ملف عدد محرم1422هـ

 

الطاف الله تعالى في بلاء الحسيـن العظيـم الراتـب

محمد محسن العيد

   سنة البلاء:

جعل الله تعالى ثوابت للبلاء لا يفلت منها أحد، فالبلاء سنته تعالى لتجليّ الحسن في خلقه، وهذه الثوابت في البلاء هي:

1- الموت والحياة: فقد قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (الملك: 2)، بل إن الله سبحانه وتعالى ابتدأ خلق الإنسان بالبلاء، قال تعالى: )إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) (الإنسان: 2)، والدنيا دار بلاء.

2- استخلاف الآدميين في الأرض واستعمارهم فيها: وهو بلاء الزمن (العمر) والدين.. أو هو بلاء التكليف، فكل آدمي مبتلى بالتشريع - أوامره ونواهيه ووصاياه - لتحسن خلافته في الأرض.. قال تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) (الكهف: 7).

3- عداوة الشيطان: إنه عدو مضل مبين، يترصد لكل آدمي، وفي كل لحظة كي يغويه ويرديه، فعداوته للإنسان أكيدة وهو فتنة لا يفلت منها أحد، قال تعالى: )يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) (الأعراف: 27).

والجنة هي أحسن الخيارات الربانية لآدم وذريته، والتي يخرجون منها بغواية الشيطان لهم.

ومن كل هذه البلاءات، والتي يفترض أن يجتازها الآدمي إلى الأحسن، فقد أعده خالقه سبحانه باستعدادات وخاصيات الحسن والتي لا يجليها فيه إلا البلاء، فالبلاء لطف من الله تعالى للمؤمن، ذلك لأنه بحساب المؤمن إنما هو بعين الله تعالى، والله عز وجل هو الغني الحميد فلا حاجة له بتعذيب أحد من خلال البلاء في هذه الثوابت منه.

ومن ألطاف الله تعالى على الرسل(ع) أنه سبحانه يختصهم بعظيم البلاء دون خلقه بل ويرتب لهم البلاء بما يؤدي إلى إبراز صفات وميزات الحسن الرباني عندهم وبما يجعلهم قادرين على مهام الإمامة، بما هي معاني الحسن في خلق الإنسان أصلاً، وذلك بعد اجتيازهم للبلاء.

قال تعالى في معنى ذلك: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (البقرة: 124).

   (الناس عبيد الدنيا فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون):

إن الابتلاء هو بلاء مرتب، وهو عقبة إزاء توجهات الآدمي في قواه الفاعلة أو في حاجاته النفسية التي تتطلب استجابة سواء في معاني وجوده أو معاني حياته أو في أحكام عقله.. فمثلاً؛ قد يكون البلاء عقبة إزاء وجوده حين يتهدد بشيء يسلبه استقراره، سواء بالخوف أو الجوع أو العطش أو المرض أو بفقدان الأحبة أو بوجود فتن من حوله في بيئته تهدد استقراره.

ومثال آخر، قد يكون البلاء عقبة إزاء دوام حياته حين يكون مهدداً بالذبح أو الإعدام مباشرةً.

ومثال بلاء العقل؛ أن يكون بإزاء عقبة تهدد بانتهاك قيمه الإنسانية وكرامته ومبادئ الحق والعدل التي يريد لها أن تسود، وهو أشد البلاءات وقعاً في النفس، بل وأعظمها بلاءً حين يكون الآدمي من ذوي العقول الراجحة وأصحاب الفضل في العلم والدين.. يقول الإمام الحسين y في خطبته يوم عاشوراء: (الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون) (1).

ذلك تفسير لهستيريا الخنوع والذل والملق التي ابتليت بها طائفة من الناس، إزاء هدر كرامتهم وضياع كل القيم والفضائل التي تعرضوا لها من قبل يزيد وعماله، ثم عدوا إلى رأس تلك القيم والكرامة فيهم وهو الحسين(ع) فحاربوه وقتلوه لصالح الذين يسومونهم الذل ويركبونهم العار.. وقد فشلوا تماماً في هذا البلاء.. ولذا قال لهم الحسين (ع):

(تباً لكم أيها الجماعة وترحا، أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه.. ) ثم يقول: (فسحقاً لكم يا عبيد الأمَة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفئي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأوصياء، وملحقي العار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمة المستهزئين..) (2).

إنه بيان الفشل في البلاء، حيث يتضح منه كل فصول القبح هذه التي تناولها (ع).

   اجتياز عقبات البلاء درجات:

إن عقبات البلاء تهدد الوجود وتقلقه يجتازها الآدمي بالصبر الجميل، وقد يختص الله سبحانه بعض عباده فيرتب لهم من هذا النوع بلاءً خاصاً، فيه إعداد لهم ليكونوا أسوات حسنات للناس في سيرهم، حين يتحلون بالصبر الجميل وهم يجتازون البلاء، فبالنسبة لهم يتحقق قدر من الاستقرار في نفوسهم، وللناس يتجلى حسنهم، والبلاء في هذه الدرجة عقبة تصح مع كل فتنة تداخل وجود الآدمي فيضطرب بالخوف والجوع والمرض وفقدان الأحبة.. فالمؤمن إنما يرى ذلك بعين الله تعالى لذا يهون عليه البلاء فيستقر ويحسن.. أما الذي لا إيمان له، فلا صبر له، فيبدوا اضطرابه وعجزه ويبرز ضعفه وقبحه.. وهذا ما أشار إليه الحسين (ع) في خطبته.

أما بلاء عقبات الحياة فيتم اجتيازها بالصبر مع قدرة على التحمل والمطاولة فيه.. وقد يختار الله تعالى منه شكلاً للخواص من عباده في درجة أرقى من مجرد كونهم أسوات حسنات لغيرهم، بل ليكونوا مثلاً للرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى على ما في الحياة مهما كانت منعمة بالنسبة لهم، إذ هم مثال للزهد فيما هو فان، معلمون للناس بطلب الآخرة بما فيها من خلود أبدي في النعيم، وقد يقتلون صبراً على يد شرار الخلق، وهو في الواقع تغليب من أنفس زكية لخيار الله تعالى على خيار الحياة الدنيا الفانية.. ويتجلى الحسن هنا بدرجة من الوضوح والجاذبية، بحيث أن قصصهم بذاتها تصبح مضامين حسن يستحليها الناس وينجذبون إليها ويسرون بها عندما يستذكرونها في مجالسهم، تلك هي قصص أصحاب الحسين (ع) الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (ع) طلباً لما عند الله سبحانه.

أما بلاءات العقل الراجح وهي أعلى درجات البلاء، إذ هي في درجات عالية من البيان ووضوح الرؤية للحسن الرباني في مواقع الإمامة للناس بكل جميل وحسن.. فهي إذن أعظم درجات البلاء، حيث أن كل ما يصدر عن هؤلاء الخاصة من الناس تحت رقابة المحسن ومن أجل إرضاء المحسن، إذ رضاء الله تعالى هو كل ما يبتغون، بل ومعلمون للناس بطلب رضا الله تعالى أكثر من كونهم حسنات راغبون في الحياة الأبدية في نعيم الله تعالى.

لذا فإن الذي يتمعن في أقوال أمير المؤمنين (ع) كلها، يرى حجم البلاء الذي يرزح تحته الأمير (ع) ، من خلال المرارة التي يتكلم بها، فهو بعقله الراجح وبرؤيته الثاقبة يعاني من خطل الناس وإمعانهم في الخطيئة والمعصية، فهم يرفضون إحسان المحسن ولطفه ويميلون إلى كل قبيح يزينه الشيطان لهم، وهو العدو المضل المبين. يتركون الصافي النقي ويشربون الكدر الشائب، يعافون الطهر الحلال ويقبلون بنهم على الجيف.. يخذلون أولياءهم في الصلاح والخير وهم أصلاً مأمورون من لدن المحسن بمودتهم وطاعتهم، وينصرون أعداءهم الطواغيت الذين يسومونهم سوء العذاب، وهم بكل هذا يعصون المحسن ويعبدون الشيطان، فهم فاشلون أصلاً في ثوابت البلاء، فلا رسالة لهم من وجودهم ولا معنى عندهم لخلافتهم في الأرض ولا معصية لهم للشيطان..

إن صاحب العقل الراجح وبمقدار الكمال في عقله يعاني من شدة البلاء بمقدار كمال رؤيته للجحود الذي تعتمر به النفوس، هذه التي فشلت بثوابت البلاء، ومن عدم الحياء من المعاصي التي يقترفونها إزاء ستر الله تعالى المرخى من لطفه جل شأنه.. إن بلاء العقل في كماله لعظيم وهو يرى الكفر تعج به النفوس تحت سماء القادر المقتدر مع معاصي تستدر المَحْق، وهتك للحرمات وغصب للحق وهضم للحرية تستوجب المقت، بل أن يستبدل الحسن بالقبح والمنكر بالمعروف..

وإذا كان أي منصف ليس له من رجاحة العقل ما للحسين (ع) يتمزق فرقاً وغيظاً من هذا الواقع، فكيف يكون بلاء الحسين (ع) ، في واقع الذين دعوه لينصروه ثم أنكروه وحاربوه لصالح ذلك الواقع الفاسد تماماً، وهو (ع) وليّ الله في أرضه.

إن بلاء الحسين (ع) اختير ليكون من كل درجات البلاء مجتمعة، إمعاناً في لطف الله تعالى وإعلاءً لقدر الحسين (ع) ومنزلته، وحفظاً للدين وصوناً للملّة من الانحراف وتحصيناً للأمة من الضياع.

   (الحسين (ع) مصباح الهدى وسفينة النجاة)..

إنه قول الذي لا ينطق عن الهوى(ص): (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة) (3)، فما معنى الحديث الشريف هذا، انطلاقاً من البلاء الراتب على الحسين (ع) ؟.

قلنا أن البلاء بثوابته وبما يختار منه من قبل المحسن سبحانه، هو أسلوب تكويني لتجلي الحسن في النفس، وإن الحسين (ع) من خلال ما رتب له، يكون قد واجه كل العقبات التي تمثل خيارات الله تعالى من بلاءات المؤمنين في وجودهم والصالحين في حياتهم وذوي العقول الراجحة في كراماتهم وحرماتهم وقيمهم ومبادئهم.

فقد ابتلي (ع) بالفتن، ثم بالجوع والعطش والخوف وفقدان الأحبة.. وعقبات الحياة، حيث كان مهدداً بالقتل، وكان هو (ع) يعرف هذا وكان يقول (ع): (وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم، والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت) (4).

أما هو (ع) فكان إزاء هذه العقبة يقول: (إني لا أرى الموت إلا سعادة وما الحياة مع الظالمين إلا برما).

أما بلاء عقله الكامل وهو وصي رسول هذه الأمة(ص) وإمامها المفترض الطاعة، المكتوبة، فقد اجتازه بشموخ وشمم لا يليق إلا بمثله وهو الوتر الموتور، وكان يقول (ع) أمام الحشود الباغية التي جاءت لقتله يوم عاشوراء، وهو ينشد هذه الأبيات:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وواسى رجالاً صالحين بنفسه وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فإن عشت لم أندم، وإن مت لم ألم كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

وهو واضح في رقي روحه المقدسة إلى مقام اجتياز بلاء العقل بما هو عليه من قدسية وبما له من حرمة كإمام معصوم محله بمحل جده المصطفى(ص) من الأمة، ويبرز ذلك واضحاً في خطبه (ع) يوم الطف: (لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد، ألا وأن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام) (5).

وكان كثيراً ما يقول (ع): (موت في عز خير من حياة في ذل) (6).

والذي يؤكد هذه الرؤيا الواضحة عند الحسين (ع) لمعاني الحسن والقبح في معاني بلاءات الوجود والحياة والعقل والتعامل معها بهذه الروح السامية، وبهذا الوعي الرباني بكل رباطة جأش لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.. حيث يقول عنه أحد المجرمين، وهو (ع) صريع في آخر رمق من حياته يجود بنفسه: )والله ما رأيت مكثوراً قط أربط جأشاً منه وأنور وجهاً وقد شغلني نور وجهه عن التفكير في قتله).

من هذه الصور الرائعة للحسن الرباني، في استجابة الحسين للبلاء الراتب يتبادر إلى الذاكرة هنا أن إشارة الحبيب (ص)، إلى أن الحسين مصباح الهدى؛ إنه وصف الوحي للحسين (ع) ، فليس هي عاطفة الجد المحب الحنين.. أما أنه سفينة النجاة (ع) ، يعني انه لا بديل للناس من ركوب منهج الحسين (ع) في دين الله تعالى، وذلك بسبب كون استجابة الحسين (ع) للبلاء الراتب جاءت في أحسن أحوال كمالها، فحازت على كمال لطف الله تعالى من جميع أنواعه، باعتبار أن بلاء الحسين (ع) قد جمع كل أصناف البلاء الذي يمكن أن يتعرض له الآدمي، لذا فحيثما يكون الإنسان - زماناً ومكاناً - في بيئة يكون فيها أمثال يزيد في موقع رسول الله(ص) كخليفة في الأمة ووصي على دين الله تعالى وأمة خانعة مثل الأمة التي قتلت ابن بنت نبيها وإمامها.. إلى بيئة يكون فيها الحسين (ع) في موقع جده رسول الله (ص) وصي وخليفة وإمام والأمة هي من أمثال أصحابه وآله يوم الطف.. في كلا هاتين البيئتين وما بينهما لا بديل للناس عن ركوب منهجه لنيل لطف الله تعالى، إذن فهو سفينة النجاة، لا بديل لها في كل زمان ومكان وفي كل البيئات.

   القلوب مع الحسين (ع) والسيوف قتلته:

مثلما كان الحسين (ع) في حال من وضوح الرؤيا بحال الأمة وحاجتها لهزة عنيفة توقظها من سبات وهمي تحت غطاء الخوف والخنوع، فقد تعامل الحسين (ع) مع واقع الأمة هذا برباطة جأش وبصبر جميل في تجاوز بلاءات الوجود، وكان ذلك بمثابة البذرة للتحول نحو الحسين المنهج في بيئة القلوب المحبة، ثم يأتي ما قدمه الحسين (ع) من دمه ودم أصحابه بسخاء وقوة رداً على بلاء الحياة واستهانة بها في جنب الله سبحانه، وكان ذلك بمثابة ترعة تروي البذرة المزروعة في القلوب المحبة، فقد سقى الدم الحسيني تلك البذرة لتنمو إلى بادرة.. أما ما حدث بعد ذلك من أعمال هابطة جسدت الخسة والغدر والنهب والسلب لبنات الرسالة وبيت الوحي، ثم السبي وقطع الرؤوس المقدسة وترك الجثث الطاهرة دون دفن، وسبي عيال رسول الله وأخذهن سبايا نساءً وأطفالاً هدايا مع رأس الحسين المقدس، ورؤوس أصحابه وآله ليقدموا إلى أبناء العاهرات المعروفات.. وهذا كان بمثابة الصاعق الذي فجر الرين عن تلك القلوب والذي يمنع نمو تلك البادرة للخير، فأخذت تكبر وتتسع ثم أزهرت، وأثمرت، في نقمة عامة على الأمويين وندم يأكل النفوس ويقطع الأصابع.

إن استجابة الحسين (ع) الرائعة لراتب البلاء، الذي تجسد في موقفه الشامخ في الثقة بالنفس والعزة واليقين بحب الله تعالى بما لا يفوقه حب آخر.. إن هذه الاستجابة الحسينية الربانية، إنما أبرزت كمال حسن الحسين (ع) في كل معاني الإنسانية بما أسقط النقاب عن الوجه القبيح لحقيقة الأمويين، فقد بدوا متجردين من كل دين أو قيمة إنسانية، ولقد روى المؤرخون: (لما وصل رأس الحسين (ع) إلى يزيد حسنت حال بن زياد عنده وزاد في صلته، ثم ما لبث إلا يسيراً حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم إياه وسبهم له، فندم على قتل الحسين) (7).

وقد كان لبنات الوحي وزينبu بنت أمير المؤمنين دورٌ أعلامي متميز في صنع تلك الهزة العنيفة في الأمة، فهذه زينب بنت أمير المؤمنين(ع) تخطب في أهل الكوفة، وقد احتشدوا لرؤية السبايا وهم يبكون في أولى بوادر نمو بذرة حب الحسين في قلوبهم فتقول(ع):

(أتبكون؟‍! فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا ساء ما تزرون.. أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة، ومعدن الرسالة ومدار حجتكم، ومنار محجتكم، وهو سيد شباب أهل الجنة؟.. لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء، أتعجبون لو مطرت السماء دماً، ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم إن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون.. أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي دم سفكتم؟ وأي كريمة أبرزتم؟ لقد جئتم شيئاً إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا) (8).

وقد بثت ثورة الحسين (ع) قيماً جديدة في الأمة على أعقاب الخنوع والملق للظلمة والدعاة الأدعياء، وانبعثت في أوصالها روح الثورة، وظهر التوابون في العراق، وثارت مدينة رسول الله تعالى، وثار المختار بن عبيد الله الثقفي وأخذ بثأر الحسين (ع) من جميع قتلته ثم ثار مطرف وثار زيد بن علي بن الحسين (ع) ، ثم ثورة أبي السرايا.. وكل ينادي يا لثارات الحسين وذلك من لطف الله تعالى..

   الحسين (ع) رمز الثورة حياً وميتاً:

مثلما هو الحسين (ع) نهج في الثورة، وشعار يرفعه الثوار والمصلحون، لذا فإن الطغاة وعلى مر التاريخ كانوا يخشون اسمه (ع) ، ولقد مضى في ذلك الشعر، وصار للطف أدب ملأ أضخم مكتبات الأدب العربي، حتى أن طه حسين كان يقول: كان الشعر علوياً وسيبقى علوياً، لصدق عاطفة شعراء الحسين بما لا يبارى أبداً.

ولقد صار الحسين (ع) شعاراً لكل ثائر مصلح ولكل حر شريف يرفض الضيم ويفضل الموت بعز على الحياة بذل، وبفضل الحسين (ع) وموقفه من يزيد، صار يزيد مثلاً لكل طاغية ظالم، ولقد ذهب هذا المعنى شعاراً (لكل يزيد حسين وكل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء) أو أن الحسين صار مثلاً لانتصار الدم على السيف.. فقد قال الشاعر:

وعلمت أنك نائل ما تبتغي حتماً وإن كان شلوك المقصودا

ظنوا بأن قتل الحسين يزيدهم لكنما قتل الحسين يزيدا

وأوسع من هذا فإن الحسين (ع) صار منهجاً عالمياً، وهذا غاندي يقول وهو مصلح الهند الأكبر: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).

ولقد صارت شعائر الثورة الحسينية، وسائل للتغيير الثوري تستمد روحها من منهج الحسين (ع) في الثورة، وهذه الشعائر مثلت وتمثل ذلك المنهج الحسيني المعلن في الواقع، وهي الآن في حالة حرب دوماً مع الطواغيت وعلى مر التاريخ.. وإن الطواغيت قديما وحديثاً إنما يخشون الحسين (ع) وهو في ضريحه، فإن هذا الضريح المقدس قد تعرض لضروب الحرب الضارية دوماً، تمثلت بشتى وسائل الحجر والمنع لمن يزوره، بل والقتل وتقطيع الأعضاء، ثم التهديم والمحو وحتى الحرث والزرع.

   محبة الحسين (ع) لطف يخص الله تعالى به المؤمنين:

إن أنصار الحسين (ع) ؛ هم الثلة التي تحفظ الدين كما هو، ذلك لأن ناصر الحسين (ع) ، لا يكتسب هذه الصفة إلا إذا كان في حالة حرب دائمة ومستمرة مع الترف والمترفين والظلم والظالمين، أما إذا أعلن حبه للحسين (ع) وعاش الترف أو هادن المترفين والظلمة فإنه كاذب ومنافق.. إن كون النفس الإنسانية في حالة حرب مع الترف والمترفين والظلم والظالمين يضعها في صلب العقيدة، وعلى نهج الحق دوماً وعلى مدار الساعة في اليوم وعلى مدار الأيام في السنة وعلى مدار السنين في الدهور، يتوارث أنصار الحسين محبته ويبكون دوماً مظلوميته.

إن بكاء أنصار الحسين (ع) على الحسين (ع) بما هو طاعة خالصة لله تعالى فهو بكاء يرى فيه الطغاة أنه بكاء سياسي يعني رفض الظلم والظالمين، لأنه بكاء لمظلومية الحسين (ع) ثائر الدين الحق وصاحب البلاء الراتب.

والواقع يقول: إن أنصار الحسين (ع) ، قد رفضوا على مر التاريخ كل حكام الجور، وعانوا ما عانوا بسبب حبهم للحسين واستذكار مظلوميته دوماً. وهي المظلومية التي لا مثيل لها في التاريخ، فصارت مسرباً للمحبة في قلوب المنصفين، ولذا فهي خصوصية الخاصة من المؤمنين.

وللمحبة هذه موقع في قلوب المؤمنين يفرضه وعي المؤمن لمعاني الدين لله تعالى بخلوص نية تامة. ولقد قال الحبيب(ص) الذي لا ينطق عن الهوى: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً) (9).

وقال(ص): (إن لولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد إلى يوم القيامة) (10).

وقال(ص): (إن للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة) (11).

ذلك لأن محبة الحسين (ع) هي محبة الله تعالى، فهي من الله ولله وإلى الله تعالى، لذا فهي الخير كله دنيا وآخرة، فالمحبة لله هي العلة الباطنة في كل ما كان عليه الحسين (ع) من عظمة وشموخ ويقين ورسوخ في عقيدته.

   بلاء الحسين (ع) لطف تميّز به الحق عن الباطل:

كثيرون هم الذين يقتلون في سبيل الحق، وهم يجاهدون ضد الباطل، لكن الحسين (ع) بما هو وبما أودع الله تعالى فيه (ع) من سر، صار سبباً بعد الرسول(ص) في التمييز بين الحق والباطل في منهاج الدين، باعتبار الدين في ذاته هو معيار ميز الله به الحق من الباطل.. وبذا فإن الحسين (ع) صار معيار المعيار وضابط المعيار.

فحتى لو تصورنا أن حاكماً يدّعي نصرته للحسين (ع) ، استلم السلطة في بلد من البلدان الإسلامية، فإن دوام واستمرار الشعائر الحسينية سوف تكون المعيار الضابط لصدق ادعائه، لأنها رقيب إعلامي للشعب ومن الشعب على كل سلطة، أما إذا لم يكن كذلك فهذه الشعائر تبقى تقارع أي حاكم حتى يقوم قائم آل محمد(ع).

فالحقيقة هي أن شعارات الثورة الحسينية وشعائرها، هي منهاج لاستذكار الكم والكيف والسعة والزمان والمكان في بيانات الحق وصور الحسن الرباني في معاني الدين الخالص لله تعالى التي جسدها الحسين (ع) ، بما هو السبط المنتجب والإمام المطاع والمطهر المكتوبة في الكتاب على المؤمنين مودته والصلاة عليه من قبل الله وبنص وحيه... ولو كان غير الحسين (ع) ، ما كان ليكون هذا البلاء العظيم بهذه المميزات من الجاذبية في الدين وللدين والطاعة لله تعالى خالصة دون ضميمة.

ولذا فإن الرسول (ص) قال في الحسين (ع) قولاً ما قاله في أحد غيره مما يشير إلى معاني التفرد في المعيارية العليا للدين ومن الدين.

قال (ص) للحسين (ع): (أنت سيد وابن سيد أنت إمام وابن إمام وأخو إمام وأبو الأئمة، وأنت حجة الله وابن حجته وأبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم).

وقد سبق أن أوردنا أقواله (ص) في الحسين (ع):

(الحسين مني وأنا منه، أحب الله من أحب حسيناً. الحسين سبط من الأسباط.. إن للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة.. إن لولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد إلى يوم القيامة.. إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة).

وإن دلالة هذه الأحاديث وسندها وصحتها ومصداقيتها، هو ما تجسد من الحسين (ع) في واقع الوجود من معاني وبيان، فقد صار (ع) الباب المفتوح على مصراعيه لمعاني عدم الافتراق بين الكتاب والعترة التي أوصى بهما الرسول(ص) كثقلين لا بديل عنهما في حفظ الأمة من الضلال.

ولذا فإن السبب الذي يشير إليه علماء السنن في انهيار الحضارات والعقائد بعد ازدهارها، هو الترف الذي يحصل عليه الناس بما توفره العقيدة حال صحتها من الوقت والجهد والمال، والتي تصرف فيما بعد في غير ما شرعته العقيدة الصحيحة، فتحصل حالة الترف التي تؤدي إلى الخمول. ثم إن المترفين ولكي تدوم لهم حالهم يحرفون كل قواعد وأسس هياكل العقيدة، فتنحرف العقيدة ومن ثم تنهار وتتلاشى.

أما في الإسلام؛ وبعد ثورة الحسين (ع) فقد برزت مضامين حافظة للدين وظهر للحسين (ع) أنصار انطوت نفوسهم على تلك المضامين، وصار للثورة أدب ظل يتعاظم يوماً بعد يوم، وسرت في الدنيا كلها شعارات من أصل الثورة، مثل (كل يوم هو عاشوراء وكل أرض كربلاء) .. ومع هذا الشعار كتب لثورة الحسين الديمومة الزمانية، وللدين الحفظ والصون، وامتدت الشعائر الحسينية في كل أصقاع الأرض وعلى مر الدهور، وهي تحكي قصص النور الذي أرادوا أن يطفئوه في كربلاء ولكنه استعر ثم استطال وانتشر.. وتبين للناس معاني الثورة ومعاني الدين كثورة، وتعلموا مواقع الخير والحسن والعدل ونبهوا إلى مواضع الخطل والضلال والقبح وحذروا منها.. ويُحمل في المنبر وفي العزاء وفي الرثاء وفي الزيارة دم الحسين (ع) طرياً على مضامين تدعوا لحفظ الدين ومقارعة الظالمين.

ولكي ننصف المتطلعين إلى هذا القول، كونه قول الشيعة، نقول: تصوروا كيف يكون الإسلام دون وجود الحسين (ع) ، فلا أحد ينكر على يزيد الباغي الفاجر الخمار الفاسق أن يكون بموقع إمارة المؤمنين وكالخليفة لرسول الله(ص)؟!.

أو تصوروا ديناً فيه معاوية ويزيد والذين من بعدهم أمثال الوليد بن يزيد الذي تولى الخلافة في الأمة يوم الأربعاء 6 ربيع الثاني سنة 125هـ والذي يقول عنه السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) أنه كان فاجراً سكيراً يزني بالأمهات والأخوات، وقد أرسل من يبني له مشربة فوق الكعبة ولكن الله قتله قبل أن يفعل هذا في النجراء (وهي قرية في دمشق) يوم الخميس 28 جمادى الثانية سنة 126هـ، وله الشعر التالي الذي ينم عن حال أمة هو يتولى الأمر فيها:

فدع عنك أدكارك آل سعدى فنحن الأكثرون حصى ومالا

ونحن المالكون الناس قسرا نسومهم المذلة والنكالا

ونوردهم حياض الخسف ذلا وما نألوهم إلا خبالا

منهج الحسين (ع) الوجه الآخر لمعاني الوحدانية الخالصة لله تعالى:

الوحدانية هي انعقاد النفس الإنسانية على أن الله سبحانه وتعالى خالق الكون ومبدعه، هو واحد لا شريك له و لا ند ولا ظهير، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.. وعلى هذا فلا يجب أن يصدر الحب عن تلك النفس إلا لله ولا تبغض إلا في الله ولا تدين إلا بدين الله ولا تعبد إلا إياه ولا تستعين إلا به سبحانه، فهو المحيي وهو المميت والرزق بيده والقوة له، فلا خوف إلا منه.. إلى أمثال هذه المعاني..

إلا أن الذي يزرع الشرك في المجتمع هو الظلم (إن الشرك لظلم عظيم) والعكس صحيح، فإن الظلم ينمو في مجتمعات الشرك.

لذا فإن ثورة الحسين (ع) ، كرّهت في النفوس الظلم بما نال الحسين (ع) من مظلومية، وبذلك فهي كرّهت الشرك في النفوس وقوّمت التوحيد ببغض الظالمين ولعنهم والبراءة منهم.. فإن مناصرة الحسين (ع) ، لا تبدو حقيقة إلا من خلال بغض الظالمين وعداواتهم ولعنهم.. وهو منهج واضح في القرآن العظيم يبرز به ويتميز إبراهيم (ع) سيد الموحدين، فلنا فيه (ع) أسوة:

(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برءاءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده.. ) (الممتحنة: 4).

وفي موضع آخر من نهج القرآن في كون بغض الظالمين وعداوتهم هو نهج الموحدين نجد إبراهيم (ع) يقول: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) (الشعراء: 75 - 78).

وفي موضع آخر يقول الله عن سيد الموحدين إبراهيم (ع) في جده لأمه أو عمه: (فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه) (التوبة:114).

وهذا جزء نعرفه من ألطاف الله الكثيرة في ثورة الحسين وفي شخص الحسين (ع) والله ورسوله أعلم ما الباقي الكثير.

الهـــوامـــش :

1 - محمد مهدي شمس الدين (ثورة الحسين) نقلا عن تاريخ الطبري وأعيان الشيعة ص187.

2 - كتب المقاتل، كتاب أعيان الشيعة ج4 القسم الأول ص160.

3 - أمالي الصدوق ص478، وبحار الأنوار ج43 ص262، والمنتخب للطريحي: ص203.

4 - محمد مهدي شمس الدين (ثورة الحسين) نقلاً عن الطبري والكامل والأخبار الطوال ص154.

5 - المصدر السابق ص184 - 185 نقلاً عن أعيان الشيعة.

6 - المصدر السابق ص185.

7 - محمد مهدي شمس الدين (ثورة الحسين) نقلاً عن الطبري والكامل وتاريخ الخلفاء ص171.

8 - المصدر السابق نقلاً عن أعيان الشيعة ص177.

9 - أنساب الأشراف للبلاذري، ج3 ص1285. مسند أحمد ج4 ص172، سنن ابن ماجة ج1 ص144، تاريخ دمشق لابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين)، إرشاد المفيد ج2 ص127.

10 - بحار الأنوار للمجلسي ج43 ص27.

11 - المصدر السابق.