1

 

مــرتضــى معــاش

[email protected]

يوماً بعد يوم تزداد ضرورات التحديث والعصرنة في مجتمعاتنا بعد هبوب رياح التغيرات الكبيرة على أجواء العالم مخلّفة فراغات كبيرة ومعقدة صدمت المجتمعات البشرية بشكل عام وعالمنا الإسلامي بشكل خاص. فمع استمرار وجود البنيات التحتية .القديمة وعدم تطورها وتكاملها مع التغييرات العالمية المتصاعدة تصبح أسس التخلف متجذرة بشكل أكبر وأصعب في قواعد الفكر والعمل.

ويمكن القول أن التناقض الكبير بين مظاهر التحديث الشكلي وبقاء جوهر التخلف قد ولًد صدمة كبيرة أدت إلى انتزاع أسس الأصالة والثبات في المبادئ الأساسية للحضارة الإسلامية، والدخول في متاهة العصر المتقدم والضياع في دوامات الانخراط في مظاهر الحضارة الحديثة. فقد سبب التحديث الشكلي للمجتمعات صدمات كبيرة كانت نتيجة حتمية للانفصام بين تطور الشكل وتخلف الجوهر مخلفة ازدواجية متناقضة ضاعت فيما بينها الهوية والأصل والأساس، وكان المولود مجرد استنساخ مقلّد بصورة سيئة عن الحضارة الغربية ولا يبعد القول أن حقيقة المظاهر السلبية التي اجتاحت مجتمعاتنا مثل العنف والتطرف والتفكك والتبعية ما هي إلا نتيجة للصدمات النفسية والفكرية التي صاحبت هذه الازدواجية حيث عجز الفرد عن استيعاب التطور بشكل واع متفهم يهضم الواقع الخارجي بصورة منطقية فيستطيع أن يؤقلم سلوكه بصورة متوازنة وبرؤية حقيقية لا تخدعها المظاهر...

ولكن الذي حصل أن الصدمات الحضارية استطاعت أن تؤسس لنفسها وجوداً متميزاً في منطقة الفراغ بين الجوهر والمظهر لتساهم في وجود جديد ينمو بعشوائية مستمرة بعيداً عن النمو الطبيعي للمجتمع والفرد فكرياً واجتماعياً وحضارياً. هذا النمو العشوائي يمكن أن نشبهه بوضوح بتلك المدن الكبيرة في بلادنا التي اجتاحها التطور الأعمى فأصبحت تمتد بشكل فوضوي كبير راسمة لوحة سوريالية لمدن غامضة ضاعت بين الماضي والحاضر ولا تعرف ماذا يجري في داخلها وخارجها.

هذه العشوائية تداخلت في معظم مناحي الحياة لتنمو بشكل متضخم يشبه إلى حد بعيد التضخم الاقتصادي في خطوطه المتقاطعة والمتناثرة عبر بنية اقتصادية متبعثرة منتجة غيوماً سوداء من الغازات السامة أصبحت المتنفس الوحيد الذي يعطي الحياة لأجساد غالبتها الصدمات الحضارية فاستسلمت لقدر الانفصام وقبلت التمتع بجماليات المظاهر الحديثة للحياة الجديدة.

كيف يمكن لنا أن نتنفس من سموم ما تنتجه الحضارة الغربية ونستهلك ما يبقى من موائدهم مصفقين لإبداعاتهم وحالمين بأبطالهم؟، إلا إذا كان الانتزاع حقيقياً من وجودنا الجوهري، وهذا يعني بشكل واضح إننا تحولنا إلى أشكال هامشية من الوجود الفقير الذي لايطمح لشيء إلا أن يرى حركة الحضارة الحديثة وتطورها عبر امواج الاطباق المبثوثة بالأقمار الصناعية، فيعزّي نفسه عبر التلذذ بالمشاهدة والاكتفاء بالمراقبة.

لا يمكن لأي مجتمع أو إنسان أن يقبل بجمالية المظهر ويتشدق به، ويتغاضى عن الوضع المزري الذي تشبع به جوهره وداخله، فمع عقم الجوهر وترقق الأسس البنيوية لوجوده يصبح الشكل مجرد هيكل آيل للسقوط وشبح يفتقر إلى تشكله الخارجي.

لذا لا يمكن للتحديث أن يتحول إلى قضية فاعلة تحقق التطور الحضاري الطبيعي في حياتنا إلا بعد أن يستوعب كافة أجزاء النمو البشري وخصوصاً التحديث في الأسس والقواعد التي يمكن أن يقف عليها أي مجتمع متكامل ونامي في مسيرة طبيعية ومنطقية.

هناك قضيتان أساسيتان في برنامج التحديث المنطقي الذي يمكن أن تسير فيه حركة الإصلاح والتجديد:

القضية الأولى: إشكالية الحرية والانفكاك عن الاستعباد ورفع الاغلال والأصر.

القضية الثانية: وجود قنوات التماسك والبناء الاجتماعي عبر الحوار الذي يجمع قطاعات المجتمع في طريق التحديث والإصلاح.

القضيـــة الأولـــى :

تمثل الحرية الحركة الغائية لوجود الإنسان والمجتمعات، فمع انتفائها ينتزع من وجود الإنسان جوهره الذي قامت عليه فلسفة خلقه وامتحانه، لذلك ينمو الإنسان والمجتمع ويتطور ويتكامل مع نسبة تعدد خياراته وقدراته في التفكير والإبداع والإنتاج، إذ مع قدرة الإنسان على الاختيار بين البدائل المختلفة ووعيه في سلوكه واستجاباته تتكامل فيه وتنضج قدراته العقلية والنفسية ويصبح مسيطراً على الظروف الخارجية التي تحكم حياته، ومتأقلماً مع التطورات التي يستطيع أن يراها بوضوح على حفريات الزمن وتحولات المكان.

التحديث يبدأ من تجديد قوى الإنسان الذاتية وإعادة بناء قدراته على تحقيق البدائل وفتح الطريق أمامه لإيجاد النضج الإنساني المتكامل في مسيرته التصاعدية، ولكن التحديث الذي يجري اليوم في مناطق كثيرة في العالم المتصاعد بوتيرة مذهلة، يبدو بنظرة ثاقبة مشوهاً لأنه يتناسى تحديث الإنسان وبناء حريته إلى تحديث الأشكال والمظاهر الخلابة، كيف لنا أن نزين بيتاً جميلاً ونحدّث مظهره الخارجي ولكنه في أسسه يعيش تآكلاً خطيراً قد يؤدي إلى انهياره بصورة مفاجئة..؟

وكيف يمكن أن نحدّث مجتمعاً في مظاهره وهو يعيش أزمة عدم القدرة على الاختيار وبالتالي عدم القدرة على التأقلم الواعي مع التحديث؟.

هذا التناقض بين الإنسان كشكل متطور في مظهره وبينه ككائن غير مدرك وغير واعي لحقيقة التطور الواقع فيه سيؤدي إلى غرقه يوماً في التطورات المتلاطمة لأنه لا يعرف السباحة في بحر العصر والزمن.

هناك ثلاثة معوقات أساسية تقف أمام التحديث البنيوي الذي يهدف إلى بناء حرية الفرد والمجتمع:

1- إن القرون المديدة التي توالت على الأمة كانت عصوراً تعبق بالاستبداد والاستعباد لم يذق فيها الناس طعم الحرية، فقد كبس عليهم توالي الزمن الميت حتى خنقهم من نسيم الإبداع والإنتاج والوعي حتى أصبح التنفس بالاختناق أمراً طبيعياً، لقد تعود الناس على طعم الدكتاتورية؛ وبالتالي فإن الحرية أمر يصعب تحقيقه في نفوس بشرية قد تشربت بالاستبداد، وهذا يعني عدم وجود التفاعل مع دواعي التحديث والإصلاح لأن التراكمات الماضية قد حولت الفرد إلى كائن مستعبد متوتر بالخوف يعيش الانعزال ويقتات بالطاعة المطلقة فلم يبق له وجود حقيقي يذكر.

إن حركة المجتمع الفاعلة تعتمد أساساً على وجود الإنسان المفكر المبادر للفعل والتأثير لينتج ويبدع، ومع توقف هذا الإنسان وجموده تتوقف عجلة الحياة والنمو والتكامل، وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً).

وفي الآية القرآنية: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) دلالة حكيمة على أن حركة التغيير والتحديث تنطلق عبر إيجاد الوعي الإنساني بحريته ورفع المعوقات النفسية التي تقيده وتأسره.

الفرد جزء من المجتمع ومع إحساسه بالحرية وشعوره الذاتي بالقدرة والإبداع والإنتاج يتحول إلى كائن حيوي مفعم بالنشاط والحركة فينمو بشكل طبيعي وإيجابي.

2- إن المؤسسات التي تستوعب المجتمع بكافة نشاطاته هي مؤسسات قد تحولت إلى ركام محطم لا يستطيع أن يدخل إلى العصر الحديث وينسجم معه. لأنها تفتقد بشكل أولي إلى المشاركة العامة وتدار بشكل فوقي وتتسلط عليها الفردية إضافة إلى أنها تفتقد الأسس البنيوية، وتسير باتجاه نمطي يفتقد للتنوع والتعدد الذي يعطيها أبعاداً خلاقة في كفاءتها وقدراتها الإنتاجية.

هذه المؤسسات القديمة المترهلة قد أصبحت عبئاً ثقيلاً يقف أمام حركة التحديث والإصلاح، لذلك فإن التحديث الشكلي لهذه المؤسسات، وإصلاح ظاهرها، سوف يجذّر من أزماتها البنيوية ويراكم من مشكلاتها وسلبياتها، خصوصاً عندما تتحول إلى خنادق متحصنة ضد التحديث الحقيقي الذي يهدد مصالحها.

إن حركة التحديث الفعالة تبدأ عبر إعادة بناء المؤسسات بكافة أشكالها وتحويلها إلى مؤسسات تعتمد بشكل أساسي على:

* المشاركة الشعبية بالمعنى الحقيقي للمشاركة، بأن يصبح الفرد جزءاً فاعلاً من حركة القرار والفعل والتأثير؛ وذلك عبر تعميق مفهوم الشورى، وتعميم مبدأ رأي الأكثرية، وحرية التعبير، وحماية الحقوق الأساسية.

* ترسيخ مبدأ التعددية، كمبدأ ومنطلق لتنافس الكفاءات، من أجل رفد المؤسسات بالوجود الحقيقي الفاعل بالطاقات المؤهلة، خصوصاً عندما تصبح كفاءة الفرد وإنتاجيته المحك الرئيسي للتفاضل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ).

* الإدارة بالتفويض يمكن أن يكون لها دور كبير في تحريك عملية الإصلاح بصورة منطقية ولا يعني هذا التفويض من القاعدة إلى القمة، بل على العكس من ذلك من القمة إلى القاعدة، ذلك لأن وجود التفويض المطلق من القاعدة إلى القمة قد حول المحكومين إلى مجموعة موصى عليهم قد حجر على عقولهم وأموالهم في أغلب الأحيان، وحول الحاكم إلى قدرة مطلقة وحيدة، وهذا بالنتيجة يعني عدم قدرته على التحديث، لأن التحديث يحتاج إلى التعاون الجمعي الفعال، أي أن التفويض من القمة إلى القاعدة (اللامركزية) سوف يحول التحديث من حركة فردية إلى حركة جماعية متكاتفة تعتمد على المبادرات الذاتية وتعطي للأفراد زخماً كبيراً في تحمل المسؤولية وأداءها.

3- تؤدي الدول الاستعمارية دوراً كبيراً في عرقلة التحديث والإصلاح، لأن الإصلاح سوف يؤدي إلى تهديد مصالحها السياسية والاقتصادية؛ إذ يحول البلاد من مجتمعات تابعة مستهلكة لما ينتجه الغرب إلى مجتمعات منتجة تعتمد على الاكتفاء الذاتي. لذلك تحاول أن تدعم الأنظمة المستبدة وتعرقل حركة التحديث التي تهدف إلى بناء أسس بنيوية قائمة على الحرية.

ولكن لا يمكن لهذه القوى أن تكون معوقاً ما لم توجد قابليات متعددة للقبول بالاستعباد والاستعمار والتبعية، وما لم تكن هناك مؤسسات مهترئة قد سحقها الزمن - إذا كانت هناك مؤسسات - إذ إن بعض البلدان لا تملك مؤسسات أصلاً.

القضيــة الثــانيــة :

كثيرة هي العقبات التي تقف أمام حركة الإصلاح ولكن عندما تتقاطع المصالح بشكل متنافر في المجتمع وتفتقد العقلانية في التعامل مع الآخر يصبح المجتمع في مهب التمزق والتفكك عبر الحوار بالعنف، وفي ادنى درجاته عنف الحوار. فالحوار بالعنف هو التعامل بين الأنداد والأضداد في مجتمع ضاقت صدور أفراده، فعجز عن استخدام لغة العقل والمنطق والتفاهم.

إن التحديث يعتمد بشكل أساسي على وجود حركة اجتماعية شاملة تشارك فيها القوى والجماعات بعد أن تصل إلى عقد واتفاق مشترك على أهداف واحدة تصب في إطار المصالح المشتركة للجميع.

ولكن البعض آثر أن يتخذ لنفسه بعداً أيديولوجياً مقدساً تحول فيه إلى محور مركزي يفرض على الجميع أن يستسلم له ويدين بأفكاره، فلا مجال حينئذٍ في محيطه التحزبي لوجود الآخر، ولو وجد فإنه قد خرج عن شرعية الأيديولوجية الواحدة. فالفرد أو الجماعة التي تحيط هالة مقدسة بأفكارها وأهدافها لا ترى إلا نفسها وكأن لا وجود لآخرين يعيشون في نفس المجتمع.

وكيف يمكن إصلاح مجتمع يعيش أفراده وجماعاته في جزر منعزلة قائمة على الانغلاق والجمود في الدوائر الذاتية؟!.

إن التحديث لا يمكن أن يتحقق إلا بعد تحديث الأفكار والتحول إلى رؤى جديدة تفتح آفاقاً اخرى لعوالم خارج حدودنا فنرى الآخرين عبر عيون جديدة لم تسجن في زنزانتها الفكرية القديمة، فالتحديث الفكري يمكن أن يقودنا إلى فهم أفكار الآخرين عبر ايجاد التقارب النفسي أولاً، وإزالة الحواجز ومحاولة دراسة آرائهم بموضوعية، واستبعاد روح التحيز التي تحكم ذواتنا بتعصب مفرط.

والتحديث لا يتم إلا عبر إصلاح العقول التي صدئت من انغلاقها على نفسها، ورفضت الانفتاح على الآخرين.

والتحديث لا يتم إلا عبر إصلاح الأنفس التي تمزقت بالحقد والتعصّب الأعمى، فأصبح التطرف الجارف رمز لتفريطها وإفراطها الجاهلي.

إن الحوار المتبادل بين مختلف الفئات والأفكار والاتجاهات بشكل موضوعي يستمع فيه الجميع إلى الآخرين بوضوح وتفهّم يمكن أن يؤدي بالنتيجة إلى إيجاد قنوات مشتركة تحقق التفاعل الاجتماعي الحيوي وترسم معالم الإصلاح والتحديث بشكل طبيعي مستمر على ملامح الأمة، وتنشئ أسساً متجذرة من التماسك والتلاحم والوحدة.

يقول تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).