اعلى

 

 

 

الإمام الحسين (ع) نجاة الإنسانية وإشراقة الهداية

  من المحاضرات الأخلاقية لسماحة الفقيه المحقق آية الله السيد صادق الشيرازي

ورد عن الإمام السجاد (ع) في دعاء مكارم الأخلاق أنه قال:

( اللهمّ صل على محمد وآله، وحلّني بحلية الصالحين وألبسني زينة المتقين...).

هذه العبارة مقطوعة صغيرة من دعاء الإمام السجاد(ع) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.. وقد ترد أسئلة عديدة في البين منها:

بم يتحلّ الصالحون؟

وما الذي يعتبرونه حلية وزينة لهم؟

يمكن القول بأن حلية الصالحين هي مجموعة الفضائل والمكارم النفسية والجسدية الدنيوية والأخروية، العائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية كلها، لكننا نرى بعض الناس يعتبر المال حلية له لينادى بالمليونير وهو ليس من الصالحين، لأن الصالحين لا يعتبرون المال حلية، بل هو وسيلة وليس حلية، والبعض الآخر يعتبر السلطة والمنصب حلية له، وربما عمل الصالحون من أجل تحصيل الجاه، لكن كوسيلة وليس كحلية.

وبتعبير آخر فإن الصالحين لا فرق عندهم بين المال والمقام العالي وبين عدمهما لأنهم يعملون لأجل غرض وهدف نبيل يتعدى حدود المقام والمال، ولذلك اعتبروا من الصالحين، وإلاّ كانوا من أصحاب المال أو الجاه فقط.. وفي مورد دعاء الإمام السجاد (ع) وهو يطلب من المولى عز وجل تلك المكارم والفضائل، بالتماسٍ وخشوعٍ واضح فهو لأجل الارتقاء من درجة إلى أخرى أعلى وأجل؛ فهل هذا يعني أن مقام العصمة أو المعصوم يتحلّى بكل حلية صالحة يتلبس بها هذا المقام؟

الجواب: إن في مقام العصمة هناك إمكان الترفع أكثر والانتقال في الدرجات والتوجه الدائم إلى الله سبحانه وتعالى؛ فالإكثار من العبادة يجعلهم يرتقون إلى درجات أعلى؛ إذ إن مقام الرفعة عند الله سبحانه غير مسدود حتى بالنسبة للمعصوم عليه الصلاة والسلام.

وواضحٌ أننا كأناس عاديين غير معصومين، يمكن لنا حيازة درجات من الارتقاء نتيجة العبادة والفضائل والمكارم النفسية، ولكننا نرتقي في مقام عدم العصمة، والمعصوم يرتقي في مقام العصمة.

وقد ورد في الآية الكريمة خطاب من الله سبحانه لرسوله الأعظم(ص) (وإنّك لعلى خلق عظيم)(1).

والأخلاق العظيمة هي حلية من حلية الصالحين؛ فهي مرتبة نالها الرسول الأعظم(ص) بفضل مجاهدته وترفعه، لذا يقول الله تعالى : (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى)(2).

وسعي الإنسان هو في الحقيقة تدرج في مراتب حلية الصالحين، ولا ينسب هذا السعي لفرد آخر، وإنما هو محفوظ للساعي نفسه. وفي الآية الكريمة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض...)(3).

فمن أراد أن يترفع في الدنيا كحلية وليست كوسيلة للآخرة أو الصلاح في النفس والبدن مع الشؤون المرتبطة بهما من العائلة والمجتمع والحكم والمكارم، فليس هو من الارتفاع والارتقاء وإن كثر ماله أو سلطانه..

فحلية الصالحين مقام واسع جداً، وله درجات كثيرة بعضها فوق بعض وبعضها أكبر من بعض، ومهما جاهد الإنسان وصمّم وثابر من أجل تحصيلها وبلوغ كمالها، يبقى هناك مجال أعلى وأرفع.

فمهما أوتي الإنسان من إخلاص وتقوى أو عمل صالح، تبقى هناك إمكانية الارتقاء أيضاً، لأنه في كل يوم وفي كل وقت وفي كل مكان وفي كل الشروط يواجه الإنسان معارضة في نفسه وفي غيره؛ فلابد من السؤال والحاجة إلى توفيق الخالق عز وجل والتضرع إليه سبحانه في أن لا يتراجع عن مقامه، ولا يقف عند هذا الحد، وفي الآية الشريفة: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً)(4).

وفي مضامين الأحاديث الشريفة أن الإنسان إذا ارتقى إلى درجة معينة، وتوقف عندها بنفس النسبة لما يليها من الأيام، فهو مغبون، فإذا ما ارتقى شخص في مراقي الصالحين وبقي في الدرجة الألف، دون أن يرتقي درجة أخرى فوق الألف، فهو مغبون، ففي اليوم الإضافي من عمره هو في خسارة لأنه لم يحصل على شيء من ذلك اليوم، وهذه الدنيا دنيا عمل، كلّ يوم يمرّ على الإنسان منها فيه عمل وارتقاء؛ فالخسران ليس لمن يفقد الكمال والمعرفة فقط، وإنما لمن بقي أيضاً على مرتبة سابقة من الكمال دون الاستفادة من يومه الجديد، وفي الحديث الشريف: (من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في نقصان ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(5).

مقام الإمام الحسين ـ ع ـ

ما تقدم ملخص مختصر عن المقطع الصغير لدعاء الإمام السجاد (ع)، وإنما أردنا الوصول إلى مقام الإمام الحسين (ع) عند الله عز وجل، وعند الناس، لأننا نعيش تلك الأيام واللحظات في شهر محرم الحرام، وما دار على أرض كربلاء، وهي مناسبة أليمة على قلوب جميع الناس، ولاشك أن تلك القطعة الصغيرة من الدعاء تحتاج إلى بحث كبير وواسع رغم قلة كلماتها وهنا نريد القول بأن مقام حلية الصالحين ومقام الرقي تمثّل في أئمة الهدى من أهل البيت i، ومنهم الإمام الحسين (ع)، فهو خير مثال يتعلّم منه الإنسان.. وفي معرض الكلام أذكر نقطتين:

الأولى: مقام الإمام الحسين (ع).

الثانية: ما هو الواجب فعله تجاه مقام الإمام الحسين (ع).

أما مقام الإمام الحسين (ع) فمن المؤكد أنه يحتاج إلى موسوعة ضخمة لبيانه، وحال الإنسان بإزائه كحاله وهو يقف على ساحل البحر، فكيف يبدو أمام هذا العالم الواسع؟. وما البحر في مقابل مقام الإمام الحسين (ع)؟؛ فلا يقاس بمقام الحسين (ع) لا بحر ولا أرض ولا سماء.

الإنسان محدود في بدنه وهو محدود الصلاحيات والقابليات، فعندما يقف على ساحل البحر، والله وحده يعلم ما يحمله من مليارات ومليارات الأطنان من المياه، فيغرف غرفة صغيرة من البحر، ويقول هذا الماء من البحر؛ فهو لا يمكنه أن يسع البحر بأصابع يده.. ونحن كذلك أمام مقام الحسين (ع)، إذ ننقل لقطات صغيرة من مكارمه وفضائله بحيث يستحيل علينا بهذه الوريقات أن نسع مقامه، ومن تلك العظمة وهذا المقام المرموق، يمكن لنا أن نتعمق في قصة معراج رسول الله (ص) إلى السماء.

إن الله سبحانه وتعالى عرج بنبيه إلى السماء، وفي القرآن الكريم لُخص ذلك حيث قال تعالى: (لقد رأى من آيات ربّه الكبرى)(6).

يعني أن رسول الله (ص) لما عرج به إلى السماء، وهو أشرف الأولين والآخرين، أراه الله سبحانه وتعالى آيات كثيرة من قبل خلقه، فرسول الله (ص) مطلّع قبل أن يخلق الله سبحانه الخلق على آيات ربه لأنه سبحانه خلق نور رسول الله (ص) ونور المعصومين i قبل أن يخلق الخلق، ومن ذلك اليوم عرف رسول الله (ص) آيات الله، لكنّ الآية الشريفة تقول عند المعراج (لقد رأى) واللام هنا لام القسم، وقد للتحقيق؛ ولقد رأى النبي(ص) ليلة المعراج (من آيات ربّه) و(من) هنا تفيد التبعيض، و(آيات ربه) جمع مضاف يفيد بعض آيات ربّه، وبقرينة الآيات القرآنية التي فسّرت تلك الآيات، وكما ورد في أغلب التفاسير فإن رسول الله (ص) قد رأى بعض آيات ربّه الكبرى، فمن المفسرين من قال أنه (ص) رأى جبرئيل، ورأى نور الله تعالى ورأى مقام الإمام علي (ع) عند الله سبحانه، ومثل ذلك مذكور في تفسير مجمع البيان أو تفسير الصافي أو تفسير البرهان أو نور الثقلين وإلى غيرها من التفاسير، ولكن الرسول الأعظم (ص) لم ير في ليلة المعراج كل آيات ربّه لأنه قد رآها وهو نور قبل أن يخلق الله الخلق، فقد رأى في ليلة المعراج بعض آيات ربّه، ومنها ما نقل عنه (ص) أنه قال : »رأيت مكتوباً على يمين العرش أن الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة« وبحسب الظاهر فإن الرسول الأكرم (ص) رأى بعضها، يعني أن الآيات التي رآها (ص) هي من كبريات آيات الله سبحانه، ومن هذه الكبريات مقام الإمام الحسين (ع) عند الله سبحانه؛ فعُرج بأشرف الأنبياء إلى السماء، من أجل أن ينزل بعدها إلى الأرض، وينقل ما رأى في عروجه وهو مقام الحسين (ع)، فهل هناك أعظم من هذا الشرف؟! وقد ورد عن الإمام الحسين بن علي (ع) أنه قال: دخلت على رسول الله (ص) وعنده أبيّ بن كعب، فقال لي رسول الله (ص):

مرحباً بك يا أبا عبد الله يا زين السماوات والأرضين، فقال له أُبيّ وكيف يكون يا رسول الله زين السماوات والأرض أحد غيرك؟ فقال: يا أُبيّ والذّي بعثني بالحق نبياً إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض فإنّه لمكتوب عن يمين عرش الله: (مصباح هدى وسفينة نجاة وإمام غير وهن (خير ويمن) وعزّ وفخر وذخر...)(7).

وكما أشرنا إلى أن اليد البشرية لا يمكن لها أن تحيط بماء البحر فكذا مقام الحسين (ع) لا يمكن الإحاطة به وفهم أسراره من قبل العقول المحدودة، إلاّ أننا استشهدنا بواحدة من مآثر الإمام الحسين (ع)، وقيمته عند الخالق عز وجل ورسوله الأكرم (ص)، فكان الحسين (مصباح الهدى وسفينة النجاة)، وفي الحديث بيان لمقامه (ع) من ناحية الشرف وبيان للمخلوق بأن اتباعه (ع) هداية ونور يسير في وسطه كطريق مضيء ينتزع منه الأشواك، لأن الشيطان جعل على نفسه أن يقعد في طريق البشر، ويزرع الأشواك، وذلك بجلوسه في طريق المؤمنين؛ (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(8).

فالشيطان موجود في كل مكان، ويتربص بنا في الطرقات، ولكن في اتباع الإمام الحسين (ع) إنارة لتلك الطرقات التي يجلس فيها الشيطان، أما لو فقد المصباح وانعدمت الإنارة في الطريق، فلابد للسائر أن يقع في محذورات عديدة؛ إذ لا يمكن التخلّص من الأشواك والمخاطر وسط الظلام.

ولكن كيف يكون الإمام الحسين (ع) مصباح هدى للبشرية جمعاء؟

الجواب: إن سيرة الإمام الحسين (ع) وتاريخه وأسلوبه في التعامل مع الناس ومع الطغاة وكلماته، مصباح هدى وسفينة نجاة لمن يتخذ من الأرض طريقاً، ومن البحر طريقاً، فالأرض على قسمين يابسة ومياه وفي كليهما توجد أخطار يحتاج الإنسان في سلوكهما إلى الاهتداء والنجاة منها.

والله سبحانه جعل أهل البيت (ع) مصابيح وأنوار يهتدى بها، لكن الإمام الحسين (ع) نال من بينهم هذه الخصوصية والمقام؛ إذ ينقل أن الإمام الهادي (ع) كان في سامراء وقد أصابته وعكة فأعطى مبلغاً من المال لأحد أصحابه لكي يسافر إلى كربلاء ويدعو له عند قبر جدّه الإمام الحسين (ع) بالشفاء، فيقول له صاحبه: ألست بإمام معصوم مثل الإمام الحسين (ع) وتستطيع الدعاء لكي تشفى من المرض؟!

فيجيبه الإمام الهادي (ع): نعم، ولكن الله سبحانه جعل استجابة الدعاء عند قبر جدّي الإمام الحسين (ع) والله سبحانه هو الذي خلق الأسباب أسباباً والمسببات مسببات تكويناً وتشريعاً.

ولذلك بلغ زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ووهب بن حباب الكلبي وغيرهم من أصحاب الإمام الحسين (ع) القمة لأنهم اتبعوا مصباح الهداية، ولو لم يتبعوه لما كانوا بهذه الدرجة والمنزلة والقمة الشامخة، فكان موقف الإمام الحسين (ع) امتحاناً واختباراً للناس نجح فيه من رأى الطريق وخسر فيه من عمي عليه الطريق.

وقد أفهم الإمام الحسين (ع) الناس ذلك المعنى في يوم عاشوراء بقوله: (إن الله إبتلانا بكم وابتلاكم بنا)(9).

فالله سبحانه اختبر الإمام الحسين (ع) في ذلك الموقف العظيم وهو في مقام العصمة، واختبر أعداءه أيضاً فكان الموقف اختباراً في اختبار من خلال موقف واحد، يميز فيه الظالم عن المظلوم، والطالب للمنصب أو المال، والناكص عن الوقوف إلى جانب الحق، والإيثار والقربة إلى الله سبحانه.

وعلى مرّ التاريخ كان هناك ظلمة ومظلومون، لكن في مظلومية الحسين (ع) خصوصية كبيرة؛ لذلك يقول المعصوم… : (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله)(10) فلا يكون هناك يوم كيوم عاشوراء، ولم يكن هناك يوم سبقه (لا يوم كعاشوراء)، رغم أن يوم استشهاد رسول الله (ص) يوم عظيم، ويوم استشهاد أمير المؤمنين (ع) يوم عظيم، ويوم استشهاد فاطمة الزهراء (ع) يوم عظيم، ويوم استشهاد الإمام الحسن (ع) يوم عظيم، وكل واحد من هؤلاء الأربعة - حسب معتقدنا وحسب تصريح الإمام الحسين (ع) - أفضل من الحسين(ع) ولكنّ يومهم ليس كيوم عاشوراء، فهو يوم فريد من التاريخ، وهو كما أراده الله سبحانه يوم خالد.

(ولا أرض ككربلاء) وهذا الحديث موجود أيضاً في الصحاح الستة، حديث مستفيض ولعله متواتر، وكذلك جعل الله سبحانه لأرض كربلاء بفضل الإمام الحسين (ع)، شرفاً عظيماً إذ إن الله سبحانه وتعالى خلق أرض الكعبة ودحى تحتها الكرة الأرضية، ولذلك سميت مكة بأم القرى باعتبار أن سائر الأرض منها، فهي الأم، ومنها وجدت كربلاء والنجف والقدس والمدينة وكل الأرضين، والله سبحانه شرّف أرض الكعبة فنسبها إلى نفسه وسميت (بيت الله) نسبةً تشريفية على الاصطلاح البلاغي.

وفي الأحاديث المستفيضة (فجاءها النداء من الله، أنت أم القرى وأنت متشرفة بالنسبة إلى الله تعالى) وفي مضمون الحديث القدسي : ولكن اسكني.. كربلاء أفضل منك.. لا أرض كأرض كربلاء(11) فأي مقام نالته أرض كربلاء بفضل تشرفها بالإمام الحسين (ع) وكما أنه يوجد في الروايات أن الله سبحانه يغفر الذنوب في أوّل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك وفي ليلة القدر وليلة عيد الفطر، فإذا لم تصب العبد المغفرة في الليلة الأولى، أصابته في ليلة القدر، وإذا لم تصبه في ليلة القدر، أصابته في ليلة العيد، وإذا لم تصبه المغفرة ليلة العيد، فلا توجد مغفرة إلاّ أن يدرك عرفة، أي يوم عرفة، في زوار الله سبحانه - كما هو موجود في الحديث القدسي (زوار الله) - ولكن الله سبحانه جعل ليوم عرفة منافساً وبديلاً وهو أرض كربلاء، أو حرم الإمام الحسين (ع)، والتعبير بالمنافس تعبير مجازي في هذا المجال إذ ورد في الحديث الشريف (إن الله في يوم عرفة ينظر أولاً إلى زوار الحسين) ومن هنا يكون الإمام الحسين (ع) إماماً لكل البشرية، وليس للشيعة فقط، ولكننا نفتخر بأننا نعتقد بالإمام الحسين (ع) وندعو الله به كوسيلة للاستفادة من نوره والهداية بمصباحه والنجاة بسفينته.

فبالرغم من أن أعظم أركان الحج هو يوم عرفة (إنما الحج عرفة) وهو من أعظم واجباته، إلا أن الله سبحانه جعل البديل لمن لم يكن في عرفة، في زيارة الإمام الحسين (ع) والدعاء تحت قبته، كما جعل البديل لمن لم يغفر له في ليلة القدر أو ليلة العيد أو في يوم عرفة بزيارة الإمام الحسين(ع).

والوارد والمشهور في حديث المعصوم (ع) هو (لا أرض كأرض كربلاء ولا يوم كعاشوراء) وليس ما يدور على ألسنة البعض حالياً أو ما هو مكتوب هنا وهناك.

مسؤوليتنا تجاه الإمام الحسين ـ ع ـ

الكلام في النقطة الأولى من بيان مقام الإمام الحسين (ع) لا ينتهي بكونه مصباح هدى وسفينة نجاة أو لا يوم كيومه ولا أرض كأرض كربلاء، وإنّما مقام الإمام الحسين (ع) أعظم وأشرف من ذلك ولا يمكن الاغتراف منه بهذه الخلاصة بشكل وافٍ ولكننا نعرج إلى النقطة الثانية من البحث بشأن ما ينبغي لنا أن نعمل، خصوصاً في شهر محرم الحرام اتجاه مقام الإمام الحسين (ع).. وهنا يمكن التساؤل: لماذا أقدم الإمام الحسين (ع) على الشهادة؛ حيث كان يمكنه - تشريعاً وتكويناً - أن يدفع القتل عن نفسه؟ أما تشريعاً فقد (أذن الله له) إذ خيرّه بين الخروج وعدم الخروج، فلم يكن مجبوراً أو ملزماً بالخروج، فلا إلزام في البين، ولكن الله سبحانه جعل الخروج أرجح؛ فاختار الإمام الحسين(ع) الأرجح، ولذا في يوم عاشوراء استأذنت الملائكة في الوقوف إلى جانب الإمام الحسين (ع) والخسف بالأعداء وقتلهم، لكن الإمام الحسين (ع) من الناحية التكوينية كمعصوم أفضل من الملائكة، وكان بالإمكان استخدامهم ودفع القتل عن نفسه - تكويناً - وتشريعاً يمكنه عدم القتال، لأنه كان من الواجب عليه أن يحج بيت الله الحرام مع الاستطاعة أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بشرائطه، أما أن يقتل فلم يتوجب عليه ذلك..

ولكن الإمام (ع) وحسب تعبير الإمام الصادق (ع) في زيارة الحسين المعروفة: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) وفي هذا المقطع مطالب عديدة لا يسعها المقام، إذ لماذا عبّر الإمام الصادق (ع) بـ (يستنقذ) وليس بـ (ينقذ) و (عبادك) وليس بـ (عبيدك) ولماذا قدّم الجهالة على الضلالة؟ هناك فرق كبير بينهما في اللغة وعند أهل البلاغة، ففي اللغة: (نّقِذ) بمعنى نجا وتخلّص، أما يستنقذ فمن باب الاستفعال بمعنى الطلب؛ يعني يطلب الانقاذ أو يمهد للانقاذ، أي يقدم معدات ومقدمات للانقاذ.. ويوم مقتل الإمام الحسين (ع) لم يعد إنقاذاً، بل العكس، إذ الكثير من المحبين للإمام (ع) بعد أن رأوا كثرة جيش بني أمية وقدومه لقتل الإمام فكيف بغير الإمام، لذا انسحبوا أو هربوا.. وحتى في ليلة عاشوراء دعاهم الإمام(ع) بأن يتخذوا من الظلام جملاً، لكي ينسحب من يريد، وبالفعل انسحب من أراد ذلك؛ فلم يكن إنقاذاً وإنما استنقاذ؛ أي تهيئة المقدمات للنصر، وعلينا اتباع تلك المقدمات من عمل واسع، والوقوف بجانب الحق وعدم اتباع الظالم، فهي مقدمات للنصر، وإن كان النصر في الواقع حليف الإمام الحسين (ع):

ظنوا بأن قتل الحسين يزيدهم لكنما قتل الحسين يزيدا

القتل في الواقع لم يكن للإمام الحسين (ع) لأن تعاليمه كانت مناراً ووجوده مخلداً بين الناس، ففي كل بيت وفي كل بقعة من بقاع الأرض، يذكر ويقام له المأتم ويذكر اسمه، أما يزيد فقد مات واندثر ولم يبق له غير اللعنة، ولا أثر له يذكر فقد قتل الإمام الحسين (ع) باستشهاده كل بني أمية وكل الظالمين، ليمهد الطريق أمام الناس بالقيام بوجه الظالم، واتخاذه علماً ومصباحاً منيراً يهدي الثائرين إلى أهدافهم؛ فعلينا أن نهتدي بسيرته ونتخذ الإصلاح في المجتمع درباً يزينه اسم الإمام الحسين (ع)، فإنه (ع) لم يخرج أشراً ولا بطراً، وإنما خرج لطلب الإصلاح في أمة رسول الله (ص)، وعلينا أيضاً أن نعظّم الشعائر الحسينية بكل قوة وفي كل مكان لتحيا بها الأرض كما تحيا بها السماء.

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة الله وبركاته.

الهـــوامـــش:

(1) سورة القلم : الآية 4.

(2) سورة النجم : الآية 39.

(3) سورة القصص: الآية 83.

(4) سورة فصلت : الآية 33.

(5) بحار الأنوار : ج 78 ص 327 باب 25 ح 5 ط إيران.

(6) سورة النجم : الآية 18.

(7) بحار الأنوار : ج 36 ص 204 باب 40 ح 8.

(8) سورة الأعراف : الآية 16.

(9) البحار: ج45 ص110 باب 39 ح1.

(10) مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب ج3 ص238.

(11) في (كامل الزيارة) ص267 باب 88 ح3 عن أبي عبد الله (ع) قال: إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بنى الله بيته على ظهري؟... فأوحى الله إليها، أن كفّي وقرّي، وعزّتي وجلالي ما فضل ما فضّلت به، فيما أعطيت به أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غمست في البحر..