فــاضل الصفـــار |
|
يمثل الابتكار والإبداع أحد الضرورات الأساسية في إدارة الأعمال والمؤسسات إذ أن الزمان في تصاعد والحاجات والطموحات هي الأخرى في نمو واتساع، فلا يعد كافياً أو حتى مرضياً أداء الأعمال في المؤسسات - على اختلاف أنماطها وأنواعها - بالطرق الروتينية التقليدية لأن الاستمرار بها يؤدي إما إلى الوقوف وهو بالتالي تراجع عن الركب المتسارع في المضي إلى الأمام أو الفشل.. لأن من لم يكن في زيادة فهو في نقصان كما ورد عنهم (عليهم السلام)؛ فعن مولانا الصادق(عليه السلام): (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(1). لذلك فإن المؤسسات الناجحة ومن أجل ضمان بقائها واستمرارها قوية مؤثرة يجب أن لا تقف عند حدّ الكفاءة بمعنى أن تقتنع بالقيام بأعمالها بطريقة صحيحة أو تؤدي وظيفتها الملقاة على عاتقها بأمانة وإخلاص.. على الرغم من أهمية هذا الشعور وسموّه.. وإنما يجب أن يكون طموحها أبعد من ذلك.. فترمي ببصرها إلى الأبعد وبآمالها إلى الأسمى والأسمى حتى تكون متألقة أفكاراً وأداءً وأهدافاً وبتعبير آخر حتى تكون مؤسسة خلاّقة مبدعة.. ويصبح الابتكار والإبداع والتجديد هي السمات المميزة لأدائها وخدماتها.. قد يمكننا تعريف الإبداع بأنه أفكار تتصف بأنها جديدة ومفيدة ومتصلة بحلّ أمثل لمشكلات معينة أو تطوير أساليب أو أهداف أو تعميق رؤية أو تجميع أو إعادة تركيب الأنماط المعروفة في السلوكيات الإدارية في أشكال متميزة ومتطورة تقفز بأصحابها إلى الأمام، إلا أن التعريف وحده لا يحقق الإبداع ما لم يتجسّد في العمل، لذا قد يمكن أن يقال أن الإبداع الحقيقي هو في العمل المبدع لا في التفكير وإن كان العمل المبدع يسبقه تفكير مبدع ولذا فإن عملية الإبداع تمر في الغالب بأربعة مراحل هي: الإعداد والاختيار والإلهام ومرحلة التحقق.. ولذلك نؤكد أنه ينبغي أن تتسم الأفكار الخلاقة بالعملية أيضاً حتى يصحّ أن تكون فكرة خلاقة وإلا فإن مجرّد الفكرة السامية بلا إمكانية للتحقيق ناقصة لأنها لاحظت الحدود المثلى للفكر والفكر يسمو ويتألق ولا يحدّده مكان أو زمان أو طاقة أو خبرة.. بخلاف العمل والعملية فإنها مراحل يجب أن تنسجم مع الزمان والمكان والطاقة والقدرة على إنجازها حتى تصبح ممكنة.. لأن العمل محكوم بشرائط ذلك دون الفكر.. فليس من المهارة دائماً أن يحمل الإنسان أفكاراً مثالية مجردة عن الواقع وأكبر من قدرة البشر، بل المهارة في أن يحمل أفكاراً مبدعة خلاقة قابلة للتطبيق.. وبذلك يشمل الإبداع طرق الإدارة الفاعلة والقدرة على التأثير الناجح والأخذ بزمام الأمور إلى المراتب الأعلى والأفضل.. التفكير الخلاّق.. والآخر المنطقي إن كل عمل ناجح بحاجة إلى ثلاثة أصناف من الأفراد: 1- المدراء. 2- العاملون. 3- المبدعون. وما لم يحصل توافق وانسجام بين هذه الأصناف الثلاثة لا يأخذ العمل مسيره إلى التقدّم والنجاح.. فالأوّل والثاني يقوّمان العمل والثالث يميّزه عن غيره بالخصائص والأوسمة.. ومن الواضح أن القرار الإداري هو العلة التي تقف وراء النجاح والفشل وللتفكير الإنساني الدور البارز في طابع القرارات الإدارية وفي الغالب فإن القرار العقلاني يحدّد إما على أساس منطقي أو إبداعي خلاّق. فالتفكير المنطقي يتدرّج حسب قانون الأسباب خطوة فخطوة حتى يتوافق مع القواعد المنطقية.. لذا فإنه لا يتجاوز الأعراف والتقاليد والأنظمة المفروضة والأساليب المألوفة في الغالب، لأن المنطق يفرض على صاحبه مراعاة توازن الفكر مع العمل مع كسب الأرباح مع الخسائر الأقل ونحو ذلك من موازنات ضرورية لسلامة الإدارة. أما التفكير الإبداعي فهو قد يتجاوز الأعراف والتقاليد ويخرق المألوف بشجاعة وإقدام فلا يخضع لقواعد ثابتة أو قرارات محكمة لذا فإنه في الغالب يخيف ويوقع المتعايشين معه بالحذر والارتباك كما هو المعروف في طبيعة البشر من تخوفهم من كل جديد، لذلك فإن الفكر الخلاّق قد لا يعدم أن يجد من يخالفه بشدة وينسب إليه النواقص.. حتى يثبت مصداقيته وصحته بعد حين والأمر الذي يهوّن الخطب هو أنه بعد النجاح سيشكّل انتصاراً كبيراً لأصحابه ويزيد من مصداقيتهم وكفاءتهم.. ولا يخلو الأمر من تعارض بين النمطين في التفكير، والحلّ الأمثل هو الجمع بين النمطين وأفضل طريقة لذلك هو فسح المجال لكلا الفكرين في العمل ولأفرادهما بالمواصلة ويبقى القرار الأخير عند أهل الحلّ والعقد في الاختيار الأفضل والأمثل. |
إن الابتكار والإبداع شكل راق من النشاط والخلاقية الإنسانية وقد أصبح منذ الخمسينات من القرن الماضي مشكلة هامة من مشكلات البحث العلمي في العديد من الدول والمؤسسات.. فبعد أن حلّت الآلة في المصانع والإدارات والمؤسسات لم تعد الحاجة إلى العضلات البشرية بتلك الأهمية وإنما نحت الضرورة إلى الطاقة المفكرة الخلاقة إذ تجاوزت تقنيات الآلة الزمان والمكان في السرعة على الإنجاز في المصانع والشركات الصناعية والتجارية فضلاً عن الإتقان والجودة كما تجاوزت معرقلات التواصل والارتباط ونقل المفاهيم والمؤثّرات في المؤسسات البشرية والفكرية.. بما جعل الاستغناء عن الكثير من الطاقات والكفاءات العضلية والوظيفية أمراً طبيعياً.. وفي المقابل ازداد الطلب أكثر فأكثر على النشاط الابتكاري والإبداعي الفذ فبات من الضروري على كل مؤسسة إيجاد قدرات خلاّقة في أفرادها تعينها على مواكبة التطور السريع كضرورة اهتمامها في تطوير القدرات المبدعة لبذل المزيد حتى تبقى في القمة دائماً.. وهذا ما يدعو إلى اكتشاف العناصر الخلاقة المبدعة في كل تجمع وجماعة فإن كل جماعة لا تعدم أن توجد بين عناصرها العديد من الطاقات الخلاقة ولكن في مرحلة الولادة أو الكمون فتحتاج إلى الفرص المناسبة والرعاية الكافية حتى تولد وتنمو وتكبر وتأخذ موقعها في مجالات العمل المختلفة.. ومن هنا ينبغي - دائماً - التوجّه إلى صفات الأفراد وخصوصياتهم لاكتشاف الطاقات المبدعة فيهم حتى لا نحرمها من العناية ولا نحرم العمل من فرص أفضل للتقدم.. وتتمثل صفات المبدعين بجملة من المظاهر في السلوكيات والأنشطة اليومية في البيت ومكان العمل والشارع والنادي وغيرها من مواقع النشاط وقد حدّد بعض علماء النفس الصفات الإبداعية في الأفراد في عدّة مظاهر نذكر منها ما يلي: 1- النهم إلى المعرفة والاستطلاع الشخصي وفي التجمّعات يميل المبدعون غالباً إلى الفضول الإيجابي والبحث وعدم الرضا عن الأوضاع الراهنة طلباً للتجديد والتطوير.. 2- الالتزام بهدف سام والتفاني في العمل من أجل الوصول إليه.. 3- القدرة على تقديم الأفكار والاقتراحات المقنعة أو الخطط البديعة.. 4- التلقائية والمرونة في التعامل والثقة في النفس في العلاقة مع الأفراد والتعاطي مع الأزمات. إن العمل الجاد يعتبر متعة لدى المبدعين وذلك لقوة الشعور لديهم بإنجاز شيء ما حتى يخلّدوا أنفسهم وينزعوا الاعتراف من المجتمع بجهودهم ومكانتهم فضلاً عن تحقيق الأهداف، وهنا تكمن أبرز مظاهر الإبداع والخلاقية.. كما تكمن أهمية الرعاية والترشيد فإن الفرد المبدع عصامي يعتمد على قدراته وكفاءاته في تحقيق النجاحات لا عظامياً يعيش على عظمة الآخرين ويستفيد من جهودهم. لذلك فإن من حقه علينا أن نرعاه ونرشده لكي يبدع وينتج.. 5- تشجيع تبادل الرأي والمشاركة فيه والنقد الذاتي.. ويتنزه الفرد المبدع في الغالب عن السلبية والتزلّف والنفاق، لأنها مساوئ تتنافى مع شعوره بالثقة وتفكيره المتحرّر وطموحه العالي إلى الكمال وتحسين الأوضاع وتوجيهها إلى الأفضل.. لذلك فإن المبدعين في الغالب يتسمون بالصدق والبحث عن الحقيقة. فيرفضون مواراتها أو تجاوزها فقد ينتقدون المستويات الأعلى إذا وجدوا خللاً في أدائهم أو سلوكهم كما يطرحون البدائل الإيجابية ويساهمون فيها فلا يكتفون بالنقد لمجرّد النقد بلا تفاعل ومشاركة في تحسين الأوضاع.. كما لا يبطنون شيئا ويظهرون خلافه.. لأن هذه صفات تنشأ من النقص والعجز وهو أمر يتنافى مع الإبداع. نعم قد يتصف بعض المبدعين بعدم الحكمة أو الخلل في التدبير في مجالات العمل أحياناً لقلة التجربة ونحو ذلك.. وهذا أمر طبيعي ويمكن أن يقع في كل مؤسسة لذا فإن المنطق السليم يفرض على القائمين السعي الدائم لوضعهم في صور بعض الأعمال والاستفادة من آرائهم حتى ينضجوا كأفراد مبدعين كما نضمنهم كأصدقاء وعناصر إيجابية صادقة في العمل. 6- قراءة الماورائيات لدى الاستماع إلى محاضرة أو خطبة أو قراءة فكرة ومراقبة عمل أو سلوك.. وعدم الوقوف إلى حدّ الظاهرة من دون تحليل وتعمّق. 7- الاستقلالية.. إذ أن المبدعين يتميّزون - في الغالب - بالتحرّر من النزعة التقليدية والتصورات الشائعة ليس حباً بالخروج عن المألوف دائماً بل لتطلّعهم الدائم وطموحهم العالي في التفكير والتعبير ورسم الأهداف ومن الواضح أن لبعض التقاليد والنمطية أهميّتها وحكمتها التي تستدعي احترامها وعدم تجاوزها. وفي نفس الوقت قد تتحكم بعض النمطيات الجامدة في علاقات العمل فتشكل مانعاً قوياً أمام الطاقات الإبداعية، لذلك فإن الأفضل هو مراعاة الإبداع بمشاركته في الأدوار العملية حتى يختمر أكثر بالتجارب ويصبح أكثر إنتاجاً وأفضل ثماراً، فإن للتجربة والخبرة الدور البارز في صياغة عقلية المبدعين الناجحين وإضفاء سلوكهم بالمزيد من التدبير والتوازن.. لكي لا يشطوا عن الأعراف الصحيحة والتقاليد القيّمة. وهذا هو الذي نقصده من الاستقلالية أي استقلالية إيجابية وبنّاءة.. تقود المجتمع إلى المزيد من التطور والرقي. أما الشذوذ عن الأعراف الصحيحة فهو خروج عن المألوف ولكن في بعده السلبي وهو مرفوض ويؤدي في الغالب إلى عزل أصحابه عن المجتمع ويصبح دورهم عديم التأثير، إن الفرد المبدع لا يمكن أن يكون منقاداً لأنه إنسان قوي الشخصية متمرّد في أغلب الأحيان على القيود الحديدية وعلى المعايير النمطيّة الجامدة للجماعة.. لذا قد يتّسم بعدم النظامية وتجاوز المقرّرات وإن كان في الواقع لا يريدها أو يهتم لتغييرها إلا أن روحه المتطلّعة وتفكيره المتفوّق يحدوان به إلى الأسبقية في كل شيء وحقاً أن الفرد المبدع قد تضيّعه اللوائح الجامدة والعلاقات الروتينية الصلبة.. والإنصاف أن كلا النمطين من الأفراد صاحب حق في مجاله لأن الإداري يهتمّ للمزيد من النظام والتسلسل المنطقي في العمل وهذا قد يخرّبه المبدع في تحرّره ولكن في نفس الوقت فإن تقييد المبدع بروتين وقواعد إدارية مغلقة قد تكبت فيه المزيد من الطاقات والتطلّعات وهذا خسارة للجميع. ولعلّ أفضل طريقة للجمع بين الأمرين هو تحرير الطاقات المبدعة في أعمال أكثر تحرّراً وانفتاحاً من الأعمال والوظائف التي تقوم على قواعد العمل ونظام الإدارة فإن في هذا تسوية للمشاكل مع الأفراد الإداريين الذين اعتادوا على النمطية في إنجاز الأدوار. في نفس الوقت كسب المزيد من الإمكانات والفوائد التي يعود عليها الفرد المبدع إلى العمل. 8- القدرة العالية على تفهّم المشكلات ومناقشتها بسعة صدر والتعامل معها بإيجابية وحكمة فلا تعود الأزمات المستعصية على المبدعين بالإحباط أو الشعور بالفشل والنقص في أغلب الأحيان.. بخلاف الكثير من الأفراد الذين تزيدهم صلابة الأزمات تراجعاً ونكوصاً إلى الوراء أو شعوراً شديداً بالإحباط فينهزمون في ذواتهم أولاً ثم أمام خصومهم ومنافسيهم.. بينما التطلّع إلى الإصلاح وتغيير الأوضاع تفجر طاقات المبدعين فتجعلهم أكثر تفكيراً وتخطيطاً للمعالجة، وطبعاً فإن الذين يقودون أممهم إلى التحرير ويضعون جماعاتهم في القمم هم المبدعون لما لهم من وعي وإدراك وإحساس مرهف وحماس متدفق يؤرقهم من وطأة المشاكل وانعكاساتها لذا فإنهم يشعرون وكأنهم هم المسؤولون عن حلها ونظراً لما يملكه المبدع من ثقة والتزام في حل المشكلات حتى ولو استلزم ذلك خسارة له، فإنه سيكون مساهما حقيقياً في الحلول. 9- وضوح الرؤية وصلابة الموقف وثبات القدم.. إن الشخصيات المبدعة تنظر إلى الزمن كمورد إنتاجي يجب استثماره في تحقيق المزيد من الفتوحات والانتصارات وتنظر دائماً إلى الأمام للسبق والتقدم ولا تجعل للماضي أو الحاضر قيوداً عليها.. إن بعض الأفراد يعيش في قيود الماضي وأزماته وآخرون يعيشون في قيود الحاضر وأزماته فينشغلوا في هموم اليوم متناسين آمال الغد وهذا خطأ كبير يعود عليهم بالفشل في آخر المطاف وكم من الأفراد المهمّين الذين شعروا بمرارة الندم على فترات مهمة من حياتهم مرّت، كان فيها المزيد من الفرص الثمينة لم يستثمروها وانشغلوا بالهوامش وتوافه الأمور ولكن الندم بعد فوات الأوان لا ينفع ولا يعود عليهم بالفرج من جديد بينما الأفراد المبدعون ينظرون دائماً إلى الأمام ويعيشون الأولويات القصوى فيمسكون بها ومن بعد ذلك تحظى الأمور الأخرى ببعض العناية، وأنت ترى أن مجمل هذه الصفات وغيرها تصوغ الشخصية الخلاقة والمبدعة القادرة على المساهمة في التطوير والرقي.. ولعلّ شخصاً واحداً مبدع ينفع المؤسسة ويساهم مساهمة فعّالة في إيصالها إلى النجاح كما أن انعدامه قد يصيبها في الفشل خصوصاً في أوقات الأزمة.. |
إذاً المؤسسات الأفضل هي التي تكون قادرة على الابتكار والتجديد على أسأس نام ومتطور، والمدراء الأفضل هم الذين يكونون قادرين على مساعدة الأفراد والاستفادة من مواهبهم الإبداعية.. وعلى هذا فإنه ينظر إلى الابتكار على أنه عملية إيجاد وخلق الأفكار الجديدة ووضعها في الممارسة الصحيحة ونعني بها: - أن تحدّد طرقاً لعرض الأفكار والخطط بحيث تقنع الآخرين. - وإيجاد أفكار جديدة تساعد المؤسسة على أن تكون في وضع أفضل. - كما تكون بدرجة من المنطقية والتوازن بحيث تلقى التجاوب الأمثل من العاملين والمدراء وتحفّزهم لاستثمار قدراتهم ومواهبهم لتحقيق الأهداف. وهذا ما يستدعي التأكيد على أهمية استثمار الأفكار البناءة لدى الفرد في تحريك مواهب الآخرين ومهاراتهم بشكل يخدم الجميع وهذا ما لا يتمّ إلا إذا توفّرت المقوّمات الأساسية للابتكار وارتفعت معرقلاته.. - وتتلخص مقوّمات الابتكار في عدة أمور من أهمها: 1) الانتماء الروحي للمؤسسة.. ونعني به شدة الارتباط بالمؤسسة حتى تصبح مهامها جزءاً من مهام الفرد نفسه فيصيبه ما يصيبها من نفع ومن ضرر. إن الشعور بالانتماء الروحي للجماعة أو المؤسسة هو شعور جميل إذا كان متوافقا مع الحق والمنطقية.. وهو الذي يساهم في الإبداع أما إذا صار هذا الشعور نوعا من التعصب والتحزّب فهو أمر يعود معكوسا وينقلب إلى الضرر أكثر من النفع. ويعتبر الشعور الوطني العميق في نفوس المواطنين من أهم الدوافع نحو الإبداع والخلاقية في زمان السلام، والدفاع والحماية والتفاني في زمان الحرب وهو الآخر نوع من الإبداع والخلاقية.. وهكذا الأمر يصح في الانتماء القوي للأسرة والجماعة.. فالشعور الشديد بالانتماء يساهم مساهمة كبيرة وفعالة في دفع الأفراد نحو الابتكار والخلاقية. وعلى سبيل المثال تعد اليابان مجتمعاً ومؤسسات مثالاً حياً لهذا المفهوم فقد تمكنت اليابان من الاستفادة من هذه القيمة الإنسانية وتسخيرها في زيادة إخلاص الفرد أياً كان موقعه في العمل فتمكنت أن تحظى بقمة في التقدم الصناعي والتقني في فترة قياسية بعد الحرب العالمية وبعد أن حطمتها القنابل الذرية الأميركية. وعلى العكس من ذلك فإن الشعور باللامبالاة يفسر تخلف الكثير من الدول النامية حيث لا يفكر الفرد إلا بالطرق التي تمكّنه من تحقيق رغباته وطموحاته الشخصية على حساب المؤسسة التي يعمل فيها والدائرة التي ينتمي إليها - في الغالب -. ومن الواضح أن هذا ليس ذنب الأفراد بل ذنب أنظمة الحكم السائدة في تلك الدول.. لأن الديكتاتورية المستشرية في العالم النامي والثالث تعلّم أبناءها على المصلحية والأنانية الفردية وتجعل الانتماء الوطني فيهم أضعف من الانتماء للذات وذلك لأن الديكتاتورية تحوّل البلد والشعب إلى بستان يملكها الحاكم ويجبي خراجها وأكلها كل حين من أجل نفسه وأفراده وأسرته ويجعل الآخرين تحت وطأة التخلف والفقر والأزمات كما كان يقول بعض مستبدّي بني أمية سابقاً: (السواد بستان لقريش) (2) وليذهب أهل السواد وسائر المسلمين إلى ما يذهبون!!. ومن المعلوم أن هذه العقلية والمفهوم تضعف من حسّ الانتماء الشديد للوطن في مقابل الانتماء للنفس فيصبح منطق الأنانية والمصلحية فوق الجميع.. وتسلسل الانتماء يبدأ واسعاً بسعة الوطن ثم يتضائل حتى يعود على الشخص نفسه وحينئذٍ يصبح القول المأثور هو الحاكم: الأهم مصالح الوطن ثم يتلخص الوطن في العشيرة أو الأسرة ثم تتلخّص مصلحة العشيرة والأسرة في جماعة الرئيس ثم تتلخّص مصالح هؤلاء أيضاً في الرئيس نفسه فتصبح المعادلة هكذا: الوطن = الرئيس والرئيس = الوطن وليذهب المواطنون إلى ما يريده الحاكم.. وإلا فإلى الجحيم!!. ومن الواضح أن هذا النوع من السياسة من شأنه أن يحطم روح الانتماء وحب الآخرين بما يفكك الأواصر ويجعل الأفراد مصلحيين أكثر من كونهم مبدأيين. فالشعور بالانتماء أمر جوهري في تفجير الإبداع وإنمائه ما دام في خدمة المؤسسة والمؤسسة في خدمة الحق والعدالة وأما إذا انقلب إلى تعصّب وتحزب وأنانية فهو عامل هدم لا بناء. 2) العقلية العلمية في التعامل مع الأزمات.. قد يصحّ أن نقول أن زمن الأعمال الفردية والجهود الشخصية قد ولّى وانصرم، وقد أصبح اليوم مهمة الجماعة، والتنظيم المشترك أقوى من أي مهمة أخرى في الإدارة الأحسن والأبقى.. التنظيم المشترك الذي يقوم على الجهود المتكاملة لكافة الأفراد والعاملين على اختلاف مستوياتهم وتطلعاتهم.. وهذه نقطة جوهرية ينبغي الالتفات إليها في تحديد مقوّمات الإبداع إذ يجب اعتماد الطرق العلمية الصحيحة للوصول إلى الأهداف بجدارة وهذا لا يتم إلا عبر التنسيق والتكامل بين مختلف الأفراد. 3) الانفتاح على الرأي الآخر.. فإنه لابدّ للابتكار والإبداع من أجواء حرة يسودها احترام الآراء والمواقف وإن كانت تخالفنا.. والحنكة والخلاقية تتجلى في سلوكنا أكثر إذا تمكنا من ترويضها وإقناعها على التعاون والتنسيق.. فالحوار هو الذي يوصل إلى الأفضل والمفيد.. ومن هنا فإن المؤسسات الإبداعية والمدراء الخلاقون هم الذين يزيدون من فرص التفاهم ويعملون على تشجيع الأفراد إلى تطوير أفكارهم وإبداع اقتراحاتهم لتحسين ظروف العمل وفتح المجالات الأوسع للمزيد من البذل والعطاء.. أما المؤسسات المنغلقة على نفسها أو المدراء الذين لا يجدون للآخرين موقعاً بينهم ولا يحترمون آراء الآخرين فإنهم يحكمون على أعمالهم بالفشل وعلى أنفسهم بالتراجع شيئاً فشيئاً. ومن الواضح.. أن الانفتاح على الآخرين واحترام آرائهم أمر ليس من السهل قبوله أو الاعتراف به لأنه يتوقف على الإيمان بمواهب الآخرين وقدراتهم.. وهذا هو الآخر أمر صعب ما لم يؤمن أصحاب القرار بواقعية وإنصاف بهذه الحقيقة.. لقد أصبح اليوم العمل الجماعي هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الانتصارات الكبرى على أي صعيد ومعترك فإذا لا نؤمن بذلك بمنطقية فإن الواقع والتجربة والنتائج هي الحكم الفيصل الذي سيضطرنا إلى القبول بها أخيراً وحينئذٍ فإما نقبلها بسعة صدر أو تتجاوزنا المرحلة لتجد بدائل أفضل. باعتبار أن الإدارة الخلاقة هي الجهد الجماعي المتكامل فلا يمكن للإبداع والابتكار أن يظهر ويأخذ دوره في مجالات العمل إلا بتشجيع الجميع لتقديم أقصى ما عندهم من جهود وإمكانات في تحقيق الأهداف ولكي يتحقق ذلك فإنه يجب على الإدارة أن تولي الاهتمام الأكثر لتشجيع روح الفريق.. بكل ما فيه من تماسك معنوي وتعاضد في الجهود وتكامل في النشاطات وهذا يتطلب منا حقاً الإيمان بحق الآخرين في الرأي والانفتاح على الرأي الآخر والاعتراف بالحقيقة القائلة: إن الكفاءات والطاقات مواهب إلهية وزّعها ربنا تبارك وتعالى على الجميع فكل فرد منا لا يخلو من موهبة أو أكثر يتفوق فيها على غيره فإذا استغنينا عنها أو لم نشجعها نكون قد ظلمناه وبخسناه حقه كما نكون قد حرمنا المؤسسة والعمل من فرص أكثر للنجاح فضلاً عن حرمان الآخرين. وإذا جمعنا مجموع المواهب كم ستكون المحصلة في الحرمان والتراجع؟ وعلى عكس ذلك إذا جمعنا هذه المواهب المتفرقة في فريق واحد فإنه سيشكل قدرة أكبر وتكاملية أقوى على الأداء والإنجاز الناجح الخلاّق.. إن بعض المدراء السلطويين بل بعض المسؤولين وأصحاب المراكز والقرار قد تدفعهم أنانيتهم أو شكوكهم بكفاءات الآخرين ومواهبهم إلى إخفاء جهود الآخرين حتى يظهروا أنهم وحدهم المبدعون في تحقيق الإنجازات وأنهم النسخة الفريدة في البلد التي لا يضاهيها أحد في المهارة والقدرة أو أنها القدرة الأكبر التي على الجميع الإذعان لها.. متناسين أن هذه الحالة من شأنها التراجع بالمؤسسة إلى الوراء لأنها تؤثر على الروح المعنوية للعاملين فتصيبهم بالإحباط كما قد تعود على المؤسسة الواحدة بالانقسامات المتعددة وحتى إذا شكلوا فريق عمل فإنهم يحبذون الفريق التابع المقود الذي لا قرار له ولا استقلال في الرأي والتفكير.. ليكون آلة سهلة لرغباتهم وأفكارهم وحدهم متصوّرين إن هذا هو الإبداع ولو أعطوا لأنفسهم فرصة أكبر للتأمل والتفكير في النتائج وتناولوا الأمور بعقلية أن (الكل أفضل من الفرد) لوجدوا أن الإبداع الحقيقي هو في إيجاد فريق عمل واثق من نفسه وقادر على الأخذ بزمام المبادرة في تحقيق الانتصارات لأن هذا الفريق هو الأكمل والأبقى والأجدر على القيادة والرقي، وهو الذي يؤخذ في المنظور القريب والبعيد على أنه من آثار الخلاقية والإبداع التي يتصف بها المدير الذي أوجده وأسسه وساهم في تفعيله في ميادين العمل.. إن الإداري المبدع هو الذي يرى جهده متكاملاً مع الجهود التي يقدمها الآخرون ويرى في إنجازات الآخرين إنجازات للمؤسسة وإنجازات المؤسسة في المحصلة النهائية هي إنجازات الجميع.. 4) البعد الإنساني في التعامل مع الأفراد.. لا شك أن الإنسان هو جوهر الإبداع والابتكار وتتحقق الفرص الأكبر للإبداع في ظل الاهتمام المتزايد بالأبعاد الإنسانية في التعاطي الإداري مع الأفراد.. فإن الأفراد هم أدوات الابتكار الحقيقية كما هم أدوات تحقيقه وتطبيقه بأسلوبه الأمثل.. فكلما زاد الاهتمام بهم وشعروا أنهم محل اهتمام الإدارة كلما تماسكوا أكثر وشعروا بشدة بالانتماء إلى المؤسسة والعمل فاجتهدوا أكثر فأكثر لتحقيق المزيد من الإنتاج وتقديم الخدمات في مستواها الأرقى.. إن من أهم العوامل المساعدة التي تجعل من الابتكار داخل المؤسسات ظاهرة متأصلة وراسخة هو المظاهر الإنسانية في التعاطي مع الأمور.. لأن سلامة المؤسسة وقوتها من سلامة أفرادها وقوتهم.. ولا تتحقق أهداف المؤسسة المرسومة إلا إذا صيّرت أفرادها هادفين حتى يتجاوزوا الهامشيات وينشغلوا بالجذور.. وهذا أمر يتطلب أسلوباً خاصا بالإدارة هو ما يطلق عليه (الإدارة بالأهداف) ويراد منه: السعي الحثيث لتحقيق أهداف المؤسسة من خلال التركيز على الطاقة البشرية والروح الإنسانية في العاملين لرفع مستوى التزام العاملين بالأهداف ومشاركتهم الفعلية في تحقيقها. |
من الواضح أن كل عمل يواجه صعوبات كثيرة تعيقه حتى يولد وحتى ينمو ويتكامل فعليه أن يتجاوز الكثير من ذلك بروح الصبر والمثابرة والتحدي.. وكلما كان العمل أكثر نفعاً وأعمق أثراً خصوصاً إذا تجاوز المألوف فإن الصعوبات التي ستواجهه أكثر أيضا، وحيث أن الابتكار يمثّل أحد أشكال التغيير للأفضل لذا فإن صعوباته ومعرقلاته أقسى والأفراد الذين يواجهونه أكثر وأقوى.. لذلك يلاحظ أن الكثير من الأفراد المبدعين والمبتكرين لا يجدون أحياناً مجالات جيّدة تلبّي طموحاتهم وتنسجم مع أفكارهم كما قد لا يجدون صدوراً رحبة تستوعبهم وتستثمر طاقاتهم فيعيشون في عزلة روحية وهم بين زملائهم وإخوانهم وهذه مأساة حقيقية تعود عليهم وعلى المؤسسات التي ينتمون إليها بالأضرار الوخيمة. لذلك قد يشكّلون أوائل الضحايا التي تفقدهم المؤسسة ليحظى بهم الآخرون الأقدر على استيعابهم واستثمار مواهبهم وخلاقيتهم.. وهذا هو أحد الأسباب الملحوظة في العالم الثالث أيضا الذي يقف وراء هجرة العقول والأدمغة إلى الدول الأكثر تقدماً وحرية.. كما هو أحد أبرز مظاهر التخلف أيضا. ومن هنا ينبغي أن نبحث في بعض معوّقات الإبداع التي تسبّب فقدان العناصر المبدعة وخلو المؤسسات منهم بما يسبب لها المراوحة في مكانها أو التراجع إلى الوراء.. لكي نسعى لمكافحتها دوماً إلى الصعود.. نذكر منها ما يلي: 1- مقاومة الجهات الإدارية المسؤولة وعدم رغبتها في التغيير الإبداعي.. ربّما لعدم إيمانها بذلك لما يسببه التغيير من خروج عن المألوف المعتاد عليه وربما لاعتقادها بأن كل تغيير جديد يشكّل خطراً عليها أو على المؤسسة وهذا ما يصطلح عليه بـ(جمود الإدارة) ومن الواضح أن المؤسسات تنعم وتكبر وتتطور بأجواء السلام والتفاهم والتعاون والتكامل بين عناصرها فإذا وقع بينهم التنافر وصار البعض معيقاً لمسيرة البعض الآخر فإن هذا يهدد الجميع بالخطر وأول الأفراد سيصابون بالمأساة هم المفكرون والمبدعون لأنهم سوف لا يجدون لأنفسهم مكانا في الأجواء المتوترة. والحل هو تعامل المسئولين مع الأفراد الطموحين وأصحاب التطلعات بالمزيد من المرونة والتفهّم والإقناع فهم بهذا يضمنونهم كعناصر مبدعة مخلصة في العمل كما يضمنون الهدوء والتماسك داخل المؤسسة. 2- التطبيق الحرفي للقوانين والحديدية في الروتين الإداري.. وهذا الأسلوب من أكثر الأساليب إزعاجاً للأفراد وتسبيباً للتذمّر والنقمة وإبعاد المخلصين والعاملين.. ومن الواضح أن القوانين والتعليمات الإجرائية هي مجرد وسائل وجسور للإدارة الأفضل وليست غايات بذاتها فإذا شكلت عائقاً أمام الأفضل فليس من الحكمة التوقف عندها.. ولو تتبعنا سلوك الأفراد الحديديين في تعاملاتهم الإدارية نجد أنهم في الغالب انشغلوا بالمظاهر والشكليات وتركوا المضامين والأهداف بعيداً بل كثيراً ما يقعون في أزمات الفوضى واللانظام بحجة إيجاد النظام الحديدي الصارم وهذا نقض للغرض والحكمة من إيجاد النظام.. وبعض المؤسسات تعتبر أن معيار التقييم والتمايز بين الأفراد هو مدى انضباطهم والتزامهم بالأنظمة الإدارية الموضوعة كالالتزام بأوقات حضور الدوام والمغادرة ونحو ذلك. ومع أن هذا أمر مهم إلا أن مجرد الالتزام بالدوام لا يؤدي إلى النتائج المطلوبة فقد يِأتي العامل في وقته ولكنه من دون أن يقوم بأي عمل أو يلتزم بمظاهر القانون ويخل بجوهره في عدم الإتقان أو عدم الإخلاص في العمل وغير ذلك من مساوئ وأضرار. إن القوانين وجدت للتنظيم الأفضل والأداء الأكمل فإذا صارت صارمة وروتينية فإنها تشكل عقبة تسبب الكثير من المفاسد. وأولها كبت الطاقات الخلاقة أو هروبها إلى المؤسسات الأخرى الأفضل تعاملاً.. 3- عدم تمتع القادة بمؤهلات قيادية وإدارية جيدة.. لا شك أن القيادة الإدارية تعتبر أحد أهم العوامل في تطوير المؤسسات لأنها صاحبة الدور الرئيس في تحفيز العاملين وتوجيههم ودفعهم إلى الأمام ومن المعلوم أن الأفراد تحفزهم قناعاتهم وأفكارهم أكثر مما يحفزهم المال أو العوامل الأخرى وينبغي أن يتمتع القائد والمدير بمؤهلات عديدة حتى يحظى بثقة أفراده والعاملين معه وإذا انعدمت الثقة فإن ذلك يشكل عاملاً أساسياً في عدم تماسك الأفراد بل وإحباطهم وعدم انشدادهم إلى العمل وتطبيق خططه. مثلاً: إذا اعتقد المرؤوسون أن رئيسهم وصل إلى منصبه الإداري لاعتبارات غير منطقية لأنه بلا مؤهلات.. فإنهم لا يجدون لأفكاره وآرائه قيمة تستحق الاحترام والتقدير خصوصاً مع وجود بعض الأفراد من بينهم من يرى نفسه أكفأ وأفضل من الرئيس نفسه. خصوصاً إذا خرج المدير نفسه عن المنطقية وأساء التصرف في إدارة أفراده فإن ذلك سيسبب انفراط النظام وتنامي التسيب والإحباط وفي هذه الأجواء يموت الإبداع وتنتهي حوافزه. فالرئيس الذي لا يعتبر نجاح موظفيه نجاحاً للجميع ويحرص فقط على التفتيش عما يسيء إليهم هو شخص يمارس سياسة هدّامة من حيث يدري أو لا يدري ولا يؤهل المؤسسة إلى البقاء فضلاً عن التنامي والرقي. إن من أهم حوافز الابتكار أن يرى العاملون أن العمل الجاد يكافأ وان الفرد الكفوء يحترم ويقدر وبعكسه الكسل والأفراد السلبيين كل يجازى بعمله وهمته - بالحق والحكمة -. ولكن حينما يلاحظ في بعض المؤسسات أن مؤهلات الانقياد والخنوع والتزلّف هي شروط أساسية للجزاء بالحسنى، والجدية والهمة والإخلاص مع احترام النفس وحفظ الكرامة تؤدي إلى المعاناة فإنه يبدأ العد التنازلي للعمل وللمؤسسة لأن طول اللسان والتردد على المسؤولين وإبداء المزيد من المجاملات الفارغة ستكون هي الطريقة الأقصر والأسهل والأكثر أمنا للوصول إلى المناصب العالية.. وهذا أسلوب لا يجيده كل أحد بل لا يحسنه أولئك الذين يحترمون أنفسهم ويحبذون التقدير بالاستحقاق، ولذا فإن حنكة المدير يجب أن تميز بين الأفراد المتزلفين والآخرين الكفوئين حتى تحافظ على مستويات عالية من الإبداع والخلاقية وإلا فإنها ستكون قد ساهمت في هدم المؤسسة من حيث لا تعلم. 4- القيم الاجتماعية.. قلنا أن الابتكار نوع من الخروج على المألوف لذا فإنه قد يتعارض مع التقاليد والأعراف والقيم الاجتماعية السائدة مما يسبب للمبتكرين المتاعب والأزمات. ومعظم المبدعين والعلماء والمفكرين لاقوا أشدّ الصعوبات في مجتمعاتهم العامة والخاصة لأنهم خالفوا المألوف - أحياناً -. ولا زال الكثير من الناس يتصور أن الحكمة والحنكة والمهارة والإبداع تتنزل على الإنسان حينما يتقدم به السن ويبلغ من العمر عتيّا أما مرحلة الشباب فهي مرحلة الصباوة وعدم النضج ولعلّ هذه من أبرز السمات الظاهرة في المجتمعات المستبدّة أو التي تتغلب فيها العادات والتقاليد ومع أن هذه قد تصحّ عند البعض إلا أنها ليست قاعدة كلية يمكن الاعتماد عليها دائماً.. كما ليس اقتران الشباب بالصباوة وقلّة الخبرة والنضج قاعدة كلية يمكن الاعتماد عليها دائماً.. بل ينبغي أن يلاحظ الفرد مع حكمته ومنطقيته وقوة تفكيره وخبرته كان شابا أم كهلاً أو شيخاً كبيراً.. ما دامت الكفاءة الواقعية هي المعيار. كما ورد عنه (عليهم السلام) : (ليس الأكبر هو الأفضل وإنما الأفضل هو الأكبر)(3). إن تقييم الإبداع على أساس السن وأن المبدع هو الشخص الكبير فقط هذه من العوامل التي تعيق الإبداع والخلاقية عند الأفراد.. ومع الأسف أنها إحدى القيم التي تقوم عليها بعض المجتمعات النامية والمؤسسات العاملة فيها فغالباً لا يحظى صغار السن بالاحترام اللائق بهم كما يحظى به الكبار.. كما أن إمكاناتهم الإبداعية لو وجدت لا تكتسب اعترافاً وقبولاً غالباً إلا في وقت متأخر إذ ينظرون إلى محاولاتهم وكفاءاتهم أنها تخيلات أو تهوّرات لاتستحق الاهتمام والرعاية. لذلك نجد قلّما يحتل الشباب المراكز الإدارية القيادية في أمثال هذه المجتمعات إذ يعتبر شرط التقدم في السن أحد أهم المؤهلات القيادية للأفراد الأمر الذي لا يقبله الشباب لما يرون لأنفسهم من الحق الطبيعي أن يحظون بما يستحقون وأن يحققوا أهدافهم وطموحاتهم بجدارة فيؤدي الأمر إلى الانقسام والتشتت أو هروب طاقات الشباب لوجدان مجالات أفضل تتفهمهم وتلبّي رغباتهم.. وهذا ما يفسر أيضا سبب الانقسامات المستمرة في المؤسسات العاملة في العالم المتخلف. كما يفسر سبب وقوع الكثير من الشباب ضحية الشباك الغربية والصهيونية بينما يتطلب الأمر بعض الحكمة في احتواء كلا السنّين وإعطاء كل سن ما يليق به من أجل تشجيع الإبداع وتحفيز المبدعين واستثمار الخبراء وتقدير أصحاب التجارب وصبّ طاقات الجميع في خدمة الأهداف العليا للمؤسسة.. 5- الظروف المعيشية.. إذ لا يلقى الابتكار والإبداع الاهتمام الكافي فإنه يموت خصوصاً مع تردّي الأوضاع المعيشية للأفراد لأن الابتكار لا ينمو إلا في الانشغال بالجذور والانشغال بالجذور لا يكتمل إلا في راحة البال من الهوامش والفرد المبدع إذا لا يصرف اهتمامه وعنايته في ما يهم الجميع قد يصرفها في العناية بنفسه خصوصاً وأن ضرورات المعيشة تلحّ على الإنسان وتضغط عليه بالاستجابة ولا يمكن له أن يتخلى عنها أو يهملها وقوام حياته اليومية يعتمد عليها.. لذا قد يستثمر الفرد المبدع قدرته الإبداعية في محاولة سد النقص المادي أو الاقتصادي الخاص وهذا يفقد المؤسسة الكثير كما يربّي الفرد نفسه على المصلحية والذاتية ومن هنا ينبغي السعي الحثيث لإشباع الأفراد في المهم لكي يبدعوا في الجذور ويتفانوا في الوصول إليها التي هي الأهم حتى نبني مؤسسات مبدعة وناجحة في مختلف المجالات. |
الهـــــوامـــــــش : |
(1) وسائل الشيعة: ج11/376 باب95. (2) أي أرض العراق. (3) وهو من كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عتاب بن أسيد. راجع تفسير الإمام العسكري(عليه السلام): 557، وبحار الأنوار: ج21/123/ح20. |