اعلى

الدولة الإسلامية المعاصرة

الأسس والمقومات

حامد السعيدي

إن جدلية الصراع بين التيارات الثيوقراطية والفيزيقية المادية كانت قديمة امتدت إلى أبعد من خمسة آلاف سنة حيث كانت تسود المجتمعات المدنية آنذاك صراعات حول السلطة والحكم وأبعاد وحدود دولتهم فنرى سبي اليهود من فلسطين وجعلهم عبيداً إبان الغزو البابلي تجاه الشام ونرى من جهة أخرى الصراعات الرومانية الفارسية في الهيمنة ومد نفوذ أحدهم على الآخر والسيطرة على ما وراء البحار ثم نرى من جهة ثالثة استعلاء فراعنة مصر وقتلهم لبني إسرائيل واستحياء نسائهم ومطاردة موسى(ع) كما وتعرض المسلمون للقمع والقتل والتشريد إبان الغزو التتري والمغولي بقيادتي تيمور لنك وهولاكو كل هذا هو صراع بين رؤيتين أساسيتين مختلفتين في الجوهر وفي الأساليب فالبعد الديني لا أحد يستطيع إنكاره لأنه حقيقة واقعة تحكيها لنا كتب القرآن والإنجيل والتوراة وله مساحة كبيرة في العالم تعتنق هذه الديانات ولكن التيارات والفلسفات التي عاشت متقارنة مع التيار الديني حاولت وبكل قوة أن تناضل من أجل إثبات ذاتها في مقابل الذات المتدينة وجعلت فلاسفة لها ينوبون عن الأنبياء والمصلحين والرسل ودعمت أفكارهم بكل الوسائل المعنوية والمادية ذلك لأن هناك صراعاً وجدلاً بين الخير والشر في هذا العالم وبطبيعة الحال فإن مصدر هذا الصراع ليس هو الله لأن الله لا يصدر منه إلا الخير والجمال أما الشرور والرذائل والتزاحم فهو نتاج المادة وطبيعتها؛ لذلك استمر الصراع وراحت إثر ذلك نفوس كثيرة من الجانبين فنرى مثلاً أن في القرن الثاني الميلادي وصل دفليديوس إلى العرش في أثينا فهدم الكنائس وحرق الأناجيل وقتل كل من يعتنق المسيحية حتى مات آلاف من الناس ثم ما فتئت حكومته قائمة على الظلم ومحاربة الدين حتى وصل قسطنطين إلى الحكم فأعاد الدين والإنجيل إلى الدولة ونرى كذلك في دولة الخلافة العباسية وقبلها الأموية كيف عم الفساد والمجون جهاز الحكم واستشرى حتى وصل إلى أوجه فكانت نتيجة ذلك أنْ قتل آخر ملوك بني العباس وهو بين الكؤوس والعواهر. ويصف ابن خلدون ذلك الانحطاط نتيجة تمزق الدولة من الداخل والخارج وعدم المركزية التي تجمع أطراف الدولة وانكفاء كل حاكم على شهواته وملذاته دون النظر إلى مصادر التهديد الخارجي والداخلي(1).

أشكال الدولة

إن الدولة هي نتاج بشري، يخضع إلى الرؤية التي تتبناها في قوانينها وسيادتها فنوع الحكومة والقانون قد يكون دينياً وقد يكون ملكياً وقد يكون ديمقراطياً وكل نوع من هذه الأنواع قد يكون مطلقاً أو مقيداً وقد تكون مستبدة في محتواها وفي مضمونها والقوانين التي تعتمدها مستمدة من فلسفتها التي تتبناها وعلى ذلك تكون الحكومة مختلفة في الشكل والمضمون فقد تكون دينية تستمد قوانينها من روح الكتاب والسنة أو من الكتب المقدسة الأخرى وقد تكون حكومة مصدرها القانوني هو القانون الطبيعي أو الوضعي يتفق عليه الشعب حسب رؤية الأغلبية وقد تكون الحكومة متمحورة في الحاكم الواحد أو الملك الذي يرى القانون هو رأيه الخاص الذي يجب أن يسري في روح المجتمع ولذلك نرى جدلية الحكم والسلطة قديمة قدم الإنسان بين الحاكم والمحكوم وفي التاريخ أمثلة عديدة على صعود السلطة أو هبوطها متأثرة بالوضع الاجتماعي والاقتصادي.

فعوامل سقوط الدولة ونهوضها عند ماركس مثلاً هي حتمية تاريخية اقتصادية فالاقتصاد هو العامل المؤثر في حركة التاريخ وأن كل شيء فيه خاضع لهذا المبدأ الاقتصادي فوجود الدولة في العالم الخارجي وتكونها هو نتاج صراع طبقي وهذا الصراع نتيجة الدولة والقانون في رأي ماركس لا يوجد بدون دولة والدولة لا تستطيع البقاء بغير قانون ولكن الدولة ليست سوى أداة للتعبير عن سيطرة قوى الشعب على طبقة الملاك حيث يتوقف بقاء القوانين على انقسام المجتمع إلى طبقات لذلك تعمل الطبقة العاملة للقضاء على الطبقة الرأسمالية وطبقة الملاك فإذا ما انتصرت الأيدي العاملة على طبقة الملاك واصبح المجتمع خالياً منها فلا يوجد ما يدعو إلى بقاء القانون(2).

ولكن هذه النظرة باتت نظرة مثالية إذ أن القانون لطالما ظل مواكباً للتاريخ ولا نستطيع أن نتخيل دولة لا يسودها قانون إذ حتى المجتمعات البدائية والقديمة كانت تحتاج إلى قوانين لترد بعض الأعداء والطامعين في مزارعهم وحقولهم.. فليس العامل الاقتصادي هو المؤثر الوحيد في تغيير الدولة بل هناك عوامل عديدة أخرى.

النظام السياسي في الإسلام

عند دراستنا لبعد الدولة في الإسلام نرى أن النظام السياسي فيه كان متطوراً إلى درجة كبيرة بالنسبة لكل الأنظمة السياسية التي سبقته فالإسلام جاء ليعبر عن رؤية ذات أبعاد شمولية متكاملة على الصعيد النظري والعملي منطلقاً من نقطة جوهرية وهي مبدأ احترام الإنسان بوصفه الغاية العليا للتشريع وبذلك ألغى كل الحكومات التي كانت قائمة في العهد الروماني والإغريقي من نظام ملكي أو أرستقراطي؛ وذلك لأن الإسلام جاء برؤية دينية ودنيوية معاً فلم يلغ دور الله من روح الدولة كما في الدولة الديمقراطية حيث ترى أن الديمقراطية هي سيادة الجميع على الجميع وأيضا يسود كل واحد على نفسه بنفس الدرجة.. أو الدولة الاوتقراطية حيث يسود فيها واحد على الجميع، أو أرستقراطية حيث تكون السلطة العليا لعدد كبير على المواطنين ويسمي (امانوئيل كانت) هذه الأشكال (باللواتحية التجريبية) وتعمل على اصطناع الشعب الذي يجعل من الحرية وحدها مبدأ وشرطاً لكل قهر ضروري لنظام قانوني بالمعنى الحقيقي للدولة وهو النظام الوحيد الدائم - كما يراه - ويرى أن السياسة ليس مصدرها الله بل مصدرها الشعب(3).

والإسلام كدولة تختلف رؤيته عن طبيعة هذه الرؤية لأن فكرة الله لا تستبعد في الحكومة الإسلامية إذ إن هذه الفكرة هي روح القانون والشريعة وكيف يستغنى عنها وهي - أي الدولة - نتاج الهي مصدره النبي(ص) الذي جاء بالقرآن من عند الله ليكون الشكل الداخلي لقانون الدولة. وإن أول قضية يصفها الإسلام هي سيادة الله تعالى المطلقة على الإنسان سواء الفرد أو الأمة كاملة وأمام هذه السيادة لا يملك الإنسان أكثر من دور (العبودية المطلقة) لله وهو حتى لا يملك السيادة المطلقة على نفسه فالله تبارك وتعالى وفقاً للنظرية الإسلامية لا يتجرد عن سيادته تاركاً للبشر حق العمل بما يشاؤون بل هي سيادة تنزل إلى مستوى هذا الإنسان لترسم له الطريق الصحيح في الحكم والتشريع عن طريق إرسال الرسل وانزال الكتب والشرائع وتوجيه الناس(4) وهكذا تبدو الدولة الإسلامية واضحة المبادئ في رسم المخطط الجوهري، فالإسلام هو النظام الديني الدنيوي الذي يأخذ في اعتباره الجانب الميتافيزيقي والجانب المادي للطبائع وينادي بالتقوى وعبادة الواحد الذي لا شريك له والإيمان بالمعاد ويهدي الناس إلى الصراط المستقيم ويرسي الأخلاق في المجتمع ويحارب الرذيلة والفساد والمنكر والربا والفواحش ما ظهر منها وما بطن ويراعي الحقوق والواجبات تجاه الله والإنسان ويقنن للناس كل ما يحتاجون إليه من عبادات ومعاملات ويجعلها يسيرة تتلائم مع العقل والفطرة وتنسجم مع طبيعة التكوين البشري والمحيط الاجتماعي الذي يعيش في وسطه ويوحد الناس ويجعلهم متكافئين فيما بينهم كأسنان المشط إذ لا فرق بين عربي وأعجمي وبين اسود وأبيض وبين غني وفقير وبين امرأة ورجل فكل له حقوق وعليه واجبات وكلهم يعبدون ربّاً واحداً ويصلون إلى قبلة واحدة بل لم يميز بين الديانات الأخرى والفرق والطوائف إذ إنه حفظ لهم دياناتهم ولم يكرههم على الدخول في الإسلام بل أعطاهم حريتهم العقيدية في داخل المجتمع الإسلامي وسمح لهم بالعمل حسب شريعتهم في الزواج والطلاق والعبادة والمعاملة على أن يحترموا القانون الإسلامي والدولة الإسلامية ولا يجهروا بالمنكرات الإسلامية ولهم الحرية المطلقة في موارد نزاعهم وقضائهم(5).

الإسلام والديمقراطية

فالإسلام بذلك أعطى الديمقراطية أسمى معانيها الإنسانية والأخلاقية وهي أمور لم تكن معروفة في عصور ما قبل الإسلام ولا تزال دول العالم تقتبس منه ما يساعدها على التطور والتقدم(6) لقد أسس الإسلام القواعد والنظم الأساسية لحقوق الإنسان وحريته الشخصية والمدنية بصورة دقيقة ومتميزة بل أكثر من ذلك فقد أعطى للحيوان حقوقاً وللنبات حقوقاً وللطبيعة حقوقاً لأنه ما دام كل شيء مسخراً للإنسان وخدمته فعليه أن يحترمه وكذلك أمر الإسلام بالمساواة تجاه القضاء والقانون ولم يميز بين حاكم ومحكوم فالكل متساوون أمام القضاء إذ يقف الحاكم والخليفة الإسلامي أمام المحكمة مثل بقية الرعية إذا ما تعرض لشكوى من قبل أحد رعاياه كوقوف الإمام علي بن أبي طالب(ع) مع خصمه اليهودي أمام شريح القاضي وبذلك تكفل الدولة الإسلامية لرعاياها كل المصالح التي تحفظ إنسانيتها من الاستغلال والإرهاب والخوف وبهذه الصفات تكون الدولة قد انطلقت من مبدأ عام وهو أن الإنسان غاية وجود الشريعة وهي تدور مدار جلب المصلحة له سواء كانت مصلحة عاجلة أو مؤجلة لا يدرك غايتها في وقتها وتبعد عنه المفاسد والمخاطر سواء كان هذا الإبعاد وقتياً أو مؤجلاً وهي بذلك جعلته افضل المخلوقات والكائنات كما في الآية الكريمة (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الاسراء70.

الأخلاق والقانون

إن أرسطو تكلم عن التضامن السياسي والهدف الأخلاقي من الدولة وأهدافها التي تتلخص في الوحدة والعدالة والمحبة والمساواة بين الأفراد كما تكلم عن الدولة المثالية من حيث الملكية والأسرة والتعليم ثم تعرض إلى تقسيم الدساتير وأنظمة الحكم المختلفة سواءٌ كانت ديمقراطية أو خاضعة لحكم استبدادي(7).

إن إعلان ارسطو عن غاية الدولة بأنها أخلاقية هو مثال على أن الهدف الأسمى والأعلى من إقامة الدولة ومشروعها السياسي والقانوني هو القيمة الأخلاقية التي تقدمها للمجتمع البشري وكلما اقتربت الدولة والقانون من القيمة الأخلاقية المنبثقة من طبيعة القانون الفطري كلما تحقق العدل والإخاء والمساواة بين الأفراد والجماعات وعلى أثر هذا تبلورت فكرة القانون الطبيعي وهو قانون أعلى من القوانين الوضعية كافة وهو ما دعا (سيسرون) إلى القول بأن القانون الطبيعي هو القانون السامي والدائم لأنه مسجل في قلوب الناس جميعاً فالقوانين الوضعية المقتبسة من العرف والعادات وضعها الشرع لتتماشى مع أهداف القانون الطبيعي يعني بذلك أن القانون الطبيعي هو حلقة الاتصال بين الحقيقة وسلامة القوانين في مجتمع يسوده النظام والاستقرار(8) هذا القانون الطبيعي السرمدي هو القانون الذي يؤمن به كل العقلاء وكل إنسان لو نظر إلى الشيء بصورة تأملية إنه قانون الفطرة التي هي جزء من الإنسان ومن تفكيره ووجوده ومدى تلائمه مع هذا الشيء أو ذاك إن دعوة افلاطون وارسطو ومن جاء بعدهما هي دعوة حقيقية لأنها كانت صدى الفطرة والعقل وكما قال (سيسرون) إن الطبيعة لم تخلق عبيداً فالقانون هو وليد احساسات وتفاعلات حقيقية تدعو الإنسان إلى تقنين وتشريع ينسجم مع سعادته وهو ما أكده القرآن والكتب السماوية حيث أكدت القيم والأخلاق بوصفها المحرك الطبيعي لإيصال المجتمعات إلى السعادة والرفاه الحقيقيين ومن دون الأخلاق لا معنى لأية قيمة اجتماعية لذلك ورد عن النبي(ص) قوله: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وبذلك تتضح الحقيقة التي مفادها أن القانون يسير مع الأخلاق سلباً وايجابا. إن السياسية الإسلامية تؤمن بهذه القضية، قضية (حكومة القيم الأخلاقية في الغايات وفي الوسائل فليست الأهداف والغايات وحدها يجب أن تكون أخلاقية ووفق المبادئ الإنسانية الحقة بل الوسائل والسبل التي توصل إلى تلك الغايات هي الأخرى يجب أن تخضع للمقاييس الأخلاقية والمطلوب إذن اخلاقيات الغايات + اخلاقيات الوسائل وإن الإسلام يرى حكومة تلك القيم ونفوذها المطلق من دون أن تكون المنفعة الاقتصادية أو السياسية الفردية أو الاجتماعية، الدينية أو الشخصية - دخيلة في تطويق وتحجيم نفوذها)(9).

الأخلاق والفلسفة الذرائعية

إن اتباع الفلسفة البراغماتية أو الفلسفة الذرائعية أو اتباع فلسفة المدرسة الواقعية السياسية وعلى رأسها نيقولا ميكافلي (1469-1527م) هدفها الأساسي هو النجاح في الأعمال التي تقوم بها الدولة اياً كانت الوسائل المستخدمة في تحصيل هذا النجاح، ورأيها يقوم على مبدأ السيادة المطلقة، وهذا المبدأ الذي له أنصار كثيرون - مع الأسف - هو مبدأ وحشي يعتمد على القوة والشراسة والرذيلة للوصول إلى الهدف المطلوب، وهو مبدأ حيواني أكثر منه إنساني لأنه في ظل هذا المبدأ تنعدم الأخلاق وتموت الفضيلة وتسود ظواهر من قبيل المجون والثراء على حساب المثل والقيم العليا. كما نرى اليوم في الدول العظمى حيث تعتمد في سياساتها هذا المبدأ الظالم مع مبادئ أخرى كـ(فرق تسد) أو (إذا فعلت فانكر ما دبرته) أو (افعل واعتذر) فتحصل بذلك الكوارث الإنسانية والتمييز العنصري والفقر الذي يهدد الملايين من البشر والقتل والحروب وما إلى ذلك من مآس وويلات، وينقلب فيه الإنسان إلى كائن آخر.

إن الدين الإسلامي اعتنى بالأخلاق في المجتمع الإسلامي عناية فائقة فعندما نقرأ في كتاب الحدود والديات نرى أن المشروع الإسلامي لم يترك شيئاً من التجاوزات والانتهاكات الأخلاقية إلا ووضع لها عقاباً قانونياً أو غرامة مالية يقدمها للشخص المعني ولا يختص ذلك بالمسلمين بل يعم كل المجتمع بما فيه أهل الذمة والطوائف الأخرى ويعاقب الشرع فاعليها ويشدد عليهم في العقوبة بل ربما ينفيهم خارج إقليمهم ما لم يعلنوا توبتهم قبل القبض عليهم ونرى في الفقه الإسلامي أن المشرع في المجال الاقتصادي أخذ في عين الاعتبار الجوانب الأخلاقية في العمليات التجارية والبيعية والشرائية واستعرضت الكتب الفقهية والأخلاقية المراسيم المستحبة والمكروهة في كل جوانب الحياة الزوجية والوظيفية والعائلية والتعليمية .. الخ.. وهكذا نرى أن العامل المؤثر والفاعل في طبيعة الشريعة هو الجانب الخلقي ومدى التصاقه بالقانون والفقه وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل(10). وهذا المبدأ في علم الأصول يدل على أن الشرع يوافق العقل والعقل تكمن فيه الأخلاق والفضيلة والحكمة وكل الخير والجمال.

تشكيل الدولة الإسلامية

إن تشكيل الدولة والحكومة الإسلامية في المجتمع يعتبر من الضرورات الملحة لأن النظام الإسلامي ليس مجرد تعاليم دينية وطقوس وشعائر وممارسات فردية بل هو منظومة متكاملة من النظم السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية وإذا أفرغت مفاهيم النظام الإسلامي من محتواها الدولي فإنها ستفقد شخصيتها الحقيقية التي مارستها في عصرها الذهبي. فالنظام السياسي بصفة أساسية في الدولة الإسلامية نظام ديني إذ يرجع في مصدره إلى أحكام القرآن والسنة بصفة أساسية ولكن هذا المصدر يتميز بالمرونة الكاملة التي تسمح بتشكيل نظام الحكم على النحو الذي يتلائم مع ظروف الزمان والمكان مع الحفاظ دائما على جوهر القواعد الكلية الثابتة من المصدر المذكور وهذه القواعد هي العدل في الحكم حتى تستقيم أموره في ذلك، يقول الله في محكم كتابه (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وفي آية أخرى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) وكذلك المساواة بين الأفراد وهذه القاعدة تعتبر من سبل تحقيق العدل كما إنها في نفس الوقت من نتائج الأخذ به كأصل من أصول الحكم فهما مترابطان ارتباطاً لا انفصام له وكل قاعدة تعتبر سبباً ونتيجة لأخرى، ومن قواعد الحكم الشورى حتى لا ينفرد الحاكم بالرأي ويستقل بالتصرف في أمور الدولة. فالشورى تمنع الاستبداد وتحترم حرية الرأي وتؤدي إلى اشتراك المحكومين مع الحكام في مناقشة أمور الدولة وتبادل وجهات النظر للوصول إلى تحقيق الصالح العام الذي يعتبر هدف المجتمع وقد حرص القرآن الكريم على تسجيل هذه القاعدة في بعض آياته إذ يقول (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ويقول في موضع آخر (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وينجم عن اتباع الشورى قيام التعاون بين الحاكم والمحكومين وهذا التعاون يجب أن يكون قائماً على البر والتقوى بحيث يؤدي إلى إصلاح المجتمع في مختلف النواحي(11) والأدلة التي دلت على هذه الضرورة ثابتة من القرآن والسنة والعقل فهي أدلة نقلية وأدلة عقلية فالنقلية مثل الآية الكريمة - التي تدل على إثبات الحكم الإسلامي- (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)(12) وآية أخرى (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى)(13). والآية الأخرى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)(14) فالرسول قدوة لكونه من باب الأسوة الواجبة إذ اللازم العمل على طبق أعماله(ص) والدليل الثاني الأئمة والعلماء قدوة ومن الواضح أن تعيين الخلفاء يكون دليلاً على رؤساء الحكم والدولة وقد قام الأئمة(ع) بعده (ص) بدور الحكم إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر والدليل الثالث هو دليل عقلي ومفاده أن تطبيق جميع قوانين الإسلام متوقف على إقامة الدولة الإسلامية وقوانين الإسلام شاملة لقوانين الحكم ولو لم يُرد الإسلام الحكم لم يكن وجه لجعل هذه القوانين - الدالة على وجوب الدولة - مثل قوانين الحرب المفصلة في كتاب الجهاد وقوانين الأموال من الخمس والزكاة والخراج والجزية ومن الواضح أن الخراج والجزية من شؤون الدولة وكذلك الخمس على الأرض التي اشتراها من المسلم وكذلك الأحكام المرتبطة بالمرافعات والحدود والقصاص والديات والقضاء والشهادات ومعاقبة المجرمين كل ذلك من شؤون الدولة إذ بعض الأمور وإن كان بالإمكان إجراؤها بدون الدولة إلا أنها من حيث المجموع لا يمكن أن تقوم به إلا الدولة(15).

لذلك وجب على القادرين إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الأحكام الإلهية في مختلف نواحي الحياة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها من الحقول الإنسانية أو العلمية وأن حدود الدولة الإسلامية لابد أن تكون مهيأة بكل وسائل الأمن والحماية حتى تحافظ على ثباتها كدولة وكحكومة.

الدولة الإسلامية والقانون الوضعي

ولما كانت القوانين الوضعية قد سادت في المجتمعات الغربية وكذلك المجتمعات الإسلامية فقد وجب أن تكون هناك هيئات قانونية لكيفية معالجة القوانين السائدة في المجتمع واسلمتها حتى تتفق مع روح الشريعة الإسلامية كما إن وضع قانون السماء مكان قانون الأرض يحتاج إلى مزيد من الدراية والخبرة لئلا تحدث الفوضى في المجتمع فاللازم أن يعين مجلس الشورى مئات الخبراء والفنيين في مختلف مجالات الحياة وبمئات العلماء الراشدين الفاقهين للدين عن اجتهاد واستنباط وبالمعاونة مع خبراء الدين وخبراء الدنيا يصوغون القوانين المؤطرة بالإطار الديني الملائم للتطبيق الدنيوي(16). اما المواثيق الدولية والعالمية التي ترتبط الدولة الإسلامية بها فهي عقود وبروتوكولات ومعاهدات تلتزم بها كما تلتزم الدول الأخرى تجاه الدولة الإسلامية ويجب احترام المعاهدات والمواثيق كما افتى بذلك علماء المسلمين اقتداءاً بفعل رسول الله (ص) في معاهداته مع المشركين واليهود وغيرهم فالدولة الإسلامية لها أحكامها وقوانينها التي تنسجم مع كل زمان ومكان وأما صفات الحاكم فلابد أن تجتمع فيه صفات العدالة والشجاعة والعلم والكفاءة والذكورة وطهارة المولد وما إلى ذلك من الصفات التي يجب أن تؤهله للحكم وتجعله في المقدمة ويتحمل ذلك أمام الله والشعب.

مفهوم الحرية في الإسلام

إن روسو في نظر الأوربيين أبو الديمقراطية الحديثة وكان كتابه (العقد الاجتماعي) بمثابة الإنجيل لدى زعماء الثورة الفرنسية ومؤسس الحريات الفردية إلا أن الدين الإسلامي سبق روسو بألف سنة على إعلانه حرية الفرد وامتلاكه حقوقه كاملة إذ من يطلع على القرآن لا يشك في أنه المؤسس الأول لحقوق البشر؛ الحقوق المدنية والشخصية وحرية الأديان والعقائد لأن الأصل في الإنسان الحرية في قبال الإنسان الآخر بجميع أقسام الحرية إذ لا وجه لتسلط إنسان على آخر وهو مثله كما إن الأصل في الإنسان العبودية لله فانه هو الذي خلقه ورزقه وكل أموره بيده فاول الحريات هي حرية الجسد فكل إنسان هو حر في بدنه ما لم يعطل أحد أعضائه أو أحاسيسه لان ذلك يعد حراماً في نظر الدين ولان الله خلق الإنسان على أحسن تقويم فلابد أن يحافظ عليه ويصونه ويصلحه ولا يعرضه للمخاطر إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. ثم حق العمل في أن كل إنسان حر في عمله فلا يحق لأحد أن يجبر أحداً على عمل. نعم في صورة القدرة على العمل ولكن بالرغم من ذلك لا يعمل ويكون عالة على الغير أو متسولاً ففي هذه الحالة يجبر على العمل من قبل الدولة لأن بتركه العمل إفساد له، والدولة مكلفة برعاية المصالح ومنها الإجبار على العمل لأجل أداء الدين فيما إذا كان قادراً على العمل الذي يتناسب وشأنه كما أفتى بعض الفقهاء بذلك وإن لم يقدر الشخص على العمل وعلى أداء دينه بالعمل كان على بيت المال رزقه والتساوي بين الأفراد فلا فرق بين ابيض واسود وعربي وأعجمي فلا يحق للدولة أن تخصص بعض مؤسساتها أو ما أشبه ذلك للأبيض دون الأسود أو لغة كذا دون لغة كذا كما كان القانون الأمريكي وبعض البلدان الاستعمارية توجب التمييز بين البشر(17) والإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة أعلن عن هذا الحق في سورة الحجرات من القرآن الكريم (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (18) أو إعلان الرسول(ص) (الناس سواسية كأسنان المشط)(19) إن الإنسان لا يميزه عن الإنسان الآخر سوى التقوى أما الأموال أو الألوان أو الأبناء أو القوة فكل ذلك لا يضيف ولا ينقص أمام الله، أمّا حرية الدين فهي صريحة في القرآن الكريم (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(20) وهو أن الإنسان لا يجبر على تبديل دينه، والكفار الذين يعيشون في بلاد الإسلام لهم الحرية في إبراز عقيدتهم كما إن لهم الحرية في إجراء مراسيم عبادتهم ولا يتعرض مسلم لهم بسوء ولهم أن يعملوا حسب شريعتهم في نكاحهم وطلاقهم وآرائهم وعباداتهم بشرط أن لا يظهروا ما ينكره الإسلام ولهم الحرية في موارد نزاعهم(21).

وهناك حرية الرأي وحرية المظاهرات للتعبير عن وجهة نظر الشعب وحق الإضراب عن العمل وعن الطعام فإن ذلك يجوزه الشرع فيما إذا لم يكن موجباً للموت أو شل قوة أو عضو وحق الزواج وتعدد الزوجات وحق الطلاق، والطلاق وإن كان بيد الرجل فقط إلا أن المرأة إذا اشترطت لنفسها حال النكاح أن تكون وكيلة عن الرجل في طلاق نفسها بشرط خاص مثل أن يسيء معاملتها أو لا يقوم بواجبها ونفقتها، وحق المسكن فانه حق طبيعي كفلته الأديان والقوانين التشريعية ولا يحق لأحد أن يدخل أو يفتش المسكن أو محل الإقامة إلا بإذن صاحبه، وحق التعليم في أن يدرس ما يشاء، وحق السفر والإقامة، وحق الإنجاب، وحق الملكية الشخصية في أن يملّك أو يتملك ما دام رشيداً وغير سفيه وبالغ الأهلية التي تخوله بالتصرف المالي حسب قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم)(22) ما لم يتعارض مع حق عام أو حق شخص آخر من الناس.

وهكذا نرى أن مفهوم الحرية يتحرك بصورة أفقية ما لم يصطدم بالحق العام أو الحق الشخصي فإذا اصطدم بهما يتغير هذا المفهوم إلى مفهوم عدمي ويجري وفق ما يتطلبه المفهوم الجديد ومثال ذلك إذا اصطدم بمبدأ متسالم عليه أو أصل أصولي أو فرعي أجمع عليه أو قاعدة اثبتت عن طريق البرهان، كالقواعد الفقهية التي ثبتت متناً وسنداً كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أو (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) أو (الناس مسلطون على أموالهم) ولذلك تبقى الحرية تجري وفق ما تقتضيه القاعدة العامة التي ثبتت والتي تمثل مبدأ إسلامياً عاماً فقهياً أو عقيدياً حفظاً للمصلحة العامة وتقديم ملاك الأهم في المجتمع على الأقل أهمية لكي يعيش المجتمع بتوازن كامل وفق منظور إسلامي ولا يعتبر سلب حق أو منعه من حق، سلباً لحريته بل على العكس من ذلك فإن الحرية بمعناها الحقيقي هي أن تقيد بعض الحريات من اجل حريات عامة تنسجم مع الأغلبية في المجتمع وتحافظ على سيره الطبيعي بصورة دائمة.

الهـــوامـــش:

1 - مقدمة ابن خلدون.

2 - النظم السياسية والحريات العامة.

3 - فلسفة القانون والسياسة.

4 - السياسة: آية الله العظمى الشيرازي.

5 - السياسة: آية الله العظمى الشيرازي.

6 - النظم السياسية.

7 - النظم السياسية والحريات العامة.

8 - نفس المصدر.

9 - محمد عطا المتوكل - الحكومة الإسلامية.

10 - علم الأصول.

11 - التنظيم السياسي للدولة والحكومة (محمد كامل ليلة).

12 - المائدة47.

13 - سورة ص: 26

14 - الاحزاب21.

15 - السياسة لآية الله العظمى الشيرازي.

16 - نفس المصدر.

17 - السياسة لآية الله العظمى الشيرازي.

18 - حجرات14.

19 - الاختصاص.

20 - البقرة 256.

21 - السياسة لآية الله العظمى الشيرازي.

22 - المكاسب المحرمة.