا أصلاء) (5)، قال الله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد/7)، وقال تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور/33)، وقال: (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) (الطلاق/7)، ففي مثل هذه الآيات ونحوها نسبت ملكية المال إلى الله، وفي آيات أخرى نسبت ملكية المال إلى الأفراد أو الجماعة مثل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (البقرة: 187)، وقوله: (خذ من أموالهم صدقة) (التوبة/103)، وقوله: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات/19)، فهذه الآيات نسبت ملكية المال إلى البشر.

فهل يوجد تناقض بين النسبتين أو الإضافتين؟!

قد يبدو أن هناك تناقضاً بين نسبة ملكية المال إلى الله تارة وإلى الجماعة تارة أخرى ولكن هذا التناقض الظاهري يزول وينتفي عندما نعرف المقاصد الشرعية والحكمة الإلهية من هذا الازدواج في نسبة المال إلى الله وإلى البشر.

قبل الكلام عن مقاصد الشريعة في نسبة المال نقول أن الملكية الفردية أو الملكية الخاصة لم تكن بدعاً في شريعة الإسلام، بل كانت مصاحبة لوجود الإنسان، وكل الشعوب والأمم السابقة عرفت نظام الملكية الخاصة مثل بني إسرائيل، والرومان واليونان والعرب قبل الإسلام وغيرها من أمم الأرض..

ولعل السبب في هذا الاتفاق أن الملكية لها علاقة قوية بفطرة الإنسان وغرائزه وميوله.

وعندما جاء الإسلام أقر نظام الملكية، ولكنه أعطى نظام التملك مفهوماً، وهو مفهوم الخلافة الذي سبق ذكره، وأضفى على الملكية طابع الوكالة التي تجعل من المالك أميناً على الثروة ووكيلاً من قبل الله المالك الأصيل لهذا الكون وجميع ما يحتويه من ثروات، وهذا التصور لجوهر الملكية متى ما تركز وسيطر على ذهنية المالك أصبح قوة موجهة في مجال السلوك وقيداً صارماً يفرض على المالك التزام فرائض الله وحدوده المرسومة في سياسة المال، كما يلزم الوكيل دائماً بإرادة الموكل المستخلف.

وإذا كانت ملكية المال هي محور النشاط الاقتصادي في كل أمة وفي كل جماعة كان لزاماً على الإسلام وهو خاتم الأديان والرسالات أن تمتد ظلال تعاليمه الاقتصادية إلى تنظيم ملكية المال وتنظيم وسائل كسبه وتنميته، وإنفاقه. لأنه جاء بعد انحراف اليهودية نحو المادية القاتلة، أو بعد تحريف تعاليم المسيحية، فلابد له من إصلاح هذا الانحراف بربط القيم المادية بالقيم الأخلاقية؛ فمفهوم الخلافة هو إذاً موجه ومحرك كقوة فعالة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وعندما يهتدي المسلم بهذه التعاليم الخلقية تتحدد مشاعره ويتوجه نشاطه وفقاً لها.

مسلك الإسلام في تأكيد هذا المبدأ:

سلك الإسلام مسالك عديدة في سبيل غرس هذا المبدأ منها:

الأول: إشعار الناس بأن المال مال الله لأنه مالك لجميع ما في الكون، وفي هذا الشأن وردت آيات تفوق الحصر وتقدمت الإشارة إلى ذلك.

الثاني: إشعارهم بأنه سخّر هذا المال وكل ما في الكون لمصلحتهم ومنافعهم منّة منه عليهم كنعم ظاهرة وباطنة.

الثالث: بعد إضافة الملكية الحقيقية إليه أعلمهم بأنهم قد صاروا خلفاء له، فقال (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا) (فاطر/39)، ومن لوازم هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسؤولاً بين يدي من استخلفه خاضعاً لرقابته في جميع تصرفاته وأعماله، وعلى هذا الأساس يستشعر الفرد والجماعة المسؤولية في تصرفاتهم المالية أمام الله لأنه المالك الحقيقي لجميع الأموال، وقد أمر الجماعة أن تحجر على الفرد إذا لم يكن أهلاً للتصرف الحكيم في ماله لصغره أو سفهه ونحو ذلك.

الرابع: تجريد الملكية من كل الامتيازات المعنوية التي اقترنت بها على مرّ الزمن، فهي في نظر الإسلام ليست مقياساً للاحترام والتقدير في المجتمع لأنه لا مقياس غير التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (6).

الخامس: محاربة الغائية؛ قد تقدم أن المال ليس بغاية في ذاته بل إنه وسيلة لتحقيق مصالح الدنيا والآخرة للإنسان، فالإسلام يحارب هذه الغائية، وقد قال رسول الله (ص): (ليس لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، وتصدقت فأبقيت) (7).

وبهذا المسلك جعل الإسلام الملكية في نسبة مزدوجة تضاف إلى الله تارة، وإلى البشر تارة أخرى فنسبتها إلى الله عن طريق الإضافة الحقيقية، وإلى البشر مجازية، ولا تناقض بين النسبتين.

المصالح الشرعية من هذا الازدواج في نسبة الملكية:

المقصد الأول: هو أن إضافة ملكية المال إلى الخالق جلّ شأنه فيها ضمان وجداني لتوجيه المال إلى نفع عباده الذي خلق لأجلهم، وإن إضافة ملكية المال إلى البشر فيه ضمان يماثله في توجيه المالك إلى الانتفاع بما يملكه من مال في الحدود التي رسمها الله للإنسان في علاقته بالمال، فهذه الإضافة لم يقصد بها إلا الانتفاع بالمال بكل ما يقتضيه هذا الانتفاع من حق التصرف، وحق الاستهلاك، وحق الاستثمار، وقد أضاف القرآن الكريم أيضاً أموال السفهاء إلى أوليائهم في قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) (النساء/5)، لا لأنهم مالكوها حقيقة بل لأنهم لهم التصرف فيها على وجوهها الشرعية.

المقصد الثاني: إن الإسلام هو دين المسؤولية، فقد قال الله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) (المدثر/38)، وقال: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (فاطر/18)، وقال: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) (الإسراء/13). لذلك كان الإسلام لا يقبل أن تكون مسؤولية البشر عن المال الذي سخره الله لهم وأودعه بين أيديهم مسؤولية مطلقة غير محدودة، فعمد إلى إقرار الملكية الفردية ليسأل كل فرد في الحصة التي بين يديه من مال عن حق الجماعة فيها، وعن طريقة كسبها وإنفاقها ثم جعل ولي الأمر مسؤولاً عن حق الجماعة فيما خص الأفراد من المال، وليستعمل حقه هذا فيما تمليه مصلحة الجماعة، وما تفرضه ضروريات الحياة المشتركة، وهذه النسبة تجعل من البشر المستخلف وكيلاً، والوكيل لابد له من أن يرعى مقاصد الموكل، والخليفة لابد من أن يلاحظ في تصرفاته توجيهات المستخلف، وهذا يجعل المؤمن المسلم بعيداً عن مزالق الطغيان بسبب المال كما فعل قارون وأقرانه.

المقصد الثالث: هو أن الإسلام لما كان دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها وكانت فطرة الإنسان تتوق إلى تملك المال وتحبه حباً جماً، كان لابد لشريعة الإسلام أن تقضي بربط بعض المال على آحاد الناس حتى تنطلق غريزتهم من كبت الحرمان، وحتى يندفع نشاطهم إلى استثمار المال الذي في حوزتهم وتنميته، وفي هذا نفع مشترك لهم وللمجتمع على السواء، كما قضت شريعة الإسلام في أموال أخرى بعدم ربطها على آحاد الناس كضرورات الحياة كما تقدم في الحديث الشريف: (الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار)، ويلحق بهذه غيرها.

(فتقرير حق الملكية الفردية يحقق العدالة بين الجهد والجزاء للجميع أفراداً وجماعة وهو يساير الفطرة، ويتفق مع مصلحة الجماعة، بإغراء الفرد على بذل أقصى جهده وطاقته لتنمية الحياة الاقتصادية) (8).

وبهذا استطاع الإسلام تحويل المجتمع الجاهلي من مرابين جشعين إلى مسلمين خيرين، يتسابقون ويتنافسون في كسب الأموال لإنفاقها في أوجه الخير ومصالح المسلمين تقرباً إلى الله وابتغاء لمرضاته لأنه المالك الأصيل للمال.

وفي هذا يختلف الإسلام عن الماركسية التي لا تعترف بالملكية الخاصة في مصادر الإنتاج، فهي تتعارض مع غريزة الإنسان الفطرية في حب التملك، وتتجاهل حافزاً فطرياً في توجيه النشاط الاقتصادي، وله أثره وخطره في تطوير الحياة الاقتصادية في مجال الإنتاج كماً ونوعاً.

كما يختلف نظام الملكية في الإسلام عن نظيره في الاقتصاد الرأسمالي الغربي حيث يكون للمالك في ملكيته السلطان المطلق بغير أي قيد عليه (أما الإسلام فإنه يقرر طائفة من التكاليف والالتزامات على المالك لمصلحة المجتمع) (9)، وهذه التكاليف قابلة للقبض والبسط فتضيق وتتسع على حسب الضرورات المحيطة بالمجتمع الذي يحيى فيه المالك، وتنفذ هذه التكاليف بواسطة الوازع الإيماني أو بواسطة الوازع السلطاني، أو بمعنى آخر إما بواسطة التعاليم الخلقية أو التعاليم الحكومية.

هذا هو وضع الملكية في نظام الإسلام الاقتصادي، وهي بذلك تختلف كل الاختلاف عن وضعها في الأنظمة السابقة والأنظمة المعاصرة، وبهذا الوضع الحكيم لملكية الأموال حقق الإسلام الأهداف المطلوبة من الأموال، فهو لم يهمل مصلحة الفرد ولم يتجاهل مصالح الجماعة، في وضع الأسس التي تعطي حق التملك.

أسباب التملك:

للتملك أسباب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: سبب منشئ للملك على الأعيان بعد أن لم يكن ثابتاً فيها، وهذا هو الاستيلاء على الأشياء المباحة ووضع اليد عليها، فإن الأِشياء المباحة قبل حيازتها ووضع اليد عليها لم تكن مملوكة لأحد، ولم يكن ثمة ملك واقع عليها، وبالاستيلاء تثبت الملكية لواضع اليد، وهي ملكية حادثة، وهذا سبب فعلي من أسباب الملكية.

الثاني: (أسباب تنقل الملكية من سلطان شخص إلى غيره، ويشمل ذلك العقود الناقلة للملكية؛ من بيع، وهبة، وصدقة، وخلع بالنسبة لبدله، ونكاح بالنسبة لمهره) (10)، ومن شأن هذا النوع من الأسباب أن تكون الأموال التي تنقل ملكيتها بسببها مشغولة بالملك قبلها، فإذا لم تكن مشغولة لا تنعقد سبباً للملك لأن مقتضاها بالنسبة للملك أن تنقله من حيز إلى حيز، وذلك لا يكون إلا إذا كان الملك ثابتاً أولاً قبل العقد.

ولذا لا يصح أن يكون فصل البيع مباحاً من المباحات قبل الاستيلاء عليها، وكذا بدل الخلع والمهر والهبة، لأن الملكية لم تكن ثابتة في المباح قبل هذه العقود فلم يكن ثمة نقل من مالك إلى مالك.

الثالث: من أسباب الملك هو خلافة الشخص لغيره في الملكية، وهذا يشمل الميراث والوصية، فإن الملك يصل إلى الوارث من المورث، ومن الموصي إلى الموصى له عن طريق الخلافة، لأن الوراث والموصى له لا يملكان إلا بعد وفاته، ووفاته شرط لنزع الملكية عنه، فالوارث يعتبر خليفة في مال مورثه، والموصى له يعتبر خليفة في نصيبه الذي أوصى له به المتوفى.

الحكمة من مشروعية نظام الإرث في الإسلام:

(الميراث في نظر الإسلام حق وعدل ومصلحة للأفراد والجماعة من حيث وجوه كثيرة) (11)، لأن نظام التوريث لا ينفصل عن نظام الأسرة، والأٍسرة دعامة من أكبر دعائم المجتمع، وهي منبت العواطف الإنسانية في المجتمع على اتساعه، وإن الصلة بين الآحاد في الأمة لا تغني عن وشائج اللحم والدم بين الأمهات والآباء، والأبناء والبنات، والأخوة وبني العمومة، والخؤولة، والصلة العاطفية بين الأفراد هي صلة النسب والقربى في هذه الخلية التي يتركب منها كل قبيل وكل جمهور كبير.

والمجتمع الذي يجعل العلاقة بين الوالد والولد كالعلاقة بين كل فرد منه وكل فرد آخر، أقل ما يقال فيه أنه مجتمع غير طبيعي وغير متماسك الأجزاء.

وللميراث جانب من العدل الطبيعي كما أنه له هذا الجانب من الحق والمصلحة، أما العدل الطبيعي فإن الولد يأخذ من أبويه ما حسن وما قبح من الصفات والطبائع، ويأخذ منهما ما فيهما من الاستعداد للمرض والخلائق المرذولة، وليس في وسع الأمة أن تحميه من هذه الوراثة الطبيعية التي لا تفارقه من حياته إلى مماته، فليس من العدل أن تدع له هذا الميراث، وتنزع منه ميراث المال، وهو مفضل فيه على غيره لأنه قد يحمل الاسم والرسم بالنسبة لأبويه، هذا بجانب أن الوالد يرى في أولاده امتداداً لحياته واستمرارها في شكلهم واسمهم المقرون باسمه لأنهم جزء منه والجزء فيه معنى الكل، وهذا الإحساس يولد الدوافع المجبولة في الآباء فيعمل بغاية ما يستطيع حيث يعمل للأسرة وينظر إلى توريث أبنائه، ولا يكتفي من العمل بأدنى حدود الكفاية أو بأيسر ما يتيسر في حدود الطاقة البدنية والذهنية، فيعمل أضعاف ما يعمل، ويفكر أضعاف ما يفكر ويحس أضعاف ما يحسه، هذا في مجال الإنتاج وفيه مصلحة للمجتمع بأسره لأن المجتمع الذي يحظى بطاقات أفراده الحقيقية هو مجتمع متوفر الإنتاج.

أما في مجال الادخار فإن الوالد يحرص كل الحرص على أن يبقي لأولاده شيئاً بعد مماته، فلا ينفق إلا بقدر الحياة، ولا يكون من المبذرين الذين هم إخوان الشياطين، وهذا الاعتدال في الإنفاق فيه ربح للحياة الإنسانية جمعاء.

هذا النظام أيضاً من أمثل النظم لتوزيع الثروات بين الناس، وذلك لأنه يقسم التركة على عدد كبير من أقرباء المتوفى فيوسع بذلك دائرة الانتفاع بها من جهة، ويحول من جهة أخرى دون تجمع ثروات كبيرة في يد فئة محدودة من الناس، فبفضل هذا النظام الحكيم لا تلبث الثروات الكبيرة التي يتفق تجمعها في يد بعض الأفراد أن تتوزع ملكيتها بعد فترة وجيزة على عدد كبير من الأنفس، وتتحول إلى ملكيات صغيرة، وهذه هي أمثلة طريفة لتقليل الفروق بين طبقات الناس، وتقريب بعضها من بعض ولحرص الإسلام على الوصول إلى هذه الأغراض حظر على الشخص أن يوصي لأحد ورثته بأكثر من حقه الشرعي، وحظّر عليه أن يوصي لغير ورثته بأكثر من ثلث التركة.

هذه هي بعض مظاهر الحكمة التشريعية لنظام الإرث في الإسلام، وهذا يختلف عن الأنظمة التي تحرم الأقرباء من الإرث أو تورث الابن الأكبر دون غيره، أو تورث الرجال دون النساء، أو تعطي المال على حسب الأهواء كميراث للكلاب والقطط، وهذا هو عين الضلال البشري.

ما تقدم هو صورة موجزة عن أسباب التملك، وهناك تفصيل لكل قسم ليس هذا محله، ومن يرد أن يعرف ذلك فليرجع إلى كتب الفقه الإسلامي، وخاصة كتاب السياسة المالية في الإسلام(12)، والمعاملات في الفقه الإسلامي.

ونظام الميراث الذي شرعه الإسلام يوافق حركة السعي والنشاط في الجماعات البشرية، ولا يعوقها عن التقدم الذي تستحقه بسعيها ونشاطها، بل يرجع إليه الفضل الأكبر فيما بلغته من الحضارة والارتقاء، والإسلام ينكر الميراث الذي يعوق التقدم ويحجر على العقول، ويقيم من العادات والتقاليد سداً منيعاً بين الإنسان وحرية الفكر والارتقاء، ولم ينكر القرآن الكريم شيئاً (كما أنكر الاحتجاج بالعادات الموروثة لمقاومة كل جديد مستحدث في غير تمييز ولا تبصر، ولا موازنة بين الجديد المستنكر والقديم المأثور، وكان أشد هذا الإنكار على المترفين الذين يتخذون من عراقة البيوت حجة للبقاء على ما ألفوه ودرجوا عليه) (13)، فقال الله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون * قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون). (الزخرف/23-24)، وقال تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)،( البقرة/170)، وقال جل وعلا: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون) (الأعراف/28).

فهذا النوع من التفكير حاربه الإسلام لأنه معوق عن التقدم والارتقاء البشري.

الواجبات المتعلقة بالملكية الخاصة:

(إن الإسلام يقرر أن العمل سبب أساسي للملكية وفقاً للميل الطبيعي الفطري في الإنسان إلى تملك نتائج عمله) (14)، لأن تملك الإنسان العامل للأموال التي أنتجها يعبر عن ميل فطري، وهو ميال إلى الاختصاص بنتائج عمله دون الآخرين؛ وقد تقدم بيان طرق العمل المشروعة وغير المشروعة لتنظيم الجهود والطاقات في اتجاهات فعالة وغير متضاربة، لأن تضارب القوى والطاقات يولد الضرر والضرار، والشرع يقول لا ضرر ولا ضرار، يعني لا تلحق الضرر بنفسك ولا تلحقه بالآخرين، أما نوعية الحقوق والقيود المتعلقة بذلك الاختصاص الذي نعبر عنه بالملكية الخاصة فلا تقدر وفقاً للميل الفطري، وإنما يقدرها النظام وفقاً لما يتبناه من مبادئ لتحقيق العدالة بين الناس وبمقتضى هذه المبادئ كلف الإسلام المالك بأداء واجبات مالية كحقوق للغير تتعلق بوجود المال، وإذا كان لكل فرد حق الانتفاع بما في يده من مال الله في الحدود التي بينها الله لعباده، فإن للغير أيضاً حقوقاً فرضها الله في هذا المال وأوجب على من بيده المال أن يقوم بها باعتباره مستخلفاً في مال الله. وهذه الواجبات تشمل إنفاق المال في الحاجات الإنسانية، ووجوب تنمية المال، والمنع من اتخاذ المال وسيلة للإضرار أو الإفساد بمصالح المجتمع سواء كان ذلك في مجال السياسة أو في مجال الأخلاق.

أما الإنفاق فمنه إنفاق الفريضة، وإنفاق التطوع، وإنفاق الفريضة هو ما يجب إنفاقه من المال، وما للحاكم أن يأخذه ليصرفه في مصارفه سواء رضي مالك المال أم لم يرض، أما إنفاق التطوع فهو ما ترك للمالك أن ينفقه هو دون أن يجبره على إنفاقه أحد، والإنفاق الواجب نوعان: 1- دائم. 2- طارئ.

فالدائم مثل الزكاة والخمس، والطارئ هو الإنفاق في إعلاء كلمة الله، والإنفاق على ذي الحاجة والضرر.

الموازنة بين نفقات الدولة ومواردها:

قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا) (الإسراء: 29). وقال تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا) (الإسراء: 26). وقال جل شأنه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (البقرة: 143).

سنوية الموازنة: موارد الدولة الإسلامية سنوية، فوجب أن تكون الموازنة مثلها.

وحدة الموازنة: تقضي قاعدة وحدة الموازنة إدراج جميع إيرادات المصالح العمومية وجميع نفقاتها في موازنة واحدة بحيث تكفي نظرة واحدة إلى هذه الوثيقة الوحيدة لمعرفة المركز الحقيقي لمالية الدولة. ويفهم من التخصيص الذي قام عليه النظام المالي في حكومة الرسول (ص) أنه كان لكل بيت من بيوت المال.. موارده ومصارفه، إلا أنه أجاز للبعض نقل المال من بيت إلى آخر، وربما أيد ذلك وحدة الميزانية.

عمومية الموازنة: وهي أن تشمل الموازنة كافة الإيرادات وكافة المصروفات دون خصم شيء منها، (وتوجب المبادئ الشرعية - ولكل دليله الشرعي - دفع الضرر وتقديمه على جلب المنافع وأن تقدر كل ضرورة بقدرها) (14) مما يوجب أن تكون النظرة شاملة إلى كافة نفقات الدولة في سنة ما، طالما أن الموارد سنوية. وقامت الموازنة الإسلامية في حكومة الرسول(ص) على قاعدة تخصيص الموارد لا لمصرف واحد بعينه، وإنما لنوع أو أنواع من المصارف فكانت وسطاً بين عدم التخصيص وبين رفضه إطلاقاً.

توازن الميزانية: ويوضحه قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) (الفرقان/67).

شرطان أساسيان لتحقيق الموازنة:

1- الصدق والعدالة. 2- الكفاية والصلاح في العمل.

الرقابة على تنفيذ الميزانية والاقتصاد- قانون الحسبة: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران/104)، فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من أعمال الحسبة.

الخاتمة:

تعتبر حكومة الرسول (ص) بأن ملكية وسائل الإنتاج بأشكالها العينية (أرض وثروات وأدوات) والنقدية (المال) لله تعالى، ويعتبر حائزها من الناس - فرداً أو مجموعة أو دولة - يد استخلاف لا يد ملك، وتقرر عقيدة الاستخلاف أن كل شيء في الوجود هو ملك لله تعالى خالقه وخالق السماوات والأرض وما بينهما، وأن الإنسان فيما لديه من مال إنما هو حائز لوديعة أودعها الله بين يديه، فالله وحده الذي له ملك السماوات والأرض هو مالك المال كله، والإنسان هو خليفة الله في الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.. ) (البقرة/30). فالله سبحانه استخلف البشر في الأرض وسخر ما في السماوات والأرض جميعاً لهم.

(فالمال الذي في أيدينا هو ملكنا على التجوز لا على الحقيقة) (15) (قل أئنكم تكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين) (فصلت/9)، فالملك ملك الله سبحانه، ملك له بحق الخلق والإيجاد لا بحق البيع والشراء أو الميراث أو وضع اليد كما في قوله تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) (الأعراف/128)، فالله سبحانه هو الذي خلق الأرض وما فيها وخلقنا فيها ودعانا جميعاً لنأكل منها (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) (البقرة/168)، فالله سبحانه ينسب لنفسه أنه هو الذي أحيا الأرض، وينسب لنفسه أنه هو الذي أخرج منها الحبّ، أما نحن فمهمتنا أن نأكل ونستهلك ونكدح ونعمّر ونستثمر، فإذا جاء الشرع يقرر أن المال مال الله، فهي قضية قائمة على أسس اقتصادية واقعية سليمة، وإذا جاء المستهلكون يضعون أيديهم على هذه الثروات باسم العمل، فإنهم يضعون أيديهم على مال الله.

وإذا كان حق العمل يمنح الإنسان هذه الملكية فهي ملكية عارضة وطارئة، لا تنسخ أبداً ملكية الله، وهي (ملكية الإنسان) ملكية أشبه ما تكون بملكية الرجل المنتفع بأرض حكر، يضع يده عليها، أو يبني فوقها ما يشاء من مسكن أو مصنع أو متجر، أو ينتفع بها على أي وجه يريد، دون أن ينسخ ذلك ملكية المالك الأصلي أو ينقص من حقوقه.

والله سبحانه هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة، ولو شاء لانتزعها منه كما في قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) (الأنعام/133).

وخلاصة القول: إن الخلافة تضفي طابع الوكالة على الملكية الخاصة وتجعل من المالك أميناً على الثروة، ووكيلاً عليها من قبل الله تعالى الذي يملك الكون وجميع ما يضم من ثروات.

إن الرسول (ص) أرسى أساساً للناس عاماً من خلال القرآن الكريم بما يؤمن اقتصاداً إسلامياً أخلاقياً واجتماعياً عادلاً لمصلحة الجميع، وفيه مرضاة لله سبحانه وتعالى.

المصـــادر:

(1) عبقرية الاقتصاد الإسلامي: أحمد محمد جمال.

(2) الكافي - الكليني.

(3) تهذيب الأحكام: الطوسي.

(4) الحلال والحرام: الشيخ يوسف القرضاوي.

(5) الاقتصاد: آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

(6) من لا يحضره الفقيه: القمي.

(7) الاستبصار: الطوسي.

(8) النظام الاقتصادي في الإسلام: الشيخ محمد الخضري.

(9) المسلم في عالم الاقتصاد: مالك بن نبي.

(10) محاضرات في الاقتصاد الإسلامي: الشيخ محمد الخضري.

(11) دراسات في الاقتصاد الإسلامي: عيسى عبده.

(12) تاريخ الإسلام السياسي: د.حسن إبراهيم حسن.

(13) الإسلام والأوضاع الاقتصادية: محمد الغزالي.

(14) نظام العمل في الإسلام: جمال الدين عباد.

(15) اقتصادنا: السيد محمد باقر الصدر (قدس سره).