النبأ العدد 53 شوال 1421 كانون الثاني 2001

من هدي المرجعية

 المستقبل

طريق  على   مطلوبة خطوات

اقتباسات من فكر الإمام الشيرازي من كتاب لم ينشر بعد بعنوان: (الفقه المستقبل)   (1)

الاستعداد للمستقبل

ورد عن الإمام الحسن المجتبى (ع) قوله: (إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) (2)، في هذا الحديث الشريف دعوة صريحة للإنسان بأن يسمو ويرتفع دائماً، ويؤثر الأهداف الكبيرة على الأهداف الصغيرة.

وهذا لا يعني إهمال الأهداف الصغيرة، بل القيام بها والعمل على تحقيقها، لكن على أن لا تكون لها الأولوية.

وإذا تنازع الهدفان - ومورد التنازع ناشئ من محدودية عمر الإنسان ومحدودية طاقاته وما أشبه - فتُقدّم الأهداف الكبيرة الأهم.

وتتجلى الأهداف الكبيرة في حاجات المستقبل الواسعة، بينما تظهر الأهداف الصغيرة في حاجات الإنسان المؤقتة؛ والمستقبل هو البرنامج الذي يضعه الإنسان لتحقيق أهدافه الكبيرة.

من هنا كان لزاماً على الإنسان أن يكون على استعداد تام لاستقبال الغد والتكيّف معه، وربطه بالحاضر والماضي حتى لا ينقطع المستقبل عن الماضي والحاضر.

وعالمنا اليوم يشهد حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً شديداً، فيجب أن نكيّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، خصوصاً أن مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا.

ومواكبة المستقبل تتم عبر الريادات ورصد الاحتمالات والتخطيط السليم والقرارات الصائبة التي يتخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً من حيث تكوينه.

طبعاً ليس كل الناس المعنيين بالمستقبل حساسين للغد، لكن على هؤلاء الذين يتطلعون للمستقبل ويعملون من أجله أن يصبحوا قوة فاعلة في وسط المجتمع، تحركه دائماً باتجاه المستقبل المشرق. فهؤلاء يصنعون المستقبل من خلال رؤيتهم الثاقبة لما سيجري في الغد، ومن خلال دفعهم المتواصل للأمة بهذا الاتجاه.

فهم يُطلعون الأمة على ما سيجري في المستقبل، فتتكيّف الأمة على نحو تستطيع امتلاك ناصية المستقبل.

خطوات على الطريق

معرفة المستقبل وأهدافه الكبيرة:

أولاً: وأول خطوة في هذا الطريق هي معرفة المستقبل بكل أبعاده وأجزائه، فبدون المعرفة لا يملك الإنسان حلولاً للمستقبل، وربما أوجب المستقبل سقوطه.

والأمثلة في ذلك كثيرة:

الإنسان الذي يتنبأ بأوضاعه الاقتصادية في المستقبل، فإذا استطاع أن يستشف المستقبل ويقرأ آفاقه بصورة جيدة، فإنه سيأخذ الحيطة في ذلك، وإلا فإن كارثة ما، ستحلّ عليه، ويخسر كل شيء في صفقة الزمن المملوء بالاحتمالات.

ومن لم يتنبأ بسقوط الأمطار بغزارة وقدوم البرد، ثم يقدم على السفر، فإن السيل سيهدده، وسيجرفه الماء أو على الأقل سيصيبه البرد، لأنه لم يدرس المستقبل، فدفع ثمن عدم معرفته وتقاعسه، أما من عرف أوقات سقوط المطر، فإنه سيتخذ الاحتياطات اللازمة للسفر.

ومن لم يتمكن من التنبؤ بمستقبل شحة المياه، فإنه سيتأثر في الصيف وسيصيبه العطش، وربما أدى ذلك إلى هلاكه وهلاك ذويه. بينما من تنبأ بالمستقبل فإنه يستعد إلى ذلك الخطر ويقوم بتخزين الماء حتى إذا جاء الصيف لم يضرّه شيء. من هنا كان الذي يعي المستقبل، يخطط له في راحة، حتى لو حلت الكارثة، لأنه قد تدبّر لكل أمرٍ أمراً، ووضع لكل احتمالا حلاً. فهو متطلع دائماً للزمن القادم، مما سيجعله في سباق مع الزمن وفي تقدم مستمر، فالإنسان الذي يتطلّع إلى ما قد سيحدث له في المستقبل، ويميز الأخطار، والفرص المواتية، سيأمن جانبه، وسيبعد عن نفسه الأخطار المهلكة وسيستفيد من الفرص الآتية.

أما أولئك الصنف من الناس الذين فرضوا على أنفسهم العزلة عن التفكير بالمستقبل، فإنهم عادة ما يصبحون محرقة للأحداث القادمة.

ومن الأمثلة أيضاً: الزلزال الذي يأتي بدون سابق إنذار، فيعصف بمدينة كاملة، فيذرها قاعاً صفصفاً، فلو تمكنا من التنبؤ بوقوعه ولو لمدة دقائق، فإن الكارثة ستمضي بأقل الخسائر الممكنة. وإذا تمكن من التنبؤ به قبل ساعة أو شهر - مثلاً - فإن الزلزال حينذاك ربما سيصبح كالرياح التي تأتي لتترك بعض المخلفات ثم تمضي.

وهكذا بالنسبة إلى التنبؤ بمجيء موجة الحر، فإذا تنبأنا به، توقيناه وتخلصنا من آثاره، وإلا فإن الحرارة الشديدة ستجلب معها الأمراض، وستسبب الويلات للأطفال الصغار.

فصدمة المستقبل لا رادّ لها إذا لم نستعد إليه ونكتشف أجزاءه، ونتحدى آثاره الوخيمة.

والناس على قسمين، فمنهم المنكفأ على نفسه، ومنهم من يرنو إلى الحياة بشوق، فالمنكفئون هم المتشائمون عادة، وهم الذين لا يفهمون المستقبل ولا يعدّون أنفسهم لأخطاره.

أما المتفائلون فهم الذين حلّوا لغز المستقبل واستطاعوا أن يقهروا تحدياته، وأن يقفوا عند إيجابياته ليستثمروها.

لذا على الناس، كي يعيشوا حياة ناجحة، أن يؤمنوا بحقيقة ثابتة، هي إن المجتمع يتغير، وأن العالم يتغير، وأن يتعلموا باستمرار كيف يتكيفون مع هذه التغيرات الحادثة إلى حد الألفة.

فلو استطاع الإنسان أن يقهر تحديات المستقبل، لاستطاع أن يعيش حياة رغيدة في الدنيا وحياة سعيدة في الآخرة.

مثلاً: إذا تمكن الآباء أن يكتشفوا الوسيلة التي يستطيعون بها معرفة جنس أبنائهم قبل أن يكونوا نطفة، فسيكون بمقدورهم أن يخططوا لأنفسهم ولأسرهم أكثر من ذي قبل.

وقد حدث هذا الأمر للمسلمين قبل قرن من الزمن حيث أنهم لم يتمكنوا من أن يسبقوا منافسيهم، ولم تكن لهم نظرة إلى المستقبل حينما كان الغرب يتقدم أشواطاً سريعة في الصناعة والزراعة والتقنية، بينما كانت الحكومات الإسلامية – كالعثمانية والقاجارية – تعيش في سبات عميق.

ونتيجة للتصادم الذي حدث بين الدولة العثمانية والغرب من جهة وبين الدولة القاجارية والغرب من جهة أخرى، فإنهما سقطتا بعد عمر مديد، فقد حكمت الدولة العثمانية خمسة قرون، وحكمت الحكومة القاجارية قرابة قرنين، لكنهما انهارتا عندما لم تستطيعا أن تقفا بوجه التحدّي الغربي..

من هنا جاءت مسؤولية الطبقة الرائدة في المجتمع في توعية الناس وفتح عيونهم لحقائق المستقبل، لأنهم سيمنحونهم الثقة وسيولدون فيهم العزيمة والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل. وستكون الثقة والطمأنينة والسكينة بديلاً عن الخوف والفزع وتوتر الأعصاب الذي يعيشه كل إنسان لا يعرف مستقبله.

إن مهمة الريادات المستقبلية فك رموز المستقبل وجعل الناس يميزون بين الصالح والطالح، بين الجيد والرديء وتحويل الجيد إلى أجود، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور.

فالمستقبل ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل لا يمكن تغييره، بل هو مشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى أجزائه، فيختار ما يراه صالحاً.

فالتغيرات الصغيرة التي حولنا تصبح بمرور الزمان كبيرة، حالها حال الأمطار التي تبدأ بقطرة، فتصبح ضخمة، وتنتهي إلى سيل عارم، وبذلك الاختيار يصبح الفرد مصاناً ومحصناً لا تزلزله صدمة المستقبل ولا تثنيه متغيراتها.

والخلاصة: إن العقلاء كافة بحكم العقل لابد أن يفكروا بالمستقبل، فطلاب الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرهم.. يواظبون على الدراسة ست سنوات أو أكثر حتى يصلوا لأهدافهم، والتي منها خدمة الناس والسعة في الرزق والراحة في العمل، وهكذا بالنسبة إلى من يتعلم العلوم الدينية حتى يصبح فقيهاً أو مدرساً أو كاتباً أو خطيباً أو.. فإنه يتعب ويسهر ويكد ويجتهد، وأحياناً يجهد نفسه خمسين سنة فيما لو طلب المرجعية، وهكذا الزارع يتعب ويجهد نفسه مدة طويلة أو قصيرة(3) بانتظار الثمار.

ويجب على الإنسان أن يكون سعيه منصبّاً لمعرفة آفاق المستقبل والأهداف الكبيرة، وليس الأهداف الصغيرة التافهة، كما فعل ذلك - الرجل - الذي باع كل شيء من أجل ملك الريّ الذي لم ينله (وما عاقل باع الوجود بدين) فهذا العمل هو خلاف منهج العقلاء ومقياس العقل، بل هو بنفسه أيضاً باع حظه لأجل مستقبل مزعوم.

الاهتمام بالمصالح العامة

ثانياً: والخطوة الثانية في هذا الطريق هي:

الاهتمام بالمصالح العامة للأمة، وإهمال الحسابات الشخصية في العلاقات الدولية، التي قد تجلب الضرر للأمة، لافتقارها إلى النظرة الشمولية.

مثلاً: قد تلاحظ المصلحة في رسم العلاقات بين العراق ودول الخليج بذاتهما – بدون ملاحظة شيء آخر -، وقد تلاحظ المصلحة باعتبار الدول الإسلامية الأخرى أو باعتبار البشرية كلها.

نعم؛ من السليم أن تصبح المصلحة الإسلامية العامة لكل الدول الإسلامية قبل المصلحة العالمية، لأن الأمور متدرجة(4).

والقوانين الإسلامية وإن كانت قوانين بشرية عامة لكنها خاضعة لمعادلة التدرّج، لأن تحميل هذه القوانين على البشرية وفرضها عليهم قسراً لا يجدي نفعاً. وإنما يجب تفهيم هذه القوانين للعالم من خلال تطبيقها بين المسلمين أنفسهم، حتى يصبح المسلمون قدوة وأسوة ومناراً للآخرين.

فعندما يطبق المسلمون الحريات التي جاء بها الإسلام يصبحون قدوة للتغيير في انتهاج نهجهم. وعندما يطبقون الأخوة الإسلامية القائمة على وشائج متينة من العلاقات الذاتية المستمدة من القلب، ستجد الشعوب الأخرى في هذه الأخوة عنواناً للتقدم، فيتخذونها مسلكاً في حياتهم.

وعندما يطبق المسلمون مبدأ الأمة الواحدة الإسلامية ستحذو الشعوب الأخرى حذوهم، ويتطلب هذا النهج تربية من نوع جديد تجعل المسلمين يتطلعون إلى مصلحة مجتمعاتهم الإسلامية ثم مصلحة البشرية جمعاء. ذلك لأن الناس صنفان: (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)(5) كما ورد ذلك في كتاب أمير المؤمنين علي (ع) إلى عامله مالك الأشتر، فجميعهم أخوة كما يظهر من قوله تعالى:( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداًا) (6)، وقوله تعالى: (وَإِخْوَانُ لُوطٍ) (7)، وغير ذلك من الآيات، حيث عدّ المسلم وغير المسلم إخوة.

اتحاد القيم والواقع

يجب أن تقوم هذه التربية على أساسين: أولاً الأخذ بالقيم، وثانياً ملاحظة الواقع، فالقيم وحدها لا تؤتي ثمارها، فكان لابدّ من ملاحظة الواقع أيضاً؛ إذ لا يمكن تصور القيم بدون الواقع، ولا يمكن تصور الواقع بدون قيم، والقيم هي التي تسمو بالإنسان فوق الواقع، وتجعله متطلعاً واعياً، مدركاً لمهام مستقبله، فالقيم تخرج الإنسان من نصفية نظرته المحلية إلى اطلاقية نظرته الإنسانية، لتشمل العالم الذي يعيش فيه على امتداده واتساعه لا عرضاً فحسب بل طولاً أيضاً.

وبعبارة أقصر: القيم تجعل الإنسان مستقبلياً؛ لأنها تفضي إلى البعد المستقبلي للواقع.

فالسياسة واقع وعندما تمتزج بالأخلاق تصبح السياسة أفقاً واسعاً لا ينحصر بردود الأفعال الآنية، كما هي اليوم بعض السياسات الدولية التي تتعلق بالواقع فقط دون الأخذ بالقيم والمثل، فتصبح أفعال وردود أفعال فقط(8).

وعندما تسلك الأمة هذا النهج، فإن الأمم الأخرى ستقتدي بها وتقتفي آثارها(9).

والملاحظ أن بعض الشعوب تقدمت كثيراً في صنع الواقع لكنها لم تتقدم في مجال القيم، فعلى سبيل المثال إن التقدم العلمي والصناعي في الدول الغربية لم يواكب مجال القيم(10)، فالمطلوب أن يقترن هذا الجزء بذلك الكل، حتى لا تشهد الفصام الذي اضرّ بالبشرية كثيرا(11).

وعندما يتحقق الاتحاد بين الواقع والقيم تذوب الصراعات، وينتهي التنافس غير المشروع وتعم العدالة ويسود السلام.

وهذه هي أهداف كل أمة صالحة تطمح إلى تحقيقها في المستقبل، فإذا انتهت البشرية إلى هذا الفهم وإلى هذه النظرة الشمولية، تمكنت من وضع المقاييس اللازمة لعدم الانفلات من هذا الفهم، يكون ذلك اليوم يوم سعادة وهناء لكل البشرية.

وتتوزع هذه المقاييس(12) في بنود كثيرة نشير إلى بعضها، نطمح أن نرى المستقبل من خلالها، وهي أمور يستحسنها العقل، فعلى عقلاء العالم، السعي من أجلها، بعد توفير الوسائل للوصول إليها.

وهذه البنود هي:

أولاً: إلغاء الربا:

يجب إلغاء الربا بمختلف أشكاله وصوره من البنوك وما شاكل ذلك، وذلك لأن الشخص الذي يقترض، إن كان مقترضاً لحاجة من زواج أو أكل أو شرب أو مسكن أو ملبس أو ما أشبه ذلك، فمن الظلم الفظيع أن يؤخذ منه مالاً زائداً أكثر مما أعطي له، وإن كان أخذه للمال من أجل أن يعمل به في نطاق المضاربة المشروعة أو من أجل الاسترباح فقد يتعرض إلى الخسارة أو يحقق ربحاً أو تكون النتيجة لا شيء أي لا خسارة ولا ربح، فإذا خسر، فمن الظلم أن يؤخذ منه مالاً إضافية أكثر مما أعطي له، فقد صرف وقته وأذهب ماله، بسبب ما يعطيه من الربا، وإذا لم يحصل على شيء أي لم يخسر ولم يربح، فلا معنى لأخذ الزيادة، لأنه لم تحصل زيادة على ماله، بل خسر وقته. وإذا ربح، فالربح قد يكون مساوياً لما يعطيه من الفائدة، فقد خسر جهده الذي بذله في العمل، وقد يكون أكثر مما أعطي، فقد خسر العمل والمال.

ولما كان إلغاء الربا بهذه الكيفية أمر عقلي، والفطرة تدعو إلى العقلانية، فإن الحتمية المستقبلية تؤكد إلغاء الربا، ذلك لأن العقلاء يسيرون نحو الفطرة لأنها نداء من أعماق الإنسان، فلابد من الانقياد لها ومسايرتها.

ثانياً: انتشار الأخلاق الحميدة:

يجب العمل لنشر الأخلاق الحسنة.. وحتمية مستقبلية أخرى تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، بأن الأخلاق ستنتشر وستسود في المستقبل، ذلك لأن حسن الأخلاق أمر عقلي وشرعي،، وهو أيضاً أمر فطري، فلا معنى للغرور أو الجبن أو البخل.

إن سوء الخلق غالباً ما ينشأ من التوترات الخارجية من فقر ومرض وجهل.. الخ، وتلك الأسباب كلها معدومة في المستقبل الزاهر الذي بشّر به الإسلام، فلا فقر حسب الفرض ولا مرض إلا أقل القليل، ولا جهل إطلاقاً. فعالمنا اليوم يسير بخطى كبيرة نحو إزالة معالم الفقر والمرض والجهل، وإذا وجدنا بعض الفقراء في مجتمعاتنا، فإن ذلك نتيجة طبيعية لاستغلال الرأسماليين للمال، حيث صار المال دولة بين الأغنياء، كما عبر القرآن الكريم عن ذلك(13)، وهذا الاستغلال آخذ في الزوال، كما بدى لنا الاستعمار(14) وهو آخذ بالزوال أيضاً نتيجة وعي الشعوب الحرة.

ولا يخفى أن هناك عوامل عديدة تشترك فيما بينها لتساهم في إيجاد خصلة الأخلاق، فالإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر والتطلع إلى العلم والابتعاد عن الغرور والتكبر، تدفع الإنسان لتغيير حياته وسلوكه بصورة تدريجية ويستبدل سيئاته بالحسنات فيصبح حسن الأخلاق بعد أن كان سيء الأخلاق.

ثالثاً: إعادة برمجة صندوق النقد والبنك الدوليين(15):

يلزم إعادة برمجة صندوق النقد والبنك الدوليين، وهذان – في يومنا هذا – يخضعان لسيطرة الدول الكبرى، في حين أن الحتمية المستقبلية التي تقوم على حركة الشعوب لكسب حقوقها من الذين اغتصبوها، تؤكد على إن هذا الصندوق سيخرج من نفوذ الدول الكبرى في يوم من الأيام، ويصبح صندوقاً لخير الشعوب والدول الفقيرة، وسيحكم الصندوق قانون المصلحة العامة وليس مصلحة الدول الكبرى، فتمنح الأموال بلا فوائد للاقتراض(16)، أو تمنح الهبات بدون النظر إلى الحسابات السياسية والأسواق التجارية، أو بانتهاج الأسلوب الشرعي كالمضاربة وما شابه ذلك.

إن الحس بالخير سينمو في المجتمعات البشرية، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى توقف بعض المؤسسات الرأسمالية من مواصلة سياستها الاحتكارية الاستغلالية، كما حدث ذلك للشيوعية عند تغلغلها في البلاد الغربية قبل الحرب العالمية الثانية وأبان الحرب الفيتنامية، حيث سعت الحكومات وأصحاب الشركات بإشراك العمال في المعامل والتكثير من الجمعيات الخيرية والمؤسسات التعاونية.

رابعاً: عالم بلا حروب:

إن عودة البشرية إلى الفطرة التي فطرها الله سبحانه وتعالى قضية حتمية، ومن نتائج هذه العودة قلة الحروب بنسبة كبيرة جداً أو عدمها إطلاقاً، لأن الحروب في منطق العقل والعقلاء والفطرة اعتداء، ولا اعتداء مع سيطرة العقلاء، أما إذا وقعت الحروب الدفاعية – وهذا قليل جداً – فستكون نظيفة في غاية النظافة ومحدودة في الزمان والمكان، إذ لا تستغرق وقتاً كبيراً، كما هي الحروب المعروفة في عالم اليوم.

ولا شك أن الربا والفقر من العوامل المسببة للحروب في عالم اليوم، ولما كان اتجاه الربا والفقر إلى الزوال، فإن ما يتبع ذلك هو الازدهار الاقتصادي، وبسبب هذا الازدهار ستعم العدالة أرجاء الكون، الأمر الذي سيؤدي إلى توف الصراعات والنزاعات المسببة للحروب.

ونحن نلاحظ ذلك في نطاق بعض الدول، كالدول الأوربية التي كانت تعاني من الحروب الداخلية لعدة قرون، فقد انتهى زمنها ولبّت نداء الفطرة والعقل، وأخذت بالتعاون بدلاً من التناحر، وأخذت بالوحدة بدلاً من الفرقة والتمزّق، فتكون الاتحاد الأوربي(17) من دول كانت متصارعة ومتنافسة، بعضها يستعمر البعض الآخر.

خامساً: إلغاء حق الفيتو(18):

يلزم إلغاء حق الفيتو، فإن حق الفيتو أمر لا تقر به الفطرة البشرية، ولا يقبل به العقل، ومن الطبيعي أن يأتي ذلك اليوم الذي يشهد نهاية سريعة لهذا الحق الظالم، الذي يعطي لبعض الدول الكبيرة حق مصادرة القرارات وفق مصالحها لا وفق مصالح الشعوب، وهذا أمر لا يقبله العقل، فالبشرية ماضية في طريق العقل والفطرة والإيمان، وهي ستزيل من طريقها كل صور الاستغلال والأثرة(19).

سادساً: تعديل التمثيل الدولي في الجمعية العامة:

يلزم تعديل التمثيل الدولي في الجمعية العامة ومع سيادة العدالة في الأرض سيكون لكل أمة ممثل في الأمم المتحدة بقدر حجمها السكاني، إذ ليس من المعقول أن يكون للصين ذات المليار والثلاثمائة مليون نسمة مندوب واحد أو للهند ذات المليار نسمة مندوب واحد ولدولة صغيرة كالمالديف(20) ممثل واحد أيضاً، فالعدالة تؤكد أن التمثيل يجب أن يكون على أساس حجم الامة ونفوسها وليس بعدد الحكومات.

سابعاً: تدخل الأمم المتحدة بين الحكومات وشعوبها:

يلزم تدخل الأمم المتحدة بين الحكومات وشعوبها للردع عن الظلم، ففي المستقبل سوف لا يقتصر عمل الأمم المتحدة في الفصل بين الحكومات والدول، كما هو الحال في الوقت الراهن بل ستفصل أيضاً بين الحكومات وشعوبها، فإذا تعرّض شعب من الشعوب إلى الظلم والاعتداء من قبل الدولة التي تحكمه، فإن الفطرة وقوانين العدالة الحقة تفرض على الأمم المتحدة أن تبادر وتسعى لتوقف العدوان الذي تتعرض له الشعوب، فإن الإنسان بما هو إنسان محترم وله حقوقه ويمكن للأمم المتحدة أن تتقصى الحقائق عبر إرسال مندوبين أو محامين محايدين لمعرفة الأوضاع، وتشخيص المعتدي(21)..

الهوامش:

(1 ) تحقيق ونشر مؤسسة الوعي الإسلامي - بيروت لبنان.

(2 ) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156 ب2 ح3569.

(3 ) حسب نوع النبات ومدّة نموّه.

(4 ) مثلاً الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة مقدمة على الأخوة العالمية والأمة العالمية الواحدة، وهكذا بقية الأمور..

(5) نهج البلاغة: باب الرسائل ص530، بحار الأنوار: ح33 ص6000 ح744 .

(6) الأعراف: 65، هود: 50.

(7) ق: 13.

(8) وهكذا بالنسبة للسياسة والأخلاق عندما تمتزج مع العقيدة من خلال تربية فكرية للإنسان تتحكم بعواطفه ونوازعه.

(9) وهذا هو مسلك البشرية في طول التاريخ فاقتباس العلوم والفلسفات والفنون والصناعة أمر مألوف بين الشعوب والحضارات وكذا الأخلاق والآداب والنظام والنظافة، فهي أمور لا تعرف الحدود الجغرافية والقومية والعرقية واللغوية.

(10) عقيدية كانت أو أخلاقية أو إيمانية.

( 11) ولا يخفى أن اتحاد القيم أو انسجامها فيما بينها شرط أساسي في التربية والتقدم.

( 12) مقاييس لضبط الاتحاد بين القيم والواقع.

( 13) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الحشر: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).

( 14) صدر إعلان تصفية الاستعمار عام1960م، وأدى ذلك إلى تمكين سبعين دولة من الحصول على استقلالها والانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة.

( 15) صندوق النقد الدولي: أنشأ لأجل وضع نظام نقد دولي يقوم على تثبيت سعر الصرف والحيلولة دون لجوء الدول إلى سياسة تخفيض أسعار عملاتها كوسيلة لتنشيط الصادرات وتخفيض العجز في موازين مدفوعاتها.

البنك الدولي: واسمه الكامل البنك الدولي للتعمير والتنمية، أسس على أن يكون أداة بيد الدول الغربية الغنية لتتحكم فيه بمصائر الشعوب الفقيرة حيث صمم على أساس نظام التصويت المرجح الذي يمنح كل دولة عضواً فيه وزناً يتناسب مع حجم إسهامها في رأسمالها. ويقتصر تقديم القروض فيه على المشروعات الإنتاجية التي تدرّ عائداً سريعاً له دون القروض التي تستثمر في مجال البنية التحتية للدول الفقيرة. كما أنه يتحرك وفق قوانين السوق وبأسعار الفائدة وهذا لا ينسجم ومتطلبات الدول الفقيرة.

( 16) خاصة عند افتراضنا في البند الأول: إلغاء الربا.

( 17) إن فكرة الاتحاد الأوربي بدأت عام 1958م عندما قام عالمان غربيان بوضع آلية هذه الفكرة، وقد تبنّت الدول الغربية هذه الآلية بعد إجراء بعض التعديلات عليها، وأتت هذه الفكرة بثمارها في التسعينات.

( 18) وهو حق الاعتراض الممنوح للدول دائمة العضوية، ويستخدم في المسائل الموضوعية دون الأمور الإجرائية، ويشمل كذلك اختيار الأمين العام للمنظمة وقضاة محكمة العدل الدولية وتعديل الميثاق وقبول الأعضاء الجدد. أما الأمور الإجرائية فلا يستخدم فيها حق الفيتو إلا إذا لم يتوصل فيها إلى حسم للنزاع فإنها تتحول إلى موضوعية: فأي خلاف حول تكيف طبيعة المسائل المعروضة للبحث على جدول أعمال المجلس، فإن حسمه يعامل باعتباره مسألة موضوعية وهو ما يسمى بالفيتو المزدوج.

إن وجود الفيتو للدول الخمس دائمة العضوية أدى إلى إحداث شلل في قدرة مجلس الأمن على اتخاذ القرارات التي تمكّن الأمم المتحدة من القيام بالدور المطلوب منها وخاصة في المسائل المتعلقة بحفظ السلم والأمن.

( 19) علماً إن أصوات الفيتو يشكل أربع أخماسها للدول الغربية – أمريكا وأوربا – ولا تمثيل فيه لقارتي إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وإليك بعض المؤشرات عن استعمال حق الفيتو منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1946م وحتى عام 1992م، حيث استخدم حق الفيتو 254 مرة، فقد استخدم الاتحاد السوفييتي السابق هذا الحق 114 مرة، وأمريكا 79 مرة، وبريطانيا 40 مرة، وفرنسا 18 مرة، والصين 3 مرات.

( 20) المالديف من الدول الصغيرة والتي تتألف من مجموعة جزر وعدد سكانها 400000 نسمة.

( 21) وللأمم المتحدة قوات لحفظ السلام يبلغ عددها 100 ألف شخص يخضعون لأوامر الأمين العام للأمم المتحدة، وهي منتشرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتضم مراقبين عسكريين لمراقبة وقف إطلاق النار ومقاتلين لحماية مناطق آمنة أو لحماية قوافل إغاثة إنسانية أو لحماية وجود الأمم المتحدة نفسها وخبراء مفرقعات لإزالة الألغام وخبراء عسكريين ومدنيين من نوع خاص لجمع وتخزين أسلحة الفصائل المتصارعة وتسريح الجنود وإعادة تأهيلهم للوظائف المدنية وضباط الشرطة ورجال قانون وخبراء في حقوق الإنسان أو ما أشبه.