من هدي المرجعية

الســنن الإلهيــة الثــابتــة

ركيــزة البقــاء وقــوام الــوجــود

إقتباسات من فكــر الإمام آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظلة )

من السنن التي نجدها في التاريخ البشري منذ خلق الله آدم(ع)، أنه سبحانه وتعالى بعث لكل مجموعة من الناس - سواء كانوا في قرية أو مدينة أو كانوا أمة بالمعنى اللغوي أو غير ذلك - بعث نبياً أو نذيراً ليهديهم إلى الصراط المستقيم، وهذه هي الهداية المطلقة والسنة الدائمة التي أشار إليها القرآن الحكيم ابتداءً من أوّل الخليقة وانتهاءً بيوم القيامة، فقد قال سبحانه وتعالى: (ولكل أمة رسول)(1)، وقال أيضاً: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً) (2)، وقال سبحانه وتعالى: (وأن من أمة إلاّ خلا فيها نذير) (3)، وذلك لتتوافق الهداية الخارجية مع الهداية الداخلية، فقد فطر الله سبحانه وتعالى الناس على معاني الخير الواقعي سواء كان ألوهية أو رسالة أو قيامة أو أخلاقاً أو معاملات صحيحة أو ما شابه ذلك، فقد قال سبحانه وتعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (4).

وهذا ما يشاهده كل فرد في داخله، ولعل الفطرة أعمّ من العقل، فالعقل هو رسول في الباطن، كما أن الرسول هو عقل في الظاهر، وليس معنى قوله: (وإن من أمة إلاّ خلا فيها نذير) (5) أن في كل قرية يكون نذير لأن الله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً) (6)، بل أحياناً كثيرة يكون النذير في أمّ القرى وليس في القرى المتناثرة، قال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا) (7) والعذاب الإلهي لا يكون على الأمة إلاّ بعد الإنذار والتحذير كما قال سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) (8).

فمخالفة الأحكام العقلية وإن كانت عند العقلاء توجب العقاب إلا أن الله سبحانه وتعالى بلطفه وفضله لا يعاقب إلاّ بعد الإنذار الخارجي فهو يبعث الرسول أو وصيّه أو ما أشبه ذلك.

فالله سبحانه وتعالى إذا رأى الناس يخالفون معطيات عقولهم لا يعذّبهم بل يتركهم وشأنهم، حتى يبعث الأنبياء، وبمجرد بعث الأنبياء وإتمام الحجة لا يعاقب الله سبحانه وتعالى بل بعد أخذ الناس بالبأساء والضراء كما قال سبحانه: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) (9) وقال في آية أخرى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) (10)، وفي أحيان كثيرة يأخذ الله الأمم بالبأساء والضراء وبالحسنة فيمنحهم الله ما يشاءون من الخيرات والنعم أو الشرور حتى تكتمل عليهم الحجة كما قال سبحانه: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتةً وهم لا يشعرون) (11)، والسراء والضراء هما الاختبار والامتحان، فكأن الله يريد أن يقول لهم أعطيناكم الحسنة فلم تؤمنوا وأرسلنا عليكم السيئات ولم تؤمنوا فتمت عليكم الحجة البالغة.

أما قوله سبحانه وتعالى: (ألم نجعل له عينين * ولساناً وشفتين * وهديناه النجدين) (12)، فلربما أشارت الآية إلى الهداية الخارجية كما يفعله الأنبياء والأئمة(ع)، ولربما قصد منها الهداية الباطنية ومقصودنا العقل والفطرة، لكن الظاهر أن الآية أعم منهما فإن إطلاق المطلق يفيد الإطلاق إذا لم يكن هناك تقييد، وقد ذكرنا أن الهداية الخارجية تكون مؤيّدة للهداية الداخلية، وأن الله سبحانه وتعالى يهدي كل إنسان إلى الخير بعوامله الداخلية كالعقل والفطرة أو بعامل خارجي كالأنبياء.

ومن سنن الله سبحانه وتعالى الهداية بسبب الأنبياء، وما نشاهده من ضلال في بعض الأمم لا يدل على عدم وجود المنذر والرسول، فلربما بعث الله المنذرين والرسل كما ورد في القرآن الكريم وكما دلت الروايات على ذلك لكنهم انحرفوا فالأنبياء هم سبب وطريق للهداية قد تأخذ بها الأمم فتسير إلى الطريق القويم وقد تعرض عن ذلك فتنحرف وتسقط.

أما إن الهداية بسبب النبي إذا جاءت فتكون شاملة للجميع فلا ضرورة لذلك، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة في هذه الدنيا حسب السبل العادية، إذ قال سبحانه وتعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حقّ القول مني لأملأنّ جهنم من الجنّة والناس أجمعين) (13).

وقد بينّا في (فقه العقائد) والذي هو مقدمة لفقه العبادات والمعاملات أن الله سبحانه وتعالى خلق أناساً سيكون مصيرهم النار، وخلق أناساً سيكون مصيرهم الجنة كما قال سبحانه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس) (14) وقال سبحانه: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً) (15).

وعلى أي حال فمن سنن الله تعالى في هذه الأرض الهداية بواسطة الأنبياء والأوصياء.

    الابتلاء في الدنيا..

ومن سنن الله في عباده أن يبتليهم، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق الحياة للإنسان وفيها آلام وآمال وخيرات وشرور، وهذه هي وسائل الابتلاء، وهناك أشياء يحبها الناس ويميلون إليها ويطلبونها ويدافعون عنها كما وأن هناك أشياءً لا يحبونها ولا يرغبون فيها ولا يريدونها ويدفعونها عن أنفسهم، والإنسان بين هذا وذاك حرّ يتمكن أن يستعمل هذا وذاك، يستطيع أن يتحلّى بالشجاعة أو الجبن، ويتصف بالكرم أو البخل، الغيرة أو اللامبالاة ذلك لأنه مختار، وباستطاعته أن يفعل ما يريد، قال سبحانه: (وهديناه النجدين) (16)، أي الطريقين الواضحين، طريق الشيطان وطريق الرحمن.

وقد كلف الله الناس أن يقطعوا النظر عن الملذّات المحرمة إلى الملذّات المحللة، وأن يصبروا على الآلام إلاّ المحرمة منها، وبهذا الأسلوب يتم امتحانهم، هل يأخذون بالرخص أم يأخذون بالمحرمات، فإن الملذّات والسعادة والآلام ومشتقاتها هي أساس الحياة الدنيوية كما قال سبحانه: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (17).

والله سبحانه وتعالى لم يرد أن يكون جميع الناس سعداء ولا جميع الناس أشقياء بل فسح المجال لكلا الأمرين.

وهناك أسباب لظهور الآلام سواء آلام البدن كالأمراض أو خارج البدن كالزلازل والفيضانات والصواعق وما أشبه ذلك.

والجامع لجميع الأمم الذي هو بمنزلة المادة أو الجنس هو استواء الأمم والأفراد في الامتحان إذ قد تكون الامتحانات في الأمة بمجموعها أو قد تستولي على الأفراد كالمرض والجهل والفقر والفوضى، وقد قال سبحانه وتعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) (18) فالفقير فتنة للغني، والعالم فتنة للجاهل، والجاهل فتنة للعالم، والقوي فتنة للضعيف، والضعيف فتنة للقوي، إلى غير ذلك، وهذا موجود في آيات كثيرة من القرآن الكريم منها: (ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) (19)، لكن هذه الأمور هي أسباب الامتحانات، كذلك نقيضها أي الأمن والشبع وكثرة الأموال والأنفس والثمرات.

وامتحانات الإنسان عديدة وكثيرة، قد يسقط البعض فيها وقد يحدث العكس، ومن الابتلاء الجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وهكذا بالنسبة إلى ما لم يذكر في هذه الآية كالفوضى، وإن كانت الفوضى أيضاً توجب الخوف والجوع ونحو ذلك، ففي آيات أخرى نجد: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله قريب) (20)، فمن السنن التي جعلها الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة أن ينزل نصره بعد مجموعة من المشكلات، وقد قال سبحانه: (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منهم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (21)، فالأيام مداولة بين الناس، فقد يكون هذا الفرد غنياً، وقد ينتقل الغنى إلى فرد آخر، وقد يكون الفرد حاكماً وقد ينتقل الحكم إلى فرد آخر، وهكذا الأمر بالنسبة إلى المنظمات والأحزاب والهيئات والأمم، فقد تتقدم أمة في الصناعة والزراعة والتجارة وما أشبه ذلك، بينما تتراجع أمة أخرى نتيجة لإهمالها لهذه الأمور، وقد تتحوّل الأمة من مغلوبة إلى غالبة، ومن فقيرة إلى غنية، ومن جاهلة إلى عالمة، وهذه أيضاً هي من سبل الامتحان. يقول الشاعر:

إنما الدنيا عواري والعواري مستردّة

شدّة بعد رخاء ورخاء بعد شدّة

ومنطق القرآن صريح في هذا المجال حيث يقول: (لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم) (22)، والإنسان يُمتحن بالمال سواء كان غنياً أو فقيراً ويُمتحن بالنفس أيضاً سواء كان مريضاً أو سليماً، والمراد بـ(الأنفس) في الآية نفس الشخص أو زوجته أو أولاده أو أقربائه أو ما أشبه ذلك، ثم قال سبحانه وتعالى في آية أخرى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (23) لأن الإنسان يُمتحن بالمال هل يبذل أو يبخل، هل يصرفه في الحرام أو الحلال.

وهكذا بالنسبة إلى الأولاد، فهم فتنة، وهم من باب المثال، وإلا فإن الزوجة فتنة والزوج فتنة، والأقرباء والأصدقاء والجيران هم فتنة لأن الإنسان يُمتحن بهم.

قال سبحانه وتعالى في آية أخرى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين ولياً والله خبير بما تعملون) (24)، فقد يعمل الإنسان عمل المؤمنين وقد يعمل عمل المنافقين حيث ظاهره شيء وباطنه شيء آخر، إذ باطنه يتّخذ وليجة فيكون مع هؤلاء تارة ومع أولئك تارة أخرى، وهؤلاء المنافقون يمتحنون في الدنيا كما يمتحنون في الآخرة حيث قال سبحانه وتعالى: (انطلقوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب) (25) فإن مثل هذا الإنسان المنافق يستهدف ثلاث جماعات: الجماعة المؤمنة التي يحاول المنافق أن يتظاهر أنه منها، والجماعة الكافرة وهي جماعته الحقيقية، والجماعة المنافقة التي يتلوّن بلونها.

وفي آيات أخرى: (وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون * حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذّبوا جاءهم نصرنا فنُجّي من نشاء ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين) (26) تتضمن هذه الآيات سنناً عديدة من سنن الله سبحانه وتعالى، فـ(الأنبياء كلهم أخوة أمهاتهم شتى)، كما يروى عن رسول الله(ص) وإنما ذكر الأمهات احتراماً لعيسى، فهم رجال وكلهم نزل عليهم الوحي.

وقوله سبحانه وتعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا) (27) حيث أن السير في الأرض والإطلاع على الأمم السالفة التي أخذت بالعذاب يحمل الدليل على أن تلك الحالة نفسها جارية في هذه الأمة، فاللازم أن يعلم الناس (الدار الآخرة خير للذين اتقوا) (28)، من دار الدنيا كما إنها خير للمتقين من غير المتقين، وكلمة (الخير) من باب الأصل لا من باب أفعل التفضيل، كما قال سبحانه وتعالى: (أولى لك فأولى) (29)، تطميناً للمبشرين رسلاً كانوا أو غير رسل، فاللازم أن يبلّغوا حتى يظنوا أنهم قد كُذّبوا وإنه بعد ذلك لا يفيد مع الأقوام علاج لهدايتهم إلى الصراط المستقيم وحينذاك يكون نصر الله سبحانه وتعالى ونصر الله بنجاة من يشاء من المؤمنين وإهلاك المجرمين.

ونجد في آية أخرى يقول البارئ سبحانه وتعالى: (ونبلوكم بالشّر والخير فتنة) (30) فإن الشر من مرض أو فقر أو عدو وما أشبه ذلك، والخير من مال وولد وأمن ورفاه وغير ذلك كلها تصبح فتنة للإنسان وامتحاناً له.

فماذا يعمل مع الشر وماذا يعمل مع الخير؟ هل يستقيم في طريق الله سبحانه وتعالى المقرّرة لهؤلاء أم يمشي في طريق الباطل والانحراف؟.

وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم وليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين) (31)، فلا ينفع الإنسان أن يقول آمنت بل يجب أن يستقيم في الامتحان والافتتان، وكيف يمكن أن يترك الله سبحانه وتعالى قوماً لمجرّد قولهم آمنا بينما فتن الذين من قبلهم؟ وبالفتنة يعلم أن المؤمن في ظاهره هل هو صادق في إيمانه ومستقيم في طريقه أو إنه كاذب ومنحرف؟

وفي آية أخرى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (32)، وقد ذكرنا أن المال والولد من باب المثال اللاصق بالإنسان وإلا فكلّ شيء بالنسبة إلى الإنسان فتنة له وامتحان.

    الامتحان سنة شاملة..

والحاصل أن سنة الامتحان جارية في الشؤون الفردية وفي الشؤون الاجتماعية وفي الشؤون الاقتصادية وفي الشؤون السياسية وفي الشؤون التربوية وفي غير ذلك، وإنه لا مفرّ ولا مهرب لأي فرد أو جماعة أو مجتمع من الامتحان حتى يظهر باطنه هل هو مستقيم كما قال سبحانه وتعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة) (33) وإن وسائل الامتحان والاختبار عبارة عن الخيرات كالمال والنفس والولد والعزّة والغنى والسلطة وما أشبه ذلك، وعن الشرور كالنقص في الأموال والأنفس والثمرات والصعوبات والعسر والجوع والخوف وما أشبه ذلك، فتلك كلها محيطة بالإنسان يمتحنه الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور حتى يرى أنه هل يتعامل مع العسر واليسر معاملة المؤمنين أو معاملة الكافرين، وعند ذلك يكون مستحقاً للرقي أو الانحطاط، ففي المثل (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان) وبنتيجة الامتحان يتميّز المؤمنون المجاهدون الصابرون الصادقون الصائمون العاملون بأوامر الله سبحانه وتعالى - يتميّزون عن مدّعي الإيمان والجهاد والصبر والصدق. وورد في الحديث: (إن أقلّ شيء قسّمه الله بين العباد العقل والصبر والشكر)(34).

وكيف كان؛ فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي الناس بشكل من أشكال الامتحان؛ هل يسرف عند النعمة أو يجزع عند النقمة؟.

ومن الواضح أن هذه الحالات المتناوبة على الإنسان كلها امتحان سواء كان رفاهية أو راحة أو رخاءً وحكماً وعلواً وسلاحاً وما أشبه ذلك أو كان بنقائضها، فمثلاً الإنسان المنعم ربما يستبدّ به الغرور أو العجب أو الغفلة أو الطغيان أو البغي، وقد قال تعالى: (فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) (35) والغرور اسمٌ للشيطان لأنه يغرّ من يتبعه في ماله وأولاده وقوّته وسلاحه.

وكذلك بالنسبة إلى الابتلاء بالنقائص والشدائد والمشاكل فهل يتنبّه الشخص المبتلى، وهل يصبر، وهل يطلب الفرج من الله سبحانه وتعالى؟ وفي الوقت عينه هذان الأمران يصبحان عبرة أيضاً للآخرين، حيث ينظر الثري إلى قارون، وينظر الفقير إلى الفقراء الذين كانوا مع الرسول(ص) والذين صبروا على الفقر، وهكذا بالنسبة إلى الحكام والمحكومين. فكل مبتلى بالآخر، وهذه بأجمعها تشكل أرضية اختبار وامتحان للشخص المبتلى بالشيء الحسن أو المبتلى بالشيء السيئ.

    إمداد الله للإنسان المؤمن..

من فلسفة التاريخ أن سنة الله سبحانه وتعالى بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب وهداية الناس عامّة هي أنه يمد كلاً من المؤمن وغير المؤمن فيزداد المؤمن إيماناً والكافر كفراً، والله سبحانه وتعالى يعين ويساعد الذين يطلبون الآخرة والكمالات المعنوية والدنيا الصالحة كما أنه سبحانه وتعالى يمهل الذين يطلبون الدنيا والكمالات المادية والذين يمشون في طريق الضلال، ومثالهما مثال الحنظل وقصب السكر فكل واحد منهما يمتدّ طولاً وعرضاً وعمقاً، وهذا المثال المادي مثال للهداية والضلال المعنوي، فالذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى ورسله وأخذوا يتقدمون في طريق الحق والخير والجمال يوفر الله سبحانه وتعالى لهم وسائل التقدم، وكذلك بالنسبة إلى الذين يتراجعون في طريق الشر والضلال والانحراف كما قال سبحانه وتعالى: (كلاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً) (36) وقال سبحانه وتعالى بالنسبة إلى المتقين والمؤمنين الصادقين: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة أولئك لهم نصيب مما كسبوا) (37)، وفي مقابل الذين لا يريدون إلاّ الدنيا وزينتها يقول تعالى: (ومن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق) (38) ولفظ (من يقول) أعمّ من العمل والقول، كما هو واضح في اللغة العربية إذ يستعمل القول بمعنى الكلام وبمعنى العمل.

وهناك آيات كثيرة وروايات متواترة بالإضافة إلى الإجماع ودليل العقل تدلّ على وجود هذا الإمداد:

قال سبحانه وتعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) (39) فالله تعالى يعطي كلاً حسب تطلبه الإمكاني فيمتدّ امتداداً في حدود ما جعله الله سبحانه له من الامتداد، حاله حال الحيوانات والأشجار وما أشبه ذلك، فمن الحيوانات ما يكون بقدر الفراشة ومنها ما يكون بقدر العصفور ومنها ما يكون بقدر الحمامة وهكذا.. كما إن من الأشجار هكذا، فمنها نبتة ومنها شجيرة ومنها شجرة ومنها شجرة كبيرة باسقة، قال سبحانه وتعالى أيضاً: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (40) والمراد بالحرث هنا النتيجة التي ينتهي إليها كل عمل، فالنتائج الدنيوية تكون لمن طلبها - مؤمناً أو كافراً أو صالحاً أو طالحاً - أما بالنسبة إلى حرث الآخرة ونتائجها فإنما يكون بالنسبة إلى المؤمنين الصالحين، وقال سبحانه وتعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الحياة الآخرة إلاّ النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) (41)، فإن الإنسان الذي يريد حرث الدنيا وزينتها فقط يصيبه ما أراد بقدر عمله، لكن من لم يرد الآخرة فلا نصيب له فيها.

ومن الواضح أن الأعمال الدنيوية فقط تُحبط لأنها محدودة خاصة، وتبطل لأنها ليست موافقة للحركة الكونية التي جعلها الله تعالى فيها.

فالإمداد الإلهي لطالبي الدنيا والراغبين فيها والصارفين نظرهم عن الآخرة يكون محدوداً محصوراً في عطائه في هذه الدنيا فقط وفي الأبعاد الثلاثة المعروفة، ولذا قال سبحانه وتعالى: (ما نشاء) (42) ، وقال تعالى: (ما نريد) (43)، وقال سبحانه وتعالى: (نؤته منها) (44)، أما الإمداد الذي يمدّ به طالب الآخرة فلا حدّ محدود له في هذه الدنيا وإنما يمتدّ إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولذا قال سبحانه وتعالى: (كان سعيهم مشكورا) (45) وقال تعالى: (نزد له في حرثه) (46).

    الشكر سمة طلاب الآخرة..

ومن الواضح أن الذين يعملون للآخرة يكونون شاكرين لله على نعمه عليهم سواء النعم المادية أو المعنوية في مواضعها، والله سبحانه وتعالى يقول: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (47)، فالشكر يزيد الإنسان من النعمة التي شكر عليها وذلك يكون بزيادة النعم المعنوية والأخروية والمادية والدنيوية وبتحبيب الإيمان وتزيينه في قلوبهم وبالانتصار على الأعداء وبراحة القلب كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم حيث قال تعالى بالنسبة للأول: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً) (48) وفي آية أخرى: (والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم) (49) وفي آية ثالثة: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم) (50)، وتكفير السيئات غير الغفران، فإن تكفير السيئات، عبارة عن إسقاطها، والغفران عبارة عن الستر، حيث أن الإنسان إذا عصى معصية يكون له أمران: الفضيحة والنتيجة السيئة، وبخصوص المؤمنين يفعل الله تعالى ضدهما فيكفّر عنهم سيئاتهم ويغفر لهم.

وقال جلّ وعلا: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) (51)، يعني بسبب إيمانهم يكونون مهتدين، والهداية قابلة للزيادة والنقصان وكذا سائر الصفات النفسية، فإن الشجاع يكون شجاعاً بمقدار مواجهة شخص أو شخصين أو ثلاثة أو ألف أو عشرة آلاف، وهكذا بالنسبة إلى الكرم بدينار أو بعشرة أو بألف أو مليون، وهكذا تكون الهداية.

وفي آية أخرى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) (52)، فإن القلب هو القائد الذي يقود الأعمال التي تصدر عن الحواس، وبالنسبة إلى الأمر الثاني قال تعالى: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (53)، فالكفر في العقيدة، والفسوق هو الخروج عن الجادّة، والعصيان هو المشي في الجادة لكن ليس مشياً مستقيماً، كما قال تعالى: (أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم) (54).

وقال سبحانه وتعالى بالنسبة إلى زيادة النعم المادية والدنيوية: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (55)، وقد ذكرنا وجه ذلك في التفسير الموضوعي.

وإن النعم تكون بسببين؛ بسبب معنوي وبسبب مادي من التعاون والسعي الدائب والعمل المستمر كما قال سبحانه وتعالى بهذا الصدد أيضاً: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)(56).

الهـــوامـــش :

(1) سورة يونس: الآية 47.

(2) سورة النمل: الآية 36.

(3) سورة فاطر: الآية 24.

(4) سورة الروم: الآية 30.

(5) سورة فاطر: الآية 24.

(6) سورة الفرقان: الآية 51.

(7) سورة القصص: الآية 59.

(8) سورة الإسراء: الآية 51.

(9) سورة الأنعام: الآية 42.

(10) سورة سبأ: الآية 34.

(11) سورة الأعراف: الآيات 94 - 95.

(12) سورة البلد: الآيات 8 -10.

(13) سورة السجدة: الآية 13.

(14) سورة الأعراف: الآية 179.

(15) سورة القصص: الآية 8.

(16) سورة البلد: الآية 9.

(17) سورة هود: الآية 7.

(18) سورة الفرقان: الآية 20.

(19) سورة البقرة: الآية 155.

(20) سورة البقرة: الآية 214.

(21) سورة آل عمران: الآيات 140 - 142.

(22) سورة آل عمران: الآية 186.

(23) سورة التغابن: الآية 15.

(24) سورة التوبة: الآية 16.

(25) سورة المرسلات: الآية 30.

(26) سورة يوسف: الآيات 109 - 110.

(27) سورة غافر: الآية 82، سورة محمد: الآية 10.

(28) سورة يوسف: الآية 109.

(29) سورة القيامة: الآية 34.

(30) سورة الأنبياء: الآية 35.

(31) سورة العنكبوت: الآيات 2 -3.

(32) سورة التغابن: الآية 15.

(33) سورة فصلت: الآية 30.

(34) عيون أخبار الرضا: ص374. البلد الأمين: ص300.

(35) سورة لقمان: الآية 33، سورة فاطر: الآية 5.

(36) سورة الإسراء: الآية 20.

(37) سورة البقرة: الآية 201.

(38) سورة البقرة: الآية 200.

(39) سورة الإسراء: الآيات 18 - 20.

(40) سورة الشورى: الآية 20.

(41) سورة هود: الآيات 15 - 16.

(42) سورة الإسراء: الآية 18.

(43) سورة هود: الآية 79.

(44) سورة آل عمران: الآية 145، سورة الشورى: الآية 20.

(45) سورة الإسراء: الآية 19.

(46) سورة الشورى: الآية 20.

(47) سورة إبراهيم: الآية 7.

(48) سورة مريم: الآية 76.

(49) سورة محمد: الآية 17.

(50) سورة الأنفال: الآية 29.

(51) سورة يونس: الآية 9.

(52) سورة التغابن: الآية 11.

(53) سورة الحجرات: الآية 7.

(54) سورة الملك: الآية 22.

(55) سورة المائدة: الآية 66.

(56) سورة الأعراف: الآية 96.