اعلى

قراءة في كتاب

الثقـافة العربيـة وعصـر المعـلومات

د. نبيل علي    

عرض: مجتبى العلوي

تباينت آراء المفكرين والباحثين في تحديد مفهوم الثقافة؛ لكن معظم الذين بحثوا في هذا المفهوم أقرّوا بأنها (ثمرة كل نشاط إنساني محلي نابع عن البيئة، ومعبّر عنها ومواصل لتقاليدها في هذا الميدان أو ذاك)، حسب تعبير د. حسين مؤنس..

وحينما نزعم أن الثقافة نشاط إنساني، نعني أن للبيئة التي يعيش تحت ظروفها شعب ما، دور في توليد ثقافة مختلفة بقدر يصغر أو يكبر عن الثقافة المتولدة لدى شعب آخر، يعيش تحت ظروف بيئية مختلفة، وهذا يدفع باتجاه الأخذ بالخصوصيات الثقافية للشعوب، تبعاً لظروف معيشتها وأسلوب تفكيرها وموقفها من الحياة، ذلك أن الثقافة في وجه من وجوهها تمثل المحيط الفكري الذي يعيش فيه الناس وفقاً لأنماط نابعة من ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، والبيئة الجغرافية التي تتيح انتقالاً نوعياً بالفكر والسلوك، وتقود للتطورات التاريخية التي تشهدها المجتمعات البشرية..

فالمنجز الثقافي هو - كما يرى جون ديوي - محصلة التفاعل بين الإنسان وبيئته، فثقافة شعب ما هي جماع المعارف الإنسانية لذلك الشعب في محاولته للوصول إلى حالة من التوازن مع الظروف الحياتية التي يحياها، وهي إبداع حالة تكيّف مثلى مع الشروط التي تفرضها البيئة المحلية والعلاقات المتشكلة مع الشعوب ذات الثقافات الأخرى، إنها جدل حيوي يدور بين الشعوب وبيئتهم مرة، وبين فئات الشعوب نفسها مرة أخرى مما يدفع هذه الفئات إلى العمل لابتكار ما

يتصل بحياة شعوبها ويجعلها أكثر قدرة على تأكيد كياناتها بامتلاك خصائص مستقلة تميزها عن سواها من الكيانات القريبة أو البعيدة بعلم أو بغير علم؛ ذلك أن ثقافة الأمة هي علمها غير الواعي الذي تتوارثه الأجيال وتسيّر به شؤون حياتها، أي هي طريقتها في الحياة.

والثقافة الإنسانية تتمثل في كل الخصائص التي تميز الكائن البشري عن سواه، وتجعل منه فرداً ينتمي إلى العائلة الإنسانية، ويقدم إسهاماً جوهرياً في دعم مسيرتها على هذه الأرض، وهي تعبير عن أصالة الشعوب التي لابد لها من تحصين ثقافتها بتفعيلها، ومواصلة الصعود، بفعل القوى المرئية وغير المرئية التي تمتلكها، ذلك أن الإنسان لا يقدم على استهلاك منجزه الثقافي بل يواصل جهده في تطويره والإضافة إليه لأن عناصر الثقافة لدى الشعوب الحية تظل في حالة نمو متصل وتطور دائم لمسايرة الظروف الحياتية المستجدة.

إن المتغيرات الحاصلة في الوقت الراهن على الصعيد العالمي إثر انتهاء الحرب الباردة، وتعاظم قوة وسرعة ومكانة الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والاتصالية، وما قد ينجم عنها من آثار ومؤثرات عديدة على بنية وعمق سلوك الإنسان في أي مكان كان في ظل الانكماش المكاني.. إن هذه المتغيرات تدعونا إلى النظر والتمعن في مسألة هامة وحيوية هي مسألة الثقافة، الثقافة باعتبارها النتاج البشري المتنامي والديناميكي والمتغير باستمرار، الثقافة باعتبارها صيرورة متحركة وليس باعتبارها جوهراً ثابتاً..

إن الثقافة العربية في الوقت الراهن تعيش مأزقاً حاداً يكمن في عجزها عن مواكبة التحولات العالمية وذلك بفعل تصاعد أهمية التكنولوجيا وبخاصة تكنولوجيا الاتصالات وثورة المعلومات الهائلة في العالم، باعتبار أن هذه التكنولوجيا أصبحت وسيلة هامة وأساسية في نقل وتوزيع وانتشار الثقافة ومصادرها..

كتاب (الثقافة العربية وعصر المعلومات) الصادر حديثاً في سلسلة عالم المعرفة، استكمال لدراسة سبق أن قام بها الكاتب عن (العرب وعصر المعلومات) والصادرة عام 1994م عن السلسلة ذاتها، وأكد الباحث فيها أن التنمية المعلوماتية هي قضية ثقافية في المقام الأول؛ حيث صارت الثقافة في عصر المعلومات صناعة قائمة بذاتها، الأمر الذي أصبحت معه إشكالياتها لا تدين إلى أحاديث الصالونات، وسجال المنتديات، ورؤى المقاعد الوثيرة، وتكرار الجدل العقيم حول العموميات والأمور التي صارت في حكم البدهيات من قبيل: أصالة أو معاصرة، ثقافة النخبة وثقافة العامة، تعريب التعليم أو لا، وما شابه..

والكتاب ليس كتاباً في الثقافة العلمية، بل في علمية الثقافة بعد أن أصبحت الثقافة علماً والعلم ثقافة. إن تناول ثقافة عصر المعلومات يحتاج إلى خلفية معرفية وتكنولوجية مغايرة تماماً لما كانت الحال عليه في الماضي، ويهدف الكتاب أساساً إلى اختصار الوقت والجهد اللازمين لاكتساب هذه الخلفية، من أجل أن نضع خطابنا الثقافي على نقطة بداية متقدمة، حتى يركز هذا الخطاب على القضايا الاجتماعية المتعددة والساخنة التي أفرزها المتغير المعلوماتي..

لقد أصبحت الثقافة هي محور عملية التنمية الاجتماعية الشاملة، في حين أصبحت تكنولوجيا المعلومات هي محور التنمية العلمية التكنولوجية، والحوار بين هذين المحورين هو محور دراستنا الراهنة.

منظمة تكنولوجيا المعلومات؛ منظور ثقافي عربي

احتكر التكنوقراط لدينا سلطة الخطاب المعلوماتي، لتطغى المصطلحات على المفاهيم، وتتوه القضايا الثقافية في متاهة التفاصيل الفنية؛ ذلك هو شأننا في الوقت الذي باتت تحتل فيه هذه المفاهيم وتلك القضايا موقعاً بارزاً على خريطة الفكر الغربي، وتحظى باهتمام الكثيرين من منظري الثقافة وفلاسفة العلم واللغة والأخلاق، وانضم إليهم علماء البيولوجيا ليضيفوا بعداً مثيراً للمشهد المعلوماتي علمياً وفلسفياً وتكنولوجياً..

عن ظاهرة الانترنيت (المنظور العربي)..

لا تفوق جسامة التحديات العلمية والتكنولوجية التي يواجهها عالمنا العربي إزاء ظاهرة الانترنيت، إلاّ تلك التحديات الاجتماعية والثقافية المصاحبة لها، ولا تفوق هذه وتلك إلاّ الفرص العديدة التي تتيحها للإسراع في حركة التنمية العربية..

لقد تأرجح الرأي في شأن الانترنيت بين حديث النعم وحديث النقم، ومنه نستل بعضاً من تأرجحاته ذات المغزى لواقعنا العربي:

* ديمقراطية أم مزيد من سيطرة الحكومات.

* عدالة اجتماعية أم استقطاب اجتماعي.

* ألفة جماعات الانترنيت أم غربة عن الواقع.

* حوار ثقافات أم صراع حضارات.

* إبداع الجديد أم اهتراء القديم.

* بيروقراطية غاربة أم معلوقراطية بازغة.

* عمالة أكثر أم بطالة أكثر.

التوجهات الرئيسية للانترنيت

عمل الباحث على حصر التوجهات الرئيسية للانترنيت بستة محاور؛ طرح بعد الحديث عن كل محور المنظور العربي لهذه التوجهات، فكان المنظور العربي للمحور الأول والذي حمل عنوان (من المنتدى العلمي إلى سوق التجارة الإلكترونية) حيث يقول الباحث:

لقد سيطرت التجارة الإلكترونية على الانترنيت، وأصبحت بنيتها الأساسية رهناً بما يقدمه تجارها من دعم في صورة إعلانات مباشرة وغير مباشرة. ومن المعروف أن من يقبض على زمام البنية التحتية للشبكة سيكون هو المسيطر على ما يجري، سواء من حيث نوعية خدمات المعلومات أو نظم تسعيرها، وعلينا - بالتالي - أن نطرح جانباً تلك الوعود المسرفة، رافعة شعار (المعلومات كالماء والهواء، وهي حق للجميع) في الوقت نفسه، علينا ألا نرضح إلى استقطاب الشبكة نحو أمور التجارة الإلكترونية، وأن نتمسك بمهمتها الأصلية في توفير موارد المعلومات اللازمة للإسراع من عملية التنمية الشاملة والمستدامة في وطننا العربي.

وفي إطار صناعة الثقافة التي تقوم على ثلاثة مقومات رئيسية هي: المحتوى، ومعالجة المعلومات، وشبكات الاتصالات، علينا أن نضع نصب أعيننا أن أهم مقوم في تلك الثلاثية هو ذلك الخاص بالمحتوى، والذي يعني في حالتنا موارد تراثنا الرمزي، وكذلك الطاقات الإبداعية الخلاقة القادرة على إبداع المحتوى الجديد.. وفي محور من النصوص إلى التناص، ومن الخطية إلى التشعب، قال الباحث في المنظور العربي: هل يخفى على أحد كون معظم نصوصنا ووثائقنا شرانق منغلقة على نفسها، طرقاً مسدودة مقطوعة الصلة بخارجها، ويتضح ذلك بشكل ساخر عند مقارنة نصوصنا الثقافية بغيرها عبر الانترنيت، فما أندر ما بها من حلقات التشعب ومسارات التناص.

إن هذا الانغلاق النصي يؤدي إلى انعزالية وثائقنا الإلكترونية وسرعة اندثارها، وضعف فاعلية مواقعنا العربية.

وعن المنظور العربي لمحور (من الإستاتي إلى الدينامي)، لم يعد كافياً في نقل رسالتنا الثقافية عبر الانترنيت أن يقتصر الجهد على عرض الجوانب المختلفة لمادتها، بل يجب علينا مراعاة جاذبية تصميمها، ومداومة تحديث مضمونها، وأن نراعي كذلك كيف يتلقى المستقبل هذه الرسائل، وكيف يستوعبها، وكيف يدمجها في روتين حياته اليومية وممارساته العملية.

في محور (من الباحث البشري إلى الوكيل الآلي الذكي) قال الباحث في منظوره العربي:

على ما يبدو، فنحن لن نواجه في معركتنا الثقافية الضارية على ساحة الانترنيت أفراداً ومؤسسات فقط، بل جيوشاً جرارة من روبوتات المعرفة تقتحم علينا مواقعنا عبر الشبكة لتستنزف منها المعلومات، وتحللها وتتناولها، وتضيف إليها، وتعيد صياغتها وتكيفها وفقاً لأهواء أصحابها، ولا يخامر الباحث أدنى شك في أن إسرائيل ستكون سبّاقة إلى استغلال التكنولوجيا الرفيعة في توظيف تكنولوجيا الوكالة الآلية لتعويض عجزها الشديد في الطاقة البشرية، وعلينا أن نفكر من الآن: كيف نحصن مواقعنا من هذا التطفل الإلكتروني ونحرس تراثنا بحيث لا ينهب في غيبة منا من قبل زوار الليل الجدد، وعلينا أيضاً أن نبحث عن حلول لكيفية مواجهة هذا التلاحم العجيب بين الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الوكالة الآلية، وأن نلحق بهما وهما ما زالا في المراحل الأولى لتطورهما.

منظومة الفكر الثقافي

تجاوز تجديد العقل العربي مرحلة كونه مطلباً ثقافياً، بعد أن أصبح مقوماً تنموياً لتأهيل المجتمعات العربية لدخول عصر المعلومات، ولا مجال هنا للمجاملة فمجمل العدة المعرفية لجمهرة العقول لدينا باتت دون الحد الأدنى اللازم لمجتمع المعرفة والتعلم وحوار الثقافات.

نحن بحاجة بجانب دراسة بيئة العقل العربي وتكوينه ومطالب تجديده إلى تحليل نتائج هذا العقل، حتى تتضح لنا ملامح الخريطة المعرفية العربية..

ولا شك في أن مهمة تجديد العقل العربي مهمة شاقة للغاية، سواء على المستوى الأكاديمي أو التنويري أو الإعلامي. ويرى الباحث ضرورة استغلال تكنولوجيا المعلومات كأداة لتعميق الفكر الثقافي، واستغلال الفكر الثقافي كأداة لتوطين تكنولوجيا المعلومات في التربية العربية. ويقترح هنا مداخل أساسية عدة للاستراتيجيات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والتربوية والمعلوماتية على الوجه التالي:

- الاستراتيجية السياسية: حرية الفكر.

- الاستراتيجية الاقتصادية: النظر إلى المعلومات والثقافة كمورد اقتصادي، وتبني مبدأ المشاركة في الموارد.

- الاستراتيجية الثقافية: اللغة العربية كركيزة أساسية.

- الاستراتيجية اللغوية: التركيز على شق المعنى والاستخدام الفعلي للغة.

- الاستراتيجية الإعلامية: إعلام تنموي لا ترفيهي فقط.

- الاستراتيجية التربوية: التخلص من آفة التلقين السلبي.

- الاستراتيجية المعلوماتية: معالجة اللغة العربية آلياً، كركيزة أساسية للتنمية المعلوماتية.

وعن الأزمة الفكرية التي يعانيها الفكر العربي على جميع الجهات يقول الكاتب: يعاني الفكر الثقافي العربي من أزمات طاحنة على جميع الجهات؛ أزمات في فكر اللغة، وفكر التربية، وفكر الإعلام، وفكر الإبداع، وفكر القيم، وفكر معالجة التراث.. والأدهى من ذلك هو ذلك الفقر الشديد الذي يعاني منه الفكر الفلسفي العربي، والتنظير الثقافي.

وقد استهلك المحللون في وصف راهن الفكر الثقافي العربي جميع مصطلحات التقاعس والسلبية، من تلقين وتبعية وترديد وردة ثقافية، وعزلة معرفية وجمود فكري وانكماش حضاري، وغيبوبة أكاديمية وغيبة الحوار وغربة الأصالة، واجهاض الإبداع، وفوضى الساحة الثقافية. لقد تفاقم الوضع حتماً وبدا - في نظر البعض - وكأن الفكر العربي قد فقد الرغبة في إنتاج المعرفة. فهل لنا بعد كل هذا أن نلحق بثورة تجديد الفكر الثقافي التي فجرها عصر المعلومات، وهل لدينا جرأة الإقدام على مراجعة شاملة لأصولنا الفكرية وعدتنا المعرفية، وتنمية مبادراتنا التنظيرية، وإن لا، فهل هناك من بديل؟

علاقة منظومة الفكر الثقافي بخارجها

فكرنا الثقافي ومنظومة مجتمعنا: علاقة الفكر العربي بواقع مجتمعه في حيرة شديدة من أمره، ومن الصعوبة بمكانة تتبع مسارات علاقات الفكر بمنظومة مجتمعاتنا العربية لأسباب عدة، منها أن خريطة الثقافة العربية غير واضحة المعالم، تشكو من التصحر الفكري. أما على جانب المجتمع، فمنظومة مجتمعاتنا العربية لم تخضع حتى وقتنا هذا للتحليل المنهجي الدقيق، ومعظم مجتمعاتنا في حالة من الغليان الاجتماعي يجهض معها أي حديث عن علاقتها بالفكر، بفعل الحساسيات المفرطة التي يصعب عليه احتواؤها، أما عن علاقة فكرنا الثقافي بأدائنا المجتمعي فشبه غائبة، وحتى لا يبدو هذا تجنياً دعنا نتساءل مع من يتساءلون: أين الدراسات الجادة عن علاقة فكرنا التربوي بأدائنا الاقتصادي؟ وأين علاقة فكرنا اللغوي بخطابنا السياسي؟

وبالطبع لم يعد يكفي هذا النزر القليل من المبادرات الفردية، فنحن في حاجة إلى شبه حملة قومية لإعادة الوئام إلى فكرنا ومؤسساتنا الاجتماعية، ومصدر التحدي الحقيقي في ذلك، أن هذه الحملة لا بد أن يقودها فكرنا الثقافي المحاصر داخلياً وخارجياً، وهذا قدره..

علاقة فكرنا الثقافي بمنظومة السياسة: فكرنا الثقافي مستقطب سياسياً، وسياستنا بدورها مستقطبة في دوامة الصراع العربي - الإسرائيلي. لقد أدى هذا الاستقطاب المزدوج إلى أن يغفل فكر الثقافة جوانب عدة في علاقته بمنظومة السياسة، لا سيما ما يخص علاقته بأجهزة الإعلام. ولن نضيف جديداً بقولنا: إن فاعلية فكرنا الثقافي رهن بتوافر الحرية السياسية، ولا ينمو الفكر إلا بنمو الطلب المجتمعي على منتجاته وخدماته، ولن ينمو هذا الطلب بدوره إلا إذا أصبح مفكرونا قادرين على تسويق نتاج فكرهم وإبداعهم.

علاقة فكرنا الثقافي بمنظومة الاقتصاد: كان استقطاب السياسة لفكرنا الثقافي على حساب علاقته بمنظومة الاقتصاد، وهو وجه القصور الذي يجب تداركه في ضوء متغيرات العولمة، وتزايد أهمية صناعة الثقافة، وفي هذا الصدد يجب أن يركز الفكر الاقتصادي العربي على الجوانب الأخلاقية لمنظومة الثقافة.

وأهمية مراعاة العوامل الاجتماعية غير الكمية في القرار الاقتصادي. وذلك علاوة على تجديد الحوار مع الفكر الاقتصادي الإسلامي من منظور معلوماتي.

علاقة فكرنا الثقافي بأنماط الفكر الأخرى: طغت علاقة فكرنا الثقافي بالأدب على علاقته بأنماط الفكر الأخرى، خاصة الفكر العلمي، وما زال فكرنا الثقافي يعاني من تلك الثنائية الثقافية بين فكر العلوم الطبيعية وفكر الإنسانيات، وهي الثنائية التي يمكن أن تساهم تكنولوجيا المعلومات مساهمة فعالة من أجل التخلص منها، أما علاقته بالفكر الهندسي، فهناك بعض المبادرات لهندسة اللغة العربية من أجل تأهيلها للمعالجة الآلية بواسطة الكمبيوتر. وتشمل هندسة اللغة العربية، ضمن ما تشمله، صياغة قواعدها النحوية رياضياً وتنظيم معجمها على هيئة قواعد بيانات وشبكات دلالية بواسطة الكمبيوتر.

علاقة فكرنا الثقافي بالفئات الاجتماعية: فكرنا الثقافي في سمته الغالبة فكر نخبوي، وربما يفسر ذلك عدم فاعليته على ساحة العمل الاجتماعي، وكل فكر نخبوي يفشل في إقامة الصلات بينه وبين فكر ثقافته الشعبية مصيره حتماً إلى الزوال؛ وهنا يكمن التحدي: كيف يمكن لفكرنا الثقافي العربي أن يفتح قنوات غير رسمية للحوار مع جماهيره، موازية للقنوات الرسمية. وقد عدّ الباحث الانترنيت أحد البدائل العملية المطروحة في هذا الصدد.

ثقافة التربية

منظور عربي معلوماتي:

لا يجد الكاتب بداية لحديثه عن أهمية التربية من المنظور العربي أفضل مما ورد في إحدى رسائل إخوان الصفا المرصعة بصيغ (أفعل التفضيل) تمجيداً للتعليم ورفعة شأنه، حيث قالوا: (ليس من فريضة من جميع فرائض الشريعة وأحكام الناموس أوجب، ولا أفضل، ولا أجل، ولا أشرف، ولا أنفع للعبد، ولا أقرب له، بعد الإقرار به، والتصديق بأنبيائه ورسله فيما جاءوا به وأخبروا عنه، من العلم وطلبه وتعليمه). وشهد تاريخنا العربي والإسلامي الحديث كيف كانت التربية ركيزة أساسية من ركائز ثوراته وكيف سعت مخططات الاستعمار إلى تقويض تلك الركائز مستخدمة سلاح التربية، ويكفي شاهداً على ذلك ما فعله الاستعمار البريطاني في مصر، والاستعمار الفرنسي في الجزائر، والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وما قامت به بعثات التبشير في مدارس الشام وجنوب السودان؛ فأزمة مجتمعنا العربي المتفاقمة هي - في جوهرها - أزمة تربوية كما خلص إلى ذلك عبد الله عبد الدايم، وليس لنا سوى التربية مخرجاً لانتشال أمتنا العربية من أزمتها الراهنة، فالتربية هي مداخلنا إلى تنمية شاملة وصامدة، ودرعنا الواقي ضد الاكتساح الثقافي في عصر العولمة، وأهم أسلحتنا في مواجهة التفوق الإسرائيلي العملي والتكنولوجي.

وللتربية العربية موقعها المتميز في دساتير جميع الدول العربية، كان لا بد أن تدرج كأحد البنود المهمة في أجندة ( المفاوضات العربية - الإسرائيلية)، إن هدف إسرائيل من وراء ذلك، هو فرض التطبيع علينا قسراً، من خلال تغيير مناهجنا التعليمية، حتى تأتي مناهج تربيتنا متسقة مع ما تنتجه صناعة الأفلام في هوليوود محاباة لليهود؛ من (الوصايا العشر) حتى أفلام الكارتون..

خلاصة: إن تربيتنا في سباق مع الكارثة، بعد أن أهدرنا الكثير من مواردنا الطبيعية والمادية والبشرية، والتي كانت تكفي - وما زالت - لإحداث نهضة عربية شاملة، ومع نضوب مواردنا المادية وتضخم إنفاقنا التعليمي، بات رهاننا الوحيد على إبداع بشرنا، فالإنسان العربي هو العامل الحاسم إن أحسنا تربيته، ومصدر التهلكة إن أسأناها.

التربية.. ذلك اللغز المجتمعي:

تتخبط منظومة التربية العربية، عاجزة عن الخروج من تلك الدائرة الخبيثة، ولغزنا التربوي له ملامحه الخاصة من تسرب الصغار من النصول، ونزيف العقول، وهدر الخريجين، وتضارب الآراء فيما يخص محتوى التعليم، هذا هو حملنا التربوي الثقيل، الذي ينوء به كاهلنا ونحن نهم بدخول عصر المعلومات، وقد اختلط اللغز التربوي مع ألغازنا الاجتماعية الأخرى، ليفرز وضعاً شائكاً للغاية، تعددت المواقف إزاءه، ما بين ردود الأفعال وسياسة إدارة الأزمات، وبين إغماض العين عن الراهن في غيبوبة الحديث عن أماني المستقبل، وما أروعه من حديث، وقد زادت تكنولوجيا المعلومات هذا الحديث إثارة وطلاوة، فراح أصحابه يؤكدون على أن هذه التكنولوجيا، ولا شيء غيرها، هي العصا السحرية لعلاج أزمتنا التربوية، من الدروس الخصوصية إلى تخلف الأساليب المنهجية، ومن زحمة الفصول إلى نقص المعامل، ومن إعادة تأهيل المعلمين إلى تنمية القدرات الإبداعية لدى المتعلمين.

بشكل عام يمكن إرجاع أزمتنا التربوية إلى أسباب رئيسية عدة من أهمها:

* غياب فلسفة اجتماعية نبني عليها فلسفة تربوية واقعية ومتماسكة، ولا يخفى على أحد أن ساحتنا الثقافية مشتتة، وأن معظم مثقفينا قد غابت عن وعيهم جوانب عدة من إشكالية التربية، التي تزداد تعقيداً وتشعباً يوماً بعد يوم.

* الأسلوب المتبع في ملء الفراغ التربوي بالاستعارة من الغرب، حيث نأخذ الفكرة ونقيضها، دون أن يكون لخصوصيتنا دور كبير، ولم نقف منها موقفاً نقدياً، ولم نقرأ الشروط الاجتماعية التي احتضنت ولادتها؛ إننا نستورد نظماً تربوية منزوعة من سياقها الاجتماعي، وإن جاز هذا في الماضي فهو يتناقض جوهرياً مع توجه التربية الحديثة نحو زيادة تفاعلها مع بيئتها الاجتماعية.

* ندرة جهود التنظير التربوي، ونادرها قد طغى على معظمه المنهج على حساب المحتوى، واستهوتنا الإحصائيات وجداول الأرقام والمؤشرات وعلاقات الارتباط، وغاب عنا اختلاف طبيعة التربية عن تلك العلوم الطبيعية؛ فلا يكفي في قضايا تناول التربية، الوقوف عند حدود التحليل الكمي، خاصة في بلدان مثل بلداننا العربية، التي تمتلئ بأمور عدة يتعذر قياسها أو إخضاعها للتحليل الإحصائي الدقيق على الأقل في ظل الظروف الراهنة.

* الخلط بين الغايات والمقاصد والإجراءات، والوقوف عند حدود العموميات والمبادئ العامة التي لا خلاف عليها، وليطلع من يرتاب فيما نزعمه على وثائق سياساتنا التربوية، ونتائج مؤتمراتنا وندواتنا حول تطوير نظم تعليمنا وتأهيل معلمينا، نحن - بلا شك - أحوج من غيرنا إلى مناهل ومنطلقات جديدة، نقيم عليها فلسفتنا التربوية في عصر المعلومات، ولا يمكن لنا التصدي لما يتعرض له جدل الأصالة والمعاصرة، الدائر على ساحتنا التربوية، دون أن نردّه إلى جذوره التاريخية، استيضاحاً لمصادر نشأته، وما يمكن أن يؤول إليه هذا الجدل، علاوة على ذلك، فإن الباحث، كعهده في كل ما يتعلق بالشأن الثقافي، يؤمن بأهمية الفكر التربوي المقارن، إلا أن مقارنة تربيتنا الراهنة بتربية الآخر المتقدم لن تضيف - في رأيه - جديداً فهي لا تخرج عن كونها - بسبب تبعيتنا التربوية - مقارنة فرع بأصل، أو مضاهاة تابع بسائد؛ في ضوء ذلك فإن الطرح التاريخي، هو فرصتنا بمقارنة أكثر جدوى ومغزى، ولإبراز مواضع العمومية والخصوصية في فلسفتنا التربوية.

الغايات الأساسية لتربية عصر المعلومات:

تواجه التربية العربية موقفاً صعباً للغاية، فقد أصبح لزاماً عليها أن تجدد رؤيتها الفلسفية لمواجهة المتغير المعلوماتي في غياب فلسفة اجتماعية عربية، وتصور الوعي العام في إدراك الجوانب التربوية العديدة لظاهرة المعلومات وعولمتها..

إن نجاح التربية رهن بمدى تفهمنا للعلاقة التربوية - الثقافية، خاصة في ضوء محورية الثقافة في عملية التنمية المجتمعية، وكون التربية قد أصبحت مرادفة للتنمية في عصر المعلومات.

وقد عزا كثيرون فشل التربية في الماضي إلى إغفال العلاقة بينها وبين الثقافة، وعدم دراسة تاريخ تطور التربية مع تطور المجتمع وتغير ثقافته. وجميع مواضع إلتقاء التربية مع الثقافة، تمثل خطوط تماس ملتهبة، علينا أن نخفف من سخونتها حتى تتضح لنا معالمها. مصدر الصعوبة هنا أن هذه المواضع البينية لم يتم تناولها بالبحث الجاد من قبل التربويين بالمستوى المطلوب لتربية عصر المعلومات..

العناصر الداخلية لمنظومة التربية:

1- المتعلم: صار متعلمنا، في ظل تعليم الأعداد الغفيرة، مجرد ظاهرة إحصائية، فليس هناك من الوسائل والوقت لرعاية مواهبه وتنمية قدراته الشخصية، ولا أمل في أن تغير التربية العربية فلسفتها الراسخة بين يوم وليلة، وسيمضي وقت طويل، قبل أن تنبت الديمقراطية براعمها في تربتنا التربوية الصخرية المتصحرة؛ لذا فإن التوجه على محورية المتعلم، لا بد أن تتوزع مسؤولية تنفيذه بين المنزل والمدرسة والتلميذ نفسه، وعلى علماء علم النفس التربوي لدينا، أن يدلوا بدلوهم في حل هذه المعضلة، من حيث تنمية نزعة الاعتماد على الذات، وتخليص عقول تلاميذنا مما خلفته آفة التلقي السلبي..

2- المعلم: معظم معلمينا ما زالوا عازفين عن المشاركة الإيجابية في توجيه مسار العملية التربوية، ونادراً ما يدعون إلى المشاركة في القرارات الخاصة بالتعليم، وموقف معلمينا من استخدام تكنولوجيا المعلومات في مجال التعليم ما زال مشوباً بالغموض، البعض يرى فيها منافساً خطيراً، والبعض الآخر غير موقن بفاعليتها، إما بسبب الثقافة التربوية السائدة وإما لنقص التدريب، وإما لعدم توافر المعدات والبرامج.

وقد أصبح تعلم الكمبيوتر، في معظم مدارسنا، مقصوراً على القائمين بتدريس مادته. لقد ترسخت لدى معظم المعلمين العرب عادة التدريس بالتلقين، وعدم توسيع مصادر المادة التعليمية، ويحتاج علاج ذلك إلى تضافر جهود التأهيل، وتصميم المناهج وأساليب التقويم والامتحانات. ولا يمكن للمعلم العربي أن يتقن مهمة التعليم باستخدام تكنولوجيا المعلومات إلا إذا أدمجت هذه التكنولوجيا في جميع المناهج في كليات التربية من السنة الأولى، إن المعلم العربي يجب أن يتعلم هو نفسه استخدام تكنولوجيا المعلومات، قبل أن نطالبه بالتدريس مستخدماً إياها.

3- المنهجيات: من المتعذر استيراد منهجيات التعليم لشدة ارتباطها، سواء بالبيئة التعليمية أو بقدرات المعلم القائم بتطبيقها؛ لذا فنحن في أمس الحاجة إلى دفع البحوث التربوية لتناول أثر تكنولوجيا التعليم والانترنيت على منهجيات التعليم، وكيفية تطويعها للثقافة السائدة، وللبيئة التربوية المتوافرة، ولقدرات المعلم وقدرات من نقوم بتعليمهم، ومن الخطورة بمكان تطبيق المنهجيات الجديدة - ومعظمها مستحدث - دون تجريب واختيار دقيق، ومرة أخرى، يمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تلعب دوراً في هذا المضمار، حيث نوفر بيئة اختيار فعالة لتجريب المناهج الجديدة، مع سرعة الحصول على النتائج.

ثقافة الإعلام

عن ثورة الإعلام والاتصال:

1- الصدمة الإعلامية: يعيش إعلامنا العربي صدمة إعلامية على مختلف المستويات السياسية والتنظيمية والفنية، فليس بالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وأحدث المطابع الصحافية وحدها، يحيا الاتصال في عصر المعلومات. وعلينا أن نقر بأننا لم نرصد بعد مسارات الخريطة الجيو - إعلامية الحديثة، وهو ما عبر عنه التقرير الاستراتيجي العربي للعام 1999 بضعف الاستجابة إلى عولمة الإعلام.

لقد فقد إعلامنا العربي محوره، وأضحى مكبلاً بقيود ارتباطه الوثيق بالسلطة، تائهاً بين التبعية الفنية والتنافس السلبي على سوق إعلامية إعلانية محدودة، وكان نتيجة ذلك أن أصبح رهن الإعلان من جانب، ودليل الدعم الحكومي من جانب آخر..

إن إعلامنا العربي يواجه عصر التكتلات الإعلامية مشتتاً عازفاً عن المشاركة في الموارد، يعاني من ضمور الإنتاج وشح الإبداع، حتى كاد - وهو المرسل بطبيعته - أن يصبح هو نفسه مستقبلاً للإعلام المستورد ليعيد بثه إلى جماهيره، وأوشكت وكالات الأنباء لدينا أن تصبح وكالات للوكالات الأربع الكبرى، حتى فيما يخص أخبارنا المحلية. لقد ارتضينا أن نوكل إلى غيرنا نقل صورة العالم من حولنا، بل صنع صورتنا عن ذاتنا أيضاً، أما شبكة الانترنيت، فلم ندرك - بعد - مغزاها الثقافي لكي يمكننا إدراك مغزاها الإتصالي الإعلامي، وذلك على الرغم من قناعة الباحث بقدرتنا على اللحاق بإعلام الانترنيت وهو ما زال في مهده.

2- غياب التنظير الإعلامي:

على الرغم من إدراك الكثيرين بيننا لأهمية الإعلام ودروه التنموي، إلا أن هناك شبه غياب تنظيري للقضايا التي يطرحها إعلام عصر المعلومات وانعكاساته على تضاريس واقعنا العربي، فخطابنا الإسلامي الرسمي يسوده الطابع العلمي، ويخلط - عادة - ما بين الغايات والسياسات والإجراءات..

وعلى المستوى الأكاديمي، فإن كثيراً من أهل التخصص تعوزهم العدة النظرية والخلفية الفنية المعلوماتية لتناول قضايا الإعلام الحديث، خاصة فيما يتعلق بالانترنيت كوسيط إعلامي. أما أهل الفلسفة والتربية وعلم الاجتماع، فيندر فيهم من ينظر إلى الإعلام بصفته هماً تنظيرياً من هموم التنظير الثقافي الحديث.

3- التناقض الجوهري: يشكو إعلامنا من تناقض جوهري، بعد أن تخلى عن مهمته التنموية الأساسية ليسوده طابع الترفيه والإعلام على حساب المهام الأخرى، ويقصد بها مهام التعليم، والتوعية الثقافية، وإعادة إحياء الإرادة الجماعية للمشاركة في العمل الاجتماعي.. ومن قبيل الإنصاف، فإن إعلامنا، شأنه في ذلك شأن معظم نظم الإعلام في دول العالم الثالث، يعمل تحت ضغوط سياسية واقتصادية تنأى به عن غاياته التنموية البعيدة المدى، ويكمن التحدي - حالياً - في أن التوجهات الإعلامية الراهنة تعمل على زيادة هذه الضغوط؛ مما يتطلب سياسة إعلامية أكثر صموداً ومرونة وابتكاراً.

وأخيراً، فقد طرح الكتاب - إضافة إلى هذه المواضيع - كثيراً من الأسئلة التي أفرزتها ثقافة عصر المعلومات، وبادر إلى اقتراح إجابات مبتكرة للعديد منها..