2000   آيلول

1421  جمادي الثاني 

49   العدد

مجلة   النبأ

 

سايكولوجية الطفولة

 
 

مرحلة الأجنة

 

د. علاء الدين القبانجي

(1 من 2)

 

الجنين ومسؤوليات الأبوين

النطفة والنفس المطمئنة

تمهيد

الآباء يتحكمون بالفطرة

النطفة والفطرة

تمهيد

الطفولة والتربية مسألة كانت وما تزال في المخاض، وما زالت النظريات تتراكم عبر السنين ضمن تجارب ميدانية أو مشاكل طفولية مستعصية وأمراض نفسية أو جسمية. وبالرغم من ذلك نجد أن سايكولوجية الجنين لم تلق ذلك الكم الهائل من النظريات والتمحيص النفسي عدا الرعاية الصحية والجسمية إذ نجد أن غالبية الكتابات حول عالم الطفولة تتركز على مرحلة ما بعد الولادة

 حيث يشمل هذا التركيز كلاً من الرعاية الجسمية والصحية والتربوية وتلبية الحاجات والرغبات النفسية كالمداعبة التي تلبي حاجة الأبوين النفسية وملء الفراغ العاطفي لهما قبل حاجة الطفل لذلك. ولسنا هنا بصدد التطرق لعلم الوراثة، مع أن كثيراً من الأمراض النفسية أو على الأقل وجود الاستعداد لها يعود إلى سبب وراثي كالانطواء والكآبة مثلاً. ولهذه المرحلة تعلق جذري وفطري بالمراحل اللاحقة مثل مراحل الطفولة والمراهقة والنضج واليأس... الخ.

النطفة والنفس المطمئنة

تتأثر الافرازات في جسم الإنسان ذكراً كان أم انثى ومن ضمنها المني الذي يحتوي على الكروموسومات الحاوية على الحمضيات الوراثية المساة بـ(ار - إن - اي) وكذلك (دي - إن - اي) بالمنبهات على انواعها سواء كانت كيماوية عضوية أو غير عضوية، نفسية أو غير لك. وعلى الرغم من أن هذا التأثير الكيمياوي ليس قويا خلال تفاعل الحمضيات مع بعضها عند الاخصاب إلا أنه يأخذ السمة التراكمية ذلك أن تناول عقار معيّن لمرّة أو مرّتين لن يكون ذا تأثير يذكر على المورثات المذكورة آنفاً وحسب قوة ذلك العقار ولكن إذا كان التناول بكميات كبيرة ومتواصلة فإن التاثير سيكون مؤكداً وهو ما أثبته علم الهندسة الوراثية منذ زمن.

وكما نخاف من المنبهات الكيمياوية السلبي منها والايجابي كذلك ينبغي الخوف والحذر من المنبهات والمؤثرات النفسية كونها تزلزل عملية التفاعلات والافرازات الهرمونية داخل الجسم فالرعب والارهاب قد يوقف أو يزيد من افرازات الغدد بانواعها وقد يؤدي هذا إلى انتصاب شعر الرأس أو نقصان صبغياته حتى يتحول إلى اللون الأبيض. وبالمثل لا ننسى هنا التأثيرات النفسية المسببة لتشنج الشرايين مثلاً أو الاصابة بالجلطة داخل الجسم وحالات الشلل عموماً.

إن التأثير البيئي غير المباشر على النطفة والعلقة والامشاج يأتي من طرق متعددة كالمواد الغذائية ملوثة أو غير ملوثة وتمثيلها الذي يعتمد على درجة احتراق الاوكسجين في الدم وداخل خلايا الجسم وكذلك من خلال المنبهات الكيمياوية والعقاقير والهرمونات والضغوطات النفسية البيئية كارتفاع وانخفاض الضغط الجوي أو ارتفاع الرطوبة المسببة لضيق التنفس... الخ.

ولو نظرنا بتعمق إلى ما وراء مدلول الآية 11 من سورة فاطر(35): (الله الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة... ) والآية 11 من سورة الصافات (37) (إنا خلقناهم من طين لازب... ) لوجدنا العلاقة البيئية مع النطفة والعلقة ومدى التأثير البيئي على نطفة الإنسان المشتملة على المكونات الأساسية للتربية ومدى تأثر هذه المكونات بالمواد الكيمياوية المنبهة.

والحقيقة إننا لا نعلم سبباً للكثير من الجدل القائم والشائعات على عدم تأثير البيئة على الصبغيات الوراثية للإنسان على الرغم من قصر عمر الإنسان الجنسي إذا ما قورن بزمن التفاعلات البيئية مع تلك الصبغيات العضوية إذ يتضح تأثير البيئة بمائها وفومها وقثائها وحرها وبردها وتربتها عبر الاجيال والسنين على النطفة والموروثات وصبغياتها من خلال التحليلات الجيومورفيقية أو الجغرافيا البشرية حيث نجد أن الشكل البشري في الشمال الافريقي يختلف عنه في الوسط والجنوب الافريقي الذي يقارب الزنوج وأشباه الزنوج بينما نجد أن أشكال وأحجام الجنس البشري في جنوب آسيا يختلف عنه في شمالها حيث نجد الاختلاف واضحاً بين شعب اندونيسيا واليابان مثلاً مع شعوب الشرق الأوسط أو شعوب أوربا. وكذلك تشير البحوث والملاحظات الميدانية إلى التأثيرات البيئية على الألوان علاوة على الأشكال كما هو واضح بين شعوب الدول الاسكندنافية البيضاء الثلجية وشعوب الشرق الأوسط وجنوب أوربا أو بين شعوب أمريكا الشمالية وكندا وشعوب أمريكا الجنوبية على الرغم من بعض التمازج والتقارب البيئي. إن هذا التأثير البيئي هو خير دليل على تأثير الصبغيات الوراثية للفرد عبر الاجيال والسنين بحيث أن الشخص المهاجر إلى كندا مثلاً من جنوب آسيا سوف لن يتغير شكله ولونه وحجمه بزمن قريب إلا بعد جيلين أو اكثر مع الاحتفاظ ببعض الخصال الاصيلة التي قد تختفي وتظهر في أجيال لاحقة. وقد تقل الفترة الزمنية للتغيير إذا ما تم تهجين هذه الصبغيات أو المورثات بعناصر مختلفة الجنس أو مختلفة التأثير البيئي وهو ما يحدث حالياً في ما يسمى بتجارب الهندسة الوراثية.

والحقيقة أن هنالك خطأ كبيراً في نفي التأثير البيئي على النطفة في نفس الوقت الذي نلاحظ فيه خطأ نفي التأثير البيئي على الفرد ذاته سواء بسواء.

وليس خفياً التطور العلمي الكبير في موضوع ما يسمى بالهندسة الوراثية وكيفية التعامل مع الجينات والصبغيات المورثة لسمات وصفات الشخصية البشرية إذ توصل العلماء في المراحل الأولى منه إلى استنساخ أي كائن حي من إحدى خلاياه ولربما توجت بحوث العلماء في هذه الفترة المرحلية بالاكتشاف الهائل للخريطة الوراثية للإنسان أي اكتشاف اسرار ومكنونات الجسم الإنساني بأمراضه وطباعه وسلوكياته وكيف ستكون عليه معادلة أي شخص مستقبلاً.

ولن تتوقف النطفة عن التأثر بالمنبهات الكيمياوية بما فيها المواد الغذائية والعقاقير أو بالظروف البيئية بل تتأثر بقوة التوجه إلى الله أيضا خصوصاً خلال عملية الجماع فالروح والطاقة المنبعثة في الخلية المنوية تخلق نوعاً من التوازن الصبغي الذي يحمل نفس التوجه الإلهي والعكس صحيح أيضا(1) (2). إن روح الاطمئنان والتعلق بالله والتوجه المطلق إليه بصورة عامة تخفف من التوترات والتفاعلات النفسية المضطربة عند الرجل والمرأة مما يكسب افرازاتهما الهرمونية طاقه تتحلى بكبح جماح التهور والتذبذب الكيمياوي في التفاعلات الداخلية لحمضياتهما المورثة. هذا الاطمئنان وذلك التوازن سيكون اساساً لتقبل الكثير من التفاعلات المستقبلية على اختلافها باسلوب متوازن أيضا.

وما دام هذا التأثير البايولوجي على النطفة متواصلاً، أصبحت لدينا إمكانية لتمييز وتصنيف نطفتين هما النطفة الطاهرة والنطفة غير الطاهرة إذا ما أخذنا العامل النفسي بنظر الاعتبار كما يمكننا التمييز بين نطفتين أخريين هما النطفة النظيفة والنطفة غير النظيفة إذا ما أخذنا العامل البايولوجي بنظر الاعتبار ومن هنا يأتي وجوب اختيار النطفة على الزوجين قدر المستطاع. ومما هو جدير بالحمد والثناء هنا بالذات هو أن تأثر النطفة بتلك المنبهات البيولوجية العضوية والمنبهات النفسية يتغير بدرجات نسبية من الصفر إلى المائة حسب تكرار استخدام تلك المنبهات والادمان عليها ومن هنا نقول أيضا أن ليس على الرجل وحده أن يختار لنطفته رحماً كما جاء بالحديث الشريف. بل على المرأة أيضا أن تختار لرحمها النطف الطيبة الطاهرة وترفض النطف الملوثة أو الخبيثة بعدم التوجه إلى الله وعدم توازن التفاعلات الحمضية للمورثات.

إن النطفة القوية لن تحمل إلا روحاً قوية في صبغياتها والنطفة الضعيفة لن تحمل إلا روحاً ضعيفة ومن هنا كان على الأبوين واجب الملاحظة والعناية بنفسهما إذا ارادا لجنينهما أن يحمل تلك الروح القوية المطمئنة ومن هنا يكون الاختلاف واضحاً بين جنين الأنابيب المتولد من نطفة بالاستمناء ومن جنين الممارسة الجنسية العادية. فعلى الرغم من تكون الجنينين وولادتهما كطفلين إلا أن الروح التي يحملانها تختلف اختلافاً جوهرياً بما يصاحب كلاً من الحالتين من نوازع نفسية وعصبية وحسية وظرفية جسمية مختلفة وتوجه الهي ومن هنا أيضا تختلف معادلاتهما وفطرتاهما.

وليس من الغريب وجود أطفال يدمنون على شرب الخمر ويميلون إليها على الرغم من رائحتها الكريهة وطعمها المر اللاذع وذلك لأن نطفهم ملوثة بالإدمان وعدم التوجه إلى الله ومن النادر استحصال نطفة طاهرة منهم ولربما يكون جهادهم النفسي جهاداً صعباً مقروناً بالمعاناة الشديدة ذلك إن أرادوا تعففاً أو امتناعاً بل وإن ارادوا محاربة مجرد ذلك الميل الفطري في نفوسهم وأجسادهم حتى لو لم يجربوا أو يدمنوا على الخمرة وكذلك الحال بالنسبة لمن يميلون إلى الزنا والقمار وأكل السحت إذ أن ذلك الميل موجود في صبغيات نطفهم ومن هنا كان جهاد النفس عظيماً ويشير الدكتور احمد الوشاحي في كتابه طفلك من يوم إلى سنة إلى الكثير من الأبحاث الطبية الامريكية التي أجريت على سلالات بعض المنحرفين بأن أطفالهم أيضا يميلون إلى ذلك السلوك المنحرف.

والحقيقة التي يتوجب أن أشير إليها هي أن واجب الأبوين لا تقف عند التربية ورعاية الطفل بعد ولادته بل يسبقها الاعداد وتكوين النطفة الطيبة والطاهرة التي تحمل الروح القوية المطمئنة التي وعدها الله بدخول جناته راضية مرضية. تلك النطفة التي ستكون جنيناً ثم طفلاً بعد حين، ويجدر بنا في سياق سايكولوجية النطفة الإشارة إلى التالي:

التوجه إلى الله تعالى وحده دائماً وبكافة الوسائل والاشكال.

الامتناع عن أكل السحت والحرام.

الامتناع عن الظلم بكافة أنواعه واشكاله.

عدم الانسياق وراء الملذات والشهوات.

عدم تخيل امرأة أخرى أو رجلاً آخر أثناء عملية الجماع.

التوجه والاندفاع إلى أعمال البر والخير.

الابتعاد عن عمليات التخصيب في الحالات العصبية وعدم الراحة النفسية لكلا الأبوين.

يحبذ قراءة بعض سور القرآن الكريم أثناء عملية التخصيب قدر المستطاع مثل سورة مريم ويوسف وياسين...

ولربما يستحسن أن نرفق بعض ما زخرت به الأحاديث في هذا الصدد(3):

يكره الجماع في حالات كثيرة منها:

في السفينة المتحركة فإنه يوجب عدم استقرار النطفة بل لا يبعد شمول الكراهة في الطائرة والسيارة والعربة والأرجوحة وكل شيء مضطرب.

في حال الشبع.

الجماع بالزوجة بتخيل امرأة أخرى فالناتج يكون مخنثاً أو مخبولاً.

الجماع بعد انقطاع دم الحيض أو النفاس قبل الاغتسال.

عند البرد الشديد والحر الشديد وعند الإرهاق والتعب وعدم الرغبة التامة من الجانبين ومع السقم والأمراض الضار بها الجماع كالضعف وفقر الدم.

يكره الجماع ليلة الأربعاء ويومه خصوصاً الأربعاء الأخير من الشهر وانه (يوم نحس مستمر).

يوم كسوف الشمس أو خسوف القمر.

يكره الجماع أيام الأحزان عموماً.

يستحب مقاربة الزوجة ليلة الاثنين فمن يتولد من تلك المقاربة يكون حافظاً لكتاب الله راضياً بما قسم الله عز وجل له.

ليلة الثلاثاء فإن قضي ولد يرزق الشهادة بعد شهادة أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله(ص) ولا يعذبه الله مع المشركين ويكون طيب النكهة والفم رحيم القلب سخي اليد طاهر اللسان من الغيبة والبهتان.

يستحب الجماع ليلة الخميس والمولود يكون حاكماً أو عالماً.

يستحب الجماع ليلة الجمعة يكون المولود خطيباً قوالاً مفوهاً.

يستحب إتيان الزوجة عند ميلها لذلك.

وذلك هو غيض من فيض إذ تعكس تلك الأحاديث حرص الإسلام على طهارة وطيب وحسن النطفة. وننصح القارئ في هذا المضمار بمراجعة كتب الحديث المتخصصة.

الجنين ومسؤوليات الأبوين

يتأثر الجنين داخل الرحم بمؤثرات كثيرة مثل العقاقير المنومة والمهدئة وكذلك المؤثرات البيئية مثل التعرض للاشعة السينية أو فوق البنفسجية المضرة لجسم الجنين والتي تعالج بعض الأمراض الجنينية، والغذاء مثل البروتينات والحديد والهرمونات ولكننا هنا لسنا في صدد الحديث عن مثل هذه المؤثرات إلا فيما يخص المجال النفسي.

إن الشك والوسوسة عند أحد الأبوين أو كليهما عبارة عن سوء انتظام التفاعلات الحمضية في داخل خلايا الدماغ أو خلل في الارتباط الكهربي التحليلي وليس بعيداً انتقال عدم الانتظام هذا إلى الطفل عن طريق أحد الأبوين فيولد شكوكاً ووسواساً وإن لم تظهر عليه في بدايات سلوكياته ولكن نظرات عيني الطفل تشير إلى درجة الشك والريبة الموجودين في داخله. تلك الدرجة التي قد تتصاعد عند توفر الظروف التربوية المريضة من قبل الأبوين وأبسط مثال على ذلك هو الوسوسة الصلاة والعناد الطفولي الناتج عن الشك وعدم الاقتناع. ومن الملاحظ أن عمليات الردع النظرية لا تؤثر كثيراً في محو آثار عدم انتظام التفاعلات الحمضية داخل خلايا الدماغ ولكن عمليات الردع التجريبية هي الاقوى، وعلى الرغم مما يبدو للوهلة الأولى أن الشك والوسوسة من الأمراض غير الوراثية السلوكية المكتسبة إلا أن الدراسات والملاحظات لعينات متعددة مصابة تشير بصورة مؤكدة إلى وراثية هاتين الصفتين أيضا ووجود جذورهما لدى الآباء والأجداد ففي دراسة لعائلة مصابة بالوسوسة وجد أن الجد الأول والثاني للبنت المصابة بالوسوسة والشك كانا يحملان هذا النوع من المرض على الرغم من عدم ظهوره في كلا الأبوين.

إن عملية قطع الشك والوسوسة باليقين وعدم التردد لن تتأتى إلا بالدراسة العملية لمواقع الشك والوسوسة ولابد من استشارة اخصائيي علم النفس التحليلي في هذا المجال كما أن عدم إظهار مثل هذه السلوكية أمام الأطفال يساعد على تقليصها عن طريق منع الشق المكتسب منها. ولابد من الالتزام بنظرية ولا على المريض من حرج أمام الله خصوصاً إذا كان تكرار الشك والوسوسة على درجة عالية.

أما الإرهاب وعصبية الأبوين فقد تؤدي إلى ولادة طفل مرعوب وعصبي مع الفارق الظرفي لما في عصبية الأم خصوصاً من تأثير مباشر وفوري على الجنين من الناحية النفسية والهرمونية وبالتالي فإن من أولى واجبات الأبوين هو الابتعاد عن المواقف المرعبة والمثيرة للعصبية قدر الإمكان والمستطاع.

التدخين وتعاطي المخدرات والافراط في شرب المواد الكحولية خصوصاً من جانب الأم والأعمال الشاقة والصناعات الكيمياوية السامة التي يشتغل بها الأبوان كلها تؤثر على الجنينين بصورة مباشرة عبر الغذاء والدم. ومن هنا كانت مسؤولية وخطرة في خلق جنين سليم خال من الأمراض الجسمية والأمراض النفسية الناتجة عنها.

إن فترة الحمل تعتبر من اصعب الفترات النفسية على الجنين إذ يخضع الجنين لكل ما يصيب الأم من مشاكل عاطفية أو نفسية ناهيك عن الاوجاع والأمراض الجسمية كارتفاع درجة الحرارة مثلاً. أما الناحية النفسية فمتعددة ومتنوعة فمن الحوامل من يشعرن بالكراهية للزوج أو لشخص ما مثلاً بدون مبرر ومنهن من يشعرن بالحساسية المفرطة ومنهن من يشعرن بالتقزز من بعض المأكولات أو حب بعضها الآخر. وهنا يكون لزاماً على الزوج والزوجة مراعاة هذه الحالات ومحاولة تلافيها وايجاد الحلول الناجعة لها على الرغم من أنها طبيعية ومؤقتة وليست دائمية. إن صحة الجنين النفسية تتطلب من الأم مقاومة هذه الظواهر الطبيعية النفسية ولربما تكون قراءة القصص الاجتماعية أو حضور الأفلام السينمائية والزيارات العائلية هي من أنجح العلاجات الذاتية لمثل تلك الحالات كما أن نظرية تحدي مثل تلك الحالات النفسية وعدم التجاوب مع الكراهية والحقد وأكل المادة الغذائية التي تم التقزز منها مثلاً يساعد في زوال وعدم ديمومة تلك الحالات الطارئة وتقليص تأثيراتها السلبية على الجنين.

إن التفكير والقلق من آلام الولادة وصحة وسلامة الجنين والإصغاء لإشاعات وتقولات البعض ممن لديهن مشاكل سلبية كولادة الأطفال المنغوليين والمشوهين يجب أن لا تثير الفزع عند الأم إذ أنها تعتبر حالات شاذة ونادرة ومن الخطأ الكبير الاهتمام بها والإصغاء إليها أو حتى التفاعل معها. والواقع أن فعالية الرحم وحركته وطبيعة تكوينه البيولوجي لا يسمحان إلا بتكوين جنين سليم متكامل النمو وبصورة طبيعية أما الحالات الشاذة فعموماً لا تتجاوز 3% من حالات الولادة وهي نسبة مهملة ومعروفة الأسباب وينصح بقراءة المجلات الطبية المتخصصة في مسائل الأجنة والولادة.

إن صحة الجنين النفسية تفرض على كل من الأبوين ظروفاً استثنائية لابد من القيام بها تجاه الطرف الآخر إذا ما أردنا للجنين أن يولد في ظروف افضل من ظروف والديه(4) ويشير الكثير من الأطباء والعلماء النفسانيين إلى ضرورة حضور الأب ولادة وليده أو على اقل تقدير يفكر ويزمع بالقيام بذلك أمام زوجته وذلك لما يستطيع الزوج أن يقدمه من المساندة والسلوى النفسية للزوجة والقوة الروحية لها خلال عملية الولادة مهما كانت الولادة طبيعية وبالعكس نجد أن تأثير هذا الحضور يعكس حالة ذهنية وتاريخية طيبة لدى كل من الأب والام إذ تزيد من مستوى الارتباط والشعور بالمسؤولية تجاه الأم وطفلها الجديد كما ترفع درجات الحب والمودة والانتماء في العائلة الجديدة..

كما ينصح الأطباء وعلماء النفس كثيراً لحد التأكيد على ضرورة حضور الآباء والامهات ـ خصوصاً أولئك الجدد منهم ـ دروساً متخصصة في التغذية والرعاية والصحة الجسمية والصحة النفسية معاً في مدارس الرعاية العائلية التي تقيمها المؤسسات الطبية المتخصصة بالأسرة إذ أن هذه الدروس الخاصة والبرامج المقدمة في وسائل الاعلام كالراديو والتلفاز غير كافية لتغطية متطلبات الأبوين المعلوماتية والسلوكية.

إن استشارة الطبيب أو القابلة المأذونة ـ وكذلك الأم والجدة إن لم تكن لهن مشاكل سلبية ـ أمر ضروري للاطمئنان النفسي والاطمئنان البايولوجي إذ أن تجارب وخبرة كل منهم تزيد من درجة الاطمئنان والراحة النفسية لدى الحوامل وتقلل من حالات القلق النفسي لديهن.

ومما يؤسف له في كثير من المجتمعات هو اقتصار الأبوين على الرعاية الصحية للام فقط، أما الرعاية النفسية فهي خاضعة للظروف ومزاج الوالدين إذ قليلاً ما نجد أن الأبوين يمتلكان التوجه الخاص بالتغذية وقلما نجد أن الأبوين يمتلكان التوجه الخاص بالراحة النفسية للجنين ويتحدثان عن الجنين ويدخلان في حوار بناء علمي مع بعضهما البعض حوله الأمر الذي يضفي الطابع العلمي على سلوكية الأبوين تجاه الجنين الذي يتوجب أن يتعلم هذا السلوك عند ولادته ونموه.

ومما يؤسف له أيضا أن حياة الجنين في بطن امه أسوأ من أي عملية تخزين لاي من المواد الغذائية إذ أن التخزين في يومنا هذا اصبح علماً قائماً بذاته تقاس فيه درجة الحرارة وشدة الإضاءة والمدة الزمنية وفترات التخزين المتعددة والمتنوعة كما يحسب للتهوية حساباتها والتلوث حساباته والآفات والوقاية منها... نعم اصبح التخزين علماً قائماً بذاته ولكن الجنين المسكين لم يصل بعد إلى مثل هذه الرعاية والإدارة.

النطفة والفطرة

يختلف الكثير من علماء الكلام والمنطق في تفسير الفطرة فمن قائل أنها الإسلام ومن قائل أنها العقل ومن قائل بأنها الخلقة ومن قائل بأنها شعلة مضيئة ترشد الإنسان إلى الإيمان بالله(5).

وقد استخدمت نظرية الفطرة عند علماء الكلام والمناطقة للخروج من كثير من الشبهات الفلسفية والتساؤلات المبهمة حول الإيمان والوجود... الخ.

والحقيقة وبناء على ما سبق نجد أن الفطرة ما هي إلا المعادلة العضوية وغير العضوية المودعة في النطفة إذ أن الإنسان غير موجود قبل لحظات من تكوين نطفته إلا في علم الله. وما أودع في النطفة من قوة روحية أو ضعف نفسي أو قوة بيولوجية أو ضعف وراثي... الخ مما سبق وعلقنا عليه في الفقرة الثانية من هذه المقالة. هي فطرة الله التي فطر ذلك الإنسان عليها. ومن البديهي أن يكون لكل إنسان فطرة أو معادلة تميز كينونته وشخصيته ومزاجه.

ومما تجدر الإشارة إليه هو اننا نميل إلى مسألة وجود ما يسمى بالعقل الفطري وهو مجموعة الاحاسيس المخزونة في النطفة سواء كانت مكتسبة أم وراثية فهي في كل الأحوال احاسيس مرجعية لعقل الطفل والإنسان بعد الولادة.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضا أن الدكتور السيد فاضل الميلاني اكتفى باستعراض بعض من الآراء عن الفطرة ولم يحاول تعريفها والنص عليها بل مثل لها امثالاً ولا تغني الامثال عن الحقيقة شيئاً وتبقى الفطرة عند علماء الكلام مخرجاً مبهماً لكثير من الشبهات التي لم يجدوا لها تفسيراً أعمق من الفطرة.

إن درجة انهيار الإنسان عند وقوعه في ورطة ما كأن يوشك على الغرق مثلاً تختلف من شخص لآخر إذ تعتمد على ما أودع في نطفته وصبغياته من قوة روحية أو ضعف نفسي وراثية كانت أم مكتسبة في لحظات التخصيب فمسالة رجوع الأشخاص إلى الله في مآسيهم تعتمد على فطرتهم التي عرفناها سابقاً ولكننا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن كثيراً من ذوي المآسي والغرقى كانوا يرجعون إلى اللات والعزى وسيروس وفينوس من آلهة الرومان والاغريق سابقاً... الخ وهم إلى فطرتهم يرجعون ولم يفكروا مطلقاً بالله الذي نفكر فيه ونلجأ إليه.

ولو دققنا النظر في تعريف الفطرة السابق وهو ما أودع في نطفة الإنسان من خصوصيات عضوية أو غير عضوية وراثية أو مكتسبة لوجدنا حلولاً كثيرة للكثير من سلوكيات الإنسان بعد حين مثل الميل نحو الفن والجمال والعبادة والزنا واتباع الغرائز أو السيطرة عليها... الخ.

من هذا التعريف نجد أن الفطرة الإنسانية ليست منسلخة عن كل ثقافة واتجاه فلسفي وحضاري وأنها ليست بعيدة عن الرغبات والأهواء والانفعالات وأنها ليست مجردة عن الظروف والتقاليد والعادات بل أن الفطرة هي حصيلة ما أودع في صبغيات الإنسان من خصوصيات. ومن هنا نجد أن الإيمان وحده وبصورة مجردة هو فطري أما الإيمان بالقوة الخارقة أو الإيمان بالله أو الإيمان باللات والعزى أو الإيمان بالآلهة القديمة فهو إيمان مكتسب وهو ما يشير إليه قول الرسول الأعظم(ص): ألا وأن كل مولود يولد على الفطرة، إلا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (الحديث رقم 7181، مسند احمد بن حنبل، ج12/120).

صحيح أن الله إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون ومع ذلك فقد اوجد مقومات الخلقة لسيدنا آدم وهي تراب وماء وطين لازب ومن هنا يتوجب أن نشير إلى عدم وجود فطرة مجردة من مقوماتها بعكس من يصرون على وجودها من بعض علماء المسلمين إذ يغلب الظن بأنهم اقرب إلى نفيها من عدم الاعتقاد بوجودها. وقد خلق الله مقومات وجود الفطرة من عوامل وراثية، توجهه إلى الله من قبل الأبوين أو ساعات الابتعاد عنه، تغذية صدفة وحظ، كلها تلعب دوراً في إخراج تلك الفطرة أو المعادلة البشرية لذلك الجنين المتميزة عن غيرها والمرسومة في علم الله، وعلى الرغم من أن بعض المقومات قد تبدو بعيدة وخارجة عن المرسوم الإلهي إلا أن لله فيها إصبعاً ودراية.

وعلى أساس هذه المقومات المصاحبة للعملية الجنسية بنوعيها الطبيعي وغير الطبيعي يرسم الله تعالى فطرة الإنسان.

ولنضرب هنا مثلاً عن الفطرة في ذلك الإنسان الذي وجد عقلاً وحقاً وصدقاً فلم يعترف به ويخاف أن ينكره فيبقى متردداً حيراناً بين عقله وبين أن يستغشي ثيابه إلى أذنيه يقلد ما أكسبه أبواه من تحليلات رسخت في خلايا دماغه وينصاع لما ورثه من ضعف فطري في صبغياته الوراثية وما اكتسبه من احساسات خلال مراحل النطفة والعلقة والامشاج والمرحلة الجنينية والأغرب من هذا أن نجد البعض يصفون الآخرين بالعناد ولكنهم وايم الله هم المعاندون ولكن لا يعلمون. لانهم يتناسون فطرة الله التي فطر الله عليها عباده.

إن فطرة الكفر في الإنسان كفطرة الإيمان فيه (وكل الزمناه طائره في عنقه وهديناه النجدين إما شاكراً وإما كفوراً) وتزداد أو تنتقص تلكم الفطرتان حسب ما أودعه الأبوان من موروثات اخلاقية طبيعية في جنينهما وقوة روحية إلهية في حيامنهما.

الآباء يتحكمون بالفطرة

إن نظرية التربية القائمة فقط على تحديد السلوك الطفولي من خلال زرع المفاهيم والقيم لدى الطفل أصبحت قاصرة عن تفسير الكثير من الظواهر السلوكية والوراثية لدى الطفل مثل العناد وبعض الأمراض النفسية كالضعف العصبي ولا نريد هنا أن نتجاوز لغوياً وندعي الفشل الكامل لتلك النظرية استناداً لما أثبته العلم اليوم بما للوراثة من التأثير الفاعل المطلق على التربية والسلوك ولقد أشرنا سابقاً للعلاقة بين الأبوين والنطفة إذ يتبين على ضوء هذه العلاقة الكامنة الموروثة بأن التربية في الحقيقة لن تبدأ بعد الولادة بل قبل الولادة وبالتحديد من النطفة بتطهيرها والبويضة بعفتها والجنين بالاحساس الفسيولوجي والنفسي ولربما نزيد على ذلك بالقول بأن التربية في الحقيقة تبدأ من الأبوين قبل كل شيء إذ تنعكس مورثاتهما على الجنين من خلال صبغياتهما الوراثية وقد يطابق هذه المقولة الشائعة بأن من شابه أباه ما ظلم على الرغم من اختلاف الجيلين واختلاف الازمنة.

نعم النظرية الحديثة تقول إن التربية تبدأ من زمن قبل الجنين وليس من بعد الولادة فالجنين في بطن امه مخلوق يستوعب ما تستطيع احساساته وتكوينه البيولوجي أن تستوعبه من ضيق ومرض وجوع وعطش وخوف وتوجه إلى الله تعالى تابع في ذلك احساسات أمه كقطعة حساسة فيها فإذا كان التوجه مصحوباً بروح الاطمئنان والثقة أو بروح الخوف والشكوك انعكس ذلك على الجنين ضمن الافرازات التي لمحنا إليها سابقاً وبالمثل إذا كان التوجه نحو الفكر الشيطاني مثلاً مصحوباً بالغرور والتكبر والخيلاء انعكس ذلك على الجنين أيضا أما الشعور بالخوف والنقص والتردد والوسوسة والخنوع فكل ذلك كان له على الجنين تأثير سلبي ومن هنا يتحكم الآباء بأخلاقية ومعادلات أبنائهم بالوراثة قهراً وبالصبغيات امكاناً واختياراً.

 

1 - سايكولوجية النمو، راؤول كنغ، أكسفور، 1988، ص65.

2 - النمو السلوكي، د. فرانسيس ابلغ + لويز ايمز.

3 - الزواج الإسلامي سعادة الدارين، السيد محمد علي الطباطبائي، دار البيان العربي.

4 - التهيؤ للوالدية، الدكتور لي سالك، ترجمة د. فاخر عاقل، ص43.

5 - دراسة جذرية للعقيدة الإسلامية ومناقشة شبهات، العلامة د. فاضل الميلاني، كلية الشريعة، لندن.

هل لديك مناقشة او سؤال او رد حول هذا الموضوع ؟

اكتب لنا

اعداد سابقة

ملف الراحل الحاضر

العدد 49

الصفحة الرئيسية