مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

 
 

دروس من بدر

ملف العدد

شروط النصر في المعارك الحضارية

عبد الحسين السيد

 

3 - الصبر والثبات على الحق

2 - القيادة الإلهية الحازمة

1- شروط النصر

من وحي الذكرى

 الأقوياء - بدونه - أحياء أم أموات؟

النتائج الحضارية لمعركة بدر

4- الجهاد الجاد والهادف

 

تقديم

إنسان اليوم هو ابن الأمس القريب منه أو البعيد.. وابن الغد هو مولود اليوم.. وهكذا دواليك. والزمن هو عبارة عن حركة كونية ثابتة نسبياً، ولها بداية، ولابدّ لها من نهاية ومستقر علمها عند باديها - عز وجل -.

والتاريخ: هو نهر زمني عملاق يستوعب عمر الإنسان على هذا الكوكب منذ أقدم العصور وحتى آخر الأزمان حيث ينتهي آخر إنسان..

والتاريخ.. هو بالنسبة لكل قوم ما سبقهم من أيام ماضية..

والحاضر.. هو ما يعيشونه من أحداث وأجواء بكل ما فيها من تعقيدات..

والمستقبل.. ما هو آتٍ من رحم الزمن، لا نعرف كيف هو، أو بأي شكل أو لون بل هو المجهول - بالنسبة لنا - تماماً، وربما نطلق عليه (الغيب) في مصداق من مصاديق الكلمة أو معنى من معانيها..

وقال قائل: إن كل جيل يكتب تاريخه بيده(1).. وهذا صحيح إذا كان لذاك الجيل هوية، ويريد أن يخلدها في مجرى الزمن فسبيل تخليدها هو كتابتها بيده لا بيد الآخرين، لأن الآخرين سيكتبون ذاتياتهم هم لا ذاتيات الآخرين

والناس ينقسمون إلى ثلاثة أصناف بالنسبة لهذه المصطلحات الثلاثة.

1 - أناس تاريخيون أو سلفيون (بلغة معاصرة) درسوا الماضي فبهرهم فأرادوا الوقوف عنده.. أو أخافهم فجبنوا وتعقدوا فأوقفوا حركة عجلة الزمن الدوار، وعرقلوا حركة عقارب الساعة ظناً منهم بأنهم أوقفوا الزمن، وعطلوا حركة الساعة الكونية.

هؤلاء تجمدوا في مواقعهم فعاشوا اليوم بلباس وعادات وتقاليد الأمس الموغل في القدم، وربما عاد بهم إلى قرون مضت، فعاشوا الغربة القاتلة، فلم يستطيعوا إعادة الماضي، ولا استطاعوا العيش المنسجم في الحاضر، وما عرفوا شيئاً عن المستقبل.. فرفضهم المجتمع، ورفضوا حتى أنفسهم..

2 - ومنهم من قال: نحن أبناء اليوم، واليوم فقط..

لأن الأمس ليس من مسؤوليتك لأنك لم تكن.. والغد لا شأن لك فيه لأن له أبناءً غيرك وأنت لا تعرف إن كنت فيه من الأحياء أو غير ذلك..

وهؤلاء أصحاب المصالح الدنيوية والمادية فقط، ولا يهمهم من الأمس (الماضي) إلا ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من ثروة.. ولا من المستقبل إلا ما ينمي استثماراتهم، أو يشبع رغباتهم وشهواتهم، وكل هذه يعيشها في الحاضر..

فهم يعيشون ليأكلوا، وليس يأكلون ليعيشوا، وهذا حال تجار الدنيا..

3 - أما الصنف الثالث من البشر فهم الاستراتيجيون، الذين يقرؤون الماضي، ويستلهمون منه الدروس والعبر التي تفيدهم في حياتهم الحاضرة وتعينهم كي يخططوا في الحاضر إلى المستقبل، مستفيدين من الماضي أيما فائدة..

وهم الأذكياء، وهم العقلاء، وهم الحكماء.. وبالتالي هم الجديرون بالعيش في المجتمعات الإنسانية والتي تتطلع إلى إنسانية الإنسان، وكيفية تحقيق السعادة المنشودة لها..

فهمهم كله ينصبُّ في تصحيح أخطاء الماضي، وتضميد جراحات الحاضر، وتحصين المستقبل بالتخطيط الجيد والمتوازن له، وكلما كان التخطيط أوسع وأشمل وأعمق كان أكمل وأجمل، وذا فائدة أكبر لبني البشر، وهؤلاء هم العلماء الحضاريون الحقيقيون وكان مما وصف به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (أنه كان بعيد المدى).

أي أنه كان استراتيجي التفكير.. واستراتيجيته بعمق الزمن القادم حتى يرث الله الأرض ومن عليها..

ومن هنا فإن طريق دراستنا للتاريخ هي أن ندرسه بمنظار الحاضر وكأنه أحداث حيّة تجري أمامنا.. فإذا عرفنا سنن التاريخ، وقوانينه فإن من السهل تطبيقها على واقعنا المعاش، عندها سيصبح لنا وعي ننتصر به، ونتفوق به في الحياة)(2) إن حاضراً أو مستقبلاً مشرقاً..

ونحن إذ نعيش في شهر رمضان المبارك، نعيش ذكرى أول معركة إسلامية ضد الشرك القرشي الجاهلي.. وهي صغيرة الحجم والمبنى، إلا أنها كبيرة النتائج والمعنى..

فما الذي نستفيده من دروسها التاريخية، لبناء الغد الحضاري القادم؟

كيف يجب أن نقرأ معركة بدر اليوم لتحقق لنا أمجاداً كتلك الأمجاد الرائعة؟

وبالتالي ما هي شروط الانتصار الحضارية الحقيقية في الصراع الأبدي بين الحق والباطل؟

من وحي الذكرى

ولنتذكر - بداية - معركة بدر الكبرى..

فـ (بدر) هو المكان الذي وقعت فيه المعركة، نسبة إلى بئر حفر بها (وهو اسم الرجل الذي حفره).. زمن المعركة السنة الثانية للهجرة، ووقتها يوم السابع عشر / 17 / من شهر رمضان المبارك.. وكان الخروج من المدينة المنورة اليوم الثامن، وفي اليوم الثاني عشر من الشهر المبارك خرج الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) من بيوت السقا، بعد أن أمر بقطع الأجراس من أعناق الإبل(3)، لكي يخفي تحركه ليلاً وهو إجراء نابه من قائد عظيم..

كما اعتمد الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) أساليباً تكتيكية جديدة في التحرك والاصطفاف والمعركة وكان لذلك الأثر الإيجابي الواضح على نتائج المعركة، إذ إن تطبيق الرسول العربي (صلى الله عليه وآله) أسلوب الصفوف في معركة بدر كان أسلوباً جديداً، وعاملاً مهماً من عوامل انتصاره على المشركين، والتاريخ العسكري يحدثنا بأن سر انتصار القادة العظماء هو أنهم طبقوا أساليب جديدة في القتال غير معروفة من قبل...)(4).

* عدد جيش المسلمين (314) مقاتلاً.. (86) مهاجرياً و (227) أنصارياً، وقيل أكثر أو أقل إلا أن هذا هو الأشهر بين المؤرخين والعلماء.. وكان معهم فرسان فقط وسبعون بعيراً يتعاقبون عليها بما فيهم القائد الأعلى للقوات (صلى الله عليه وآله).

* أما جيش المشركين فكانوا (950 - 1000) مقاتل، معهم (100) فرس و (700) من الإبل عدا من كان معهم من العبيد والإماء من الخدم والحشم..

* استمرت المعركة يوماً واحداً فقط هو / 17 رمضان / من الصباح وحتى المساء..

* النتيجة: النصر الكاسح للمسلمين.. والانكسار الفاضح، والهرب المشين للكافرين، وقتل الصناديد منهم بحيث كانت نتائج المعركة على أرض الواقع في بطاح بدر هي..

1 - قتل من المشركين (70) رجلاً كانوا من القادة والزعماء والأشداء من قريش فقد أدخلت معركة بدر الثكل إلى كل بيت في مكة..

وأسر منهم كذلك (70) رجلاً ومنهم العباس بن عبد المطلب عم الرسول القائد (صلى الله عليه وآله)(5).

أي أن نسبة الخسائر بالأرواح كانت (14 %) من التعداد العام للجيش القرشي.

2 - أما الخسائر البشرية - وهي ليست خسائر بعقائدنا - فهي تتراوح بين (12 - 14) شهيداً، ولم يأسر جيش العدو أياً من رجال المسلمين.

أي أن نسبة الخسائر لا تتجاوز الـ(2 - 4 %) وهي تمثل ثلث خسائر العدو.

1- شروط النصر

للنصر شروط لابدّ من توفرها.

وللهزيمة ظروف لابدّ من دراستها، لتلافي وقوعها.

إلاّ أنّ هناك أموراً وظروفاً قد تحدث فتقلب موازين القوى، وأحد أهم هذه الظروف هو تدخل القوى العظمى في هذا الكون لصالح أحد الطرفين المتحاربين.

في عالمنا المعاصر كان التمحور حول القطبين الغربي والشرقي... وبسقوط القطب الشرقي انفردت (الولايات المتحدة الأمريكية) بالقطبية فشكلت من نفسها محوراً تدير العالم حوله.. وراحت تروج إلى أفكارها ومصالحها تحت أسماء براقة مثل (العولمة) و (النظام العالمي الجديد) و(حقوق الإنسان) وراح العالم يعمل لكسب موقف مؤيد، أو حتى نظرة رحمة من أمريكا.. لماذا؟

لأنها الدولة الأقوى في العالم. ومن كان إلى جانبها كان مرهوب الجانب محمي القلب والجوانب - هكذا ظنوا على الأقل - وأكبر دليل على ذلك، هذه البنت الغير شرعية لها والتي تسمى (إسرائيل) فإنها تفعل ما تفعل، وتقتل وتدمر وتحرق وتشرد من تشاء ولا أحد يردها أو يرد طلبها، لأنها بنت أمريكا - كما يقال - المدللة.. حتى أصبحت تفرض أوامرها حتى على الولايات المتحدة.

وأمريكا وغيرها هي قوية بقوة مادية محدودة، ومهما تعاظمت فهي مادية، والمادة محكومة بالزمان والمكان والحجم، وهي آنية ومؤقتة وكل ذلك نقاط ضعف في موازين القوى المعاصرة.

وتبقى كلمة الفصل هي للقوى المطلقة، قوى الغيب، قوة الله - سبحانه وتعالى - التي لا تحد ولا تعد، ولا تكيَّف، ولا تؤين، ولا تحصر في مكان أو زمان..

فكم مرت على هذا الكون من حضارات إنسانية؟ وهذه آثارها تشهد عليها وهي إحدى اثنتين.

1 - حضارة إنسانية إلهية، وهي نعمة كبرى منّ الله بها بنى البشر بقيادة رسول أو نبي من أنبيائه الكرام (عليهم السلام) تلك الحضارات أعطت الصورة الحقيقية للحضارة المنشودة للإنسان السوي أينما وكيفما كان.

2 - حضارة إنسانية مادية.. وهي كل حضارة خرجت عن القيادة الإلهية وسلمت قيادها إلى البشر، فراحوا يعيثون في الأرض الفساد، وكدّسوا الأموال، وطغوا في البلاد، وزاد طغيانهم حتى قال بعضهم: أنا ربكم الأعلى - والعياذ بالله - وبهذه الحضارة الاستبداد وقهر العباد.

وكلا الحضارتين طواهما الزمن، إلاّ أنّ الأولى نعمة كبرى، ويُثنى عليها، وتُشكر جهودها، أينما ذكرت، والناس يشتاقون إليها ويعملون لإعادة أمجادها وهي بمثابة المخزون الأصيل لأية نهضة أصيلة تأتي بعدها..

(لأن في التاريخ أمثلة كثيرة تدلُّ دلالة قاطعة على أن ما من أمة تعرضت أراضيها للغزو الأجنبي والاحتلال، إلا هبَّت تنشد ماضيها تبحث عمّا فيه من أمجاد، لعلها تجد ما يبعث الحياة في حاضرها فتبرهن على أصالتها ودورها في الحضارة الإنسانية).

فالماضي الأصيل يبعث الأمة الجبارة في كل جيل، إذا ما أرادت أجيالها الحياة بعزة وكرامة.

أما الحضارة الثانية (المادية) فهي نقمة على البشرية دائماً وأبداً، أخلاقياً وإنسانياً إلا أن مظهرها جذاب وجميل يُفتن في كثير من الأحيان. وطاقاتها كبيرة وهائلة، يُرهب معظم الأوقات - وهي لا تعرف الرحمة، أو أي قيمة فاضلة، وكل ما تعرفه المصلحة العليا لها فقط. ولذلك تجدها تأكل بعضها كالنار تماماً.

وهذه الحضارة تكون لعنة الأيام على الأجيال، ونكبة الأجيال الإنسانية في مطاوي الزمن الدّوار.

وحضارة الغرب اليوم هي من الحضارات البّراقة اللمّاعة التي مرّت على هذه الكرة الترابية، وذلك لشمولها واتساعها وضخامة احتياطها التدميري، وفسادها الكوني الذي لا يعلم مدى فداحته إلا الله - عز وجل -.

فحضارة اليوم - مهما علت وارتفعت أو انبسطت واتسعت - هي فاسدة وباطلة لأنها بلا أخلاق ولا قيم ولا أهداف سامية للحياة، ولا ضمير حي يبعث ويلحظ الإنسانية في الإنسان.

وللخلاص من هذا الكابوس الذي يلف العالم ويرهب الدنيا، لابدّ من العمل الجاد والدؤوب على جميع المستويات وبمختلف الإمكانيات.

والنصر جميل إلاّ أنه صعب ويحتاج إلى مقومات وجهود جبارة، وعقول عباقرة، وإمكانيات هائلة، وتسديد من الله العلي القدير.

وأول الانتصارات الحضارية التي حققها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كانت في معركة بدر الكبرى، حيث بنى أول لبنة في الأساس الحضاري للدولة الإسلامية المرتقبة. وهدم - بالمقابل - الركن الأساسي للدولة الجاهلية المشركة والملحدة التي كان يقودها طغاة جبارون من أمثال صخر بن حرب أبو سفيان، وعمرو بن هشام أبو جهل. ومن لفّ لفهم من طغاة الجزيرة العربية.

فانتصار بدر فتح ثغرة (كوّة) في جدار الوهم الذي كانت تصوره الحضارة القرشية والعربية في شبه الجزيرة، وسمحت لأنوار الحق وأشعة الحقيقة بالتسرب إلى أعماقها.

وفعلت تلك الأشعة فعلتها بتلك الحضارة المتخلفة، ورأى الناس - الباصرون - مدى هشاشة تلك الأسوار.

وأصبح الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حديث الساعة في الجزيرة العربية وما حولها كنجم بزغ نوره.

وبذلك تكون - بدر الكبرى، قد فتحت ثغرة أكبر وأهم في جدار القلوب الصّدئة والتي تراكم عليها الرّين المزمن. وتسلل النور القدسي إلى أعماقها، وانتشرت الأشعة في أرجائها فأضاءت القلوب بنور الإيمان. وراح الرجال والنساء يعلنون انضمامهم إلى ركب الإسلام زرافات ووحدانا.

وبذلك هيأ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الأسس المتينة والراسخة للحضارة الإسلامية بمبناها والإنسانية بشمولها وعمومها ومعناها على هذا الكوكب.

فكيف انتصر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في معركة بدر الكبرى؟

انتصر (صلى الله عليه وآله) بتوفر شروط وتضافر عوامل، وبذل مجهود عملاق، ومن تلك العوامل ما يلي:

1 - الغيب.. والعناية الإلهية

بما أن الإسلام دين ودعوته إيمانية، فلا غنى له عن الغيب مطلقاً، لأنه منطلقاً أساسياً له والغيب: ضد الشهود.

والشهود.. كل ما يشهد أو يدرك.. سواء ما يدرك بالمشاعر الظاهرة كالحواس الخمس، أو بالمشاعر الباطنة كالعقول المختلفة.. سواء منها ما يدرك بالمشاعر البشرية، أو ما يدرك بمشاعر سائر المخلوقات (كالجن والملائكة، والشياطين..) فكل ما يُدرك - بأي مُدرك - فهو من الشهود.

وأما الأشياء التي لا تلامسها المدارك لدقتها أو لعظمتها أو لعدم تجانسها مع المدارك.. وكل ما لا تُلامسه المدارك فهو من الغيب(6).

وللغيب أنواع إلا أننا نقصد به هنا الغيب المطلق وهو الله سبحانه وتعالى (والإيمان بالغيب ضروري للإنسان لأن كل عمل حياتي هو في تطور - نتيجة سيره الدائب نحو الكمال. وكل شيء متطور متغير وغير ثابت.

والإنسان في حياته يحتاج إلى الاعتماد على أرضية صلبة، يعتمد عليها للانطلاق منها في دفع الحياة إلى الأمام(7).

وتلك الأرضية الثابتة، التي تصلح قاعدة للإنسان، ومنطلقاً له هي الإيمان بالغيب.. (بالله) لأن الغيب يساوي أو يعني ما وراء الطبيعة وهو غير خاضع لنظام التطور، لأنه كامل ولا يحتاج إلى السير نحو الكمال(8).

والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) رسخ قيمة الإيمان في القلوب والأذهان لكل من كان تحت قيادته المباركة، لذلك كانوا يقفون على أرض ثابتة لا تتزعزع، وهذا ما جعلهم يداً واحدة، وقلباً واحداً في المعركة وكتلة من النشاط الهادف، فارتفعت معنوياتهم - وما أحوج الجيش إلى الروح المعنوية - بحيث صاروا يعانقون السماء بهاماتهم وهممهم العالية.. والكل يتنافس على الجنان ورضا الرحمن.

وصورة المقاتل الشهيد (عمير بن الحمام أخو بني سلمة) الذي كان يأكل تمرات وهي في يده، وعندما سمع كلام قائده العام (صلى الله عليه وآله) يبشرهم بالجنة. رمى بقية التمرات من يده وهرول باتجاه القوم وهو يقول: بخ.. بخ.. فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلاّ أن يقتلني هؤلاء..)(9) وبالفعل قاتل حتى استشهد (رحمه الله).

فالإيمان بالله كان ركيزة أساسية للنصر في معركة بدر.. وهو ركيزة أساسية وأصيلة للنصر والبناء في أي معركة حضارية منذ أقدم العصور، وإلى يوم الوقت المعلوم.

وذلك لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (10).

والمؤمن لاشك يبيع لأن أي ثمن للنفس غير الجنة فهو بخس للنفس حقها. وببيعه يربح نعيم الأبد في الجنة وهو مستبشر.

ولذلك خصَّ الله سبحانه رسوله بالنداء قائلاً:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) (11).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) (12).

- أما مسألة المدد الإلهي (الغيبي) فقد تُمثل بعدد من النقاط المضيئة منها:

1 - المدد بالملائكة كمقاتلين غير منظورين وهناك ثلاث طوائف نزلت أوضحتها الآيات التالية:

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمــِدَّكُمْ رَبــــُّكُمْ بِثَلاثــــَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (13).

(بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (14).

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (15).

هذه ثلاث كتائب مقاتلة من الملائكة (المنزلين.. والمسومين.. والمردفين) وعددهم تسعة آلاف مقاتل بالإضافة إلى القوات والمعنويات البشرية.

2 - النعاس والنوم العميق، بعد الاطمئنان ليكون ذلك عوناً لهم غداً في معركتهم الفاصلة (إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) (16) وراحة المقاتل ضرورية له لدخوله في أي معركة وربما أرّق الطرف الآخر لتزداد حيرتهم وقلقهم.

3 - تطهير المقاتلين، بالاستحمام وإذهاب رجس الشيطان وتنظيف الأبدان من حرّ السفر وعرقه وتعبه الذي استمر حوالي عشرة أيام في تلك الصحراء القاحلة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (17).

4 - تثبيت أرض المعركة بواسطة المطر (ويثبت به الأقدام) لأن الأرض الصلبة أفضل من الأرض الرملية أو الرخوة بالنسبة للمقاتل، لاسيما إذا ما تذكرنا أن معظم جيش المسلمين كان من الرجالة والسير بالصحراء يتعب أقدام المقاتلين.

5 - التثبيت والمعيّة: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) (18) وهذه من أكبر وأجمل نعم الله - تعالى - على الجيش الرسولي في معركة بدر الكبرى.

6 - تخويف العدو (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (19) وهذا لصالح جيش الرسول (صلى الله عليه وآله) لأنه نقطة ضعف في جيش العدو، وكل ضعف لدى العدو هو قوة بالنسبة لك.

ودروس هذا المدد الإلهي كبيرة جداً، وتحتاج إلى دراسة مطولة لسنا بصددها الآن.

2 - القيادة الإلهية الحازمة

القيادة الحكيمة والمتزنة ضرورية، لإنجاز أي عمل تغييري أو حتى حياتي ذي شأن حضاري. والقائد محور ونقطة ارتكاز، وله الفضل في تحقيق النصر في معظم الحالات.

ومن مقومات النصر الكبيرة في تلك المعركة المظفرة، القيادة الحازمة والمستمرة والحكيمة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فهو قمة القيم وهو الإنسان الكامل في كل أبعاده الإنسانية.

(فهو أقرب البشر، إلى الله. وقد خّوله الله القيادة البشرية العليا، ومنحه أعظم رسالات السماء. فلم يكن قائداً ورسولاً لأمته فحسب، وإنما بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيراً ونذيراً.

وجعل قرآنه - المجسد لرسالته - مهيمناً على الكتب السابقة.. ومصدقاً للكتب السماوية وكاشفاً لما دسّ فيها)(20).

هذا الرسول المسدد هو من كان قائداً للمعركة في بدر الكبرى. وكان أقرب المقاتلين إلى العدو، وقد وصفه أخوه وصنوه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بأجمل وأجل وصف حيث قال: كنا إذا اشتدّ الخطب واحمرت الحدق اتقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أقربنا إلى العدو..

هذا القا)(21)ئد العظيم (صلى الله عليه وآله) في بداية المعركة خاطب جنده قائلاً: (والذي نفس محمد بيده.. لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر إلاّ أدخله الله الجنة)(22) وأخذ من الحصباء ورماه على العدو قائلاً: (شاهت الوجوه.. شاهت الوجوه..) وهاجم جيش الأعداء، كصاعقة السماء (ولا شيء أحب على قلب الجندي من رؤية قائده يشاركه المعركة والسّراء والضّراء...)(23).

وأثر القائد في التاريخ هو أثر كبير في جميع المعارك، فيكون شبه المحور ولذلك عندما يفر القائد من المعركة ينهزم الجيش مهما كان عدده وعدّته، أما إذا صمد وثبت القائد فإن الجيش لو إنكسر فإنه سيعود ليجمع قواه ويدور حول قائده ليحميه ويصنع النصر كما جرى في معركة أحد وغيرها.

وقائد المسلمين (صلى الله عليه وآله) لا يفر ولا يهرب لو اجتمعت الإنس والجن على قتاله.. وهذا ما أعطى مقاتليه الروح المعنوية العالية، وتحقيق النصر المؤزر.

3 - الصبر والثبات على الحق

الصبر دعامة أساسية للنصر. وهو دعامة للنجاح في أي عمل ريادي واعتباري كذلك. لأنه ما من عمل سهل، أو يمكن تنفيذه بسهولة وأريحية.

والصبر أشكال وأنواع منها الصبر مع الله. والصبر في الله. والصبر عن الله. والصبر عند المصيبة والصبر عند المكاره. ويختلف باختلاف أصحابه واتجاهاتهم الفكرية.

إلاّ أنّ الصبر مطلوب ومشكور ومحبب في معظم مناحي الحياة، ومنهم من فهم منه أنه عمل سلبي ومتخاذل. إلاّ أن حقيقته تبقى إيجابية ورائعة. (والقرآن يلحُّ على الناس أن يصبروا، لا في مواجهة النكسات والنكبات فحسب، ولا عبر المصائب والمتاعب فقط. وإنما يأمرهم به في مواجهة الحياة كلها. للسيطرة على السرَّاء والضّراء ولاستقبال والبأساء، والأفراح والأتراح سواء بسواء فيقول:

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (24).

(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (25).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) (26).

إن الإنسان في مسيرته الصاعدة عبر الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، لا يجد طريقه - في جميع الأحوال مفروشاً بالأحلام ولا يستقبل الآمال العذاب أينما اتجه، بل كل فرد يفتح طريقاً خاصاً لنفسه عبر العقبات والكوارث الملغومة بألوان من المآسي والمهلكات.

فإذا استقلّ طريقاً - أي طريق - يتجه إلى هدف - أي هدف - وأراد أن يسير فيه بسرعة معينة على امتداد الطريق، فإنه لا يطوي بعضه إلاّ وتكويه إحدى المفرقعات، وينتهي دون الوصول إلى هدفه.

أما إذا سار بسرعة عندما يجد الطريق مستريحة، وخفف السير إذا تراقصت أمامه الهواجس، ووقف إذا شعر بالخطر ريثما يتبين حجم الخطر وقوته، ليعرف ما إذا كان يستطيع التغلب عليه أم لا؟

فإذا عرف أن الخطر أقوى منه تنكب الطريق. وإذا عرف أنه أقوى من الخطر، وأن اجتياحه لا يكلفه إلاّ أقل مما يكلفه التنكب عن الطريق اقتحم وغالب، وبقي سائراً بحكمة وتعقل، فلربما يوفق لهدفه مهما كان بعيداً وعالياً.

وهكذا الصبر: صمود وثبات حتى يمر الخطر ويزول، فهو عملية إيجابية تمليه إرادة التقدم، وليس عملية سلبية يوحي بها الضعف أو الخمول، فكل ما يخدم الوصول إلى الهدف، يلزم اتباعه.

وهذا هو الصبر بمعناه الحقيقي، لا التهيب من مناورات الحياة.

وبهذا - يفسر القرآن الصبر - وخاصة في معركة بدر - عندما يعتبره مقدمة النجاح والنصر فيقول: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ).

فمن يعرف الصبر، ويطيق الصبر. هو الظافر الذي يتمتع بالإرادة، ويعرض الأشياء العملية، لأن الصبر ضابط الأحداث الذي يخضعها لإرادة التقدم.

أما الذي لا يستطيع الصبر، فإنه لا يتمتع بالإرادة، وبالتالي لا يحرز النصر أبداً، لأن الأحداث سوف تعلوه، ويفرقه الطوفان مهما كانت طاقته جبارة وعاتية(27).

والصبر كان من أهم العوامل للنصر الذي أحرزه جيش المسلمين في معركة بدر الكبرى. وهو عامل حاسم بنصر الأمة الإسلامية على أعدائها - في الداخل والخارج - في هذا العصر العصيب الذي يحتاج إلى عمل وجهد وجهاد وصبر مضاعف مئات المرات عن الأجيال السابقة.

4- الجهاد الجاد والهادف

الجهاد: هو بذل الجهد في سبيل هدف مقدس..

لذلك وصفه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) بأنه: (باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة والجهاد عز الإسلام وسنامه).

والبشر هو البشر، يحمل في طياته الروح والحنين إلى القيم، ولكنه جسد أكثر مما هو روح. وهو حاجات قبل أن يكون حباً وحنيناً، وضرورات قبل أن يكون ضميراً.

وهناك من يقدّمون الروح على الجسد. إلاّ أنهم أقلية جداً وربما لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. وهؤلاء القلة يثورون، ويغيرون ولكنهم - منذ أن خلق الله البشر وحتى اليوم - لم يتمكنوا في الحياة، ولم يغيروا مجمل البشرية.

فالبشر على وجه العموم، بشر الجسد لا بشر الروح. فيعتبر نداء الجسد ضرورة، ونداء الروح كمالية. فيندفع مع الجسد ويتمهَّل مع الروح، فالأولويات لحساب الجسد.

وعلى حسابات الجسد تأتي الرهبة قبل الرغبة، فيحاول إشباع رغباته إذا لم ينتصب الخطر أمامه، أما إذا جاء الخوف فإنه ينتهي دور الرجاء، فدفع المضرّة قبل جلب المنفعة.

هكذا يفكر البشر ومن هذا التفكير تنطلق تصرفاته.

ولذلك نجد أن الحق لا موقع له إلاّ عند الذين يستطيعون الارتفاع فوق بشريتهم - وهم المعصومون (عليهم السلام) في الدرجة الأولى، ومن تبعهم من المؤمنين.

فأصحاب الرسالات ليس لهم أن ينتظروا حتى يفتح الحق أمامهم الطريق، وإنما عليهم - هم - أن يفتحوا الطريق أمام الحق.

وهذا ما أدركه رجال بدر الأبطال، وما يجب أن يدركه رجال الدعوة الإسلامية العالمية اليوم حتى ينتصروا، وتنعم الأرض بسلام وأمان ورفاه عالمي.

وقدسية الجهاد، من قدسية الهدف، وهدف الإنسان المؤمن هو الله: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

فالجهاد ضرورة حياتية لبناء دولة إيمانية. إنسانية. حضارية من كل الاتجاهات والأبعاد المختلفة.

النتائج الحضارية لمعركة بدر الكبرى

نتائج معركة بدر كانت كبيرة جداً. فقد كانت فاتحة الانتصارات العسكرية وغير العسكرية المذهلة لصالح المسلمين والقائد الأعلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

1 - مهدت تلك المعركة الفاصلة لبناء قوة مرهوبة الجانب طار صيتها في الآفاق حتى بلغ كل الجزيرة العربية وما وراءه.. وكسرت شوكة طالما أرقت القبائل والمستضعفين في شبه الجزيرة العربية - شوكة قريش وعصبيتها الجاهلية - مما أتاح الفرصة أمام الناس لإعادة النظر بقوتها وضعفها فليس القوي دائماً هو قوي، بل يمكن أن يكون ضعفك هو سبب قوة عدوك.

بذلك فتحت العيون والآذان، والأفواه على قريش ولم يعد لها تلك الرهبة في القلوب.

2 - فتح العقول والقلوب على أنوار الدعوة المحمدية المباركة. إذ أثبتت الأحداث أنها أصيلة وذات مضمون إنساني حضاري تريد أن تنقل الإنسان من ظلمات الجهل والتخلف إلى بحبوحة النور والعلم والتقدم.

3 - ومن النتائج الميدانية التي برزت على أرض المعركة سقوط سبعين قتيلاً من كبار طواغيت قريش وجباريها، لاسيما القائد الجبار العنيد (عمرو بن هشام أبو جهل) وعتبة وشيبة والوليد زعماء بني عبد مناف - كما يزعمون - وغيرهم من أولئك الجفاة الغلاظ السافحين للدماء، الذين تربوا على السحت فنشأت أجسامهم على الحرام، فأراح الله منهم بضربة واحدة.

بالإضافة إلى نفس العدد من الأسرى، حيث أسروا وسيّروا إلى المدينة مكبلين بالحديد فكانت روح معنوية عالية جداً للمسلمين جعلهم يشمخون برؤوسهم فالنصر جميل وطعمه حلو أحلى من الشهد.

4 - الأرباح المادية الكبيرة من الغنائم وما خلفه جيش قريش المنهزم، بالإضافة إلى الأموال التي أخذوها فداء الأسرى.

والمسلمون كانوا أحوج ما يكونون لهذه القوة الاقتصادية في المدينة من أجل إكمال البناء التحتي للدولة المنتظرة هناك. فالرفاه، والرخاء المادي كان مطلوباً لأن المهاجرين شكلوا عبئاً على أهل المدينة حيث اقتسموا كل شيء فيما بينهم بعد حادثة المؤاخاة الفريدة والوحيدة في حياة الكون كله.

5 - ارتفاع الروح المعنوية لجيش المسلمين مما جعلهم يخيفون ولا يخافون. فقد انطلقوا إلى بدر وتكاد أرواحهم تغادر أجسامهم، وذكر ذلك القرآن الكريم أكثر من مرة فقال: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ).

فمعنويات الجيش الإسلامي كانت منخفضة قبل المعركة إلا أنها ناطحت السحاب بعدها، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

6 - بروز عبقريات عسكرية على مستوى القيادة والتخطيط والتنفيذ وإدارة المعركة وهذا زاد الثقة بالقائد الملهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

وبروز بطولات نادرة، وشجاعة خارقة، وقوة فائقة لأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) الذي قتل نصف قتلى المشركين كما هو معروف ومتفق عليه بين جميع العلماء الأعلام في هذه الأمة المرحومة.

بحيث قتل 24 شخصاً وشارك بقتل عتبة بن أبي ربيعة مع عمه حمزة - أسد الله وأسد رسوله (صلى الله عليه وآله). فيكون بذلك قتل نصف القتلى، ولم يأسر أحداً لأنه (عليه السلام) ما ضرب ضربة وثناها.. فإن كانت بالطول شقت وإن كانت بالعرض قدّت وقطعت.

وفي الختام..

ما أحوجنا اليوم لهذه المقومات الحضارية من أجل إعادة بناء ما تهدم من حضارتنا البائدة التليدة. فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ولا يمكن الصحوة والنهوض من هذه الكبوة إلا بالعودة إلى الإسلام الحنيف ودستوره الأعلى القرآن الكريم الذي يشكل أعظم دعوة للحياة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (28).

إن هذه الآية المباركة تشير إلى عكس ما يفهمه الناس - عادة - من الإسلام.. فالرسول يدعو الناس إلى الإسلام وهو يحييهم.

إذن.. فهم أموات الآن والإسلام يحييهم - وهم بدون الإسلام - أموات مهما تواترت منهم الآثار الحياتية، لأنهم لا يبلغون مستوى حياتهم به.

فالإسلام طاقة حياتية شديدة الانفجار.. وهو نفس الطاقة التي جعلت الواحد أكثر من عشرة، وربما كان أمة كإبراهيم الخليل (عليه السلام) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام.. إن الإسلام هو نفس القوة التي قلبت كل المفاهيم السطحية حتى أن (الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين..)(29).

فالإسلام (حياة) إذا فهمناه كما عرفه رسوله العظيم (صلى الله عليه وآله) وكما يلهمه قرآنه الحكيم.. أما إذا فهمنا صيغة جديدة للطقوس القديمة فهو (موت) لا ريب.. ونحن الآن نعيش الإسلام موتاً - أو تمويتاً - نموت به ويموت بنا، لأننا نحوّله طقوساً جامدة باردة لا نبض لها ولا عصب.. أما إذا أقمناه (ديناً) يستوعب الحياة - كل الحياة - فسيحيا بنا ونحيا به..

ولكي يكون كذلك لابدّ أن نصحح انطباعنا عنه.. بالموازنة بين الحالة الطقوسية التي تحيا بين الإنسان وربه وبين دوره في (النظام) الذي يبرمج حياة الإنسان كلها.

وننقله من موقف (المعلم) الذي يلقي الأفكار لمجرد الأفكار، إلى موقف (الطبيب) الذي يصف الدواء الناجع السريع.. وندرسه (كقانون) يؤثر في مجرى حياتنا اليومية، لا (كتراث) لترضية الترف الفكري لدينا..

ونمنحه مركز (القائد) والحاكم علينا. ونعتبره (سكناً) نلوذ به من الطوارئ، لا (أثراً) ينقل إلينا ذكريات الماضي والأسلاف.. ولا نتبرع - نحن - له بدور (المحامي) والموجه، بل ندعه يتحمل مسؤوليته بنفسه، ومسؤوليتنا كذلك.

أي: علينا أن نقف نحن أمامه، لا أن يقف هو أمامنا.

أي: علينا أن نتصوره كما هو، فنكون نحن في مكاننا الطبيعي، ويكون هو في مكانه الطبيعي.

عند ذلك يبدو كم هو من طاقة، وبذلك يتضح: هل هو حياة أو موت؟ ويظهر: هل الرجال

 الأقوياء - بدونه - أحياء أم أموات؟

هكذا أحيى الإسلام الحنيف الإنسانية في الإنسان فبنى حضارة عريقة وأصيلة لأنها إلهية وأخلاقية لن تزول بإذن الله.

وهو قادر على إعادتنا إلى أمجادنا إذا ما عدنا إلى آياته..

فهل نقفز من الرقاد إلى إعادة الأمجاد؟

أمل منشود، ووعد موعود، والنصر من عند الله العزيز الحكيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

1- التاريخ الإسلامي دروس وعبر السيد محمد تقي المدرسي: ص 29. 

2- ن.م، التاريخ الإسلامي: ص 26. 

3- الرسول العربي وفن الحرب للعماد مصطفى طلاس: ص 160. 

4- الرسول العربي وفن الحرب: 176. 

5- بدر الكبرى لعبد الكريم القزويني: 27 عن شرح النهج لابن أبي الحديد والواقدي. 

6- خواطري عن القرآن، للسيد الشهيد حسن الشيرازي (رض): ج 1 ص 434 بتصرف. 

7- ن.م: ص 87. 

8- ن،م: ص 88. 

9- معركة بدر الكبرى للسيد عبد الكريم القزويني: ص 56. 

10- سورة التوبة: الآية 111. 

11- سورة الأنفال: الآية 64. 

12- سورة الأنفال: 65. 

13- سورة آل عمران: الآية 124. 

14- سورة آل عمران: الآية 125. 

15- سورة الأنفال: الآية 9. 

16- سورة الأنفال: الآية 10. 

17- سورة الأنفال: الآية 11. 

18- سورة الأنفال: الآية 12. 

19- سورة الأنفال: الآية 12. 

20- خواطري عن القرآن: ج 1 ص 141. 

21- النهج. 

22- سيرة ابن هشام: 279. الكامل في التاريخ: ج 2 ص . 

23- الرسول العربي وفن الحرب: 161. 

24- سورة المعارج: الآية 5. 

25- سورة الأحقاف: الآية 35. 

26- سورة آل عمران: الآية 200. 

27- خواطري عن القرآن: ج 1 ص 512 بتصرف. 

28- سورة الأنفال: الآية 24. 

29- نهج البلاغة: خ 51.