2000 تشرين الاول |
1421 رجب |
العدد |
|
مجلة |
لأصالة التأسيس |
|
معطيات نقدية |
السيد مصطفى السادة |
الخطاب الثقافي يمثل الآلية التي يتعاطى بها المهتمون بهذا الشأن في سبيل طرح وايصال المفاهيم الإسلامية إلى الناس لتكون حركة من حركات المجتمع أو سلوكاً من سلوكياته أثناء تواصله مع الواقع. ولكن المتأمل في حركةهذا الخطاب يجد ثمة فارقاً بين طبيعته الخطابية في هذين العقدين الأخيرين وطبيعته قبل ذلك، فقد كان الخطاب يقرأ في تلك العقود بأنه خطاب منفعل عن خطابات أخرى تحمل أيديولوجية مغايرة من الناحية الفكرية، بينما يمكن القول أننا نجد تحولاً في طبيعة الخطاب في العقد الأخير من التسعينيات وبداية الألفية الثالثة فهو أقرب إلى كونه فاعلاً ومؤسساً وهذه الخاصية باتت مقروءة لدى المهتمين والمتابعين للأدبيات الثقافية الكثيرة التي شكلت ظاهرة في الساحة الثقافية هذا يدلل على كون المشروع الثقافي الإسلامي بات مطروحاً بقوة متمثلاً في كثرة النشرات اوالدوريات الثقافية والفكرية، ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن هذه الأدبيات أو الخوض في جدلية المفهوم من هذا المصطلح، ومدى قدرة كل أدبية على عكس المفاهيم صحيحة فكل منا يحمل تصوراً - بسيطاً أو معقدا - قد يتفق أو يختلف مع الآخر في تحديده، وهذا التصور - ضرورة - يخضع لنوعية وطبيعة الابستمولوجيا التي يستقيها كل واحد منا ثم ان محاولة استقراء أو استقصاء التحديد الخاص لهذا المصطلح قد يحرمنا من الهدف الأساسي لما نحن بصدد البحث عنه في هذه الدراسة المخصصة لمعالجة أمور مهمة تحتاج إلى قراءة دقيقة متأنية حتى يستطيع أن يخرج الباحث بنتيجة مفيدة تكون في متناول القراء والمتابعين لحركة الخطاب الثقافي الإسلامي. وقبل الشروع في دراسة هذه العناصر المتماسة مع واقعنا الثقافي الذي يتعاطى الكلمة - بما لها من مدلول واسع - نرى انه من اللازم والمفيد أيضا ذكر عدة نقاط تكون بمثابة المدخل. |
(1) |
واحدة من أهم الخصائص التي يمتاز بها الدين الإسلامي والتي تعد من أهم الخصوصيات هي اهتمامه وتركيزه على المعرفة، وضرورة التفاعل معها، أو لشدة هذا الاهتمام كانت المعرفة هي اول آية نزلت على قلب النبي(ص) وخوطب بها في غار حراء كما ورد في النقل، فقد ورد أن أول آية نزلت في القرآن الكريم (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم...)(1). وغيرها آيات عديدة نزلت تقرر أهمية هذا المبدأ كقوله تعالى (نون والقلم وما يسطرون)(2) وقوله تعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات)(3) وغيرها من الآيات بل نجد أن القرآن تحدث عـــن المعرفة وادواتها (والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شـــيئاً وجعل لكم الســــمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون)(4). وبرجوعنا إلى الآية الأولى (اقرا.. ) نجدها تقرر مبدئين معاً، فهي من جهة تقرر مبدأ المعرفة وليس مطلق المعرفة إنما تلك المعرفة المقرونة باسم الله وهذا يوحي بضرورة كون المعارف والثقافة التي يتحصل عليها الفرد هادفة وبعيدة عن الترف الثقافي. وهذه خاصية يمتازبها الدين الإسلامي حيث يقوم بتأمين الطرق السليمة للثقافة فهو دين لا يكتفي بمخاطبة الجانب الروحي عند الإنسان، وإنما يخاطب أيضا الجانب العقلي ويتحدث مع كل جانب بما يناسبه من المفردات ويتوافق مع طبيعته واستعداده ليستطيع الولوج إلى عالمه وتفعيله. ولذا فقد جعل القرآن الدليل طريقاً إلى مخاطبة العقل، عن طريق القضايا البرهانية، وضرب الأمثال المختلفة (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)(5). (وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)(6). وخاطب الجانب الروحي بخطابات تتماشى مع طبيعته وجبلّته وقدرته الاستعدادية على التفاعل معها فجعل النفس الإنسانية محور الخطاب ومركز التوجيه والبعث محاولاً ايقاظ هذا الجانب والدخول إلى مكامن النفس وعالمها الغامض عن طريق الحديث عن الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون)(7) وقوله تعالى (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم..)(8). ويمكن ارجاع هدف القرآن من كل ذلك العمل على بعث الإنسان نحو الهدف الأسمى وهو العناية من الكدح في هذه الحياة (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)(9) وبهذا يتحقق كمال الإنسان. |
(2) |
الإنسان - بذلك - هو الوحيد القادر على تحقيق الذات والتكامل - المعرفي وغيره - كما يقول القرآن (وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون) عن طريق تفعيل هذه الأدوات وفي سبيل ذلك ارسل له الأنبياء والكتب وتمثلت وظيفتهم الأساسية في إثارة عقل الإنسان وتذكيره كما قال تعالى (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)(10). وازالة الموانع والمعوقات النفسية وغيرها (ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم)(11) وفي سبيل تحقيق ذلك خاض الأنبياء(ع) والمؤمنون برسالاتهم مواجهات عديدة لأجل الحفاظ على الإنسان، وازاحة كل المشكلات التي يمكن أن تقف في الطريق خصوصاً تلك التي كانت بمثابة الموروث الثقافي السلبي بهدف استبداله فوضعوا تراكماً ضخماً من المعارف قادراً على إحداث الانقلاب، ولذا تعرض إلى عدة عمليات طمس بهدف اغفاله والحيولة دونه ودون الوصول إلى عقول الناس. وما نواجهه اليوم من تحديات في مختلف الصعد هو في حقيقته يعود إلى التحدي الثقافي بالدرجة الأولى، وهو حلقة من حلقات الصراع المستمر بغرض مسخ الهوية الإسلامية. |
(3) |
الدين الإسلامي يمتاز أيضا بأنه دين ليس لطبقة معينة أو جماعة أو قومية أو عرق فهو دين عالمي قادر على استيعاب الجميع (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين)(12) ويحمل ثقافة شمولية ذات امكانات عالية وكبيرة، وهي ثقافة أصيلة تمتاز بقدرتها على التفاعل مع العصر واستيعاب المعاصرة وهذه خصوصية تفوق الثقافات الأخرى وترتقي عليها فهي تمتاز ببعدها الإنساني الروحي والعقلي وهي اقدر من العولمة الثقافية بمفهومها المعاصر. لأن بطبيعتها ثقافة عولمة وثقافة عالمية ليست مرتبطة بأمة وليست مرتبطة بلغة أو شعب وقيمها قيم إنسانية ذات طبيعة اخلاقية مهيئة على أن تكوّن مجتمعاً متعاونا متكافئاً في سبيل الأفضل(13). فهي تنطلق من الدعوة القرآنية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم..)(14) وقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس..)(15) حيث تقرر الآيات مبدأ الاشرفية والأفضلية للثقافة الإسلامية وقدرتها على أن تكون في مرتبة الثقافة الشاهدة. ومن الحقيقة الإقرار بتوفر هذه العناصر والآليات جميعاً في الثقافة الإسلامية مما يؤهلها لديمومة البقاء والاستمرار قياساً بالثقافات الأخرى لعدم قدرتها - الثقافات الأخرى - على مخاطبة البعد الإنساني الروحي بخلاف الثقافة الإسلامية، ومن هنا تأتي اهميتها وأهمية الخطاب الثقافي. |
الثقافة قضــية مهمة لأي مجتمع بعيداً عن نوعية وطبيعة الايديولوجية التي تحملها تلك الثقافة، وأهميتها الرئيسية نابعة من أن المجتمع الذي لا يملك خصوصية ثقافية فهو لا يستطيع أن يبني له مجداً أو حضارة، وهي من أهم عوامل التغيير في الأمم والشـــعوب كما يقول القرآن (إن الله لا يغــــير ما بقـــــوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(16) وقوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيراً لنعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)(17) والمجتمع المقهور ثقافياً لابد أن يكون منهزماً عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ومن هنا يأتي الحديث عن الخطاب الثقافي، وعن مدى قدرته في الوقت المعاصر في إبراز المشروع الثقافي الإسلامي واظهار المفاهيم والقيم الثقافية، وعن معوقات الحركة الثقافية، ومقوماتها، ومدى قدرة المتعاطين بهذا الشأن على الوصول إلى المجتمع بخطاب حضاري متطور ومن هنا نقول: أولاً: ينبغي التعرف على دقة المرحلة الراهنة وخطورة المرحلة المقبلة التي بدأت معالمها بالبروز بعد ما عرف (بالنظام العالمي الجديد) أو (نظام القطب الواحد) وتحددت أهدافه أثناء حرب الخليج الثانية فيما عرف (بغزو العراق للكويت) في أغسطس 1990م. ونحن اليوم أمام تحديات كبيرة ليس في مجال القوى الحيوية وحسب، وإنما في مجالات عديدة، وأهمها الجانب الثقافي منشأ ما عرف (بالغزو الثقافي) فالأمة الإسلامية كانت ولا زالت تستهدفها الدسائس والمؤامرات الاستعمارية بدءاً من الحملات الصليبية الأولى، ووعد بلفور 1917م لليهود بإقامة دولة وكيان مستقل لهم في الشرق الأوسط - البلاد الإسلامية - والذي توج باحتلال فلسطين عام 1948م ولا نزال نعاني من الآثار السلبية لهذا الاحتلال سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الاجتماعي حتى برز مؤخراً ما عرف بمصطلح (التطبيع الثقافي قبل السياسي) ومؤشراته كثيرة منها: * الشبكات والقنوات الفضائية المختلفة الداعية إلى التطبيع الثقافي عن طريق استضافة المثقفين الصهاينة. * ظهور عدة دوريات ونشرات تدعو بشكل أو بآخر إلى القفز على الماضي وكل الموروث الديني ونسيان كل الحق المسلوب والتطبيع مع اليهود الصهاينة. * ظهور نخبة من المثقفين العرب والمسلمين المغتربين برزت على شكل تجمعات تشكل عامل ضغط ثقافي يمارس التطبيع الثقافي ويدعو إليه. وجعل اعضاؤها من المثقفين في الوطن العربي والإسلامي يمارسون مهمة التعاطي الثقافي - الكتابة، الفن، والخطاب مما يدعونا - حسب التسلسل المنطقي للقضية - إلى القول أن الخطاب الثقافي الإسلامي أمام تحديات جسيمة وخطيرة على رأسها (مشروع العولمة) الذي هو في حقيقته مشروع ثقافي يهدف إلى عولمة كل شيء في حياة المسلمين عولمة القيم والاخلاق والثقافة أولاً وقبل عولمة أي شيء آخر، وهذا ليس بالضرورة أن تصنف الثقافة الإسلامية في جانب الضد للعولمة كمفهوم لأن الإسلام دين العولمة أيضا فهو دين عالمي، إنما مصاديق العولمة هي التي تهدف إلى سلخ الأمة الإسلامية من كل قيمها واخلاقها(18). وهذا هو الافتراق الخطير لثقافتنا الإسلامية، وباتت أمتنا في معرض الدفاع عن نفسها وثقافتها بعد أن كان الآخر هو المدافع والقلق من انتشار الثقافة الإسلامية مما يعني أمرين مهمين: أ. ضعفنا - وليس الثقافة الإسلامية - كأمة أمام الآخر ففرض هيمنته وسيطرته على مقدراتنا - بما في ذلك الثقافية - واستطاع تمرير دسائسه ومخططاته. ب. عدم فهمنا لتراثنا فهماً حضارياً نستطيع من خلاله مخاطبة العالم المعاصر وأيضا المفاهيم والقيم الإسلامية، وقدرتها على استيعاب الثقافات الأخرى، وهذا الأمر - عدم النهج الصحيح - أدى إلى تشوش المشروع الثقافي لدى كثير من الناس سواء في الداخل أو الخارج، لأن الخطاب الثقافي له جهتان: * جهة الداخل: حيث معالجة وايضاح المفاهيم وتقريبها إلى الناس الأمر الذي يلزم معرفة المهتمين بهذا الطرح بمفاهيم ومصطلحات المصادر الإسلامية حتى يكونوا قادرين على اظهارها بشكل صحيح. * جهة الخارج: وهي الجانب الدعائي للدين، وهي مسؤولية مهمة وخطيرة تحتاج منا إلى حس مرهف وقدرة تناول للمصطلحات والمفاهيم. ومن هنا نحن مدعوون إلى أن نعيد دراسة وقراءة المصادر الفكرية والثقافية للعقل المسلم المعاصر قراءة - دقيقة وصحيحة ونقدية جادة بشكل علمي منهجي مستفيض يقدم رسماً تشريحياً له بكل مكوناته المؤثرة فيه بإيجابياته وسليباته، بمدخلاته ومنــــتجاته، طريقاً إلـــى التبديل الثــــقافي المنشود وإلى بعث الأمة المسلمة من جديد(19). |
وقد تكون هذه الدعوة من الأمور الصعبة على بعض المتصدين للعمل الفكري ومهمة الدعوة والتوجيه الثقافي لأنها دعوة إلى نقد الذات قبل نقد الآخر مما يعني الوقوف في خانة المنتقد - بصيغة المفعول - وهذا لا يقبله أغلب المتصدين للعمل الثقافي، ولكنهم يعيشون نشوة الانتصار حين يوجهون سهام اقلامهم النقدية إلى الآخر وثقافته لا بغرض البناء إنما بغرض الهدم، فهو يجيز لنفسه حقاً لا يستطيع دفعه للآخر لكي يمارس عليه دور الناقد. وحين نمارس دور النقد - إن جاز لنا - لخطابنا الثقافي فإن ذلك من باب ممارسة نقد الذات ومحاسبتها كما قرر القرآن (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد.. )(20) وكذلك في روايات كثيرة وردت عن النبي الكريم(ص) وآله الطاهرين(ع)، فقد ورد عن الرسول(ص) (حاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا..)(21) وقول الإمام علي(ع) (حاسب نفسك لنفسك)(22). فلابد أن نمارس هذا الحق على الذات قبل ممارسته على الآخر لأننا بحاجة إلى ثقافة جديدة وموضوعية تستلهم من الإسلام مفاهيمه ومن القرآن خطوطاً عامة تفهم تفاصيلها من خلال السيرة على هدي السنة الشريفة التي تكفل بها أئمة أهل البيت(ع) في أحاديثهم الكثيرة والتي تمثل كنوزاً من المعرفة الإسلامية العميقة(23). وهذه الممارسة ينبغي أن تقودنا إلى قضية مهمة طالما شغلت الساحة وعملت على تمزيق الصف الواحد وهي إثارة القضايا الترفية التي لا تصب في خدمة الهدف والساحة الإسلامية العريضة، مما جعل الأمة اشتاتاً وجماعات وجهات، وعوضاً عن ذلك لابد من الانشغال بالقضايا الرئيسية المهمة التي نعالج فيها قضية اجتماعية أو نؤسس فيها مبدأً معرفياً يدل الانشغال بالتراشق الإعلامي مما يسيء إلى ادبياتنا الثقافية وهذه هي مسؤولية الكلمة التي ينبغي أن يتحملها المهتمون بالشأن الفكري والثقافي (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولاً) (24). ويمكن أن نؤسس على ما ذكر انه مما لابد منه اعادة النظر في خطابنا الثقافي وطريقة تعاطيه مع الواقع الاجتماعي بنقله إلى عقلية الألفية الثالثة التي تشابكت فيها الثقافات وباتت كل ثقافة تستفيد من الأخرى، وهذا ليس مدعاة للتخلي عن قيم الأصالة وثوابت الدين والاندفاع نحو الاستلاب الثقافي وسقوط الهوية والخصوصية الإسلامية. |
من المؤكد أن مستقبل كل أمة وثقافة مرتبط بمدى الفهم الصحيح للمفاهيم والعناصر لأن الثقافة هي محاولة للتأكيد على أهمية التراث وقدرته على رفد الأمة ومدها بما تحتاج إليه في مواجهة المحن والأزمات، ومن هنا لابد من القراءة السليمة للمفاهيم والقيم الثقافية لأنها الحصن المنيع الذي تلجأ إليه كل أمة لمعالجة أزماتها التي عادة ما تبدأ حين تبدأ أزمة الثقافة والفكر. ووجود أزمات سياسية أو اجتماعية... مؤشر على وجود الفهم الخاطئ والقراءة الناقصة للتراث كما هو الحال في أغلب قراءاتنا للتراث الثقافي والمفاهيم الإسلامية فتولدت الأفكار والقناعات بناءاً على الفهم مما أدى إلى حصول تراكمات ثقافية خاطئة واصبحت ممارستنا الثقافية أسيرة هذا الفهم الخاطئ. وقد تتجاوز هذا الحد إلى حد التأصيل لهذه القراءات بغية تحويلها إلى قناعات متحركة في أذهان وممارسات الآخرين لكي يؤسسوا مواقفهم على أساس ما توصلت إليه قناعاتنا الخاصة. هذا الأمر أدى إلى تعطيل حركية المشروع الثقافي، وتعلق بعض الطفيليات الثقافية والترسبات الفكرية الأمر الذي يحتم علينا تشذيب وتصحيح فهمنا وان يكون تعاطينا مع المفاهيم بصورة جليّة لا يشوبها أي نوع من التعامل السلبي أو تشوش سلوكي. وحتى لا يرسل الكلام على اطلاقه وعمومه. من الصواب القول انه يوجد خطاب ثقافي أصيل ينطلق أصحابه من خلال حركة الفهم والقراءة الصحيحة واستطاعوا أن يقدموا خطاباً موضوعياً أبرزوا من خلاله مجموعة من المفاهيم الإسلامية، ففي العقدين الماضيين برز جيل من الباحثين والمفكرين والأكاديميين الاسلاميين اكثر وعياً وادراكاً بضرورة التجديد والتطوير في منظومات الأفكار والمفاهيم وفي مناهج التفكير وطرائق البحث متسلحاً بثقافة معاصرة ومستوعباً لروح العصر من غير انقطاع عن التجربة التأريخية وثوابت وأصالة المرجعية الإسلامية(25). ويمكن القول بوجود خطابين ثقافيين: 1) خطاب الانكفاء على الذات والوقوف على الاطلال، والعيش في كنف الماضي كمن ظل يستذكر مقولة (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) مكتفياً بالتغني بالامجاد ودون أن يأخذ من العصر وتطوره وثورته في مختلف المجالات شيئاً، فأصبح خطابه خطاباً منعزلاً عن لغة العصر وروحه، وهذا النوع من الخطابات ينطلق من فهم خاطئ لحركة الإسلام في الواقع مما أعطى الانطباع غير الحسن عن الإسلام وثقافته. 2) خطاب القراءة الدقيقة والصحيحة للمفاهيم الإسلامية المتحركة في دائرة الثقافة والاعتناء باستظهارها وابرازها مستفيدين من التطور وعناصره في سبيل تقديم الأفضل عن طريق الانفتاح على العصر ولغته وايجابياته واستطاع هذا الخطاب أن يقدم خدمة جليلة للدين، بحيث يستطيع القارئ الفرز بين ما هو أصيل وبين ما هو دخيل يهدف إلى تطويع النصوص ولوي رقبتها في سبيل الانفكاء على الذات. |
المسألة الاجتماعية واضحة المعالم في القرآن الكريم كما يشير في آياته (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً... )(26) وغيرها من الآيات التي تخاطب الإنسان المسلم كمجتمع وليس على أساس الفردية. وكذلك في المرويات فقد ورد عن الإمام علي(ع) (غاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..)(27) وهذا تقرير لضرورة المسألة الاجتماعية التي اهتم بها الدين منذ اللحظة الأولى لانطلاق الدعوة، ولأن المجتمع هو هدف الخطاب اولاً فكان لزاماً التعامل مع المسألة الاجتماعية من منطلق الاهتمام الجدي بها ومواجهة المشكلات الاجتماعية من خلال مصاديقها سواء كانت مشاكل حادة مفصلية أو مشكلات اقل من ذلك. فلابد من مواجهة هذه المشكلات، نعم ثمة أمر مهم وهو مراعاة الظروف المكانية والزمانية في التعامل مع هذه الأمور. ولابد أن نقسم خطاب المسألة الاجتماعية إلى قسمين: 1) خطاب علاجي: ينطلق من خلال معالجة المفردات السلبية والطفيليات العالقة بالجسد الاجتماعي.. وهي مسألة تناولها القرآن بالنقد ووضع الحلول الناجعة لها للحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع المسلم.فقد كان القرآن يتحدث - حسب الحاجة - في آيات أو سور كاملة كسورة الحجرات التي انزلت بهدف معالجة سلوكيات اجتماعية خاطئة أصبحت عقداً في عقول بعض الرجال من أفراد المجتمع المسلم. وفي سبيل ذلك يقول القرآن (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(28). 2) خطاب دفعي: وهو من المهام والمسؤوليات الجسام التي تقع على عاتق المشرفين على مخاطبة المجتمع ومن أهم تلك المسائل: * مسألة الوعي الديني. * مسألة التثقيف والمعرفة. * مسألة الحفاظ على الوحدة الاجتماعية. ثمة أمر مهم في المسألة الاجتماعية وهو الالتزام بطريقة القرآن ومفرداته في معالجة المشكلات الاجتماعية فهي تمتلك من القدرة والجاذبية ما تستطيع بهما تحريك مشاعر المسلم وصياغة عقله، وهذا يلزمنا بضرورة المعرفة القرآنية للمفردة والطريقة في كيفية الاقتراب من المشكل الاجتماعي. |
لا نقصد بالآخر المسلم المختلف فكراً وجهة، وإنما المقصود من الآخر هو العدو الحقيقي للأمة الإسلامية فمن غير الممكن اعتبار المسلم عدواً يتم توجيه الحراب والقوة لمواجهة فكره وثقافته بغية اسقاطه كما هو حال بعض ادبياتنا. وإنما لابد من تشخيص العدو جيداً، وفهم لغته وثقافته قبل كل شيء لأننا لا يمكننا مواجهة العدو عسكرياً ما دام هو قادراً على غزونا ثقافياً ومتسللاً إلى مخادعنا. ثمة مفصل مهم وهو انه لا يمكنه التعامل بالمطلقات إلا من خلال الإثبات بالمصاديق الحسية من جهة التعميم فلا يمكن اعتبار كل ما هو يختلف معنا عدواً غازياً لنا بثقافته وتطوره، وإنما لابد من قراءة تجربته والاستفادة منها ما لم تكن مصالحة متضاربة مع مصالحنا مهما كانت العقيدة أو الفكرة التي يحملها الآخر. وهذا يتطلب منا فهم أمور كثيرة على رأسها فهم العصر والمعاصرة وكيف نستطيع إدارة الصراع مع العدو الحقيقي. وفهم العصر يعني: * فهم اللغة التي يتخاطب بها ويفهمهما العالم. * معرفة آليات إدارة الصراع لأن الصراع لم يعد هو الذي عهدته الأجيال السالفة، إنما تطورت آلياته وادواته، وتحول إلى صراع ثقافي بالدرجة الأولى، فمن يحكم الخطاب يكون هو القادر عل توجيه الصراع في أي اتجاه يريده. * معرفة قدراتنا وإمكانياتنا الفكرية والثقافية وهل هي قادرة على مواجهة ثقافة الآخر وفكره. ومعرفة كل هذه الأمور هي معرفة اللغة التي تحكم العلم، ومعرفة اللغة فن لا يتقنه إلا الأقوياء. |
نحن اليوم وأمام كل التحديات - التي هي في جوهرها وواقعها تحد ثقافي - نحتاج إلى قراءة مفاهيمية جديدة بعيدة عن الاتكاء على الآخر وبعيداً عن التعاطي مع الثقافة من خلال قراءة مغلوطة ودراسة ناقصة للنصوص الشرعية، وبعيداً عن أن التطويع الخاص للنصوص الشرعية، ولابد من التمسك بالثوابت الدينية والبحث عن الاستقلال الثقافي في عملية خلق جيل جديد يتسلح بالثقافة الإسلامية مؤكدين على الوعي الجماعي للأمة، والتمسك بالهوية التي تمدنا بالاطمئنان والشعور بالقرب من المفاهيم الاصيلة وعدم الخوف على ثقافتنا من التعويم تحت ظلال المصطلحات والشعارات البراقة والهادفة إلى خديعتنا ومسخ هويتنا. ولذا ينبغي علينا الانطلاق بعملية التثقيف الواسعة النطاق لنكون قد أدينا بعض واجباتنا التي افترضها الله علينا.
|
1 - سورة العلق، الآية 1-5. 2 - سورة القلم، الآية 1. 3 - سورة المجادلة، الآية 11. 4 - سورة النحل، الآية 78. 5 - سورة العنكبوت، الآية 43. 6 - سورة الحشر، الآية 21. 7 - سورة الروم، الآية 30. 8 - سورة ابراهيم، الآية 10. 9 - سورة الانشقاق، الآية 6. 10 - سورة الغاشية، الآية 21. 11 - سورة الاعراف، الآية 157. 12 - سورة الانبياء، الآية 107. 13 - مقالة للدكتور محمد فاروق النبهان مدير دار الحديث الحسنية بالمغرب، الكلمة، عدد 23، ص121. 14 - سورة الرعد، الآية 11. 15 - سورة الانفال، الآية 53. 16 - سورة الرعد، الآية 13. 17 - سورة الانفال، الآية 8. 18 - تؤكد الدراسات المختصة أن 2% إلى 4% مما يبث على شبكات الانترنت العالمية يهدف إلى نشر القيم الغربية وعولمتها لتشمل البلاد المختلفة. 19 - ورقة خاصة ببرنامج عمل ندوة مستقبل الحركة الإسلامية في ظل التحولات الدولية وأزمة الخليج عقدت في واشنطن 1991م. 20 - سورة الحشر، الآية 18. 21 - ميزان الحكمة، ح1، ص619. 22 - مجلة البصائر، العدد 18، ص7. 23 - سورة الاحزاب، الآية 72. 24 - الكلمة، عدد 23، ص23. 25 - سورة التحريم، الآية 6. 26 - ميزان الحكمة، ح3، ص1940. 27 - سورة آل عمران، الآية 104. 28 - السبيل إلى انهاض المسلمين للإمام الشيرازي، ص18. |