مجلة النبأ      العدد  52      شهر رمضان  1421      كانون الاول  2000

آفات الاستبداد



في أفكار العلامة النائيني

فرهاد الهيان   ــ ترجمة عباس كاظم

من بين أعلام الفقهاء المعاصرين ممن طرحوا نظرياتهم الفكرية واجتهاداتهم الفقهية فيما يتعلق بالنظم السياسية والتحولات الجديدة في عالم اليوم، يمكن الإشارة إلى فقيه الشيعة المعروف العلامة النائيني المتألق في الجهد البليغ الذي بذله في تنظيره للحركة الدستورية (المشروطة) عبر معالجته لمواضع الضعف وعدم الدقة في قراءة السنن الإسلامية ذلك عندما اعطى للتراث الإسلامي صورة غير متسلطة وغير مبنية على القوة والاستبداد فلقد سعى إلى تقليص الهوة الفاصلة فيما بين إيران اليوم وبين الفكر الغربي. ذلك من خلال محاولته في إثبات عدم مخالفة المبادئ الإسلامية لمبادئ الحركة الدستورية إذا ما تم تنقية هذه الأخيرة من الشوائب.

ولعل من أهم آثاره في هذا الصدد رسالته المعروفة بـ(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) التي تناول فيها رفض الاستبداد وشرح مبادئ الحركة الدستورية ولقد استطاع ومنذ البداية أن يحدد ابعاد المشكلة الرئيسية التي تواجهها الحضارة الإسلامية وايران في تاريخها المعاصر وذلك بعد انهيار عصرها الثقافي الذهبي وحاول توضيحها بشيء من التفصيل. وهذه النقطة هي من أهم النقاط التي يمكن الإشارة إليها في هذا الكتاب.

فالعلامة النائيني يؤمن أن الأمة إذا لم تعترف بهزيمتها وتخلفها ولم تطرح مشاكلها التي تعاني منها بصورة واقعية ونقدية لا يمكنها أن تسلك سبيل التقدم والازدهار ولذلك فقد ازدان كتابه في أولى صفحاته بهذه العبارة:

(إن المطلعين على تاريخ العالم يعلمون بان الأمم المسيحية والأوربية لم يكن لها قبل الحروب الصليبية أي نصيب من العلم والمدنية والنظم السياسية.. وهذا يرجع إلى أحد أمرين.

فأما أن الشرائع التي آمن بها الاوربيون لم تنطو على ذلك، أو انهم حرّفوا تلك الشرائع والكتب، وبعد وقوع تلك الواقعة العظيمة - الحروب الصليبية - عزوا انكسارهم إلى تخلفهم وجاهليتهم فجعلوا معالجة هذا المرض - وهو أساس كل الأمراض - نصب اعينهم وأهم اهدافهم وانطلقوا نحو هدفهم هذا بشوق وحنين، فأخذوا الاصول الإسلامية في حقلي التمدن والسياسة من الكتاب والسنة، ومن خطب ومواقف أمير المؤمنين (ع) وبقية المعصومين. وقد اعترفوا بذلك في تواريخهم السابقة منصفين، واقروا بأن العقل البشــري قاصر عن التوصل إلى تلك الأصول والمبادئ، واعلنوا أن جميع ما حصلوا عليه من الرقي والتقدم، وما وصل إليه المسلمون في أقل من نصف قرن، كان نتيجة للالتزام بتلك المبادئ واتباعها.

إن حسن ممارسة الأوربيين لهذه المبادئ، وجودة استنباطهم واستخراجهم لها، وبالمقابل السير القهقري للمسلمين ووقوعهم تحت نير الاستعباد المذل، وتحولهم إلى اسرى بأيدي طواغيت الأمة المعرضين عن الكتاب والسنة هو الذي آل بأمر الطرفين إلى ما نشاهده اليوم، حتى نسي المسلمون تلك المبادئ، وأخذوا يظنون أن تمكين النفوس لتلك العبودية وذلك الاسترقاق هو من وحي الإسلام، واستنتجوا أن هذا الدين ينفي التمدن والعدالة اللذين يمثلان أساس الرقي، وحسبوا أن الإسلام يخالف العقل، وانه أساس الانحطاط والتخلف)(1).

لقد نقلنا هذه الفقرة المطولة لاهميتها ولأنها تستعرض أهم مشكلة تواجه المجتمع الايراني من الناحية التنظيرية، ويرى النائيني أن الخطوة الأولى نحو التقدم تكمن في الاعتراف اولاً بالهزيمة ومن ثم التنظير لها في مجال دراسة أسباب الانحطاط، ويؤكد أن الغرب كان يعاني من مرحلة التخلف الثقافي والعلمي ولكنه على عكس المسلمين الذين كانوا يرزحون (تحت ذل الاستعباد لطواغيت الأمة) فلقد استطاع بعد ذلك (بحسن التطبيق والاستنتاج) والمثابرة أن يتحرر من الهزيمة النفسية ويخطط للانطلاق.

توضح هذه النقطة، ضرورة التأمل بأنفسنا ووضعنا اولاً ومن ثم رسم آلية للخلاص والتحرر من القيود والطريق المسدود. لذلك وبعد أن يعترف النائيني بروح الهزيمة المستشرية في عموم الأمة الإسلامية وخاصة في ايران، يعزو السبب الرئيس لذلك، إلى طبيعة بناء هيكلية السلطة وطبيعتها الاستبدادية لأن وضع السلطة الاستبدادية يؤدي في رأيه إلى انحسار البعد المعرفي وتقلص العلم في الأمة.

يبدو أن النائيني قد استلهم هذه الفكرة من كتاب (طبائع الاستبداد) لـ(عبد الرحمن الكواكبي)، لأننا إذا تعمقنا في أسس كتاب النائيني نجد انه يقوم على دعامتين:

الأولى: تركز على رفض الاستبداد والثانية: تطرح تنظيراً لطبيعة السلطة الدستورية بحثاً ودراسة ولا شك فأن كتاب طبائع الاستبداد كان مرشده وملهمة الأول في (الركيزة الأولى)، ومن اكثر الآراء عند الكواكبي التي تأثر بها النائيني كثيراً هي معالجته للاسباب الداخلية التي ادت إلى هزيمة الأمة الإسلامية وانحطاطها ذلك لأن الكواكبي قد تأمل بعمق في أسباب التخلف عند الشرق وحددها بالعامل الداخلي وانهيار جبهتها وضعفها، وهو ما اتاح الفرصة للاستعمار في السيطرة على الشرق. يكتسب هذا التعليل أهمية مضاعفة إذا عرفنا أن الكثير من المثقفين والكتّاب يعزون الأسباب في مشكلات الشرق إلى عناصر مختلفة مثل، القضاء والقدر، ذنوب العباد، عدم وجود قيادة سليمة، الموقع الجغرافي والاقليمي، الاختلافات الداخلية، جهل الحكام وما إلى ذلك من أسباب.

لا ينكر الكواكبي هذه الأسباب ولكنه يجعل في مقدمتها مشكلة الاستبداد، ويتساءل، (ما هي حقيقة المشكلة في الشرق وما هو العلاج؟! يقول علماء السياسة في بحثهم عن علم السياسة: إن السياسة هي إدارة المسائل المشتركة على أساس من الحكمة، لذلك يجب أن يكون أول موضوع نبحثه هو الاستبداد، لان الاستبداد يعني إدارة الأمور والمسائل المشتركة على أساس من الهوى).

والاستبداد عند النائيني هو علة العلل في انحطاط إيران وتخلفها عن ركب الحضارة ولذلك اسهب في بحث رفض الاستبداد، فكان ينكر على الشاه (الملك) سلطته المطلقة من جانب ويؤكد على أن تكون السلطة محدودة ومشروطة من جانب آخر. وفي هذا الصدد يقول (يجب أن تحدد سلطات الملك بالقانون).

تلقى اغلب العلماء المعاصرين للنائيني نظريته تلك بمزيد من الترحيب والتأييد وخاصة علماء مدرسة النجف الأشرف واكدوا على ضرورة المزج بين مبادئ الشريعة الإسلامية واصول الحياة البرلمانية، فقد اعتبر الآخوند الخراساني كتاب (تنبيه الأمة) كتاباً يستحق الدراسة والتدريس وأوصى الناس بتخصيص سنة من عمرهم في تعلّمه.

لقد سعى النائيني إلى طرح نمط من الحكم يتلائم مع نظرية الولاية والامامة، واستناداً إلى ذلك قام بتقسيم الحكومات الموجودة إلى حكومات مستبدة ودستورية وكان في رأيه أن الحكومات المستبدة هي المسؤولة عن انحطاط المسلمين وتخلفهم، والسبيل الوحيد للخروج من الأزمة يكمن في تبني الحكومة الدستورية (المشروطة) على غرار الحكومات الغربية.

وحيث يسود الهوى والتحكم الشخصي في هذا النوع من السلطة، ويبدو نوعاً من الملك الشخصي، لذا فانه يسمى استبداداً وتحكماً واعتسافا وتسلطاً، وأما وجه هذه التسمية ونسبة هذه الأسماء إلى مسبباتها فظاهر واضح، وصاحب هذا النوع من السلطة يسمى بالحاكم المطلق والحاكم بأمره ومالك الرقاب والظالم والقهار وامثال ذلك.

ولهذا النوع من السلطة درجات تتفاوت تبعاً لطغيان السلاطين من جهة، وادراك الأمة لموقفها من جهة ثانية. وتبعاً لدرجة التوحيد عند الأمة ومدى استعدادها لاشراك السلاطين مع الله سبحانه في (فاعلية ما يشاء والحاكمية بما يريد وعدم المسؤولية عما يفعل) إلى غير ذلك من الأسماء الإلهية والصفات الاحدية من جهة ثالثة، والأمة المبتلاة بهذا الأسر والقهر والذلة تسمى أسيرة وذليلة ومسترقة(2).

إن الحكومات التي تعتمد إرادة الحاكم الواحد وصلاحياته غير المحدودة في إدارة الدولة والحكم تسمى حكومات مستبدة أو مطلقة، أما فيما يتعلق بالحكومات الدستورية (المشروطة) فهي على عكس ذلك تعتمد رأي الأكثرية وارادتهم.. يقول النائيني (أن لا تقوم السلطة على المالكية ولا القاهرية ولا الفاعلية بما يشاء ولا الحاكمية بما يريد، وإنما على أساس إقامة تلك الوظائف والمصالح النوعية المطلوبة من السلطة وان تكون اختيارات الحاكم محدودة بحدود هذه الوظائف ومشروطة بعدم تجاوزه حدود الوظائف المقررة عليه)(3).

وبعد أن يحدد النائيني طبيعة نوعين من الحكومات المتباينة في الأسس والقواعد يتطرق إلى شرح عوامل الانحطاط والتخلف، ويبحث في السبل الكفيلة للخلاص منها فيرى أن استبداد الحاكم هو السبب الأول في التخلف وهو من أهم العوامل المؤدية إلى انحسار الفكر والعلوم واشاعة الجهل وان السبيل الوحيد للخلاص من ذلك الواقع المتهرئ هو إقامة حكومة مقيدة بالدستور يحكمها القانون، ذلك لان الاستبداد في جميع حالاته وألوانه قائم على الاذلال والقهر ومصادرة الحريات بينما الحكومة الدستورية هي (حافظة للمصالح العامة وحارسة لها، تقوم على أساس من القسط والعدل) والشعب الذي يحكمه هذا النمط من الحكومات هو شعب حر ينبض بالحياة، وعليه يمكن اعتبار الاستبداد والاستعباد عامل الانحراف الأساس والوحيد، في حين أن اطلاق الحريات هو العلاج الأمثل والوحيد لهذا الداء، فاقامة الحكومة الدستورية المقيدة بالقانون تلعب دوراً مهماً في توفير الحريات اللازمة للقضاء على الداء.

ويذكّر النائيني أن ذلك لا يستدعي فقدان الروح الوطنية وروح الانتماء للوطن والدولة والدفاع عنها لان التنكر لذلك هو نوع من الخيانة، ويعتقد أن لغة الحوار والتفاهم يجب أن تطغى على مقولة اقتدار الحاكم واكسائه بهالة من الكمالات الإنسانية التي كانت سائدة في العهود السحيقة لان الحاكم ومهما بلغ من الرفعة والسمو فهو إنسان في حقيقته ويفتقر إلى مثل هذه الصفات التي تطلق عليه ولذلك ومن اجل سد النقص يبقى الحل الوحيد هو تكريس (المساواة والتعاون) من اجل التكامل، فيقول: (ومع فقدان مثل هذه الشخصية المباركة يصعب الحصول على سلطان هو كأنوشيروان(4) المستجمع لصفات الكمال، وله من الحاشية مثل بوذرجمهر(5) في ذهنيته العلمية، وفي استعداده لأن يكون حاشية تأخذ على عاتقها المراقبة الكاملة والمحاسبة التامة، على أن حصول مثل هذه الشخصيات لا يعد وافياً بتمام المقصود، ولا يغني عن مشاركة الأمة في السلطة ومساواتها مع السلطان. وسد أبواب الاستئثارات عليه، واطلاق حرية الأمة في إبداء الرأي امامه والاعتراض عليه، لأن أمثال هذه الشخصيات ترى سلوكها نوعاً من التفضّل لا الاستحقاق، رغم أن الحصول على أمثال هذه الشخصيات أندر من العنقاء وأعزّ من الكبريت الأحمر، وإطّرادها أمر ممتنع) (6).

ولكن من ضروريات الحكومة أو الدولة السيطرة على جميع مراكز القوة في المجتمع، والإنسان بطبيعته معرض لسطوة النفس التي تزين له تجاوز القانون ومصادرة حريات الآخرين لذلك يتحتم أن تكون السلطة بأيد أمينة تستطيع أن تسيطر علـــى جموح النفس ولا تطغى على الآخرين وتسلبهم حرياتهم، ولا نجد غير المعصومين (ع) يتميزون بهذه الصفات وهذه القدرة العديمة النظير.

لعلّه من الممكن العثور على بعض الحكام الصالحين الذين جعلوا نصب اعينهم مراقبة ومحاربة الانحرافات في الأمة وجل همهم تحقيق العدالة والاصلاح والحرص على مصالح العامة إلا أن ذلك نادر في التاريخ، وعليه لا يبقى حسب رأي النائيني من سبيل سوى إقامة حكومة دستورية تقوم على أساس القانون الذي يقوم سلوك الحكام ويمنعهم من الطغيان وفقاً للضوابط القانونية ويحفظ للأمة حقوقها وممارسة حريتها، هذه القوانين التي يطلق عليها النائيني (القوانين الرادعة) هي التي ستمنع الحاكم وتردعه عن الجنوح إلى اهوائه النفسانية وتغليبها في ظلم الأمة، ويدعو النائيني لتحقيق ذلك إلى إنشاء مؤسسات رقابية ورادعة تشرف على تنفيذ هذه القوانين.

وتحاكي أفكار النائيني أفكار الكواكبي عندما يطرح مسألة الاستبداد الديني والسياسي فيعتقد أن الاستبداد الديني اشد وقعاً وتأثيراً من الاستبداد السياسي لأن هذا الأخير من السهل علاجه - هكذا يرى - وقد كان الكواكبي قد ربط بين هذين الاستبدادين ربطاً جدلياً في كتابه طبائع الاستبداد وبحث فيه بصورة جدية و ومسهبة وخلص إلى نتيجة (أن الاستبداد السياسي هو وليد الاستبداد الديني) إلى درجة تجعلك لا تجد مجتمعاً ينتشر الاستبداد الديني فيه يخلو من الاستبداد السياسي، ولتوضيح ذلك يقول (هناك تلازم لا ينفك بين الاستبدادين الديني والسياسي وعندما تجد أحدهما في أي مجتمع فان الثاني لابد أن يوجد، وإذا زال احدهما فان الثاني زائل لا محالة وهذا يعني إذا صلح احدهما سيصلح الآخر تبعاً له، والشواهد على ذلك كثيرة وتبرهن على أن تأثير الدين اكبر واقوى من السياسة ولا يخلو زمان أو مكان منها، وعندما تريد إصلاح السياسة فان اسهل الطرق واقصرها إلى ذلك هو إصلاح الدين) ولذلك يعتبر الكواكبي السياسة بأنها تتحكم بالجسم بينما يتحكم الدين بالروح وان هناك تلازماً وضرورة لتكميل احدهما الآخر، فعندما يقع الاستبداد على الجسم فانه قبل ذلك كانت الروح قد تعرضت له. لذلك كان الدين الذي يروج له المستبدون هو ذلك الدين القائم على الترهيب والتخويف المبالغ فيه والذي يؤدي بدوره إلى خلق حالة من الرهبة والخوف الاجتماعي واستشرائه بين أفراد المجتمع لذا يرى الناس العاديون في الظالمين الذين يحكمونهم صفات واسماء وحالات لا تليق إلا بالله، فيرفعون مكانة حكامهم إلى درجة يشتركون مع الله في صفاته واسمائه بحيث لا يمكن للبشر العادي أن يصل إليها فمثلاً ما الفرق بين صاحب الجلالة وعزوجل، أو بين فعّال لما يريد وبين الحاكم بأمره وبين الله الذي لا يسأل عما يفعل وبين الملك الذي يتمتع بالصيانة فلا يتعرض للمساءلة والمحاسبة أو بين المنعم الحقيقي ووليّ النعمة، ولذلك فانهم يعظمون ملوكهم وجبابرتهم كما يعظمون الله).

من هنا كان الاستبداد السياسي يروج للدين الذي يخدم مصالحه ويقوي نفوذه ومن هنا أيضا كان طريق إصلاح الاستبداد يبدأ اولاً باصلاح الدين لكي نتمكن أن نتأمل خيراً من الإصلاح السياسي.

 بهذه الخلفيات الفكرية سعى النائيني إلى معالجة مشكلة التخلف والانحطاط وباسلوب آخر فيقول (ومن هنا تظهر جودة استنباط بعض علماء الفن عندما قسم الاستبداد إلى استبداد سياسي وآخر ديني، وربط كلاً منهما بالآخر، واعتبرهما توأمين متآخيين يتوقف أحدهما على الآخر، وقد اتضح أيضا أن قلع هذه الشجرة الخبيثة والتخلص من هذه الرقيّة الخسيسة لا يكلفنا اكثر من الوعي والانتباه. وهو في النوع الأول اسهل منه في النوع الثاني الذي يصعب علاجه، وربما يؤدي أيضا إلى صعوبة العلاج في النوع الأول أيضا)(7).

ويرى النائيني في قرائته التاريخ الايراني أن هناك باستمرار تلازماً وارتباطاً بين نوعي الاستبداد. ويتطرق في بحثه إلى انحراف وانهيار المذهب العقلي في التراث الايراني لكونه نظر بسطحية وسذاجة إلى مبادئ الشريعة واستنبط منها احكاماً تخالف المذهب العقلي والعلمي فتعرض لها بالانتقاد الشديد وصنف هذا النمط من التفكير والنظرة إلى الدين في خانة الشرك بالله، وعندما يعتبر نبذ الشرك بجميع انواعه من أعلى مراتب العبودية الخالصة لله عز وجل فان التخلص من الاستبداد وبسط الحريات يعتبر بدوره خروجاً من القيود المادية والحيوانية وعروجاً في سماء الشرف والمجد الانساني، ويسترسل النائيني بعد ذلك في بحث الأسس الدينية التي تقوم عليها الحرية ومبادئ نبذ ورفض الاستبداد بكل أنواعه.

ويبني نظريته على حصر عامل الانحطاط والتخلف والانهيار بالعوامل الداخلية الذاتية في الأمة وسببه الرئيسي الكامن في الاستبداد ويؤكد أن الطريق الوحيد للانقاذ يتلخص في أقامة حكومة دستورية تستند إلى القانون. ولذلك فهو يطرح مفهوم (الحكومة الإسلامية الحقيقية) على أنها الآلية العملية للخلاص من الاستبداد والانحطاط.

وفي هذا المضمار سعى بجدية إلى استخدام المقولات المعاصرة الغربية في قالب إسلامي تراثي مع العلم بان التراث السياسي في إيران تتحكم فيه مفاهيم الملكية السلطوية المطلقة ولا يمكن استئصالها بسهولة، ولكنه استطاع أن ينظّر لهذه الفكرة (السلطوية) مفاهيماً تتناغم مع مفهوم الجمهورية، وخاصة مقولتي الحرية والمساواة اللتين تتميز الحكومة الإسلامية بهما عن غيرها.

يقول النائيني (فان حقيقة السلطة من وجهة نظر الإسلام وجميع الشرائع والأديان السابقة تعود إلى باب الامانة وولاية أحد المشتركين في الحقوق الإنسانية العامة، من دون أن تكون هناك أية مزية للشخص المتصدي. إن تحديد السلطة لئلا تؤول إلى الاستبداد والقهر هو من اظهر ضروريات الدين الإسلامي بل جميع الشرائع والاديان، ومن الواضح أن كل مظاهر الظلم والعدوان والاستبداد قديماً وحديثاً تستند على طغيان الفراعنة والطواغيت وتزويرهم للحقائق) (8).

ويعتقد النائيني أن الحكومة الإسلامية كانت قد اتخذت شكلها النهائي قبل فترة حكومة معاوية على الأمة الإسلامية إلا أنها انحرفت تدريجياً وغلبت عليها النزعة الفردية الديكتاتورية، عند استيلاء معاوية على الحكم.

ولذلك يشرع في الحديث عن الحكومة الإسلامية الواقعية ويعدد مزاياها، واول ما تمتاز به الحكومة الإسلامية هو تقييد سلطة الحاكم بقيود القانون ويقصد بذلك (عدم جنوح الحاكم للاستئثار بالحكم طبقاً لارادته وهواه) وبهذه الملاحظة الدقيقة يشير النائيني إلى التفاوت البارز بين الحكومة الإسلامية الحقيقية والحكومة التي اقترنت باسم بني امية في التاريخ الإسلامي، ففي النوع الأول تكون الحكومة محدودة بحدود القانون وينظمها الدستور وليس للحاكم الحق في تجاوزها واستعمال نفوذه في الحكم ولكنها في حكومة بني أمية قد نحّت الضوابط القانونية جانباً لتحل محلها إرادة السلطان المطلقة في التصرف بالحكم.

والميزة الثانية التي تميز الحكومة الإسلامية الحقيقية عن غيرها هي حفظ مكانة الفقهاء فيها، فيورد رأي الإمامية في زمن الغيبة بايكال جميع المهام وخاصة ما يتعلق منها بأمور الحسبة والحفاظ على نظم الدول الإسلامية إلى الفقهاء الجامعين للشرائط وبذلك تحتفظ الحكومة الإسلامية الحقيقية بحلقة الوصل التي تربطها بالمذهب، وعلى أية حال فان هذه القضية لا تمس اصل موضوع محدودية الحكومة الإسلامية بالقانون لا من قريب ولا من بعيد.

والخصوصية الثالثة التي تمتاز بها الحكومة الإسلامية الحقيقية هي في تأسيس مجالس وهيئات رقابية تضطلع بمسؤولية الاشراف والرقابة على سلوك وتصرفات الحاكم لكي لا يحيد عن القانون أو يتجاوز الدستور، وبذلك سيكون الحاكم ملزماً باتباع القانون ومقيداً به وذلك في جميع المراتب من الحاكم الأعلى وحتى اصغر موظف فيها مروراً بحكام الولايات وتعرضهم دائماً للمساءلة والمحاسبة، وهذا التفاوت في صيغة الحكم مطلوب عقلاً وشرعاً ويعتبر من الواجبات في الحكومة الإسلامية الحقيقية. فهو يرى أن الدستورية والتقيد بالقانون ستلعب دوراً مهماً في تحديد سلطة الحاكم ويشبّه الحكومة الدستورية برسول الحرية والعدالة والمساواة.

وأما الميزة الرابعة التي تختص بها الحكومة الإسلامية الحقيقية فهي في قيامها على أساس الشورى، وعندما يقارن النائيني بين فترة ما قبل وما بعد حكومة معاوية يرى أن تألق نجم المسلمين في النصف الأول من القرن الأول الهجري كان بسبب (كون الحكومة الإسلامية حكومة عادلة تعمل بمبدأ الشورى وترفع شعار الحرية وتسوّي بين آحاد المسلمين وبين الخلفاء وبطانتهم في العطاء والقانون) (9).

ولكنها تحولت في فترة معاوية وحكومته إلى سلطة جائرة مستبدة في الوقت الذي كان يجب أن تقوم الحكومة الإسلامية الحقيقية على أساس من الشورى ومشاركة الأمة في القرار السياسي وصنعه وفي حكمهم لانفسهم.

لقد ادرك النائيني السبب الرئيسي لتراجع المسلمين وتخلفهم عندما لم يسمح للأمة بالمشاركة في صنع القرار السياسي وأبعدت عن مصدر القرار فتفوق عليهم المسيحيون والاوربيون وكان ذلك نتاجاً طبيعياً (لخلود المسلمين إلى ذل الأسر والاستعباد، ورزوحهم تحت نير حكم استبدادي موروث عن معاوية، واستئثار الحكام بالحكومة والسلطة التي نصت عليها الشريعة الإسلامية) (10).

ويقرر بعد ذلك طريق الخلاص من ذلك في إقامة (حكومة دستورية تستند إلى قوانين الاسلام) وفي رأي النائيني (إن حقيقة السلطة الإسلامية هي الولاية على مجريات سياسة أمور الأمة... وبما أنها تعتمد مساهمة جميع أفراد الشعب في أمور البلاد...، لذا فهي تكرس مبدأ التشاور مع عقلاء الامة).

وعندما يبحث النائيني في الحكومة الإسلامية وينظّر لها يرى أنها السبيل الوحيد للنهوض بالأمة من سباتها وتخلفها وانحطاطها ولذلك ادرك ما عجر الآخرون في فهمه وهو ضرورة المزج بين السنة الإسلامية وعلوم الغرب الحديثة عن طريق البحث عن الأسس الدينية للمفاهيم الجديدة مثل الحرية، المساواة، المؤسسات الرقابية، ومجالس الشورى وتلاقحها وتأليفها مع التراث الإسلامي.

هذا التأليف والتلاقح فيما لو وجّها الوجهة الصحيحة لاستطاعا أن يغنيا الفكر والعمل السياسي الإسلامي.

إن المحاولات التي قام بها النائيني فتحت الآفاق على الصعيد النظري للقيام بمطالعات ودراسات واسعة فيما بعد وما اطروحة (الجمهورية الاسلامية) إلا نتيجة لتلك الجهود المضنية، ومن هنا نستطيع تقييم جهود العلاّمة النائيني الموفقة في طرح مشكلة الانحطاط والهزيمة وتحديد السبل الكفيلة بانهاض المسلمين مرة أخرى.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي ينظر فيها إلى مشكلة الانهزامية والتخلف من هذه الزاوية على كونها نتائج طبيعية ومنطقية لحالة الجهل والجمود وعدم مشاركة الأمة في إدارة الدولة وعدم وقوفها على حقوقها وواجباتها، ويقوم فيها بشرح الآليات العملية للخلاص والنهوض بالأمة وردم الهوة العميقة بين إيران اليوم والغرب.

وفي الحقيقة فان النائيني عندما طرح موضوع السلطة والحاكمية ونظّر للدولة على الصعيد النظري والعملي ونوه إلى طبيعة الحكومة الإسلامية الحقيقية، وانتقد السلطات الإسلامية المغتصبة وفي دفاعه عن الدستورية فانه قد أثار مشكلة الحضارة الإسلامية الكبرى التي أصبحت واضحة بعد أن ترسخ المذهب العقلاني الغربي في العالم.

1- تنبيه الأمة، ص93-94. 

2- تنبيه الأمة، ص101-102. 

3- تنبيه الأمة، ص103. 

4- ملك ايراني وصف بالعدل، عاش بين عامي 531-579م. 

5- حكيم ايراني عاصر كسرى أنو شيروان وكان من وزرائه. 

6- تنبيه الأمة وتنزيه الملّة، ص104. 

7- تنبيه الأمة، ص114. 

8- تنبيه الأمة، ص129. 

9- تنبيه الأمة وتنزيه الملّة، ص137. 

10- تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ص137.