مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

 

 

قراءة في كتاب

أشكال الصراعات المقبلة..

حضارة المعلوماتية وما قبلها

عرض: مجتبى العلوي

حروب الفضاء

حروب الخدعة

التقاطع القاتل

جنود المعلوماتية

الأسلحة الصامتة

حرب من دون إراقة دماء

من المقدمة التي كتبها المؤلف نقتطف..

هذا الكتاب يبحث في الحروب والحروب المضادة المقبلة.. انه من أجل الطفل البوسني الذي مزق الانفجار نصف وجهه، ومن أجل أمه التي ترقب بعين معشية ما تبقّى من منزلها.

إنه من اجل ابرياء الغد الذين سيقتلون ويموتون لاسباب لن يفهموها.. انه كتاب عن السلام.. وهذا يعني انه كتاب عن الحرب في الظروف الجديدة والغريبة التي نحن بصدد صنعها في سباقنا نحو مستقبل مجهول..

والحال يبدو إننا نغرق في عصور وسطى جديدة تملؤها الكراهيات العصبوية ويعم خرابها أنحاء المعمورة وتتالى فيها الحروب.. والطريقة التي سنتبعها في مواجهة هذا العنف المتفجر ستحدد إلى حد كبير كيف سيعيش اطفالنا، وربما، كيف سيموتون..

سبقت هذا الكتاب ثلاثة كتب صدرت في فترات متفاوتة بدأت في منتصف الثمانينات بكتاب (صدمة المستقبل) وتبعه كتاب (حضارة الموجة الثالثة) ثم كتاب (تحول السلطة)..

وشكلت أبحاث الكتب الثلاثة مدرسة منهجية جديدة ومغايرة للعلوم الاجتماعية والسياسية، حيث ربط المؤلف في هذه الأبحاث بين النقد لما هو مطروح من نظريات، واستشفافاً لتطور هذه النظريات في المستقبل.

حاول الكاتب من خلال نظريته التي تمحورت الكتب الثلاثة حولها أن يثبت أن المجتمعات الحالية تنقسم في حقيقة الأمر إلى ثلاثة مجتمعات أو ثلاث حضارات هي مجتمع الموجة الأولى (أي الحضارة الزراعية والرعوية) ومجتمع الموجة الثانية (أي المجتمع الصناعي الحديث) ومجتمع الموجة الثالثة (أي مجتمع المعلوماتية والتقانية)

وقد حاول دراسة هذه المجتمعات وتصادمها فيما بينها..

فلكل موجة من هذه الموجات حسب توفلر، ثقافتها وعلومها واقتصادها وادوات انتاجها ومعرفتها.. وهي بطبيعتها تتصادم مع بعضها نتيجة تصادم المصالح.. والحال أن هذه التناقضات أو التصادم يؤدي إلى نمو فئات واختلاف طرق ويؤول بالتالي إلى شكل جديد من التصادم والصراع.. وكما تتصارع مجتمعات الموجات الثلاث تتصارع علومها وثقافاتها ودولها وافكارها..

وعبر الزمن، تستمر الحروب الماضية في التأثير على حياتنا اليومية. ففيض الدماء التي جرت منذ قرون عدة لأسباب نسيناها، والاجسام المحترقة المحطمة، أو التي بددها ضغط الانفجار، والاطفال الذي تحولوا إلى بطون منتفخة فوق أعضاء ناحلة، كل ذلك صاغ العالم الذي نحن فيه. وحروب المستقبل المتوقعة أو حتى المتخيلة يمكن أن تكلفنا مزيداً من الضرائب.

لو سألنا راشدين مطلعين حول الصراعات التي تتالت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لما وجدنا أية صعوبة في الإشارة إلى الحرب الكورية (1950-1953) والحرب الفيتنامية (1957-1975) والحروب العربية الإسرائيلية (1967-1973-1982) وحرب الخليج (1990-1991) وغيرها من الحروب ربما..

إلا أن القليلين يعرفون انه هناك ما بين 150 و160 صراعاً وحرباً أهلية اندلعت في أنحاء العالم بعد استتاب السلام في العام 1945.. وإننا نقدر عدد الجنود الذين قتلوا خلالها بـ(7,000,000) دون حساب الجرحى والذين اخضعوا للتعذيب والمشوهين. وهذا الإحصاء لا يأخذ في الاعتبار عدد الجرحى الهائل الذين قتلوا، أو أولئك الذين ماتوا بعد نهاية المعارك.

ومن سخرية التاريخ أن عدد الجنود الذين قتلوا خلال الحرب العالمية الأولى يتجاوز ذلك بقليل: (8,400,000) تقريباً. وهذا يعني بطريقة مدهشة، بالنسبة إلى عدد الذين ماتوا في المعارك، ومع تركنا هامشاً كبيراً للخطأ، فإن العالم خاض ما يعادل الحرب العالمية الأولى منذ العام 1945، وحتى الآن.

وإذا اضفنا إلى هذه الاعداد، الضحايا المدنيين، فإننا نصل إلى حاصل فلكي يتراوح ما بين 33 و40 مليون من القتلى، وهنا أيضا دون احصاء الاعداد الكبيرة من الأشخاص الجرحى، أو الذين اغتصبوا أو شوهوا، وأولئك الذين تركتهم الحرب مرضى أو اكثر فقراً مما كانوا عليه.. وإذا كانت الأمم المتحدة تعد اليوم ما يقارب المائتي عضواً، فإن اكثر من ستين بلداً منها اكتوت بنار الحرب.. وقد احصت مؤسسة السلام العالمية للابحاث في استوكهولم 31 صراعاً مسلحاً دار خلال العام 1990 وحده.

وفي الواقع، فان الكرة الأرضية لم تعرف خلال الـ2340 اسبوعاً الممتدة بين 1945 و1990 كحد أقصى، سوى ثلاثة اسابيع من دون حرب..

التقاطع القاتل

حاول صانعو الحروب على مدى التاريخ زيادة مدى اسلحتهم. فقد ذكر مؤرخ صقلياً ديو دور، أن الجنرال اليوناني ابيقراط، الذي حارب لحساب الفرس ضد المصريين، في القرن الرابع قبل الميلاد (صنع رماحاً اكثر طولاً بمقدار النصف وضاعف تقريباً طول السيوف) مزيداً هكذا من مدى السلاحين.

أما بالنسبة إلى القدرة القتالية، فقدرة الأسلحة التقليدية ارتفعت خمس مرات منذ بداية الثورة الصناعية أما بالنسبة إلى الأسلحة النووية، فيكفي تصور نتائج ألف حادثة مثل تشرنوبيل لتقدير التهديد المرعب الذي تمثله.

وباختصار، فان عصرنا شهد التقاطع المتفجر للمحاور الثلاثة المميزة لتطور الاسلحة، إذ ادرك المدى والسرعة والقدرة القتالية كل حدودها الخارجية في الفترة نفسها من تاريخنا، الخمسين سنة الأخيرة. وهذه الحقيقة قد تكفي وحدها لتسويغ عبارة (ثورة في فن الحرب).

حروب الخدعة

في الفصل العاشر من القسم الثالث، يقدم لنا المؤلف رؤية استشرافية حول المستقبل وشكل الحروب منه..

فثمة تغيرات اكثر أهمية توشك أن تحول الحروب والحروب المضادة، وتطرح على كل أولئك الذين يحاولون تحقيق السلام أو ارساءه أسئلة جديدة وغريبة، بعضها يتاخم الخيالي..

كيف سيكون على العالم مواجهة (الحروب الصغيرة) التي لا تكف عن الاندلاع؟ من سيسيطر على الفضاء الخارجي؟ هل يمكن التنبؤ أو احتواء حروب دامية تخاض في ميادين قتال تزدحم بـ(الحقائق الصورية) و(الذكاء الاصطناعي) واسلحة مستقلة بذاتها.. اسلحة ما إن تبرمج حتى تقرر من تلقاء نفسها متى تضرب ومن تضرب؟ هل على العالم أن يحظر - أو يعانق - فئة كاملة وجديدة من الأسلحة المعدة لحرب من دون إراقة دماء؟ إن شكلاً جديداً من الحرب لا ينبثق كاملاً مكملاً من فكره، مهما كانت صحتها.. ولا يخرج من دراسة بعد فوات الاوان بوقوع حرب واحدة. وبما انه على حوزة نظام جديد في تكوين الثروات وفي الحقيقة على صورة حضارة جديدة، فانه يظهر ويتطور أيضا بمقدار ما يشكل هذا النظام وتلك الحضارة ويغيران العالم.

حروب الفضاء

وأحد هذه الأشكال الجديدة للحرب، التي أشار إليه المؤلف، إن الجيوش المتخاصمة لعدد كبير من البلدان، أصبحت شديدة الارتهان للصواريخ وللاقمار الاصطناعية، بحيث لا يمكن التصور أن بوسعها تجاهل الفضاء.. فاتساع الفضاء عامل أساسي في شكل حرب المستقبل.

لقد (اضاف الفضاء بعداً رابعاً للحرب) والمثل القريب لهذا هو حرب الخليج الثانية.. حيث لاحظ أنسن وكومبنغس أن الفضاء (حول المجرى العام للمعركة وانقذ بشراً، الفضاء اعطى صوراً تفصيلية للقوات العراقية وللخسائر التي سببتها غارات التحالف الجوية.. لقد انذرت بشكل مبكر عن اطلاق صواريخ سكود.. والفضاء أمّن نظام ملاحة ذا دقة مدهشة اثر على أداء كل مقاتل، وكذلك بقية صنوف الاسلحة).

هكذا فإن حرب الموجة الثالثة كما الحرب - المضادة للموجة الثالثة - سترتهنان اكثر فاكثر بالاعمال التي ستجري في ما يتعدى الأرض.. وإرساء السلام على سبيل الوقاية يجبرنا أن ننظر إلى ما يتعدى الزمن الحاضر.. وليست المسألة تتعلق ببساطة بالدولارات وإنما تتعلق بقدر الإنسانية.

وفيما لو لم يستطع المضادون للحرب، دفع العالم للاتفاق على تدابير وقائية، فإن اطفالنا سيرون بدون شك التنافس الفضائي يأخذ ابعاداً اكثر عظمة وخطورة بكثير مما هو عليه راهناً.

حرب من دون إراقة دماء

اكتشفت وسائل الإعلام في العالم اجمع الأسلحة الموصوفة بـ(الذكية) بعد استخدامها للمرة الأولى بعقود عدة.

ووسائل الإعلام لم تكتشف حتى الآن صنفاً جديداً كلياً من الاسلحة، التي تستطيع حين يقتضي الامر، امتلاك مدى ذكاء اكبر أيضا، اسلحة صممت للقتل وابقاء الناس إحياء.. يمكن تسميتها الأسلحة الصامتة بحيث لا تظهر الدماء في وسائل الإعلام..

لقد دخلنا في مرحلة من التاريخ، وصلت فيها الطاقة الفضائية أقصى درجاتها الخارجية: مرحلة تستطيع فيها الأسلحة النووية على الاقل، مبدئياً أن تهدد وجود كوكب الأرض نفسه، حيث الاغراء بزيادة درجة زوال سلاح تدمير شامل، انقلب على نفسه، حيث استنتجت القوتان العظميان أن سلاحهما الاستراتيجي كان، إذا امكن القول، مفرطاً في قدرته الافنائية، هذه المرحلة هي في الواقع نقطة النفي الجدلي، اللحظة التي يبدأ فيها التاريخ بالانقلاب.

لا شك أن العالم على وشك أن يشهد ظهور سباق تسلح جديد؛ البحث عن أسلحة تسجل حداً أدنى لا حداً أقصى في درجة قتلها.. وإذا كان ذلك كذلك، فالعالم يكون قد تسلّف ديناً من ثنائي لم يأل جهداً منذ سنوات، وفي جو من السرية، لجعل فن الحرب (صامتة) واقل افناءاً إلى حد لا نهائي..

الأسلحة الصامتة

واضافة إلى التقنيات غير المميتة التي يعكف الغرب على تطويرها والتي تتخذ الكائنات البشرية اهدافاً لها.. ولكن تقنيات أخرى صامتة تستهدف عتاد العدو، وبرامجه المعلوماتية، يصبح معها عديم الجدوى عدد طائرات العدو، أو دباباته وجودة راداراته، إذ لا يستطيع استخدامها حين يكون بحاجة إليها.. وفي الواقع، بقدر ما يمتلك العدو عتاداً، وبقدر ما يكون قد قام بتضحيات للحصول عليها، تكون خسارته فادحة إذا ما تم تعطيل ذلك العتاد ولو مؤقتاً..

وهكذا فان (تعطيل استخدام المعدات) هو تصور محوري لنظرية الحرب الصامتة.

وهكذا بدأنا نلمح تدرجاً واضحاً. فحرب الخليج لم تقدم لنا سوى نبذة شاحبة عن التطورات اللاحقة للشكل الجديد للحرب.. وهذا الشكل مدعو للامتلاء خلال العقود المقبلة، ليدمج الامكانات الجديدة التي تقدمها مظاهر تقدم التقنية.. ولكن الأمور لن تتوقف ولن تستطيع أن تتوقف هنا..

ذلك أن تطور شكل حرب الموجة الثالثة لن ينتهي إلا حين تفهم وتنشر جيداً وسيلته المركزية. وهكذا ربما تكون المرحلة الأخيرة من حرب الموجة الثالثة، الاعداد الواعي لشيء لم ير مثله العالم حتى الآن، استراتيجيات معلوماتية منافسة..

وحينذاك تصل إلى عتبة جديدة كلياً..

جنود المعلوماتية

هذه العتبة الجديدة يقول عنها المؤلف:

بينما يتكون شكل حرب الموجة الثالثة، تبدأ سلالة جديدة من (جنود المعلوماتية) بالانتشار: مثقفون بلباس عسكري أو من دونه يكرسون أنفسهم لفكرة انه يمكن للمعرفة أن تربح حروباً أو تحول دون اندلاعها.

واستراتيجيو المعرفة العسكرية المستقبلية، يستطيعون جيداً تصور سياسات مرهقة وعلى المدى الطويل، بغية امتصاص، لمصلحة بلدهم، جزء من القوة الذهنية للبلدان المستهدفة.. وبخلاف ذلك، ستتضمن اسستراتيجيات المعرفة اكثر فأكثر مشاريع معدة لتثبيط عزيمة أو منع رجال العلم أو مهندسين لا يستغنى عنهم من الالتحاق بمعسكر الخصوم المحتملين.

نتحقق منذ الآن وصاعداً من تقدم التفكير العسكري إلى ما يتعدى المفاهيم الأولى للحرب الالكترونية، وما يتعدى التعاريف الشائعة لـ(حرب القيادة والرقابة) بل إلى ما يتعدى التصور الأكثر عمومية لـ(حرب المعلومات)..

وفي خلال العقود المقبلة سيضطلع عدد من افضل الادمغة العسكرية بمهمة تعريف افضل لمكونات حرب المعرفة، وتحديد هوية اللوحة المعقدة لعلاقاتها المتبادلة وإعداد (نماذج معرفة) فاتحين بذلك أمام خيارات استراتيجية.. وستولد من هذا الرحم استراتيجيات معرفة طبقاً للأصول الواجبة.

فاعداد استراتيجيات المعرفة، هو المرحلة المقبلة لتطور شكل حرب الموجة الثالثة، هذا الشكل الذي ينبغي أن يعكس شكل سلام الغد..