ملف عدد محرم1422هـ

 

نحـو رؤيــة تكاملية لتحقيق الأبعاد الجوهرية للمنبر الحسيني

 

 

 

علــي عبـد الله

مقـــدمـــة...

يكتنز المنبر الحسيني صوراً عديدة من صور المبدأ والمنهج الإسلاميين اللذين جسدتهما الثورة الحسينية كثورة تعبّر عن أصالة الإسلام المتجسد من خلال أهل البيت (ع) الذين نهلوا من مفاهيم الإسلام العظيمة، والمنبر يمثل الإطلالة العملية والواقعية على الأمة وجسر التواصل الوحيد معها، الذي يضخ المفاهيم الإسلامية والنصوص الفقهية والتعاليم العبادية التي غالباً ما تبقى حكراً على شريحة محدودة من القراء، وبعبارة أخرى إنه جسر التواصل بين المؤسسة الدينية أو الحوزة العلمية وما تنتجه مرجعيتها ومفكروها وبين الأمة الإسلامية، ولأنه كذلك، فقد تعددت مناهجه ومدارسه وأساليبه؛ إذ إن منها ما حوّل المنبر إلى أداة تقليدية على حساب مضمونه ودوره العميق، ومنها ما حوّله إلى أداة تخصصية، ومنها ما جسده في بعده الحضاري وفلسفته الشمولية ـ الإصلاحية وفق منهج يتلاءم مع ضرورات الخطاب الموجه إلى الأمة ويلحظ فوارق الوعي ومستوياته ودرجاته.

ومن هنا يكتسب المنبر الحسيني أهمية كبرى لدوره الإعلامي النافذ في خضم التعدد الهائل والتنوع المذهل لأدوات الإعلام وآلياته ووسائله التي تستمد قوتها من المنطلقات التاريخية التي تعني إعادة قراءة التاريخ بشكل فاعل لإسقاطه على الواقع بما ينصرف إلى إنجاز المهمة الإصلاحية التي يضطلع بها؛ من خلال سعيه المتأصل في جذور الأمة التاريخية والحضارية لاستكمال دورها الفاعل بما ينسجم مع العناوين الجديدة التي أفرزتها التطورات الحاصلة في عالم اليوم المتجه نحو القريةالكونية.

الملازمة بين النبر والذات

تمتاز الذات الإنسانية عن غيرها من الذوات بخصوصيتها المتفاعلة بين العقل والإحساس، فما تدركه الذات المفكرة ينعكس في أحاسيسها وبالعكس أي ما تشعر به أو تحس، بل ينتقل إلى تصوراتها ومن خلال هذه الملازمة بين العقل والإحساس تسعى لأن توظف نشأتها الفكرية من خلال تدرجها وتماسكها مع الأساسات الابستمولوجية المقومة لها. وما يحصل بين الذات والمنبر هو نوع من أنواع العلاقة التفعيلية بين حاجة الذات إلى الخطاب، وبين إمكانية الخطاب لتفعيل الذات لبلورة أو صياغة متطلبات الرواية الواقعية لشروط الحاجة الفعلية للنص الخطابي.

فالمنبر يعتبر أداة ثقافية متصلة مع قانون التواصل الثقافي بقيد مواكبة الجمهور الذي يقتضي استغلال الآلية الأمثل بما ينطبق مع شروط الحالة التعددية لهذا الخطاب بغية تحقيق أسس الخطابة النهضوية التي تتضمن خلق عملية اجتذاب للمتلقي - أي الجمهور - وهذه العملية تأتي من خلال الإمكانية التي يمتلكها الخطيب لمناشدة العاطفة والعقل لدى الجمهور كأن يستحثهم لأمرٍ ما وكأنه ينسج خيطاً اعتبارياً بين الذاكرة والواقع، بين حجم التصور وإمكانية التصديق، والانتقال بهذه الذات وحملها إلى المدينة المنورة ومنبر الرسول(ص) أو الكوفة ومنبر الإمام علي(ع) أو أرض كربلاء والدماء الطاهرة التي سالت على صعيدها.

والمنبر الحسيني يحتاج إلى نقطتين جوهريتين:

الأولى: تتعلق بنوع الجمهور، لأي شريحة ينتمي وأي جهة من جهات المجتمع يخاطب. ففي كتابه (فن الخطابة) يقول أرسطو: (إن فن الخطابة يحتاج إلى فهم مستويات الجمهوري الابستمولوجية (المعرفية) وما ينطلقون منه لكي يصبح مقدمة من خلالها ينطلق الخطيب في خطاباته).

وكما يوظف العالم النفساني بيرداغو في كتابه (الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث) شكل التواصل بين الخطيب والمتلقي بقوله: (الخطيب (أي خطيب) عند المتلقي يمثل (طوطم) الكلام أي الرمز..). وما ينبغي أن نطرقه الآن هو كيف نعود بالمستوى الخطابي كمضمون إلى صدر الإسلام ورسوله الأكرم (ص)؟ والجواب على هذا السؤال يحملنا على تعريف الخطاب باعتباره مجموعة من النصوص التي تتشكل وتتهذب وتتركب وفق الحاجة النظرية لإبراز مقولة الشيء المراد إقناع المقابل به، فالخطاب من خلال خصوصيته ينبغي أن يكون قابلاً لهذا التفكك وإعادة صياغته بما ينسجم مع شروط الحاجة التركيبية الجامعة لوحدة الزمان والمكان. والخطيب عندما يستعرض الواقعة في كربلاء مثلاً، يحتاج إلى تهيئة عاطفة المخاطب وعقله لتأريخ هذه الواقعة، وهذه التهيئة ستكون مقدمة للولوج إلى نفس المخاطب ومحاكاته وهنا تنبعث شروط الترابط مع العصر الجديد والحالة الجديدة بمميزاتها القائمة حسب خبرة الخطيب وإطّلاعه وموسوعيته، فيعرف مثلاً ما تواجهه الشعوب المظلومة من قهر واستبداد ويعرج إلى جوانب أخرى اقتصادية واجتماعية وإلى غير ذلك.. وعندئذٍ تصبح مخاطبة العاطفة الإنسانية جزءاً من مضمون ثورة الإمام الحسين(ع) الذي كان خيرُ مدافعٍ عن حقوق المظلومين والفقراء في العالم.

عندئذٍ تصبح مهمة الخطاب تعبوية وتوجيهية وتربوية في نفس الوقت من خلال إمكانياته الاستيعابية لعنصري المفهوم والمدلول ومن خلال قابلياته الاستعدادية للتغلغل في عواطف الجمهور، وبث روح الاستجابة الملائمة للخطاب المنشود، ومتى كان الخطيب قادراً على أن يولد في جمهوره لغة الانتماء للثورة الحسينية كمضمون فكري وكنهج رسالي قائم في كل الأزمان والأمكنة، استطاع أن يكون فاعلاً ومتصلاً مع شروط ومتطلبات الحالة الجديدة.

مواصفات الخطيب الناجح

لا شك أن لغة الوعظ تحتاج قبل كل شيء إلى تدريب النفس وصيانتها عن المعاصي والمهالك. فكما يحتاج المصلون إلى الإمام الذي يأتمون به، كذلك الحال بالنسبة لحاجة الجمهور إلى الخطيب القدوة، ومن هنا تصبح عملية الوعظ رسالة تميز الواعظ عن المتعظ، ويصبح دوره كالإمام الذي تقع عليه مسؤولية الأمة.

يقول رسول الله (ص) مخاطباً ابن مسعود: (يا بن مسعود فلا تكن ممن يشدد على الناس ويخفف على نفسه.. ). وهذا تأكيد لما قاله الله سبحانه وتعالى: (لم تقولون ما لا تفعلون..).

ويستمر الرسول (ص) في خطابه لابن مسعود: (.. يا بن مسعود لا تكونن ممن يهدي الناس إلى الخير ويأمرهم بالخير وهو غافل عنه.. ) تأكيداً لقوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)(5) كما ورد عنه (ص): (أوحى الله إلى عيسى بن مريم: عظ نفسك بحكمتي فإن انتفعت فعظ الناس وإلا فاستحي مني) (6).

ولهذا يشير السيد الإمام الشيرازي (دام ظله) بأن كل إنسان عندما لا يكون موضعاً للثقة بين الآخرين لا يكون يجتمع الناس حوله، مثله مثل التاجر الذي تسلب ثقة الناس منه فتزول تجارته وعندما لا يكون العالم أهلاً للثقة ينفض الناس من حوله. والخطيب بهذا المعنى يصبح مصداقاً لأمور كثيرة فمثله مثل إمام الصلاة ومثل العالم ومثل التاجر في مورد الثقة والأخلاق فكما قال الرسول (ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). والأخلاق كما هو مذكور في (جامع السعادات) وغيره في موارد الأخلاق إنما تشمل أفراداً كثيرة كالصدق والأمانة والغيرة والحياء والنشاط ولين الكلام والمراقبة للنفس من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كما إن الأسلوب الذي ينبغي مراعاته لدى الخطيب يعتبر حلقة الوصل بينه وبين الجمهور فمثله كمثل الحبل الذي يرتبط بمشاعر وأحاسيس الجمهور؛ فالبارع في الخطابة هو المؤثر في الجمهور، وهذا التأثير يتأتى من خلال نية الخطيب بأن لا يدع الشيطان يتسرب إلى قلبه، ويبني على قاعدة مؤداها كسب الجمهور لبناء منبر لخدمة منهج الإمام الحسين (ع) ، ومن خلال معرفة دوره كقائد للجماهير وإمام موجه لهم على أساس ما تقتضيه الإمامة في تحمل أعباء الواجبات الرسالية المناطة بهم ودورهم في حركة الأمة. وهذا يقتضي أسلوباً ناجحاً في التأثير حيث يرى الشيخ المظفر (رحمه الله) بأن شخصية الخطيب تتأتى من خلال أسلوبه الناجح في محاكاة الجماهير والتحدث إليهم والتأثير عليهم في قيادتهم ومتابعتهم من خلال المنبر نفسه، فالمنبر الخطابي عندما يصبح جسراً للتواصل الاجتماعي سيكون حلقة مهمة من حلقات التأثير في تربية نفوسهم ومخاطبة عقولهم. وهذا أيضاً يحتاج إلى قاعدة ثقافية متوازنة لتعميق الدور الفاعل للخطيب ويصبح قادراً على أداء مهمته الشاملة في التثقيف والتأثير، وبهذا نضمن للمنبر ممارسة ثقافية واجتماعية جادة ولها دورها المتميز في حركة الأمة.

وهذا يقتضي مراعاة جملة من الالتزامات التي ينبغي توفرها في الخطيب وهي:

- تربية النفس وإنشاء منظومة معرفية خاصة.

- الأسلوب الخطابي؛ بكل ما يشتمل عليه من أداء وصوت واختيار الموضوع إلى غير ذلك..

- الثقافة الإسلامية والثقافة العامة؛ بما في ذلك من مقارنات بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات.

ولغرض مراعاة هذه المقومات بما يتلاءم وشروط المنبر نحتاج إلى مدرسة النخبة من الخطباء ليصبح المنبر نافذة تتجسد من خلالها كل معاني القيم ويطل بواسطته كل من تحققت في نفسه شروط تلك المعاني. عندئذٍ يصبح الخطيب قدوة ومعلماً ونموذجاً ليعطي للمنبر حقه وخصائصه الشمولية المؤثرة في الأمة؛ فجسد الأمة واحد وكيانها واحد ومتطلباتها واحدة، لكنها أمة متمزقة تعاني الكثير من الويلات والانحرافات، وتعاني الكثير من الشطحات، وهذه المظاهر تشكل برمتها إفرازات لعصور تاريخية مضت، وتراكمات حصلت، فكان لهذه الإفرازات أن تنعكس إلى حد ما نسميه بالاعوجاج الذي يحتاج إلى صرخة كبرى تنبع من ضمير حي، تستقطب قلوب الجماهير، تؤثر فيهم، تمنحهم حقهم في الحياة، تجسد أخلاق مدرسة أهل البيت(ع) من خلال مدرسة المنبر نفسه، فيصبح الخطيب قائداً جماهيرياً نافذاً في إحساس الجمهور.

وبهذا فإن مهمة الخطيب تحتاج إلى مخاطبة العقول ومناشدة الضمائر.

في مفهوم الخطاب والخطاب المعاصر

إن المنبر الحسيني بدأ كرثاء شعري وأدبي بحت، ثم تطور إلى ذكر النصوص المفجعة لواقعة الطف بكربلاء، بعد ذلك بدأت الخطابة تأخذ طابعاً تكاملياً بحيث يجمع الخطيب ما بين الشعر الرثائي إلى جانب الروايات والقصص التاريخية التي تمجد الحسين (ع) وأهل البيت جميعاً، ثم حصل التدرّج الزماني للمنبر المعاصر الحديث (زمانياً) ليعطيه طابعاً متميزاً ابتداءً من الخطيب الشيخ أحمد الوائلي الذي أدخل السرد العلمي والفكري وحتى الأدبي على النص المنبري الحسيني. ثم برز آخرون على منهجه مثل الشيخ عبد الحميد المهاجر وكوكبة خطباء السبعينات من القرن العشرين الميلادي.

وربما نجد البعض يذهب إلى الدعوة إلى التحول بعرض مأساة الإمام الحسين (ع) بطرق فنية حديثة كالسينما والمسرح حيث تكون الرواية إلى جانب المؤثرات المسرحية والسينمائية تكنولوجيا خطابية حديثة من قبيل تطوير ما موجود من مشاهد الخيام والشبيه وغير ذلك من مراسم عاشوراء.

وبما أننا نعمل على نص ما فإن ذلك النص يتكون من مجموعة مقاطع تتكون بدورها من مجموعة جمل والجملة أو (النص الأول) هي اللبنة الرئيسية في رسم مخطط المفهوم الشامل للموضوع وحتى يزداد الحبك تماسكاً تصبح هذه الجملة هي المسؤولة عن المقطع الأول وعن النص الأخير أي ما يسمى بـ(الكوريز) أو مقدمة المصيبة لذا يصبح اختيار المقدمة أمراً ضرورياً لتدعيم النص الأول الذي عادة ما يستهله الخطيب بآية قرآنية أو حديث نبوي لبناء أساس موضوعه.

فالسؤال هذه المرة هو عن كيفية البحث عن الآلية التي ينبغي على الخطيب أن يتبناها لكي يوصل مفهومه إلى مستمعيه. فالإنسان الذي امتطى مركب العصر وما دام في حركة مستمرة، يجب أن لا يغفل للحظة عن قيادة المركب. والغاية من هذا هو عدم النظر إلى ما يسمى بخطابة المنبر الحسيني كمهنة من المهن التي تقوم عليها تقنيات معينة معروفة في أوساط المهتمين بذلك، بل ينبغي أن يتم تناول السيرة الحسينية بأبعادها الشمولية لما تقتضيه مصلحة الأمة باعتبار أن الثورة الحسينية ذات مضامين وأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية شاملة فالإمام الحسين (ع) بطل العقيدة، وبطل المبادئ التي ترتبط بالعقيدة وقد دفع بنفسه وعياله - نظراً لما اقتضته حاجة الأمة وحاجة التغيير - لدرء مظاهر الانحراف واقتضاء مصلحة العقيدة الإسلامية لتغيير الواقع الفاسد وإعادة بناء ما جاء به الرسول محمد (ص) ومن هنا اكتسبت الثورة الحسينية أبعادها التي يمكن أن تكون مرتكزاً أيديولوجياً لمواجهة الصراع القائم مع حالات الانحراف الجديد، فالسيرة الحسينية بالإضافة إلى كونها تخاطب العاطفة والوجدان، فإنها ينبغي أن تأخذ دورها الفكري والأخلاقي انطلاقاً من مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وتماشياً مع متطلبات الجهاد الأكبر التي فرضها الإسلام لمحاربة الكفر والضلالة والتصدي لمن أراد طمس حضارة القيم الأخلاقية التي جاء بها الحسين (ع) لكي يصبح المنبر وسيلة حضارية تربط بين الأصالة والحداثة لإنجاز التحفز الحضاري حيث توفر الأصالة المنهل المقدس للانطلاق والوثوب، بينما تحفز الحداثة ما موجود من أسس وتيارات جديدة وآلية تنسجم مع متطلبات الصراع القائم بما يتوافق مع مصلحة الأمة الإسلامية وصولاً إلى الذروة في استخلاص النتائج، من هنا فإن الآلية الجديدة التي يحتاجها المضمون الخطابي ستقوم بدورها في صبغ الخطاب بمعرفية واسعة وبأشكال من التجديد تحفظ قدسية المنبر الحسيني.

خصوصية النص

إن العودة إلى فهم خصوصية الخطابة تقتضي مراجعة النص الذي يعتمده الخطيب كونه يختلف عن الخصوصية الشعرية أو القصصية أو المقالاتية، بل إنه يجمع كل ذلك في نصه، لذا وجب على الخطيب أن يمارس كل طقوس المعرفة باعتبار أن مهمته ستتجاوز خصائص النص الشعري والقصصي والتاريخي لتقوم بتحليل المضامين الجوهرية لتلك الخصائص، من هنا صارت الجملة الخطابية أكثر بعداً، وأكثر تسويغاً، لكي يتحتم على الخطيب إبراز محاسن خطابته، من خلال ما ينبغي أن يقوم به ومن خلال ما يتحتم عليه مراعاته على أساس النقاط التالية:

1- البحث عن سردية خطابية تحيل النص إلى حبكة تقترب به إلى التشبث والقفز. وهنا نرجع إلى الخطاب الأدبي أو النص الأدبي (شعر، قصة، مسرحية.. وغيرها) فهناك خط بياني يتحرك عليه الحدث بحيث إن السرد القصصي - مثلاً - لا يبعد عن ذلك الخط (خط الحدث) بل يسبح عائماً جيئةً وذهاباً قريباً من ذلك الخط، فمبدأ التقافز الخطابي، وعدم إكمال الفكرة وعدم بلورتها يحيل الخطاب إلى مجموعة قفزات ومقاطع غير مرتبطة مع بعضها البعض، وفيها تضيع الفكرة، فيتقطع الاستيعاب عند المتلقي من جراء ذلك، وهذا ما يعبّر عنه بغياب وحدة الموضوع.

2- بما أن الخطاب يتجاوز حواجز التلقي الجاهز إلى أبعد منه، أي إن عملية استيعابه أكثر انتشاراً وشمولاً، حيث تستوعبه أعداد لا بأس بها من الناس الذين قد يكون فيهم الكثير من غير المختصين أو من غير المهتمين بالثقافة، لذا فالواجب على الخطيب أن يختار جملته الخطابية التي تتناسب مع الزمان والمكان، وأن يأخذ بنظر اعتباره أن المقولة انعكاس لقائلها.

3– البحث عن قاعدة نصية لها جذور مؤثرة في الواقع وهذه القاعدة هي التي يحتاج إليها المتلقي (المستمع) فحاجة الجمهور الثقافية تبحث دائماً عن إيجاد صيغة توافقية من المخالطة والمزاوجة بين النص (أي نص) - بوصفه آلة للتواصل المعرفي وبين التطور المعرفي - في كل جوانب المعرفة، فكما أن التواصل المعرفي صيغة للذروة الخطابية المنبرية، فإن المنهل الأدبي يساعد على تشذيب ذلك النص من شوائبه بما يحيله إلى نص مهذب. وأخيراً جاءت الحاجة إلى دراسة النصوص بما يضمن تفكيكها وإعادة صياغة الخطاب المنبري بما يتلائم ودخولنا القرن الحادي والعشرين المتخم بهجوم الكومبيوتر وثورته، والانترنيت وكل وسائل الاتصال السريعة التي أحالت العالم إلى قرية كونية.

إن هذه المعالجة السريعة تركزت على النص (أي نص) والخطاب بالأخص دون الأخذ بـ(أيديولوجيته) وهي عجالة لها ثغرات وعيوب لكنها تعتمد بالأساس صيغة جديدة في قراءة النص وحداثته هي صيغة المدرسة التفكيكية للنص.

المنبر في عصر المعلوماتية

لا شك أن للوسائل البصرية والسمعية الحديثة دوراً هائلاً في عملية الانتشار الثقافي وقد اعتمد الغرب على هذه القاعدة في فضائياته التي سخرها لخدمة أغراضه المتعددة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع كظاهرة للغسيل الدماغي أو الغسيل العاطفي الذي يعدّ السمة الأساسية للغزو العولمي الحديث بما يكاد أن يمنح العقل الغربي ظاهرة الهيمنة لهذه الوسائل التي تعد أكثر انتشاراً وأكثر تأثيراً. خصوصاً وأن عملية احتوائها لأفراد الكينونة البشرية تحتاج إلى جذب الانتباه وإثارة الاهتمام وخلق الرغبة العاطفية أو الحسية لدى المتلقي لتأخذ مسألة الهيمنة مساحة انتشارية ذات أبعاد شمولية أكثر.

من هنا فإننا نحتاج اليوم أكثر من ذي قبل إلى استغلال هذه الأجهزة (شبكات الانترنيت وأجهزة الاتصال الحديثة) لإيصال الخطاب الممتلئ المتحمس إلى أبعد القارات في العالم.

فالإسلام منهج عالمي، وخطاب شمولي، لا ينحصر في مجتمع واحد دون آخر. والخطاب الإسلامي جزء من هذا المنهج، ورسالة تحمل بين أكتافها وحي السماء، بما يمنحها سمة خالدة، فكيف يصبح باستطاعتنا الاستفادة من ظاهرة العولمة لما فيه خدمة الإسلام. فالغرب استعان بحضارتنا التي سبقته ليصدر إلينا منتجات هذه الحضارة لما فيه خدمة لمآربه السياسية والاقتصادية، ونحن اليوم بحاجة إلى استغلال هذه التقنية لإرساء معالم نهضتنا الإسلامية التي استوعبت العالم كله من خلال دور الإسلام التبليغي الذي يقوم به في أنحاء القارات بما يضفي عليه صبغة ماجدة على مر العصور والأزمان بما يمنحه قوة انتشارية نافذة تخاطب العقول والعواطف، تخاطب الروح التي لم يمتلكها العالم الغربي.

لقد امتلك الغرب الوسائل ولم يمتلك الغايات، ونحن نمتلك ما هو أرقى من الوسائل لأننا نمتلك الغايات.

والسؤال هو كيف يمكننا الاستفادة من هذه الوسائل لما فيه خدمة الغايات؟

والجواب على هذا السؤال يلقي الضوء على كيفية مواجهة الصراع القائم، هذا الصراع الذي يقرر مصير الإنسان، مصير الحق، فإن انتصار العقل الإسلامي مرهون بأدواته؛ تلك الأدوات التي تستخدم هذه الوسائل لتمنح الغايات ونحن الآن نعيش ما يطلق عليه صراع الحضارات.

والخطيب مصداق من مصاديق هذه الأدوات التي تخوض عملية الصراع، وإن نجاحه يقترن بطريقته الخطابية وشخصيته الإسلامية لأنه يحمل أعباء هذه الأمة بما يجعله مستعداً لإكمال دوره القيادي، لأن دوره يتجسد من خلال استعراض مشاكل الأمة، من خلال واقعة أرادت لهذه الأمة أن تنتصر، وانتصار هذه الأمة مرهون بطريقة أدائه الفاعل لما أراده المنهج في أهداف وخصائص ثورة الحسين (ع) ليصبح جسراً رابطاً بين شروط نهضة الأمة ولغة العالم، وهذا الاتصال يحتاج إلى وسيلة تقوده إلى الأمام.

وليضع الخطيب في حسبانه بأنه اليوم أصبح بأمس الحاجة إلى الامتثال لتلك الأهداف والخصائص الحسينية، كما إن نطاقه قد تحول إلى نطاقٍ عالمي في التبليغ والخطابة، فمهمته بقدر ما هي رسالته بقدر ما هي تحتاج إلى تفعيل، والتفعيل جزء من مهمة شاقة وعسيرة، لكنها ستصبح سهلة فيما بعد عندما تمتلك جزءاً من نفوذها الاستثاري في هذا العالم، وهذا الجزء هو اللغة العالمية نفسها، فالخطيب القادر المتمكن من التحدث باللغة الإنكليزية هو نفسه القادر أن يستقطب العالم كله من خلال استمراره ومواصلته لمراجعة معلوماته بما يضيف لها نصوصاً جديدة وقواعد معرفية جديدة.

فالخطيب المنبري عندما يمتلك شخصية عالمية يصبح قائداً ومجاهداً ورسالياً تشهد له الحياة بقيمة شمولية، وتتجسد من خلاله رسالة الأمة إلى العالم أجمع خصوصاً ونحن نعيش صراعاً عسكرياً وثقافياً وسياسياً. فكيف يمكننا أن نتناول الخطاب الحسيني بصيغته السياسية والثقافية والعسكرية؟ وكيف يمكننا أن نتجه إلى قاعدة الإسلام التي نص عليها كتاب الله وعترته الطاهرة؟ وكيف نقود العالم إلى مبادئ الإسلام؟

فالانترنيت وسيلة من وسائل الانتشار التي أمست إليها الحاجة في أيامنا هذه التي تشهد تسارع حركة التطور التقني، والثوران المعلوماتي.

المنبر هنا سيصبح وسيلة إعلامية نهضوية، وسوف يكون له دور في إصلاح شأن هذه الأمة، والخطيب لغة المنبر ونافذته المطلة على العالم.

مناهج المدرسة الخطابية

لا شك أن الخطيب المثقف هو الخطيب الذي يغني محاضراته ومجالسه من خلال اعتماده على تهيئة مادته الفكرية لتصبح تلك المادة منبراً معرفياً يتوافق مع شروط قواعد المنبر الذي لا يرتقيه إلا من امتلك القدرة لارتقائه؛ من هنا فهو يحتاج إلى مراجعة المصادر والوثائق والدراسات والإحصائيات التي تغنيه في بحوثه، لكي يصبح كلامه قوي الحجة وواضح البرهان، ونافذاً في نفوس الناس وعقولهم.

وأهم المصادر هو القرآن الكريم، باعتباره منبع للفهم والمعرفة والتشريع، بالإضافة إلى كونه مقياس للخطأ والصواب، وعلى أساسه ومن خلاله تستمد العقيدة الإسلامية رفعتها وشأنها في القوة والتأثير؛ سيما وأن الخطيب يعدّ الصوت المعبر عن الإسلام ومنهجه بما فيه خير الناس وصلاحهم.

فمن درس القرآن دراسة عملية ناجحة يصبح مؤهلاً لامتلاك قاعدة عملية في التطبيق المعرفي والأخلاقي، ومن المصادر الأخرى التي ينبغي للخطيب الاعتماد عليها هي السنة كونها مرجعاً عملياً للمعارف الإسلامية للانتقال بالمعارف الكلية التي وضعها القرآن إلى المعارف التفصيلية والتي وردت في أحاديث الرسول(ص) وعترته الطاهرة(ع). وكذلك علم الحديث، وهي من المهمات التي ينبغي على الخطيب الاهتمام بها بدقةٍ وذلك لكثرة ما ورد من أكاذيب وافتراءات مقصودة من الأطراف المنافقة التي دخلت الإسلام في بداية دعوة الرسول الأكرم (ص) واستمرت.

وكذلك يتوجب على الخطيب أن يتسلح بالثقافة الفقهية والأصولية، لأجل تجاوز الكثير من العقبات التي يمكن أن يصطدم بها، هذا بالإضافة إلى مناهج معرفية أخرى يحتاجها ويعتمدها؛ كالسِّير التي تحتاج إلى الدراسة الواعية، ومنها سير الأنبياء والمرسلين، وخصوصاً سيرة نبينا محمد (ص) لتصبح مقياساً لأعمال الأمة وسلوك أبنائها.

وكذلك علم النفس الذي له دور في مخاطبة النفوس وهي مهمة المصلح نفسه، وهنالك مصادر كثيرة في حياتنا تدخل في مدرسة الخطابة كعلم الاجتماع، والأسس التربوية الإسلامية، والعرفان الذي ينقلنا إلى تهذيب النفوس لما فيه خير الدنيا والآخرة، والتاريخ المتطابق مع القيم والمبادئ، والأدب والفن الإسلامي، ودراسة نشأة الفكر الإسلامي، والإحاطة بالواقع السياسي الحالي لأغراض التحليل والنص الخطابي.

المـــراجـــع :

1 – مجلة (رسالة الحسين)، إصدار مركز دراسات نهضة الإمام الحسين (ع) / 1412هـ. العدد الأول/السنة الأولى/1411هـ. العدد الثاني/السنة الأولى 1412هـ

2 – إلى الوكلاء في البلاد/ الإمام الشيرازي (دام ظله)/ الطبعة الثانية 1419هـ ـ 1998م دار الصادق ـ بيروت، لبنان.