nba

 

عالمية الإسلام بين وعي الذات.. وإنضاج الخصوصية

 

 

 

مصطفى السادة(*)         

[email protected] 

إن الدعوة إلى الإسلام والتبليغ له لم يكن يوماً منبعثاً من مفهوم نفعي يعود على الفرد أو الجهة بمصلحة مادية أو مصالح أخرى؛ كما هو حال بعض الدعوات الجهوية أو الفئوية التي قد يقوم بها البعض.

وإنما هي قائمة في الأساس على هدفية العمل لفرض مساعدة الإنسان في هذا العالم على الخروج من حيرته التي أقسر على الدخول فيها، وتخليصه مما علق به من الأغلال والقيود الصنمية المادية وغيرها كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(الأعراف/157).

وهذا اللون من العمل وبذل الجهد في سبيل ذلك ناشئ من الإحساس بالمسؤولية والأمانة الملقاة على عواتق العارفين بمبدأ ومصير هذا العالم الذي نعيش فيه، بيد أنه قد يقيد البعض -متعذراً بحرية الإنسان في الاختيار-. أن التبليغ للدين الإسلامي فيه نوع من القسر والإكراه للآخر على الدخول إلى حظيرة الإسلام، مما يعود بالنفع الشخصي والغرض المادي على الجهة التي تمارس مسؤولية وشرف الدعوة والتبليغ، والحال أن الدعوة إلى الإسلام هي دعوة خالصة لله تعالى خالق الإنسان وما حوله، وتقوم على أساس الالتزام بالتكليف الشرعي الذي يجب أن يلتزم به كل مسلم قادر على ممارسة هذا الدور الرسالي المهم، ويبذل جهده في سبيل هداية البشرية إلى الثابت الذي لا يزول -أعني الحق- وعلى أصول النظرة الكونية لهذا الدين التي هي الباعث على ضرورة قيام العلاقة والارتباط بين الإنسان وبين هذا الدين أو ذاك المبدأ أو الاتجاه.

ولأجل ذلك يقسم علماء المعقول الحكمة إلى قسمين حكمة نظرية وتهتم بفهم الكون كما هو كائن، وحكمة عملية تهتم بتفسير وفهم السلوك الحياتي للأعيان وكيف ينبغي أن يكون وهذا الفهم -الثاني- هو نتيجة منطقية وطبيعية لما هو كائن، وبالعودة إلى الجانب النظري من

الحكمة - النظرة الكونية- نجد أن النظرة الإسلامية للعالم تقوم على تحفيز الإنسان للاستجابة إلى الرسالة السمحاء (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (الأنفال/24)، بعيداً عن مظاهر القسر والإكراه العقيدي التي طرحها الإسلام بأتم صورة وبطريقة تختلف عما طرحته النظرة العلمية للمفهوم العام وهي نظرة غير قادرة على إيجاد فهم حقيقي ومتكامل يعم الكون والحياة، لأن المفهوم العلمي يقوم على أساس الفرض والتجربة المخبرية، ولا يعترف بالجانب الغيبي لهذا العالم، كما أن النظرة الإسلامية تختلف عن المفهوم الفلسفي القديم القائم على أساس الثنائية والتعدد، وإن كان يستند على الإجابة عن التساؤلات المرتبطة بالوجود بما هو موجود(1).

وجوهر الاختلاف بين نظرة الإسلام للكون وغيرها من النظرات في حيثية الثبات والخلود والعموم والشمول وقداسة المبادئ(2) وخلق الإيمان والاطمئنان المطور للإنسان معنوياً.

ومن خلال هذا العرض نستطيع التوصل إلى عدة حقائق:

1- إن النظرة الإسلامية للكون تقوم على أساس التوحيد العميق للخالق كما في قوله تعالى( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)(الأنبياء/22)، وقوله تعالى(قل هو الله أحد... ) (الإخلاص/1) حيث نفي التعددية، وهذا المقام يستلزم كون الحق تعالى غنياً وغير محتاج لأحد؛ قال الله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (فاطر/15)، وإنه على كل شيء قدير ومحيط بما خلق ( إنه بكل شيء عليم) (الشورى/12)، وهذه الصفات جميعها تلخصها آية(ليس كمثله شيء) ولأنه قادر على كل شيء فقد خلق العالم وما فيه، بيد أنه لم يخلقه عبثاً ( أفحسبتم إنا خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) (المؤمنون/115)، فجعل خلقهم هدفياً، وأهدافه سامية تتمثل في استخلاف الإنسان في الأرض( يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض) (ص/26)، وقوله تعالى: ( وهو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود/61)، وهذه الخلافة بهدف العمارة وتحقيق العبادة التي هي غاية الغايات ( وما خلقت الأنس والجن إلا ليعبدون) (الذاريات/56).

2- إن النظرة الإسلامية إنما تنشد الأصالة والحقيقة ولأجل الوصول إلى ذلك نجد الإسلام يقدم كل الوسائل الموصلة إلى الحقيقة، فهو يشجع على المسألة الحوارية ويؤمن بالذهاب فيها بعمق باعتبارها طريق الوصول إلى الحقيقة كما في قوله تعالى ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما) ) (المجادلة/1)، وقوله تعالى: ( وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل/15)، وإن كان يفرض ضوابط للحوار : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (العنكبوت/46)، وقوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) (الحج/8).

3- البعث نحو الإيمان العميق الناتج عن القناعة التامة بعيداً عن الإكراه وعقيدة الجبر (لا إكراه في الدين)(البقرة/256)، وقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات/14).

ويرفض الإسلام الإيمان التبعي عن طريق التقليد الأعمى والخضوع لرغبة الغير - الأبوان والمجتمع - وقد تحدث القرآن عن هذه الظاهرة وصنفها كظاهرة سلبية لا ينبغي أن تنمو في الوسط الإسلامي (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (الزخرف/22)، وفي صدد الرَّد على هذه الظاهرة يقول القرآن: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (البقرة/170).

ويطلب الدين البحث عن الحقيقة مهما تكلّف الإنسان في سبيل ذلك وفي سبيل الوصول إلى الثابت المنشود؛ ولذا لم يقبل علماء المسلمين التقليد والاقتداء بالغير في عقائد الدين والإيمان بها دون دليل(3)، وقد يلتمس العذر لمن يبحث عن الحقيقة ويبذل جهده في سبيل الوصول إليها حتى مع عدم الوصول.

الحقيقة، المنشود الأول:

ويمكن القول وبضرس قاطع، إن الحقيقة يتوجب أن تكون المنشود الأول في سلم أولويات الإنسان الحياتية، كما تشير إلى ذلك آيات وروايات عديدة وكما في قوله تعالى: (فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونّن من القوم الضالين) (الأنعام/76-77)، ومن قول الرسول (ص) نكتفي بقوله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). بناء على أن المقصود من العلم هنا الحقيقة، والحقيقة المطلقة هي الله تعالى( فذلكم الله ربكم الحق) (يونس/32)، وقوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) (الأنعام/62)، وخلق كل شيء على أساس الحق(وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق) (الأنعام/73)، وأرسل الرسل بالحق: (إنا أرسلناك بالحق مبشراً ونذيرا) (البقرة/119)، وجعل الحق محور ومرتكز هذا الكون بأسره والرسالة الإسلامية ومحورها الحق وإنقاذ الإنسان، ولذا ركزت على الإنسان هذا الوجود الكوني الذي لم تعرف عنه الأيديولوجية الأرضية إلا جانباً واحداً، ذلك هو الوجود الموضوعي بهدف السيطرة على الطبيعة وامتطائها للسيطرة على الأرض والسماء وذلك على حساب النظرة الكونية الشاملة(4).

وقد ولّدت هذه النظرية القصيرة أيديولوجية الصراع ومحاولة السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الأغراض المادية للإنسان المستعمر، وأصبحت هي النشاط الحيوي لإنسان هذا القرن ويكفينا للتدليل على ذلك أن نلقي نظرة على الصراعات العالمية الكبرى لنعلم مدى واقعية وصوابية هذه النظرية:

- الحرب العالمية الأولى 1914- 1916م.

- الحرب العالمية الثانية 1940- 1945م.

- الحرب الباردة بين القطبين الدوليين (سابقاً) 1945-1990م.

وكيف أن المنهج العلمي لحياة البشر والذي كرّست الحضارة الأوروبية تطبيقه حياتياً قد أدى ويؤدي وسيؤدي إلى نتائج وخيمة أقلها انسحاق الإنسان في عالم الأشياء، وارتباطه بالجدلية المادية، وتحوله إلى كائن بلا تاريخ.. بلا حاضر.. وبلا مستقبل.. كائناً مستلباً ومنفعلاً(5).

العالمية ووعي الذات:

تتطلب قضايا المواجهة وعي الكثير من المفاهيم والخصوصيات وفي مقدمتها وعي الذات -أعني الخصوصية الإسلامية-، والقدرة على المفاعلة مع هذا النوع من المصطلحات التي قد تتأتى للفرد من خلال بذل الجهود في التعرف على الأنا العليا وتهيئة جميع أدوات وآليات المواجهة التي يعد الوعي المعرفي من أهم تلك الأدوات التي ينبغي استحضارها كمفهوم يتدخّل في عملية المواجهة، ويؤثر في مسيرتها سلباً وإيجاباً، وقد عني القرآن بتحقيق هذه المفردة وجعلها واقعاً يتحرك مع الإنسان المسلم في حياته اليومية على مختلف أبعادها ففي قوله تعالى: (كذلك يبين الله آياته لقوم يعقلون) (البقرة/242)، وقوله تعالى: ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (البقرة/269)، وجعل القرآن الوعي مقياساً للمدح وتركه مقياساً للذم؛ فقد ذمّ أولئك الذين تعاطوا مع الدين ومفاهيمه من منظور شهواني يقوم على تقديم الهوى على العقل، والتقاليد على الوعي: ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (البقرة/170).

وجعل الوعي طريقاً لخلاص الإنسان من التيارات والتموجات التي قد تحاول جرف الإنسان في طريقها (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (الزمر/32)، وقد أكدت السنة المطهرة ورواياتها هذه الحقيقة فقد روي عن الإمام علي (ع)قوله: (من قعد به العقل قام به الجهل) (6)، وعنه (ع) أيضاً: (ما استودع الله أحداً عقلاً إلا استنقذه منه يوماً ما)(7)، وورد عن الإمام موسى بن جعفر (ع) في تفسير الآية: ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) (ق/37)، قال: يعني العقل. وقوله تعالى (ولقد آتينا لقمان الحكمة) (لقمان/12) يعني الفهم والعقل(8)، فنحن بحاجة إلى استحضار مفهوم الوعي والحكمة أثناء الممارسة اليومية لعملية الدعوة مثل ما نحن بحاجة إلى الجرأة والتضحية والإقدام، وبعد تحقيقه وتمثله من ساحة المثل ليكون واقعاً فإن المهمة الكبرى أمام هذا المفهوم هي التأصيل لقضايا المواجهة عن طريق العودة الواعية للتراث الأصيل بهدف استجلاء ما تحتاج ليكون التراث الإسلامي معيناً ورافداً يدفعنا. فما في أيدينا يكفي ليس فقط لتصحيح مسار الشعوب الإسلامية، بل يستطيع أسلمة البشرية شريطة القراءة الصحيحة والواعية لقيم ومفاهيم الدين مضافاً إلى كل ذلك ضرورة الانفتاح على الواقع المعاصر وثقافة الآخر، فنحن لا نستطيع أن نكتفي بالحياة لمجرّد الحياة ولا نستطيع أن نواصل وجودنا كبشر دون روح المعاشرة الاجتماعية، فلا يمكن للفرد أن يحقق فكرة إلا من خلال مرآة الآخرين إذ الكثير من الأفكار هي قواسم مشتركة تبرز الإدراك الجمعي التفاعلي(9)؛ لأن الانفتاح على الثقافة المعاصرة يعني قدرة الفرد على دراسة المتغيرات العالمية وتأثيراتها على بنية الإنسان السيكولوجية والفكرية وعلى مواقفه الخارجية، وهذا بدوره يؤدي إلى تحقيق التراكم الثقافي المعرفي، وبالتالي تحصيل المعاصرة من خلال وعي أدواتها وخصوصياتها، فإن مقدار تقدم وعي الإنسان إنما يكون بمقدار تواصله مع الآخر ولهذا فإن الرصيد الإنساني الحضاري ما هو إلا محصلة عطاء روافد الحضارات المتعددة، بل المفروض أن حضارة أي مجتمع إنما تثري نفسها بالاحتكاك والتفاعل مع الخصوصيات الحضارية للمجتمعات الأخرى(10)، وهذا ما يمكن تصيّده من النصوص القرآنية( لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) (المائدة/48).

الدين ومتطلبات المعاصرة:

ليس من المستغرب أن يتحول الإسلام إلى إشكالية عالمية بعد انتشار صداه في مختلف الأصقاع فيكثر الجدل حول عالميته ومدى قدرته على استيعاب الآخر فيشغل عقل المثقف والمفكر والباحث، لأن الإسلام دين انتشاري كما يعتقد بذلك الذين وقفوا على حقيقة وقيم ومفاهيم هذا الدين من حيث عدم معرفتها للحدود الجغرافية ولا الخصوصيات التي تمسك بها الإنسان - بالوضع - كمقاييس يتفاضل على أساسها، فقد رفض الدين خصوصية اللون والعرق واللغة والمكانة واكتفى بمخاطبة الجانب الكلي وهو النوع بعيداً عن القيود المضيقة (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات/13)، الإعلان القرآني لم يلتفت إلى أي خصوصية أو قيد عند الإنسان سوى الجانب المهم وهو الإنسانية، وكان هذا من أهم الأمور التي ساعدت على انتشار هذا الدين القويم في أرجاء المعمورة

ومن هنا نقول: حتى نجعل من الإسلام اليوم عالمياً نحتاج إلى تظافر الجهود وتوفر الآليات الفاعلة في هذه العملية، ولا نقصد بالعالمية هنا نفس المدلول الفكري للفظة العولمة التي باتت توحي بالكثير من الحساسية والخوف من هيمنة الآخر الذي يمتلك أفانين وحيل السيطرة، إنما نقصد الانتشار والتموّج لفكرة أو مفهوم أو قيمة معينة، وبتعبير آخر مدى قدرة هذا المبدأ على إلزام الإنسان. وعالمية اليوم تختلف في متطلباتها وأدواتها عن العالمية السابقة وما كانت تحتاج إليه من الأدوات، ومن أهم لوازم المعاصرة القدرة على مواكبة قضايا ومتطلبات العصر - مع حفظ الأصالة - فليس من المعقول أن نواجه تحديات هذا القرن بالعقلية الطوباوية لرجل الكنيسة في القرون الوسطى الأوروبية بل من الضروري جداً الاقتناع بالحاجة إلى التفاعل مع المعاصرة الإيجابية وقدرة الاستفادة منها كأداة في الساحة الفكرية العالمية، ولسنا بحاجة إلى الإصغاء لمفردات العقلية الانعزالية التي ينادي بها البعض من المهتمين بالشأن الديني حيث الهمس - وبصوت عالٍ أحيانا - في أذن الشارع الإسلامي بغية إقصائه عن الساحة العالمية متذرعاً بقوله تعالى: (واعتزلكم وما تدعون) (مريم/48) حيث العيش داخل أوهام الكهف الأفلاطوني(11) دون أن يلتفت أصحاب هذه الدعوة إلى أن الإسلام دين منفتح على الآخر ويعمل على الاستفادة من فكره وثقافته مهما كان البعد -المكاني والزماني-، ولم يقف الإسلام يوماً أمام حركة العقل والبحث العلمي بغية التناقض مع الفكر الإيجابي الهادف والداعم لفكرة التوحيد، بيد أن هذا الانفتاح لا يعني السقوط في وحل الاستلاب الثقافي أو الاغتراب الفكري - بسبب القصور المعرفي لدى بعض المتأسلمين - وبالتالي مسخ الهوية الإسلامية، ولذا ينبغي أن يوجه الانفتاح في اتجاهين:

1- في اتجاه الذات حيث استحضار التراث وقراءة مفاهيمه بصورة صحيحة وتفعيل بعض قيمه المعطلة وجعلها في متناول الجميع ممن يعشقون الحقيقة وهي همّهم الأوحد فقد شاء الحق تعالى لهذا الدين أن يظهر على الدنيا كلها ولو كره المشركون.

2- في اتجاه الآخر حيث الحرص على إيصال المفاهيم الحقّة والاستفادة من أدواته (الآخر) في سبيل ذلك دون خوف على الجانب القيمي.

وتحقيق هذين المطلبين يعني امتلاك القدرة على التعاطي الإيجابي مع المعاصرة بل وقدرة التأثير على قيمها المادية؛ خصوصاً ونحن في مطلع الألفية الثالثة حيث التقدم العلمي والتواصل التكنولوجي قد بلغ مرتبة يعتقد بعض الفلاسفة المحدثين أنها تساوي جميع ما قدمته الإنسانية في العصور السابقة مجتمعة، وحيث التيه والضياع في الجانب المظلم لهذا التقدم العلمي وحيث روح الإنسانية على هذا الكوكب تحت سندان الانحراف والضلال وصيرورته مسرحاً تتجاذبه الأطراف المادية والأفكار الوضعية غير المتوافقة مع فطرة الإنسان وفلسفة وجوده الكوني، وحيث لم تعد الأنظمة الأرضية قادرة على التوائم مع الإنسان عقائدياً وبالتالي إخراجه من المنزلقات التي سقط فيها، فهي تعمل على تعميق هذا الضياع والتيه في صحراء المادة - حيث لا يستفيق من سباته وضياعه - والخواء الروحي حتى بات القلق والاضطراب السياسي والاجتماعي والأخلاقي من أبرز سمات هذا العصر.

- فعلى الصعيد السياسي يعيش العالم بأسره المشكلات السياسية بل والحروب المدمرة للإنسان والاقتصاد والأرض.

- وعلى الصعيد الاجتماعي حيث قمة التفكك الأسري والتمزق الاجتماعي والقتل وانتشار الجريمة المختلفة.

- وعلى الصعيد الأخلاقي حيث قمّة التمرغ في وحل الجرائم الأخلاقية المتمثلة في المخدرات والجنس.

وهذه الإرهاصات إنما تدلل مجتمعة على أن العالم قد فقد الكثير من العناصر الإيجابية التي تؤثر على خارطة الشعوب ومستوى تفكيرها؛ بل وتؤثر على هدفيتها جرّاء العمليات التسطيحية لثقافة الشعوب وإبعادها عن الثقافة الحقيقية.

وليس لهذا العالم من مخرج من كل هذه الأزمات التي تعصف بالإنسان سوى الإسلام فهو الحل الوحيد لإنقاذ البشرية التي تقف الآن على المنحنى الخطر في مواجهة المشكلة الجوهرية التي تفرض نفسها على كل فرد منا ويتوقف على حلها احتضار العالم أو بعثه من جديد(12)، وليس هذا من نافلة القول أو إلقاءً للكلام على عواهنه بل الدلائل تشير إلى صحة هذا القول:

فالكثير من الآيات تقرر عالمية الدين، وتعين أممية الإسلام وتجاوزه الخصوصية التي وقفت عندها المذاهب الوضعية، ففي قوله تعالى: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) (الأعراف/158)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا) (سبأ/28) حيث شمول الدعوة لمختلف الألوان والأعراق واللغات.. وغير ذلك من الآيات عدا الروايات الكثيرة الواردة في طريق إثبات هذه الحقيقة وكلها تحمل مضمون العالمية للدين وان الرسول (ص) إنما بعث بعيداً عن الخصوصيات الجغرافية والعرقية، يضاف إلى كل هذا قدرة الإسلام على استيعاب جميع الأديان والمذاهب بل حاجتها إليه والى نبيه الكريم (ص)، فحاجة كل الأنبياء(ع) إلى النبي محمد(ص) مما لا ينبغي أن يغفل عنها أحد، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الحاجة تتصل بموضوع كمال الشريعة المحمدية ونقاء العقيدة الإسلامية من الشرك والغلوّ وكل أنواع الخرافة التي لحقت بالأديان السماوية حيث انحرفت بها عن هويتها الصافية وأهدافها السامية، وليس من شك أن لهذا التصور شيئاً من الواقعية ولكن ما نقصده أكثر عمقاً وأخطر دلالة‍! إنه يتعلق بالأنبياء بالذات من حيث وجودهم وعلى مستوى سيرتهم وفي خصوص نبوّتهم وفيما يتصل بكتبهم ومعجزاتهم(13)، وفي هذا إشارة إلى أحد معاني الحاكمية للإسلام على غيره من الأديان حيث الظهور والغلبة للحقيقة المحمدية وللدين الإلهي بعد أن شاءت قدرة الله تعالى في ظهوره على الدين كله.

ومع الغضّ عن كل هذه الدلائل فالإسلام يتلاقى في جذوره وحقائقه مع الأديان السماوية السابقة حيث الاشتراك في وحدة الهدف وهو الدعوة إلى توحيد الحقيقة الواحدة للخالق تعالى وهي قضية مفصلية عند الجميع يتناوبون على الدعوة إليها كلما ابتعدت عقيدة الإنسان وشابها نوع من الثنائية والتعدّد كما في قوله تعالى: (شرّع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوصينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين.. ) (الشورى/13)، وحيث وحدة المنتهى أيضاً، وتقرير حقيقة البعث والنشور، وهي قضية لا تنكرها الأديان، يضاف إلى ما ذكر من عالمية الدين الإسلامي، إن قوانينه تتوافق مع قوانين الفطرة الإنسانية سواء على الصعيد العبادي أو المعاملاتي؛ فالدين يدعو إلى توحيد وعبادة الحقيقة المطلقة وهي العلّة الحقيقية لإيجاد هذا الكون وإبداع ما فيه.. والفطرة السليمة إنما تعتقد أن وظيفتها الأساسية هي عبادة الخالق (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) (الروم/30).

وكذلك في معاملات الناس وعلاقاتهم الاجتماعية:

- فالبيع كمعاملة أقرها الدين (وأحل الله البيع) (البقرة/275).

- وحرم الإضرار (وحرم الربا.. ) (البقرة/275).

- العدل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) (النحل/90).

- الحرية (لا إكراه في الدين) (البقرة/257).

- قيمة العمل (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) (التوبة/105).

- قيمة التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات/13).

- قيمة العلم (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة/11).

وغير هذه النصوص التي لم تستطع نظرية وضعية أن تنفتق ذهنيتها عن مثل هذه القيم والمثل الإسلامية، ولا نعتقد أن فطرة الإنسان السوية تختلف مع قيمة العدل والحرية وعدم الإضرار ورفع منزلة العامل والعالم، وغيرها من القيم التي تنادي بها أروقة المنظمات الحقوقية والدولية باعتبارها قيماً إنسانية ينبغي توافرها لجميع البشر كحق من حقوقهم الإنسانية، وهذه النصوص يمكنها التعايش مع الإنسان على مرور الزمن - مطلقاً - وكلما تجدد الإنسان تجددت معه هذه القيم بأروع وأفضل صورها، ولا نبالغ إذا قلنا أنها هي التي تعمل على خلق الزمن من جديد.

الخلاصة:

كل هذه العوامل وغيرها يمكن أن تساهم في عملية النهوض بمسؤولية الدعوة ونشر الدين الإسلامي شريطة امتلاك الأدوات المطلوبة التي تساهم في عملية التبليغ وفي مقدمتها:

- عملية النهوض بالجانب المعرفي الديني ومفاهيمه وأهدافه وقوانينه.

- عملية الانفتاح في بعديها، بعد الذات وبعد الآخر.

- القدرة على مواجهة التحديات، خصوصاً تحديات الأفكار والفلسفات الحديثة وما تقدمه من تساؤلات ونظريات.

- القدرة على عرض القيم الدينية بصورة لا يشوبها الخلل المعرفي حيث القدرة على التواصل معها ورفد وتسليح العقلية المسلمة بالفكر الصحيح والثقافة الأصيلة، فإنها طريق إنقاذ الإنسان وإعادة الثقة بصحة معتقده وقدرته ليس على تصحيح مسار المسلم وحسب بل تخليص البشرية مما خلفته لها النظريات العلمية التي لم تراع البعد الآخر في الإنسان، ولم تعرف منه إلا الجانب المادي فقط.

- إبراز المفاهيم القرآنية بصورتها الصحيحة بعيداً عن الفكر التحميلي والقسري وبعيداً عن كسر رقبة النصوص في سبيل توافقها مع ما نحمل من مواقف واتجاهات، وهذا يحتاج إلى تجرّد تام عن الذات وقدرة الاتصاف بالموضوعية، وبعيداً عن الفهم السطحي والقشري للنصوص القرآنية.

وهذه أولى الخطوات التي ينبغي أن تعقبها خطوات أخرى، وصولاً إلى نهاية مسيرة الألف ميل.

الهـــوامـــش:

(*) باحث في الفكر الإسلامي المعاصر، بكالوريوس في الفلسفة.

(1) المفهوم العلمي للعالم: برتراندرسل.

(2) المفهوم التوحيدي للعالم: مرتضى مطهري ص12.

(3) المسائل الإسلامية: للإمام الشيرازي ص71.

(4) العالمية الإسلامية الثانية: محمد أبو القاسم حاج محمد ص39.

(5) نفس المصدر: ص51.

(6) غرر الحكم ص8701.

(7) نهج البلاغة: الحكمة رقم 407.

(8) تحف العقول: ص385.

(9) مجلة النبأ: عدد 56 ص8.

(10) مجلة الفكر العربي: عدد 93 ص183.

(11) للمزيد من التعرف على هذا المصطلح يراجع (تاريخ الفلسفة الحديثة): ص47 يوسف كرم.

(12) روجيه غارودي وحضارة الإسلام: ص9.

(13) أصالة النبوة: غالب حسن ص47.