اعلى

مبادئ التوزيع في الإسلام

 

 

محمـــد آدم

(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) سورة النساء: الآية 58.

(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) سورة آل عمران: الآية 159.

(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) سورة الشورى: الآية 38.

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) سورة الغاشية: الآيتان 21 و 22.

(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة: الآية 2.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) سورة الحجرات: الآية 10.

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) سورة المجادلة: الآية 11.

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر: الآية 9.

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات: الآية 13.

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) سورة الرعد: الآية 11.

مفهوم التوزيع:

يؤكد القرآن الكريم أن الناس متساوون في حق الكفاية والعدل، ولكنهم ليسوا متساوين في العلم والمعرفة والقدرات التي تترتب على ذلك، وبمعنى آخر يؤكد القرآن تكافؤ الفرص لجميع أفراد المجتمع، وحق كل فرد في حد أدنى من المعيشة يتمثل في الضروريات التي لابد من توفرها لهُ وفقاً لتطور مستويات المعيشة ونفقاتها، وكذلك حقهُ في أن يشكو الظلم وأن يحصل على العدالة التي تناسب شكواه. وبالرغم من هذه الحقوق المختلفة التي يتساوى فيها الجميع، إلاّ أن الناس لا يتساوون في العلم والمعرفة والقدرات والمهارات والمواهب، وهم لذلك طبقات يجب التمييز بينها، لعل في هذا التمييز ما يحفز على التسابق في سبيل استغلال موارد الطبيعة وكشف أسرار الكون وفهم القواعد التي تحكم هذه الأسرار، وبذلك يكون التسابق طريق العلم والمعرفة والعمل الجاد والوصول بذلك إلى مجتمع الرفاهية الشاملة المتكاملة عندما تكون دعائمه الأخوة والتقوى والبر والتعاون والعدل. ومن بين هذه المفاهيم والمبادئ الإسلامية التي يمكن على أساسها توزيع الدخل القومي بين فئات المجتمع وبين أفراد كل فئة من هذه الفئات ما يلي:

1( إن المشكلة الاقتصادية التي يواجهها أي مجتمع ليست في الواقع مشكلة إنتاج بقدر ما هي مشكلة توزيع، إذ إن العمليتين - الإنتاج والتوزيع - هما في الواقع عمليتان متفاعلتان سوياً، فالتوزيع العادل القائم على أساس احترام الجهد البشري يشحذ الهمم ويؤدي إلى إنتاج أفضل كماً ونوعاً، والإنتاج الأكبر يؤدي إلى نصيب أكبر من الرفاهية، أما التوزيع غير العادل فيؤدي إلى تراكم الفروق بين الطلب الكلي، الاستهلاكي والاستثماري، وبين إنتاج السلع والخدمات المختلفة، الاستهلاكية والاستثمارية، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى تقلبات النشاط الاقتصادي والأمراض الاجتماعية الخطيرة التي تقترن بذلك. هذا فضلاً عن أن هذا النمط في التوزيع يثبط من همم المشتغلين ويجعلهم لا يقبلون على أعمالهم بالقدر الضروري الذي يؤدي إلى تسارع نمو الناتج القومي وإلى استغلال الموارد المتاحة الاستغلال الأمثل.

2( إن التوافق بين مصالح الفرد الحر ومصالح المجتمع ليس أمراً حتمياً. لقد أثبتت الممارسات الاقتصادية خطأ الدعوى التي يرتكز عليها الفكر الاقتصادي الغربي بأن حرية الأفراد تكفل تحقيق المصالح العامة وتؤدي إلى تنمية الإنتاج بتسارع جيد، حيث قد أدت المصالح الخاصة للأفراد إلى بروز عناصر احتكارية في أشكال مختلفة، وقد سيطرت هذه العناصر على مختلف الأسواق وجعلتها تعمل من أجل مصالح المنتجين فقط على حساب المصالح العامة، لذلك أصبح أمراً واجباً أن تستبعد فرضية التوافق بين المصالح الخاصة والمصالح العامة في ظل الحرية الاقتصادية، حيث أن هذه الحرية قد أدت إلى أن أصبحت المجتمعات تمجد ماديات الحياة ونسيت بذلك القيم الأخلاقية الحميدة، الأمر الذي أدى إلى التدهور الأخلاقي والاجتماعي الذي يسود العالم اليوم، وإلى الحروب المدمرة للموارد التي أوجدها الله لخير البشر ورفاهيتهم ذلك لأن حرية الإنسان إن لم تقترن بالإيمان الصادق بالتعاليم الدينية التي تحث على التعاون والتكافل تصبح دافعاً له إلى الصراع من أجل البقاء المادي، وبذلك يصبح ميالاً إلى الاعتداء والسيطرة والامتلاك على حساب الغير؛ لذلك فإن الدولة الإسلامية رقيبٌ حازم يستطيع أن يلجم الغرائز البشرية الشريرة، وأن يحقق البيئة الصالحة التي تدعم حرية الإنسان كتعبير صادق عن كرامته وحقه في الحياة دون إذلال يفرضه عليه تسلط الآخرين وجشعهم المادي الذي لا يرحم. وبمعنى آخر أن الدولة الإسلامية على استعداد دائم للتدخل في النشاط الاقتصادي لوضع حد للعناصر الاحتكارية التي تعرقل المبادلات الحرة حتى تتحقق بذلك المنافسة الكاملة وبدعم من تكافؤ الفرص وعدم التمييز بين البشر لأي سبب غير الإيمان الصادق والمعرفة العلمية وصدق الانتماء الاجتماعي، كذلك فأن الدولة الإسلامية قادرة على تحقيق الحد المعقول الذي يتفق مع الحياة الكريمة لكل فرد في المجتمع.

ويتحقق تدخل الدولة بكل الطرق التي يجب أتخاذها لوضع حد للتدهور الأخلاقي، ولفرض التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي الذي يقترن به على أوسع نطاق، ولجعل العلم والطب والمداواة والعمل والسكن الصالح حقاً لكل فرد.

3( إن الإنتاج في مختلف النشاطات يحتاج إلى تضافر جميع عناصره، فهذه العناصر تعتبر مستخدمات إنتاجية ضرورية.

أما من ناحية التوزيع فنلاحظ اختلاف المفاهيم الإسلامية عن المفاهيم الخاصة بالفكر الاقتصادي الغربي، حيث تركز النصوص الإسلامية على أهمية العمل، لذلك يؤكد الإسلام الاحترام الكامل الذي يستحقه العامل المؤمن الشريف الذي يؤدي عمله على الوجه الأكمل والذي يضع نصب عينيه الصالح العام بجانب مصلحته الخاصة. كذلك يؤكد الإسلام ضرورة التعاون وتبادل المشورة في العمل والتنظيم. بمعنى أن التنظيم يعتبر في الفكر الاقتصادي الإسلامي نوعاً آخر من العمل، حيث إن كلمة عمل تشمل الأعمال اليدوية والتقنية والفكرية، وهذه الأعمال المختلفة بدرجاتها الكثيرة يجب أن تتضافر سوياً في أي عمل إنتاجي بتوجيه رشيد من التنظيم الذي يقرر نوعية المنتجات ومدة إنتاجها والكميات التي تنتج من كل منها وكيفية تسويقها وتطويرها كلما دعت الحاجة إلى ذلك. هذه المسؤوليات المختلفة التي يتحملها المنظم توجد عنصراً تعارفنا على تسميته بالربح، وواضح أن المنظم سواء أكان شخصاً واحداً أم عدة أشخاص يمكن أن يتحملوا مسؤولياتهم مباشرة أو بصورة غير مباشرة عن طريق نقل الأرباح بعض الشيء، فالمنظمون بذلك يتنازلون عن جزء من أرباحهم مقابل أن يقوم أشخاص آخرون لديهم الخبرة والدراية اللازمة بمختلف المسؤوليات التنظيمية.

4( تلعب الملكية دوراً ثانوياً كأساس للتوزيع، ذلك لأن الإسلام أَباح الملكية الخاصة، ولكن بشرط أن يكون المالك قادراً على القيام بالأعمال التي يتطلبها استغلال ما يمتلكه الاستغلال

الأمثل، أو التي تحتاجها إدارة هذه الملكية بما يحقق الصالح الاجتماعي العام وبمقتضى التعاليم والمبادئ الإسلامية، ويعني ذلك أن الإسلام عندما سمح بالملكية لم يكن سماحه لها مطلقاً دون تحديد، فهي محدودة بالقدرة على استغلالها وإدارتها، ومشروطة بأن يكون الاستغلال وفقاً للقيم المعنوية والمصالح الاجتماعية التي جاءت في مختلف النصوص الإسلامية وقيام المالك بإدارة ما يمتلكه، وتحمّل المسؤوليات المختلفة التي تقتضيها هذه الإدارة يجعله صاحب حق في أجر مقابل عمله وربح مقابل المخاطرة وهما عنصران لابد أن يترتبا على القيام بالأعمال الإنتاجية المختلفة.

وبذلك جعل الإسلام العمل سبباً للملكية وفقاً للميل الطبيعي لدى الإنسان في أن يمتلك ناتج عمله، أي إن الملكية وفق النصوص الإسلامية تقتصر على الأموال التي يستطيع العمل إيجادها. أما الأموال التي لا يستطيع العمل إيجادها مثل الأرض فيكون للإنسان حق الانتفاع بها فقط بشرط أن يقوم بالعمل فيها، فإذا أهملها سقط حقه في هذا الانتفاع. كذلك جعل الإسلام الملكية أداة لتنمية ثروة المالك وبالتالي ثروة المجتمع في مجموعه، على أن يتحقق ذلك وفقاً للقيود والشروط التي تنص عليها التعاليم الإسلامية الخاصة بتحريم الربا، وعدم السماح بالأسعار والأرباح الاحتكارية، وإعطاء المشتغلين الأجور العادلة ودفع الضرائب التي تفرضها الدولة كي تستطيع القيام بمسوؤلياتها الأمنية والاجتماعية وبذلك تحقق مساهمة المالك في إقامة التكافل الاجتماعي وجعله حقيقة واضحة، ومنع احتكار الثروة وحبسها عن الصالح العام أو الاستثمار المنتج؛(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) سورة التوبة: 34.

قال رسول الله (ص): (الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم)(1).

5) يؤدي التوزيع وفقاً للمبادئ الإسلامية إلى التوفيق بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، حيث يجب أن يحصل العامل على نصيبه العادل من الناتج القومي، وكذلك يجب أن يحظى بنصيبه جزاء تحمله المخاطر ومواجهة عدم التأكد عندما يتحمل المسؤوليات التي تترتب على القيام بأي عمل إنتاجي، بالإضافة إلى نصيبه جزاء العمل وإدارة ما يمتلكه من أموال ومقابل حق الانتفاع بالأرض التي يعمل فيها، إلاّ أن هذه الحقوق الفردية يجب ألا تستحوذ على كل الناتج القومي إذ يجب أن يحصل الذين هم في حاجة إلى المساعدة على نصيب يوفر لهم الحياة الكريمة فتنتفي عنهم صفة العوز. وبمعنى آخر يكون التكافل الاجتماعي أداة رئيسية من أدوات التوزيع، وقد جعل الإسلام هذا المبدأ هدفاً دائماً له حتى يعم الرفاه المجتمع في مجموعه، وبذلك ينتفي وجود من يضطر إلى مد يده أو أن يعرض عاهاته وأمراضه على المارة في الشوارع كي يوفر لنفسه لقمة العيش. والذين يحتاجون المساعدة هم الذين لا يمتلكون القدرات العقلية أو الجسدية التي تسمح لهم بالحصول من عملهم على مستوى الكفاف وبذلك يتسع الفارق بين معيشتهم ومعيشة القادرين على الكسب الأفضل، كذلك تشمل هذه الفئة ذوي العاهات غير القادرين على القيام بأي عمل، والمسنين والمسنات، والذين يتعطلون عن عملهم لأي سبب، واليتامى… هذه الفئات جميعاً يخصص لها الإسلام نصيباً من الدخل القومي يؤمن لها الحياة الكريمة ويخفف من آلام حرمانها (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (وأما بنعمة ربك فحدث) وذكر النعمة يعني أن يتنازل صاحبها عن جزء منها للذين هم في حاجة إلى المساعدة والرعاية وبذلك يحقق شكره للذي منحه هذه النعمة وجعله قادراً على مساعدة الآخرين. فإذا كان احتياج الإنسان يجعله ملفوظاً من مجتمعه في ظل الأنظمة الاقتصادية غير الإسلامية، فقد وضعهم الإسلام في المقدمة عند التوزيع وقبل أن تحصل العناصر المنتجة على نصيبها من الدخل القومي (الضعيف أمير الركب).

6) تتحدد أنصبة الفئات المختلفة من العاملين تبعاً لتقابل عرض وطلب كل منها في سوق تسودها المنافسة الكاملة، على أن يكون هناك حد أدنى لأجر المشتغل يحدده مستوى المعيشة الكريمة تبعاً لاختلاف أنماط المعيشة وتطورها في المجتمعات المختلفة. ولذلك جعلت مسؤولية الدولة الإسلامية على نفسها وضع حد لأي عنصر احتكاري مهما كانت الصورة التي يتخذها، حتى يتحقق التقابل الحر بين العرض والطلب في كل سوق سواء كانت خاصة بسلعة ما أم بخدمة ما، فإن كذلك النظام الإسلامي يحقق الاطمئنان من عدم إجراء المعاملات على أساس الربا، ومن قيام المصارف بأعمالها وفقاً للمبادئ التي سبقت الإشارة إليها، ومن عزل تأثير المضاربات الخارجية على السوق الداخلية التي يجب أن تتحرر تماماً من كل أنواع المضاربات النقدية وغيرها، تبتني هذه المسؤوليات المختلفة على ضرورة أن يتحقق للنشاط الاقتصادي الاستقرار الذي يساعده على النمو بخطى ثابتة ومستمرة، كما تبتني على أساس أن هذا الاستقرار يتمثل بالدرجة الأولى في إيقاف التقلبات التضخمية في الأسعار التي تنعكس سلباً على مستوى المعيشة وعلى تفاعلات النشاط الاقتصادي، ويؤكد الفكر الاقتصادي الإسلامي أن السوق يجب أن تحقق لكل مشتغل أجره العادل ولكل منظم معدل ربحه العادل ولكل منتفع بقطعة أرض ربحها العادل، يعني السوق التي تجري فيها المعاملات على أساس الحرية المسؤولة من قبل جميع أطراف التعامل فيما يتعلق بالأثمان والأرباح العادلة وغير ذلك من البنود التي على أساسها يتم التبادل. وهذا ما عنيناه عندما ذكرنا ضرورة أن تضع الدولة حداً لأية ممارسة احتكارية تسيء إلى التقابل الحر للعرض والطلب. ذلك لأن القرآن عندما يؤكد حرية الإنسان يشير في نفس الوقت إلى مسؤوليته إزاء نفسه أولاً ثم نحو الأقربين إليه ثم نحو المجتمع في مجموعه.

7( كما يجب أن يخصم من الإيرادات ما يوازي استهلاكات رؤوس الأموال المستخدمة في أعمال المؤسسة الإنتاجية، وذلك بالإضافة إلى تكاليف صيانتها وإصلاحها، كذلك يجب أن تتحمل المؤسسة جميع النفقات التي تتطلبها المحافظة على صحة العاملين فيها والرعاية الطبية لهم وتناقص طاقاتهم الإنتاجية على مر الزمن. ويحسن أن يأخذ المسؤولون عن المؤسسات في اعتبارهم ما يصيب المشتغلين من إرهاق وملل أثناء العمل الرتيب الذي يترتب على استخدام الآلات الحديثة، وذلك بمنحهم فترات راحة وتحمل تكاليف إنعاشهم ورياضتهم.

على أن تحمل المؤسسة لهذه التكاليف المختلفة لا ينتقص شيئاً من الأجر العادل الذي يجب أن يحصل عليه المشتغل جزاء عمله، والأجر العادل يعني أجراً أساسياً يقابل بنود الإنفاق الضرورية بالإضافة إلى مبلغ تفاضلي تبعاً لطبيعة العمل والمهارة التقنية والإنتاجية المتوسطة للمشتغلين وربحية العمل الإنتاجي الذي يقومون به، على أن تتحدد المعدلات الخاصة بكل عنصر من هذه العناصر وفقاً لسوق العمل التي تسودها المنافسة العادلة، وقد يكون من الأفضل أن تتحدد هذه العناصر في عقود جماعية يقررها التفاوض الحر بين العمال ومنظمي المؤسسات المختلفة، على أن يعاد النظر في هذه العقود من وقت إلى آخر كلما تغيرت العوامل المختلفة المرتبطة بإنتاج المؤسسات سواء من ناحية تقنية الإنتاج وتكاليف وأسعار المنتجات أم من ناحية الإنتاجية المتوسطة للمشتغلين واتجاهها نحو التغير نتيجة تغير كفاءاتهم.

الأرض والسكان.. بين الأزمة والحلول

وهكذا نلاحظ أن الفكر الاقتصادي الإسلامي على نقيض الفكر الاقتصادي التقليدي ينظر إلى مستقبل العمل وأهميته بتفاؤل وتقدير وإدراك عميق لأهميته في بناء المجتمع وبالتالي أن توفر الدولة حقه في الحياة الحرة الكريمة، وفي الرفاهية الاجتماعية العامة. وكذلك في بيئة خالية من أي تلوث؛ لذلك يرفض الفكر الاقتصادي الإسلامي النظريات التقليدية التي رددها أصحابها لخلق موجة من التشاؤم واليأس بين العمال في المجتمعات الغربية عندما كانوا يطالبون برفع أجورهم وتحسين أحوالهم المعيشية وكذلك أحوال العمل التي كانت تسود المصانع وأماكن العمل في ذلك الوقت. فإذا استطعنا أن ندرك الأحوال السيئة التي كانت تسود المجتمعات الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر، أمكننا أن نفهم الدوافع المختلفة وراء نظرية الأجر الحديدي ونظرية مخصص الأجور ونظرية الإنتاجية الحدية.

فهذه النظريات جميعاً تحاول باستخدام الأدوات والمصطلحات الأكاديمية المبهمة أن تقنع العمال بأن لا أمل هناك في ارتفاع أجورهم حيث إن هذا الارتفاع لابد أن يدفع العمال إلى تزايد نسلهم وبالتالي تزايد عرض العمل ونقص الإنتاجية الحدية إذا كان لابد من تشغيل العدد الزائد من العمال، وبذلك تتجه الأجور نحو التناقص تدريجياً حتى تعود إلى مستواها السابق قبل الانتفاع، وقد جسد (مالتس( هذه الآراء المتشائمة عن العمال في نظريته المشهورة عن السكان، والتي إن دلت على شيء فهو عدم الإيمان بالطاقات غير المحدودة التي سخرها الله لخير الإنسان ورفاهيته والموارد اللانهائية التي تزخر بها الطبيعة في مختلف أنحائها والتي استطاع البشر بمعارفهم وعلومهم المختلفة الكشف عن بعضها. ولاشك أن أصحاب هذه الآراء المتشائمة لو عادوا اليوم إلى الحياة لأنكروا آرائهم ولاسترجعوا إيمانهم برحمة الله وبالقدرات العلمية الهائلة التي وضعها الله في الإنسان، والتي يضيع الكثير منها في الأبحاث والدراسات التي يجريها العلماء والتقنيون على الأسلحة المدمرة لتطويرها وجعلها أكثر فتكاً وأوسع تدميراً، والتي تستهلك في إنتاجها كميات هائلة من الموارد وجهود علمية ضخمة لا يصدقها العقل. وبالرغم من هذا الضياع استطاع الإنسان أن يفهم الكثير من أسرار الكون وأن يستفيد بالكثير من الموارد. لذلك عند مناقشة مشكلة السكان، يجب أن يكون سؤالنا: هل هناك فعلاً أساس اقتصادي لهذه المشكلة حتى تردّد القول بأن سكان معظم الدول قد وصلوا إلى مرحلة الأنفجار العددي؟ أم أن اعتبارها مشكلة هو في الواقع حجة يتذرع بها رجال الحكم ويتهربون بواسطتها من مسؤوليتهم عن سوء معالجتهم للمسائل الاقتصادية التي تواجهها مجتمعاتهم؟ لقد تردد مراراً أن ليس هناك ندرة في الموارد تبرر وجود مشكلة اقتصادية بالنسبة لتدبير معيشة البشر، وأنه إذا كانت هناك مشكلة في هذا الصدد فهي في الواقع ناتجة عن عدم استغلال الموارد المتاحة الاستغلال الأمثل إما عن جهل أو بسبب الفوضى والأنانية والجشع والتواكل، وهي جميعاً صفات تسود المجتمعات الفقيرة، أوجدها الاستعمار الطويل لها ورسخها في نفوس أهلها.

أسس توزيع الناتج العام

حتى نستطيع أن ندرك المبادئ التي يقوم على أساسها توزيع الناتج العام في المجتمع الإسلامي يحسن أن نستعيد الملاحظات التالية:

أولا: يميز الفكر الاقتصادي الإسلامي بين وجهي عناصر الإنتاج؛ الوجه الذي يعبر عن أهمية كل من العناصر الأربعة - الطبيعة والعمل ورأس المال والتنظيم - وضرورة تظافرها سوياً في مختلف العمليات الإنتاجية، والوجه الثاني الذي يبين من يمتلك هذه العناصر حتى يتحدد له نصيب في الثروة المنتجة، أي يتحدد له عائد في الدخل الذي يقيس القيمة النقدية لمجموع ما أنتجه المجتمع من سلع وخدمات في مدة سنة مثلاً، وبينما يهتم الفكر الاقتصادي الغربي بالوجه الثاني حيث يعتبر أن الوجه الأول يتحدد بسيطرة فئات مختلفة من المجتمع على كل من العناصر الأربعة في ظل الحرية الاقتصادية التي اعتنقتها المجتمعات المختلفة في مختلف مراحل تطورها، وعلى أساس ملكية الفئات المختلفة لعناصر الإنتاج تتحدد أنصبتها من الناتج والتي تتضمن الربح والفائدة والأجور والأرباح. ولاشك أن مفهوم الفكر الاقتصادي الغربي عن ملكية عناصر الإنتاج وحقها بالتالي في الأنصبة الخاصة بها من الناتج هو في الواقع مفهوم مضلل ولا يتفق مع التطور التاريخي لملكية المصادر الطبيعية والثروات النقدية ذلك لأن الملكية اعتمدت عبر التاريخ على القوة التي استمدها البعض من انتمائهم إلى الحكام بمختلف الأساليب الملتوية التي اعتمد عليها البعض والتي تتمثل في الاحتكار والمنافسة الاحتكارية وغير ذلك من أشكال السيطرة على الإنتاج والأسواق والتي بمقتضاها يحقق هذا البعض أرباحاً هائلة تدعمهم في ذلك المفاهيم التي ترددها الكتب الأكاديمية حول الرشد الاقتصادي الذي يتلخص في معظمه بالأرباح لهذا يكون شعار الحرية الاقتصادية الذي يرفعه الفكر الاقتصادي الغربي مجرد تغطية لما يحصل عليه البعض في المجتمعات الغربية وغيرها من المجتمعات التي تسير في ركابها من شرائح ضخمة من الناتح دون وجه حق.

لذلك يحسن تفادي الخلط المتعمد الذي يمارسه الفكر الاقتصادي الغربي بين وجهي عناصر الإنتاج المختلفة على هذه المستخدمات جميعاً، فالمستخدمات الرأسمالية مثل آلات الإنتاج ومولدات الطاقة ووسائل المواصلات والمباني والآثاث...إلخ تلعب دوراً هاماً وأساسياً في الإنتاج الحديث حيث أنها تضيف إلى الطاقة الإنتاجية البشرية طاقة إضافية تمكنها من استغلال المصادر الطبيعية ومن الكشف عن كنوز الطبيعة وأسرار الكون والقواعد العلمية التي ينتظم على أساسها بفعالية أكثر وإدراك أفضل. إلا أن هذه المستخدمات الرأسمالية ليست في الواقع إلا ثروة منتجة، أي عمل سابق يتجسد في هذه الأشكال المختلفة التي يشملها جميعاً رأس المال العيني الذي يسميه البعض برأس المال الحقيقي، وقد تجسد في هذه الأشكال ليساهم ويساعد الإنسان في إنتاج جديد إلا أن إنتاج هذه المستخدمات الرأسمالية يستدعي في الواقع تضحية المجتمع في مجموعه بالإنفاق الاستهلاكي الحاضر على بعض السلع والخدمات الاستهلاكية، ولاشك أن تقبل هذه التضحية أمر ضروري حتى يتمكن المجتمع من إنتاج المستخدمات الرأسمالية التي تجعل الإنتاج أكثر كمية وأفضل نوعية وأسرع تحقيقاً. لذلك يتضح أن التضحية ليست خاصة بصاحب الأموال النقدية التي يقرضها للمنتجين حتى يتمكنوا من شراء المستخدمات الرأسمالية، وإنما هي تضحية عامة تشمل جميع أفراد المجتمع الذين يتحملون سوياً نقص الاستهلاك الحاضر في سبيل استهلاك أفضل لهم ولذويهم ولمجتمعهم في المستقبل بعد أن تتجسد الموارد الطبيعية بالتعاون مع قوة العمل في الأشكال الرأسمالية المختلفة؛ لذلك لا نستطيع أن نتبين التضحية التي يتحمّلها المقترض طالما أنه يطالب بفائدة قرضه.. على أساس هذه المفاهيم لا يعترف الفكر الاقتصادي الإسلامي بملكية رأس المال، حيث لا يجد مبرراً لامتلاك أفراد قلائل المستخدمات الرأسمالية التي تجسد جهود المشتغلين في مختلف الصناعات والنشاطات، لذلك يفرض على كل من يكتنز ثروته في شكل نقدي سائل دفع زكاتها بنسبة معينة سنوياً تؤدي إلى تنظيم الثروة بعد عدة سنوات، كما أنه لا يسمح باستثمارها بفائدة ثابتة يتقاضاها صاحب الثروة دون أن يأخذ في اعتباره حاجة المقترض أو مدى ما يحققه من أرباح أو خسائر نتيجة استغلال ما اقترضه في أعماله الإنتاجية، أو عنف المخاطر التي قد يتعرض لها خاصة إذا كانت هذه المخاطر من نوع عدم التأكد التي لا يمكن التأمين ضد الخسائر التي تترتب عليها، كذلك يعتبر الفكر الاقتصادي الإسلامي الدور الذي تلعبه الثروات الطبيعية في عمليات الإنتاج دوراً هاماً وأساسياً، فهي مادة الإنتاج ومحور العمليات التمويلية التي تقوم بها الصناعات والنشاطات المختلفة ونظراً إلى أن الثروات الطبيعية هي العنصر المادي القائم بذاته، فهو بذلك يسبق في وجوده عمليات الإنتاج ونظراً إلى أن الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه الثروات للبشر في مجموعهم، ليستفيد منها أعضاء الجماعة في المجتمع الذين ينتمون إليه، حيث قد سخرها لخيرهم وإشباع حاجاتهم ويتبادلونها مع الجماعات الأخرى وفق إرادتهم الحرة حتى يتحقق التكامل الشامل للبشر جميعاً، لذلك لا يمكن للفرد أن يمتلك أي مصدر من مصادر الطبيعة إلا بالقدر الذي يستطيع بعمله وجهده أن يستغله الاستغلال الأمثل تحقيقاً لصالحه الخاص ولصالح المجتمع في مجموعه وبشكل متوازن تماماً.

أما ما يفيض عن هذا القدر فيكون ملكاً عاماً للجماعة على أن تديره الدولة بالوكالة عنهم إدارة مثلى حتى يتحقق لهم الإشباع الأمثل لحاجاتهم، أو حتى يتحقق العائد الأمثل لهذه المصادر الطبيعية الذي يعود بالنفع الوفير على أعضاء الجماعة في الخدمات والمرافق المختلفة التي يجب أن تقوم بها الدولة لتحسين الأحوال التعليمية والصحية والمعيشية ولمنع تلوث البيئة وتحقيق التوازن بين عناصرها المختلفة. إن العمل هو أساس حيازة أي مصدر من مصادر الطبيعة للانتفاع به فقط أو للانتفاع والتملك في نفس الوقت.

والخلاصة أن الفكر الاقتصادي الإسلامي لا يعترف بملكية المصادر والثروات الطبيعية إلاّ بالقدر الذي يتوافق وقوة عمل المالك، كذلك لا يعترف بملكية رؤوس الأموال العينية لأنها ليست إلا تجسيداً للعمل والموارد الطبيعية، وقد عالج الإسلام مشكلة الرق ودعا إلى تحرير العبيد ومساواتهم بغيرهم من البشر؛ لذلك يكون العمل متضمناً التنظيم الذي هو عنصر الإنتاج الحر الذي يدفع دواليب النشاط الاقتصادي في كل القطاعات والذي يستحق لذلك أن ينتفع بكل ما أنتجه من سلع وخدمات، وحتى يتحقق إشباعه لحاجاته منها فلابد أن يوزع على المشتغلين القيمة النقدية للناتج حتى يستطيعوا شراء السلع والخدمات التي يتضمنها هذا الناتج، وبذلك تكتمل دورة التبادل بين المشتغلين والإنتاج ثم بين الإنتاج والمشتغلين من خلال ما يدفع لهم من أجور، ولا يفوتنا أن نذكر أن السبب الأساس لهذه الدورة هو التخصص وتقسيم العمل بين المشتغلين. الأمر الذي يجعلهم غير قادرين على إنتاج كل ما يحتاجون إليه من سلع وخدمات (مواد غذائية - ملابس - سكن - تعليم - طب - مواصلات - ترفيه ..( ولذلك لابد أن نجري عمليات التبادل فيما بينهم حتى يتحقق لكل منهم إشباع حاجاته المختلفة..

ثانياً: ما هي المبادئ الإسلامية التي جاءت في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والتي يجب أن يتحدد وفقاً لها توزيع الناتج بين الذين اشتركوا وتعاونوا سوياً في إنتاجه؟

لقد بينا أن العمل وحده هو الذي يفرض لمن يقوم به نصيباً من الناتج، إذ إن العناصر الأخرى - المصادر الطبيعية ورأس المال - إما أنها هبة من الخالق لخير الجميع وبذلك يسبق وجودها العمليات الإنتاجية، أو أنها تجسيد لعمل سابق فهي بذلك ليست عنصراً قائماً بذاته يعطيه الحق في نصيب من الدخل القومي عند توزيعه. وحتى نستطيع أن نفهم هذه المبادئ الإسلامية يحسن أن نناقش المشاكل المختلفة التي تتعلق بالموضوع وهي التي ترتبط بأسس التبادل بين المؤسسات والمشتغلين فيها، أي بالأسس التي تتحدد وفقاً لها معدلات الأجور الخاصة بفئات المشتغلين، وتلك التي ترتبط بتدبير معيشة غير القادرين على العمل والذين يتعطلون لأي سبب من الأسباب وكذلك المشاكل الخاصة بتكافؤ الفرص وضرورة التفرقة بين القدرات والكفاءات والمواهب باعتبار هذه التفرقة نوعاً من الحوافز التي يجب أن يوفرها المجتمع حتى يستطيع أن يدفع أفراده إلى بذل الجهود المثلى في أعمالهم المختلفة.

ونبدأ بالتذكير بأن أحوال أي مجتمع لا يمكن أن تستقيم إلا إذا استطاع أفراده أن يتغلبوا على دوافع الشر الكامنة في نفوسهم، وأن يتخلصوا من وسوسة الشيطان لهم؛ لذلك جاء القرآن كتاب دين وأخلاق وبياناً لكل شيء، ثم من خلال هذا الإطار العام الذي يتصف بالقيم الأخلاقية الحميدة تضمن الأسس والمبادئ العامة التي يجب أن يقوم عليها بقاء المجتمع سياسياً واقتصادياً، ذلك أن القرآن تضمن نصوصاً كثيرة تشير إلى حرية الفرد، وإلى جعل المشورة والعدل والكفاية دعائم الحكم، وإلى انتظام علاقات الناس على أساس الأخوة الصادقة والتعاون والبر المتبادل، إلا أن هذه الأسس والمبادئ العامة التي يجب أن يرتكز عليها التركيب السياسي والاقتصادي للمجتمع لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا إذا تحقق خلاص الفرد من مشاكله المختلفة؛ لذلك رفع القرآن من قيمة الفرد باعتباره كائناً قائماً بذاته، وقوته الذاتية هي أساس قوة المجتمع في مجموعه (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32). ويتمثل إحياء الناس في عدم إذلالهم وتحقيق احترامهم باحترام حريتهم المسؤولة وتوفير العيش الكريم لهم. وبهذا الاحترام البالغ لنفس الإنسان وحريته وكرامته تختلف التعاليم الدينية عن العقائد المادية التي لا ترى في الإنسان إلا مجرد جسد يتحقق وجوده عن طريق القوة أو الانتساب القبلي أو السلطة المالية أو المناصب الرسمية المقترنة بالنفوذ الاجتماعي، فإذا لم يكن للإنسان ما يدعمه في أي ناحية من هذه النواحي يصبح مجرد مسمار في آلة ضخمة تلفظه خارجها عندما يصيبه الصدأ والاهتراء، وبذلك تتحول حياته إلى معاناة يومية يستمر في مواجهتها حتى ينتقل إلى العالم الآخر... هذه هي حرية الإنسان وهذه هي كرامته في ظل الأنظمة التي تسودها العقائد المادية؛ لذلك نتمسك بالتعاليم الإسلامية الخاصة بتوزيع الدخل في تمجيدها للإنسان وتأكيدها على حريته وكرامته ودفاعها عنه ضد الظلم والاستبداد والاستغلال والإذلال الذي يترتب على الحاجة والعوز والشعور بالمهانة أمام الأقوياء ذوي النفوذ.

ثالثاً: تتحدد الأجور والأرباح، وكذلك أسعار السلع المختلفة نتيجة تقابل عرض وطلب العمل ورؤوس الأموال والسلع الوسيطة والسلع النهائية في سوق كل منها، فإذا توفرت جميع الشروط الخاصة بالمنافسة الكاملة والعادلة في كل سوق تتحدد الأثمان وعوائد عناصر الإنتاج عند المستوى الذي يكون في صالح المجتمع في مجموعه. كما إن الأسواق التي تسودها المنافسة الكاملة تضمن أن يتطور هذا المستوى من وقت إلى آخر تبعاً لتطور المتغيرات الاقتصادية التي ترتبط به وتتفاعل معه.

إلا إن هذه الشروط لا تتوفر في أي من الأسواق التي تجري فيها المعاملات المختلفة الخاصة بالسلع والخدمات والتي تتمثل في طلب وعرض كل منها. ولعل السبب الرئيسي لعدم توفر شروط المنافسة الكاملة في الأسواق المختلفة يكمن في استخدام النقود كأداة للاحتفاظ بالثروات، الأمر الذي يجعل هدف كل من المتعاملين في أي من هذه الأسواق هو تجميع الثروة والاحتفاظ بها في شكل نقدي سائل. وبهذا الهدف الذي يسيطر على سلوك المتعاملين تتراجع ثم تختفي شروط المنافسة الكاملة، حيث تصبح الأسواق الخاصة بالسلع والخدمات المختلفة خاضعة إما لاحتكار مطلق سواء من ناحية العرض أم من ناحية الطلب، أو خاضعة للمنافسة الاحتكارية التي تكون في الغالب من جهة منتجي السلع الاستهلاكية وهي لذلك تعمل لصالح هؤلاء المنتجين حيث يحققون هدفهم الذي يتمثل في تعظيم الأرباح لإضافتها إلى الأرصدة النقدية المتراكمة في المصارف.

التوزيع والاحـتكار:

ولاشك أن العوامل المختلفة ضد الاحتكار الذي يمكن أن يتخذ صوراً مختلفة والذي يمكن أن يعمل مستتراً وفق محاسبات معينة، وكذلك الميل إلى اكتناز الثروات للتفاخر بأرقامها، أو المضاربات التي تسود الأسواق التي يجري فيها التعامل في المواد الأولية، وفي الأسهم والسندات والعملات المختلفة، وغير ذلك من العوامل التي يمارسها الأغنياء من ذوي النفوذ والسلطة تتعاون سوياً في عرقلة جهاز السوق عند تأديته لوظيفته الأساسية الخاصة بإتاحة الفرصة للتقابل الحر والمتوازن بين عرض وطلب السلع والخدمات المختلفة حتى تتحدد الأثمان العادية لها، وتكون متوافقة مع مصلحة المشترين لأي من السلع أو الخدمات موضوع التبادل. والربح العادي هو الربح العادل الذي تحقق دون أن يكون هناك أي تدخل من جانب المنتجين أو المشترين أو الدولة لفرض توجيهات أو قيود معينة على الإنتاج أو على أي من العرض أو الطلب، أو على كليهما سوياً. فإذا لم يكن هناك أي تدخل وعندما يجري التعامل في حرية تامة وبمعرفة كاملة بكل ما يجري في السوق تتوفر جميع الشروط الخاصة بالمنافسة الكاملة، وبذلك تلعب السوق دورها في تحقيق التوازن العادل بين البائعين والمشترين وفي تحديد الأسعار العادلة لمختلف السلع والخدمات.

إلا إن الإنسان كان دائماً يمجد الثروة ويتكالب عليها، وقد زاد تمجيده لها وتكالبه عليها في العصر الحديث، حيث أصبحت قيمة الإنسان تقاس بمقدار ما يمتلكه من الثروات المختلفة. لهذا تكون الفرضية بتوفر شروط المنافسة الكاملة في أي من الأسواق الخاصة بالسلع والخدمات مجرد فرضية وهمية تتناقلها الكتب المختلفة، فكيف يمكن تبعاً لذلك أن نثق في قدرته (السوق) على تحديد الأسعار ومعدلات الأرباح والأجور التي تتفق مع القيم والتعاليم الإسلامية التي تدعو إلى العدالة واحترام الإنسان واعتباره كائناً له حريته وكرامته وعزة نفسه، والتي تنهي عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وعن اكتناز الثروات وحبسها عن تأدية دورها في خدمة المجتمع في مجموعه.

تدخل الدولة

لذلك يصبح ضرورياً تدخل الدولة بقوانينها وأنظمتها وسلطتها التوجيهية حتى تضمن أن يؤدي جهاز السوق وظائفه في تحديد الأسعار ومعدلات الأرباح والأجور وفق القواعد الاقتصادية السليمة، ولاشك أننا نخدع أنفسنا إذا كنا نعتقد أن المجتمعات سوف تستجيب للقيم وللتعاليم الإسلامية بمجرد التغيير السياسي، بمعنى أن القيم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي راح اختار يمارسون حياتهم على أساسها والتي تتفق مع أنانيتهم وغرائزهم البهيمية لا يمكن أن تتغير بمجرد الدعوة إلى التغيير الذي يتفق والمبادئ الإسلامية، ولهذا لابد أن يكون للدولة دور في إصلاح المؤسسات الاقتصادية وفي إرشاد المواطنين وتوجيههم نحو الممارسات الخيرة التي تكفل تحقيق الصالح العام والتي تأخذ بيد المجتمع نحو التطور الشامل المتكامل؛ لهذا لا يمكن أن نعتبر تدخل الدولة في الأسواق المختلفة عنصراً من العناصر التي تنتقص من المنافسة الكاملة، بل يجب أن نعتبر ذلك، وخاصة في المراحل الأولى من التغيير، عاملاً مساعداً على أن يقوم جهاز السوق بوظائفه في خدمة المجتمع دون أي انحراف عن القيم الإسلامية الخاصة بضرورة أن تسود الأثمان والأرباح العادلة مختلف النشاطات الاقتصادية كما أن فرض الزكاة والخمس وإلغاء الربا لابد وأن يؤدي دوراً في إعادة النقود إلى وظيفتها الأساسية كأداة للتبادل، وبذلك يمتنع أحد العوامل التي تحول دون توفر المنافسة الكاملة في الأسواق المختلفة، وبذلك أيضاً يمكن أن تعود الأسعار والأجور والأرباح إلى مستواها العادل.. قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): (ما جاع فقير إلا بما متّع به غني)(2).

الهـــوامـــش:

1- وسائل الشيعة، ج9، ب6، ص44، رواية 11483.

2- ابن أبي الحديد: 17/321.