مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

 

الفكر الاجتماعي عند الإمام الشيرازي

دراسة - مقارنة

[email protected] عبد الله موسى

 

لقد امتازت الشريعة الإسلامية بكونها شريعة للحياة، حيث اشتملت على القوانين والنظم ذات التكامل والقابلية على التطبيق بالنحو الذي لم يمر على تاريخ البشرية نظيره إلا أن المسلمين لا سيما في العهود المتأخرة لم يولوا اهتماماً كافياً لإعطاء هذه القوانين صفتها العلمية وإرساء قواعد بناءها النظري وفق رؤية عصرية تحقق لها قابلية التطبيق عبر كل الظروف فبقيت اكثر هذه القوانين والنظم مجرد نصوص تبتعد شيئاً فشيئاً عن واقع الحياة.

وهنالك فرق يمكن أن يعتبر محكاً ومقياساً لاختبار معادن العلماء والمعرفة الإلهية الحقة التي يهدف الله تعالى من خلالها انتشال الإنسان من عالم الدنيا المادي ونقله إلى العالم الذي يجمع فيه عالمي الدنيا والآخرة وذلك الفرق يتجسد في البون الشاسع الذي يقع بين حقيقتين أولاهما: ارتقاء العالم الرباني سلالم العلم، واجتناء ثمار الفكر، والأخذ بنواصي المعرفة. وثانيهما: حمل الرسالة العلمية، وادخالها إلى المستوى التطبيقي، وبذلها لبني البشر. ولقد شاء الله تعالى أن يقيظ لهذا الدين الحنيف من العلماء من تبنى حمل تلك الرسالة بما تشتمل عليه من نظم وقوانين متناولاً إياها برؤية عصرية، ليتسنى ادخالها عالم التطبيق، ومن بين تلك النظم والقوانين، الفكر الاجتماعي أو علم الاجتماع الخاص بالمجتمع المسلم الذي وضع الإمام الشيرازي بصماته البارزة على طريق الخطوات الأولى في إنشائه.

في هذه الدراسة الموجزة نسلط الضوء على الرؤية الإسلامية للمجتمع بصورة عامة لدفع الشبهة القائلة بغياب النظرية الاجتماعية في الإسلام، وفي البدء لابد من جولة في بعض ميادين هذا العلم.

ميادين علم الاجتماع

إن التطور الذي حصل للمجتمعات البشرية ولد تفرعات لم تكن من موضوعات علم الاجتماع وهي ما أطلق عليها فيما بعد بميادين علم الاجتماع وقد وضع مجموعة من أساتذة هذا العلم كتباً بهذا العنوان تناولت مباحثه علم الاجتماع الحضري والريفي وعلم الاجتماع الاقتصادي والسياسي والتخطيطي وعلم اجتماع التنمية(1) ورغم أن مؤلفيه حاولوا تغطية النشاط الاجتماعي في البيئة العربية والإسلامية إلا أنهم لم يفلحوا في ذلك لقلة الدراسات المحلية في هذا الحقل كما اعترف أحدهم بصدد الدراسات الاجتماعية الريفية في الشرق والأوسط بالقول: (لم تلمع أسماء محلية فيما يتعلق بالدراسات الاجتماعية الريفية في الشرق الأوسط أو إن شئنا الدقة إن أيدينا لم تقع على دراسات قروية قام بها باحثون محليون، سوى دراسة واحدة عن إحدى قرى الضفة الغربية بالأردن)(2).

ويمكن أن نضيف سبباً آخر لفشل هذه الدراسات وهو الاعتماد على الدراسات الغربية للمجتمع العربي حيث اعتمد الباحثون على ما يقارب الـ(300) مصدر غربي الأمر الذي يجعل من إمكانية المقارنة بين التطبيقات الاجتماعية الغربية والتطبيقات الاجتماعية في البلدان العربية (موضوع الدراسة) أمراً يبتعد عن المنطقية في البحث للاختلاف الشاسع بين التجربتين.

وقد استخدم هذا النوع من البحوث في أوربا في عصور ما بعد النهضة الأوربية الحديثة وإلى أوائل القرن العشرين الميلادي في الميادين الاقتصادية فيما سمي وقتها بـ(مفهوم الاسترجاع) وإن (الخير المشترك للإنسانية) هو المبدأ الذي جاء به الاستعمار الحديث في محاولة لتسويغ الأساليب الاستعمارية والفتوح الأوربية في العالم الحديث وقد علق أحد الكتاب على ذلك بالقول: (إن للاستعمار حقاً يجد مبرره في أهدافه نفسها، تلك الأهداف التي ترمي إلى مساعدة الشعوب المتأخرة ولوضع »الكنز المشترك للإنسانية« في خدمة الأوربيين المختصين الوحيدين في ذلك الزمن في استغلال هذا الكنز حسب المبدأ القائل بحق القوي في مساعدة الضعيف)(3).

وهذا يجعلنا نشكك بكل النظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أثبتت التجارب أنها ما وضعت إلاّ لخداع الشعوب والمجتمعات (النامية).

والنظرية الاجتماعية في الإسلام هي نتاج رسالة سماوية حددت أطر التركيبة الاجتماعية بالكامل في وقت لم يعرف الشرق أو الغرب مثل هذا التنظيم الاجتماعي الذي ساد لعدة قرون ولا زالت بعض مفرداته تسير هذا المجتمع بما يعطيه خصوصية وانفراد عن باقي المجتمعات حتى بعد التطور العلمي والتكنولوجي والتنظير الاجتماعي الذي اشتمل على أدق التفصيلات في المجتمعات الغربية.

ولكن الاستدراك يأتي بعدم تمكن المسلمين من صياغة النظرية الاجتماعية في الإسلام بالشكل الذي لا يجعلها عرضاً مجرداً لقوالب وقواعد كانت متماشية مع ظروف معينة، لذلك تنبه بعض علماء الأمة إلى هذه الإشكالية وشمروا عن سواعدهم ليخرجوا هذه النصوص إلى حيز التطبيق ضمن صياغة نظرية واضحة.

ويعدّ الإمام الشيرازي أول مرجع في تاريخ المسلمين يتحدث ويكتب في الجوانب النظرية الاجتماعية، حيث أفرد الكثير من المؤلفات المختصة بهذا العلم الهام ومنها: كتاب (الاجتماع) الذي يقع في مجلدين ضمن موسوعة الفقه الاستدلالية لسماحته إضافةً إلى عشرات الكتب التي بحثت الجانب التفصيلي لمفردات هذا العلم فكتب حول العائلة والمؤسسات والتمدن وله بحوث أخرى تضمنتها كتبه في السياسة والاقتصاد حيث ارتباط هذين العلمين بصورة مباشرة بعلم الاجتماع.

والملاحظ في كتابات الإمام الشيرازي عدم اقتصارها على العرض النظري فحسب بل اشتملت على عاملين آخرين هما:

1 - الجانب التطبيقي؛ وهو ما حصل في ترجمة أفكار سماحته إلى حيز التطبيق في الهيئات والمؤسسات التابعة لمرجعيته، حيث اعتاد على التركيز على هذا الجانب سواء في الاجتماع أو الإدارة أو السياسة فغالباً ما يكرر سماحته مبادئ الشورى والتعددية والأمة الواحدة في أكثر كتبه.

2 - جانب الإرشاد والتوجيه؛ ففي الوقت الذي يعطي فيه المرجع رأيه والذي غالباً ما يكون فتوى أو مسألة شرعية، لاستناده إلى الأدلة الشرعية التي يوردها سماحته مع هذه النصوص، نجد أن غاية هذا البحث ملاصقة للرأي أو تأتي كنتيجة له(4). وفي مجال الاجتماع يتحدث عن المعرفة كمقدمة لبحث دراسة هذا العلم والتأكيد على أهميتها بنفس ا لوقت، وحينما يتحدث عن العاطفة يذكر مثالاً أقرب منه للإرشاد وتبيان الأهمية فيقول مثلاً: (الإنسان لا يبكي غالباً لمأساة كربلاء وحدها وإنما يبكي إذا سمع الخطيب ينعي، مع أن المأساة موجودة في ذهنه)(5) وواضح أن سماحته يريد إعطاء درس وعظي من خلال بحث اجتماعي موسع. 

رؤية الإمام الشيرازي لدراسة علم الاجتماع

يرجع الإمام الشيرازي أصل نزوع الإنسان إلى الانخراط في السلك الاجتماعي إلى الجانبين الجسدي والنفسي حيث إن (الإنسان يستأنس بالإنسان، ويستوحش لفقده ويؤثر في الإنسان الآخر سواء كانا فردين أو مجتمعين، أو بالاختلاف والتأثّر والتأثير، قد ينتج الإيجاب (بالترابط) وقد ينتج السلب (بالتدابر)(6).

ويفصل سماحته هذه العلاقات وما ينتج عنها بحسب هدفيتها فهناك الترابط الهدفي حيث اجتماع فئة معينة يرجح سماحته الأهداف الثقافية ووحدتها أو الأخلاق والآداب والدين ويسميه الترابط الاجتماعي أما الجانب الثاني وهو التدابر ويعني به عدم التوافق أو الاتفاق فيرجعه إلى ثلاثة أسباب:

1 - التنافس ويسميه (الاستباق) ومثاله: ما يحصل في السباقات الرياضية وغيرها.

2 - عامل الرقابة ومثاله: رقابة التجار أو الحرفيين لغرض التفوق على الغير بالمنافسة.

3 - الرقابة التي تستبطن العداء أو ما يسميه الإمام الشيرازي (المحاربة) ثم يخلص سماحته إلى أن هذين النوعين من التأثير (الترابط والتدابر) يصلان إلى نتيجة حتمية وهي المسالمة والعيش الاجتماعي مع تفصيل في أنواع هذه المسالمة والمعايشة.

وبعد أن يقسم المجتمعات إلى (الجماعة الإرادية) و(الجماعة الرسمية) و(الجماعة غير الإرادية) يصل إلى دور المحيط الاجتماعي في تشكيل هذه الجماعات فيقول: »إن الأعضاء إن ربوا في محيط واحد، أو محيط مشابه، سميت الجماعة بـ(الجماعة المنسقة)، ودور حركة الفعل ورد الفعل في التغيير الاجتماعي الذي يطرأ على هذه الجماعات«.

وفي إطار هذا التقسيم يرى الإمام الشيرازي أن علم الاجتماع تنقسم دراسته إلى قسمين: نظرية وعملية، حيث إن القسم الأول (يعتمد على الذهن أكثر مما يعتمد على الخارج بأن يأخذ من الخارج أشياء ليكشف بها القوانين العامة الحاكمة على الاجتماعات والمؤسسات الاجتماعية، من دون النظر إلى كيفية التطبيقات بينما يهتم ا لجانب العملي بكيفية تطبيق تلك القوانين على الخارج، والمعروف أن أكثر باحثي وعلماء ومنظري علم الاجتماع اعتمدوا على آرائهم في صياغة البحث الاجتماعي، سواء كان هذا البحث عملياً أم نظرياً، فنشأ فيما بعد ما سمي بـ(البحث الاجتماعي التجريبي والبحث الاجتماعي النظري)، والمعروف أن بداية نشأة النظرية الاجتماعية كانت في اليونان ومع هذا لم تكن تعرف ماهية البحث الاجتماعي بالمعنى الذي نفهمه الآن والسبب في ذلك هو عدم تنظيم جمع المعلومات التي تخص الأحداث الاجتماعية.

بينما اعتمد علماء الاجتماع في العصور الحديثة على الأبحاث المكتبية ومصادر الدرجة الثانية مثل (بودان) و(مونتسكيو) أو على التأكيد مثل (لوك) و(روسو) بأن المعارف الشائعة كانت تكفي لتزويدهم بكل ما كانوا يرغبون بمعرفته عدا بعض الاستثناءات حيث استعمل (آدم سميث) الإحصاءات بكثرة في كتابه (ثروة الأمم) وجمع مالتوس كمية كبيرة من المعطيات الديموغرافية الوافدة من العالم كله ونشرها في كتابه (مقالة عن السكان) لدعم وجهة نظره، بينما أعلن (كونت) عزمه على عدم قراءة أي كتاب إلاّ كتبه ويعتبر ذلك من ضرورات الوقاية الفكرية(7).

وهنا ينشأ تساؤل مفاده: هل من حق المنظرّ الاجتماعي أن يبتدع قوانين اجتماعية من صنع مخيلته أم أن هذه المسؤولية تحكمها قوانين فطرية وعقلية لا يمكن القفز فوقها؟ هذا ما يوضحه الإمام الشيرازي في معرض كتابته عن مستلزمات إتقان التحقيق الاجتماعي، والذي أفرد له فصلاً من كتابه القيّم (الاجتماع) فيرى أن على المحقق الاجتماعي (الباحث) مراعاة نقاط هامة منها ما يعبر عنه سماحته (بانتخاب منطلق تحقيقه) ويعرض في هذه النقطة: أن البحث يجب أن يبنى على الواقع الحقيقي للموضوع قيد الدراسة ثم ينتقل إلى النقطة الثانية وهي تشخيص مفردات البحث بحيث يسمي الأشياء بأسمائها لضمان موضوعية البحث ثم يعرج إلى نقاط أخرى منها:

أ - اتخاذ النماذج المختلفة في إرادة إصدار الأحكام الكلية ويمكن اختصار ذلك بضرورة أخذ العينات الإحصائية بالتساوي إضافة إلى عدم التقيد بالزمان أو المكان في الأمور الكلية بحيث يكون البحث شاملاً ويحمل في متنه صدق المضمون.

ب - كشف الأسباب والمسببات وهي إرجاع العلل والنتائج إلى معادلتها الحقيقية بحيث يتجنب الخلط بين هذه المقدمات والنتائج.

ويتفق الإمام الشيرازي هنا مع بعض علماء الاجتماع في كيفية إنشاء البحث الاجتماعي فيقول كابلوف(8) هناك ثلاث مهام أساسية على الباحث أن يواجهها خلال هذه المرحلة من التحضير:

1 - صياغة المشكلة.

2 - اختيار الوسائل الملائمة والدقيقة.

3 - انتقاء عينة ممثلة.

وفي خصوص النقطة الأخيرة لا بد من شموليتها وإلا كانت ناقصة حيث يضيف نفس الكاتب في صفحة أخرى(9) قائلاً: (ومهما كان مصدره - البحث الاجتماعي - فعلى النموذج النظري أن يجيب على المقاييس التالية: الملاءمة، الشمولية، السعة والفائدة.

وهناك مقاييس أخرى تكمل هذه النقاط الأربع(10).

وتبرز مصداقية البحوث والتي يؤكد عليها الإمام الشيرازي في النقاط التي أسلفنا لها في الدراسات والبحوث المبنية على الاختبارات حيث إن بعض الإجابات قد لا تتفق والسلوك الحقيقي للإنسان (عينة البحث) خصوصاً وأن بعض البحوث السوسيولوجية تطلب في استبياناتها أسئلة حول الاتجاهات والآراء بحيث يمكن فرز النتائج من خلال الاتفاق أوعدم الاتفاق وهذا ما يسمى بمقياس اللاضبطية لـ(سرول).

كما أن الإمام الشيرازي يؤكد على موضوعية وحيادية الباحث لأن أغلب الدراسات القائمة تبتعد عن هذين المبدأين ويذهب أحد علماء الاقتصاد (ميردال) إلى حد التشكيك في نزاهة أي بحث اجتماعي فيقول: (إني ألامس هنا مشكلة منهجية أساسية من مشاكل العلوم الاجتماعية، ولما كنت لا أستطيع تقديم جميع أسبابها في هذا الكتاب، كان عليّ أن أكتفي بالتأكيد على أنه لا يمكن أن يكون، ولم يكن هنالك قط بحث (غير مغرض) في المجال الاجتماعي... مهما كانت لدى الباحث من قناعة ذاتية في أنه يكتفي بملاحظة الأحداث وتسجيلها وتحليلها)(11).

رؤية على التطور الاجتماعي

عاش الإنسان ولا يزال حالة التخبط في إيجاد صيغة تنظم حياة المجتمع البشري، وإذا استثنينا عصور الأنبياء والمرسلين والمجتمعات الفاضلة التي يحدثنا عنها تاريخ ما قبل الإسلام فإن كل التجارب تعتبر فاشلة في إدارة الكائن البشري ولما جاءت الرسالة الإسلامية أعطت صياغة متكاملة لنظرية تنتشله من واقع التخبط والغوغائية إلى عالم التنظيم الذي يدخل في أدق تفاصيل الحياة، ولما هجر المسلمون مبادئ النظرية الإسلامية وراحوا يبحثون عن النظريات الناقصة دخل المجتمع الإسلامي في نفس الدائرة المفرغة، وفي العصور الحديثة حاول الإنسان جاهداً البحث عن وسائل تطوير المجتمع البشري فواجه فشلاً ذريعاً والدليل على ذلك النظرية التي نادى بها ماركس ولينين والتي اعتقدا أنها البديل المثالي للرأسمالية ولكنها سرعان ما انهارت في أكبر دولة طبقت هذه المبادئ بل أنهم كانوا يعترفون ضمناً بذلك بالقول (ومهما يكن من عظمة هذا التطور الذي قاد الإنسان خلال آلاف السنين من الحياة شبه الحيوانية، إلى حياة الإنسان الذي يعرف كيف يصنع فأساً من الحجر وكيف يبني مسكناً، فإن الناس بقوا مع ذلك ضعافاً إلى اقصى حد في الكفاح ضد قوى الطبيعة)(12).

ويعزو الإمام الشيرازي سبب تخلف المجتمعات وعدم تمكنها من تجاوز خطواتها المتعثرة إلى نوعية النظام المؤسساتي في النظم التي لا تعمل بالقانون الإسلامي حيث إن في الإسلام ترتبط المؤسسة الدينية بالمؤسسة العائلية والتي هي نواة المجتمع من حيث البناء فالعائلة تتعدد من جهة الزوجية، إذا سمحت بذلك المؤسسة الدينية، بخلاف ما إذا لم تسمح ولذا فإن في العائلة المسيحية بناء وحدة الزوجات وفي العائلة المسلمة بناء تعدد الزوجات إلى أربع.. ونتيجة لذلك إذا تغير دين العائلة تغير بناؤها بأخذ زوجة جديدة أو طلاق زوجة قديمة، وكذلك المؤسسة الحكومية تتدخل في بناء المؤسسة الدينية، فالحكومة المسلمة تسمح للأبنية الدينية بالعمل، بينما الحكومة الماركسية لا تسمح بذلك(13).

والمؤسسات في رأي الإمام الشيرازي يجب أن تقوم على العلمية(14) أياً كان نوع المؤسسة القائمة (فالمؤسسة السياسية - مثلاً - إذا لم تساير العصر (كالاستشارية مثلاً في العصر الحاضر) سقطت عن الاعتبار، وانفض من حولها مرتادو السياسة، إلى مؤسسة عصرية أخرى، تعطيهم متطلبات العصر)(15).

وهذا الأمر هو الذي غاب عن صناع النظريات الاجتماعية الوضعية، فخلال خمسة وسبعين عاماً ظلت الأنظمة الاشتراكية تجتر النظرية الماركسية واللينينية وتكابر وتصر على أنها صالحة لمدة أكثر أو ربما هي نظرية الحياة الأبدية في رأيهم، وقد وضح الإمام الشيرازي نقاط الخلل في هذه الرؤية الخاطئة في كراس وبين ان حتمية سقوطها أمر لابد منه، وبالفعل كانت هذه النتيجة بعد ان عجز صناعها عن الاستمرار(16).

ويرى الإمام الشيرازي(17) ان تطور المجتمع المسلم مرهون بعملية التغيير، فيعتقد ان الجهل والفقر والمرض هي عوارض وظواهر فحسب، وإضافة إلى ضرورة مكافحتها يجب ان تتم العناية الأكبر بالقضاء على أسباب تلك العوارض، أي على أصل المشكلة: أما أصل المشكلة فهو في تبديل الغرب بمعونة حكامه العملاء لأحكام الإسلام وقوانينه التي كانت فيها حياتنا واللازم أيضاً تشكيل (لجان التبديل) لإرجاع قوانين الإسلام الحيوية، ويجزم سماحته بأن الخلاص يكمن في رجوع تلك القوانين الحيوية، فشأن لجان التبديل ان تبدل القوانين الفاسدة إلى القوانين الصالحة، قانوناً قانوناً، لعل الله سبحانه ينظر إلى المسلمين برحمته، وينقذهم مما هم فيه من تأخر وتخلف وضياع...

خاتمة

 إن إلقاء الضوء على مفردات البحث الاجتماعي للإمام الشيرازي بحاجة إلى كتاب خاص حيث إن هذه البحوث والدراسات تناولت كل مفردات المجتمع من العائلة التي كتب سماحته فيها عدة مؤلفات تضمنت الأسرة والشباب والمرأة وكتب في الحضارة الإسلامية وفي التمدن الإسلامي إلى غيرها من عشرات الكتب والمؤلفات، إلا أننا أردنا في هذه الدراسة الموجزة كما أسلفنا تسليط الضوء على الرؤية الإسلامية للمجتمع بصورة عامة، لإزالة شبهة شائعة مفادها غياب النظرية الاجتماعية في الإسلام، والتأكيد على أن علماء المسلمين الربانيين قد وضعوا جل اهتمامهم في صياغتها الحديثة حيث مثل الإمام الشيرازي نموذجاً يحتذى به في هذا المجال، كما وتجدر الإشارة إلى أن هناك الكثير من الكتب والدراسات الاجتماعية الحديثة قد جادت بها أنامل هذا المرجع الإسلامي الكبير تناولت أحدث الإشكالات الاجتماعية وفق رؤية علمية فاحصة مازالت قيد الطبع منها ما تحدث فيها حول السكان والتنمية وتحديد النسل وتأثير التطور العلمي على الحياة الاجتماعية للإنسان المعاصر.

وقد شجعت هذه المبادرات الكبيرة لسماحته الكثير من الباحثين والعلماء المسلمين على التوجه للتوجه للكتابة في هذه المجالات الحيوية، على أمل أن يأتي اليوم الذي تتكامل فيه صياغة النظرية الاجتماعية الإسلامية والجوانب الأخرى التي طرحها الإسلام لصياغة جديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام الذي ينشده المسلم المعاصر. 

1- ميادين علم الاجتماع تأليف مجموعة من أساتذة الجامعات المصرية/ دار المعارف بمصر 1980. 

2- ن.م دراسة الدكتور محمد عودة: ص39. 

3- من أجل نظام اقتصادي دولي جديد/ محمد بدجاوي/ ترجمة د. نجيب حداد. 

4- يذكر سماحته في كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) الموجه إلى الحركات الإسلامية - وكيفية عملها - كيفية بناء الشخصية الإسلامية عموماً، فيرى القارئ ابتعاد البحث عن الموضوع وما يلبث أن يجد هذه المقدمة هي أساس قيام الحركات الإسلامية (راجع المصدر: ص21). 

5- الاجتماع/ الإمام الشيرازي: ج1، ص18. 

6- المصدر السابق: ص39. 

7- راجع كتاب البحث السوسيولوجي، تيودور كابلوف، ترجمة نجاة عباس، دار  الفكر الجديد 1979. 

8- مصدر سابق: ص94. 

9- مصدر سابق: ص96. 

10- Theory and Met hods of social Research, Galtung.

11- نقد النمو/ غونار ميردال، ترجمة: عيسى عصفور - منشورات وزارة الثقافة دمشق 1980. 

12- لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ لـ سيغال دار دمشق للطباعة والنشر ط 3 ص 1971. 

13- راجع كتاب الاجتماع للإمام الشيرازي: ج 2 ص 70. 

14- راجع المصدر السابق من ص 60 إلى 80 . 

15- المصدر السابق. 

16- راجع (نقد المادية الديالكتيكية) و (ماركس ينهزم) للإمام الشيرازي. 

17- راجع دراسات في فكر الإمام الشيرازي، د. أياد موسى محمود، جامعة سسكس لندن.