2000   آيلول

1421  جمادي الثاني 

49   العدد

مجلة   النبأ

الخطاب الثقافي

بين أصالة المفهوم وهامشية الطرح

السيد مصطفى السادة

الخلاصة

ثغرات في الخطاب الثقافي

مقدمات لابد منها

تحديد المفردة (المفهوم)

يعتمد العمل الديني في وجوده على عدة مفردات تشكل الأسس والمرتكزات التي يتكئ عليها، واحدها هو الخطاب الثقافي الذي يتواصل من خلاله المهتمون بشؤون الفكر والثقافة والرأي مع أبناء المجتمع.

وتكتسب دراسة هذا الموضوع بمختلف صوره واشكاله في عالمنا الإسلامي أهمية خاصة وفي وقت تشهد فيه الساحة الدولية عدة تغييرات وتحولات عميقة المفعول حيث ظهور.

1) ما يسمى بالثورة العلمية في عالم التكنولوجيا والمعلومات والتي استطاعت أن تخترق جميع الحواجز وتصل إلى أضيق الدوائر في حياتنا، وجعلت العالم بأكمله قرية معلوماتية واحدة الأمر الذي بات يهدد مستقبلنا خصوصاً ونحن غير مستعدين لمثل هذه الأحداث المهمة والخطيرة.

2) ظهور غول العولمة التي يتغنى بها الغرب واتباعه في العالم الإسلامي حيث عولمة الاقتصاد والسياسة والاعلام والثقافة والفكر التي ينادي بها بعض المنخدعين.

3) فشل الثقافة أو الفكر الماركسي كمنهج أو خطاب لمعالجة المشاكل والازمات العالمية كما كان يدعي أصحاب النظريات المادية والايديولوجيا الاقتصادية، حيث طرحوا افكارهم كبديل عن الفكر الاخر، وبعد سبعين عاماً من المحاولات الجادة لطرح الفكر المادي كبديل عن الفكر الديني في معالجة القضايا العالقة، وبعد محاولات طمس الهويات الأخرى. وتصدير الفكر الشيوعي إلى الشرق والغرب بات من الواضح عجز هذا الفكر عن الحفاظ على بقاءه فضلاً عن قدرته وفاعليته في إعطاء المجتمعات والدول جرعات حل لمشاكلهم وأزماتهم.

كل هذه الأمور وغيرها تجعل من مسؤوليتنا وبالذات المسؤولية الثقافية شاقة وخطيرة وحين نتحدث عن المسؤولية الثقافية ودورها تطالعنا مفردة الخطاب الثقافي في عالمنا الإسلامي.

تحديد المفردة (المفهوم)

توجد عدة دلالات لهذه المفردة، ولذا نحتاج بداية إلى تحديد هذا المفهوم الذهني وانزاله إلى الواقع، لأننا نتعاطى معه في الواقع كمصداق من مصاديق المشروع الإسلامي في الخارج وليس مجرداً عن ذلك، لأنه يوجد فرق بين المقامين.

فثمة خلل عميق قد يصيب الإنسان بسبب عدم تفرقته بين عالم الذهن والواقع أو بعبارة أخرى بين ما هو امنيّة وطموح وآمال وبين الواقع وكثيراً ما يفرق القرآن بينهما (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب..)(1).

هذه الآية تقرر الفرق بين الأمنيات التي يطمح الإنسان إلى تحقيقها وبين انزال كل ذلك إلى واقع عملي.

ولذا لابد من تحديد مفهوم الخطاب فهل المقصود به المنهج التفكيري الذي يعتمد عليه المؤسسون للخطاب الثقافي؟

أم أن المقصود من الخطاب الطريقة الإدارية التي يتعاطى بها المهتمون بشؤون التثقيف الديني في إدارة المجتمع؟

أو هو طريقة التخاطب والتواصل مع الآخر؟

كل هذه الدلالات يمكن أن نستفيدها من مفهوم الخطاب الثقافي، نقصد هنا مناقشة المصطلح الثالث ـ يعني ـ طريقة التخاطب والتواصل مع الآخر ـ ولكن قبل الولوج إلى ذلك لابد من التذكير بعدة حقائق مهمة لأجل فهم منشأ الخلل الذي أدى إلى نشوء مجموعة ثغرات في الخطاب الثقافي.

مقدمات لابد منها

الأولى:

نستطيع القول أن الخطاب الثقافي الإسلامي نشأ إلى جانب عدة خطابات أخرى كانت في الساحة وتلك الخطابات قدمت الكثير مما عندها ـ وإن كانت في كثير من الأحيان لا تتوافق مع وجهة النظر الإسلامية في التعامل مع الواقع المعاش ـ من الفكر الاغترابي الدخيل فظهر الخطاب الديني كبديل مناقض ومتصدي ـ إن جاز لنا التعبير ـ يدعو إلى العودة إلى الذات الإسلامية.

هذه الظاهرة أدت إلى تشكل خطاب ثقافي متعدد الاتجاهات:

1- خطاب المقاطعة: فقد برز هذا الخطاب كرد فعل لما كان سائداً من الألوان الأخرى وهو خطاب صِدامي يدعو إلى التقوقع حول الذات والرفض المطلق لكل قادم.

2- خطاب الاستلاب والذوبان: ويدعو إلى ترك الذات والانقطاع إلى الفكر الآخر، وكانت خطاباته في كثير من الأحيان تسخر من الموروث الإسلامي ودعاة هذا الاتجاه هم المتغربون الذين درسوا في الغرب وتأثروا بفكره ورفضوا كل ما يمت إلى تراثنا وثقافتنا بصلة متذرعين بتجاوز العالم لثقافتنا.

ويمكن أن يعتذر البعض لأمثال هؤلاء بعدم قدرة تيارات المقاطعة على طرح المنهج الثقافي الإسلامي بصورة صحيحة واضحة يتعامل معها الجميع من حيث القدرة على الاستفادة من المنهج الديني في حل المشاكل ومعالجة القضايا الراهنة، مقتصرين على النظرة السوداوية والتركيز على الجانب السلبي في تصدير الإسلام كدين رافض للتعايش مع الآخر مطلقاً.

3- خطاب العقلنة: وهو يدعو إلى الاستقلالية الذاتية القيمية والوقوف على الثوابت الإسلامية مع إمكان الاستفادة أو الممازجة مع فكر الآخر في الجوانب التي لا تسبب خللاً ولا تكون نواة سلب في النظام الاجتماعي، فليس كل الآخر بالمطلق مرفوض، ولا كله بالمطلق مقبول.

هذه هي تشكلات الخطاب الثقافي الإسلامي ولسنا بصدد مناقشتها أو اخذ موقف منها، إنما كان الغرض من ذلك ايضاح البدايات الأولى لتشكل الخطاب الديني العام.

الثانية:

الخطاب الثقافي الإسلامي كان عاملاً من عوامل التصدي للغزو الثقافي الاستعماري الذي خلف وراءه اطناناً من الأدبيات الفكرية والثقافية، مضافاً إلى اشخاص ينتمون إليه فكرياً وثقافياً حيث كانت خطاباتهم الدعوة إلى التحلل والانسلاخ التام عن الثقافة الإسلامية.

ولذا جاء الخطاب الإسلامي متصدياً لهذا اللون من الدعوات فكان خطاب رد فعل منفعلاً وليس فاعلاً، متأثراً وليس مؤثرا ولكن يمكن أن يعتذر له بأنه خطاب مواجهة وبالتالي ينبغي أن يكون منفعلاً ومتمشياً مع وتيرة الفكر الآخر وثقافته ومختلفاً معه في الاتجاه.

لان الخطاب الذي بلوره الاستعمار واتباعه من المثقفين كان يهدف إلى سلخ الأمة ومسخ هويتها. والأمة التي تراهن على هويتها هي أمة خاسرة في نهاية المطاف فهي أمة تضيّع شخصيتها وتنقطع عن جذورها وأكبر خطر وأعظم انحدار تمر به الأمم حين تضيع شخصيتها وتنقطع عن جذورها لأنها في هذه الحالة تكون معرضة للتفكك والانهيار الذي قد يصاحبه الصراع والنزاع.(2)

ومن هنا تأتي بعض دعوات المثقفين في العالم الإسلامي - ممن تأثروا بالغرب وانقطعوا عن تراث الأمة - إلى الانقطاع عن الانتماء التاريخي للعالم الإسلامي والإسراع في الالتحاق بركب الحضارة الغربية.

فقد دعا الدكتور (طه حسين) [1306 - 1393هـ/ 1889 - 1973م] في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي صدر سنة 1938م بالقاهرة إلى ربط مصر بحضارة البحر الأبيض المتوسط أي أن تكون مصر على حد تعبيره قطعة من أوربا وانتقد العرب ووصفهم بالغزاة إلى جانب الفرس واليونان والاتراك ولقد فجر (طه حسين) أضخم معركة فكرية في مصر عام 1933م حين كتب في أحد مقالاته بجريدة (كوكب الشرق) (إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين) ولقد هبت العاصفة بعد هذه العبارة واستمرت أكثر من ثلاثة شهور وقود الصحف على اختلاف ألوانها في مصر والبلاد العربية.(3)

وقبل (طه حسين) كتب لطفي السيد في جريدة (الجريدة) عام 1913م وبكل جرأة ونص كلامه (يعوزنا شيوع الاعتقاد بأن مصر لا يمكنها أن تتقدم إذا كانت تجبن عن الأخذ بمنفعتها وتتواكل في ذلك على أوهام وخيالات يسميها بعضهم الاتحاد العربي ويسميها آخرون الجامعة الإسلامية.(4)

وكان هناك في ذلك الظرف من دعا إلى عودة مصر إلى التراث الفرعوني وكل هذه الدعوات فشلت وتراجعت وارتبطت مصر بهويتها العروبة والإسلام(5) هذه الدعوات وغيرها من الادعاءات في هذا العصر أيضا تهدف إلى نزع الهوية الإسلامية والعربية عن الامة، ومن ثم ربطها بذيول الاستعمار الشرقي والغربي كما حصل في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م.

وحديث الهوية بدأ في العالم الإسلامي عن طريق الثقافات الواردة والايديولوجيات الفكرية التي تم اقتباسها من خارج حضارتنا الإسلامية والتي لم تكن تتوافق وتنسجم مع طبيعة هوية الأمة، بل أن أول ما اصطدمت به تلك الثقافات هو هوية الأمة الاصطدام الذي كان يعرقل ويحبط كل مشروعات وتطلعات تلك الثقافات والإيديولوجيات ومن هنا بدأت تطرح اشكاليات الهوية في الفكر العربي(6).

الثالثة:

ومن هنا نستطيع أن نستنتج أن الخطاب الثقافي الإسلامي يمتلك شرعية واسعة وقاعدة عريضة وهو أمر فرضته طبيعة الشعوب الإسلامية التي بالرغم من تعرضها لعدة حملات عسكرية وغزو ثقافي بدءاً من الحملات الصليبية الأوروبية ومروراً بحركة مصطفى كمال اتاتورك في تركيا التي قضت على الخلافة الإسلامية عام 1924م وحاولت جر تركيا إلى العالم الاوربي، وبالرغم من الاحتلال العسكري لبعض الاراضي الإسلامية - فيما عرف بالاتحاد السوفيتي سابقاً، وافغانستان - وديمومة الاحتلال لأكثر من سبعين عاماً، كل ذلك لم يستطع النيل من ثقافتها وبقيت محافظة على هويتها الإسلامية التي كرمها الله تعالى وميزها بها على غيرها من الأمم كما يقرر القرآن (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)(7).

ولكن كل هذه الجاذبية وهذا التعانق والالتفاف حول الخطاب الثقافي الإسلامي لا ينبغي أن يبعدنا عن التساؤلات المهمة - وهي كثيرة - عن مدى قدرة وفاعلية الخطاب الثقافي في طرح وايضاح المشروع الاسلامي؟

وعن تلك الثغرات التي يمكن أن يرصدها المراقب لحركة الأدبيات الإسلامية المهتمة بشؤون التخاطب مع الجمهور الإسلامي العريض.

ثغرات في الخطاب الثقافي

ولكن ما ينبغي التأكيد عليه كراراً أن الخطاب الثقافي جزء من المشروع الإسلامي وليس هو المشروع إذ لا يمكن اختزال المشروع في خطاب: نعم هو أحد المكونات الأساسية والمهمة - إن لم يكن أهمها - في البناء الحضاري الكبير.

ومن هنا ينبغي ملاحظة عدة أمور لا بد من العمل على مفارقتها لجسم هذا الخطاب ليشق طريقه شأنه شأن بقية العوامل والمكونات:

أولاً: بين الهامشية والحقيقية

من الأمور التي ميز الله تعالى بها امتنا الإسلامية

إنها أمة أقرأ باسم ربك الذي خلق.

إنها امة القلم كما في نون والقلم.

إنها أمة الحقيقة والبحث عنها والوسطية والتمسك بها.

وغير ذلك من المميزات الكثيرة، وهذه كلها مرتبطة بأمور الخطاب والتخاطب الذي هو إحدى المرتكزات في عملية البناء الاجتماعي السليم، وهذا يحتم أن تكون هذه الآلية قادرة على تحقيق هذه الأمور جميعاً ما يتطلب منها مجهوداً شاقاً للارتقاء بخطابنا إلى مستوى الأمة التي تحدث عنها القرآن:

(كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر..)(8).

وهذه الآية تقرر أن هذه الخيرية التي أخرجنا الله تعالى فيها بسبب امتلاكنا لأدوات القوة وأحد أجلى المصاديق هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا يعني وسيلة التخاطب مع الآخر.

وفي آية أخرى يقرر القرآن الوسطية والشهادة التي تستلزم الشهود (الحضور) قبل الشهادة (وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)(9).

الأمر الذي يستلزم الحضور الفاعل عن طريق الانفعال مع الخطاب الثقافي للأمة وهذا يعني التعاطي والتواصل مع آلية الخطاب، ولن تكون كذلك مساهمة في عملية البناء إلا بتجاوز عقبات عدة وعلى رأسها عقبة الهامشية ونقصد بها:

1) الهامشية بمعنى الترف الثقافي المصاغ في التغني بالمصطلحات والمفردات الغريبة على قواميسنا الإسلامية والعربية فالمتصفح لأغلب أدبياتنا الثقافية والفكرية يجدها محشوة بالكثير من المفردات التي لا تمت إلى القرآن ولا إلى ثقافتنا بصلة من قريب أو بعيد.

فقد استبدلنا كلمة الحرية بمصطلح الديمقراطية وكم البون شاسع بين ظلال الحرية وظلال الديمقراطية، والعجيب أن علاقتنا بهذا المصطلح مر بمرحلتين.

مرحلة كنا فيها نرفض التعاطي مع هذا المصطلح مطلقاً، ثم في الأونة الأخيرة تسربت بعض الأفكار الديمقراطية إلى بعض ادبياتنا وأصبحنا نناقش مدى قدرتنا على التواصل معه كمصطلح، إلى الدرجة التي قد نقف فيها على بعض الأدبيات وهي تميز بين الجهات أو الأفراد فهذه الجهة ديمقراطية وتلك ديكتاتورية وثالثة بيروقراطية ورابعة ثيوقراطية... الخ. وهكذا مصطلحات ومن لا يستطيع أن يكتب بهذه اللغة المعصرنة كما يقولون فهو متأخر بقرون.

2) التراشق الاعلامي الناتج عن حالة الاختلاف الذي ولد التقاطع والعداء بدل التواصل والولاء. ولذا ينطلق اغلبنا في عمله الثقافي من (الجهة والجماعة والحزب والحركة...) واصحبت السهام تنال وتطال كل من يختلف معنا في الرأي والوسيلة - فضلاً عن المنهج - واصبح همنا نشر الغسيل بدل وحدة المصير واسقاط الآخر بدل التكامل معه، وبات هذا هو الهم الرئيسي لأغلب ادبياتنا الثقافية وغيرها.

ولعل اقرب وصف يصدق على احوالنا واوضاعنا ويشكّل مدخلاً اساسياً لفهم مشكلتنا في التقدم والتحضر هو أننا كمجتمعات وجماعات وافراد نتصادم مع أنفسنا بطريقة كما لو أننا في ساحة قتال، نتحارب فيما بيننا كل واحد يرى في الآخر خصماً له، وهكذا يرى كل مجتمع منا المجتمع الآخر وكل جماعة منا الجماعة الأخرى... وهذا يعني أننا في حياتنا العامة وفي نشاطاتنا السلوكية المتعددة نمارس الهدم لبعضنا اكثر من ممارسة البناء وبشكل لا يقارن في حين أن معادلة التقدم والتحضر هي أن ترتفع مؤشرات البناء بوضعية تتفوق فيها بدرجة واضحة وكبيرة على مؤشرات الهدم.(10)

وهذه اللغة يمكن سحبها على أغلب ادبياتنا خصوصاً تلك المندرجة تحت سقف من السقوف أو جهة من الجهات. ولذا لابد من تخليص الخطاب من كل هذه الأطر الضيّقة والتحزبية ليكون خطاباً يهتم بالشأن الإسلامي الكبير فليس من المعقول أن يحبس أو يؤطر خطابنا بهذه الأطر الضيقة التي هي أضيق من أن تستوعب الخطاب الثقافي.

* سواء كانت الجهوية أو الحزبية أو المذهبية لأن من شأن ذلك أن يجعل الخطاب منغلقاً على نفسه ومتأخراً عن معالجة الأمور الحقيقية ومشاكلنا العالقة.

3) الابتعاد عن القضايا الحقيقية:

ونقصد بها الابتعاد عن معالجة مشاكلنا وأزماتنا الكبيرة واستبدالها بقضايا هامشية ترفيهية غير حقيقية، والخطاب الحقيقي الثقافي ينبغي أن ينشغل بمعالجة المشاكل الرئيسية للأمة ليضع يدها على العائق ومواطن الخلل والتأخر.

فما هي أسباب تأخر الأمة افراداً وجماعات؟

ما هي مواطن الضعف في الأمة؟

ما هي مواطن القوة التي أمر القرآن بتوفيرها (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم... )(11).

وكيف نتعامل مع مقدساتنا وقيمنا؟ كيف نتعايش مع حالة الاختلاف الضاربة بجذورها في الأمة؟ أين هو مكمن أزماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كل هذا وغيره من الأسئلة المهمة التي ينبغي أن نتحدث عنها. وعدم تحقق هذا ليكون خطاباً يهتم بالشأن الإسلامي الكبير فليس من المعقول أن يحبس أو يؤطر خطابنا من العوامل الفاعلة في تأخر وعينا وثقافتنا مما أدى إلى ظهور دعوات استيراد الحلول التي لا تتلائم مع مبادئنا واخلاقياتنا، ومع قدرة ديننا وتراثنا على مدنا بما نحتاج إليه في معالجة أزماتنا الفكرية وغيرها واصلاح مناهج تفكيرنا وفهمنا للإسلام وللمشروع الإسلامي.

ثانياً: الخطاب الثقافي والاجمال

مما لا شك فيه أن الاستلاب الفكري من أهم الأمراض التي أصابت بعض مثقفينا ممن انخدعوا بمصطلحات الغرب ومفرداته التي أراد بها أن يسلب استقلاليتنا المعرفية النابعة من القرآن واللغة العربية، فانشغلنا باستعراض هذه المفردات الواردة واستغرقنا البحث فيها دون النظر إلى معانيها الحقيقية وهذا أدى إلى غموض في المعنى واجمال في اللفظ وبالتالي إلى انشغال القارئ أيضا في البحث عن معاني الالفاظ؟.

وهذا من قبيل مصطلح (العولمة - الحداثة ـ المعاصرة ـ الواقعية) وغيرها من المصطلحات. فالعولمة مصطلح بات من المألوف أن تجدها تزين عناوين ادبياتنا الإسلامية وقد عنيت بدراستها والبحث فيها، ومما يؤسف له تجد الدعوات الكثيرة الداعية إلى ضرورة التعامل مع العولمة، والحق أنه مصطلح جميل وبراق ولكنه يخفي السم الزعاف وراءه حيث سلب القيم والاخلاق، وإن كانت البداية بعولمة الاقتصاد بدل اسلمة الاقتصاد، ومن هذا القبيل دراسة المصطلحات الأخرى.

وقد انشغل المثقف العربي المسلم خلال القرنين الاخيرين بالاجابة على العديد من الأسئلة التي لم يثرها واقعه ولم تنبثق من اطاره الفكري ونسقه المعرفي ولم تكن نتاج ظواهر شهدها تاريخه نتج من خلالها السؤال كاشكالية تحتاج إلى حل فقد شغل العقل المسلم خصوصاً في العالم العربي بتقديم اجابات إسلامية عن أسئلة غير إسلامية واستهلك من الفكر والطاقة والزمن ما كان كافياً للدفع نحو الإمام قدماً في سبيل الإجابة على اشكالاته الحقيقية ومواجهة مشكلاته الواقعية.(12)

ولم يحدد الخطاب الإسلامي موقفه من هذه المفردات هل يرفضها أم يقبلها أم هو يمازج بينها وبين مصطلحات إسلامية.

فما هو موقف الخطاب الإسلامي من مفردة التغريب؟ ومفردة الإبداع وحدوده؟ ما هو دورنا في مواجهة التطبيع الثقافي مع العدو؟ كيف يمكن التصدي للغزو الصهيوني للعالم الإسلامي؟

هذا من جانب خارجي، وأيضا يوجد جانب داخلي ادى إلى اجمال النص الثقافي يتمثل في دعوتنا النظرية إلى مفردات هي في جوهرها إسلامية ولكننا نعيش الفصل بين الموقف النظري والموقف العملي، فنحن ندعو إلى الحوار بين مختلف الفئات والتجمعات الإسلامية، ولكننا سلوكاً نقف موقف الرافض للحوار جملة وتفصيلاً ندعو إلى حرية الرأي من باب (لا إكراه في الدين)(13) ولكن نرفض حرية الراي سلوكاً فلا نقبل من يختلف معنا في الراي، وقد نشنع عليه ونقذفه بالزندقة والارجاف.

وكذلك ما هي حدود الاختلاف؟ موقفنا من الرأي الآخر المختلف معنا؟ كيف نتعامل مع التعددية (الفقهية ـ الحزبية ـ العملية ـ الفكرية...)؟ ... وهكذا مفردات كثيرة لم نحدد موقفنا منها.هذا الأمر أدى إلى حدوث أمرين سلبيين:

أ. الفصل بين النظرية والتطبيق، فنحن نقول ما لا نفعل بحسب تعبير القرآن.

ب. فقدان الثقة في الخطاب الثقافي من قبيل الشريحة العريضة التي عملنا جميعاً لأجل الحفاظ عليها.

ومن هنا نشأت تيارات الردة والتشكيك الفكري في مدى قدرة أو صلاحية الخطاب على مخاطبة الآخر.

ثالثاً: الخطاب وبناء المجتمع

الحديث عن دور الخطاب الثقافي في بناء المجتمع يحتاج إلى دراسات مفصلة واكثر جدية وبحثية من هذه المقالة ولكن نرى من الضروري الإشارة إلى أن البناء - الانماء - لا يقصد به فقط الجانب السياسي فقد استطاعت الحركة الإسلامية على اختلاف شرائحها ايقاض هذا الجانب من مسيرة الأمة، وتأسست على ذلك عدة جماعات أو حركات، وانما يقصد عملية البناء المتشعبة والتي هي اصعب من كل بناء آخر ومن هنا كانت هذه وظيفة الأنبياء كما يقرر القرآن في كثير من آياته الشريفة (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم... )(14) وينبغي أن تكون هذه الوظيفة هي وظيفة الخطاب الثقافي في عالمنا الإسلامي، فان الحركة الإسلامية اليوم مطالبة قبل رفع أي شعار سياسي بتأهيل المجتمع لوعي المفارقات الوظيفية الانمائية وذلك بتصحيح فكرة الإنماء ذاته من معناه المؤقت والمزيف إلى جوهره الإنتاجي المفيد الموصول بنظرية القرآن عن الاستخلاف للإنسان في الأرض فالانماء لا يعني مجرد امتلاك الثروة والأرض أنه الكدح ومكابدة التوحيد لاكتشاف السر الأعظم من وراء هذا الوجود في ملاقاة الله (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) وفي غياب هذه الحقيقة فان الانماء مهما تنوعت آفاقه واختياراته لن يكون قادراً على صنع الإنسان السوي بمعزل عن عقيدة التوحيد

التي تحرس عملية النمو واطراده في المسار الصحيح(15).

ومن هنا نجد أنه من اللازم القول أن وظيفة البناء والانماء هي وظيفة الخطاب الثقافي وعلى المهتمين بهذا الشأن وبالتعاطي مع المجتمع ثقافياً وفكرياً الالتفات إلى هذه الوظيفة.

الخلاصة

نسجل هنا ملاحظاتنا حول الخطاب الثقافي للحركة الإسلامية، وضرورة وعيها لمسؤوليتها الثقيلة فاننا ننطلق من الحاجة إلى قراءة جديده لمفاهيمنا الإسلامية ودور الحركة الإسلامية في ايضاح المشروع الإصلاحي وضرورة معرفة المفاهيم التي تتحرك معنا في الواقع ونتعايش معها سلوكياً وهذا يحتم علينا جميعاً محاولة تشذيب الخطاب من كل شائبة من شأنها أن تكون عائقاً أمام تقدم العمل الثقافي أو تعمل على تشويش صورته أمام الآخر.

وحتى لا تكون شعاراتنا السياسية على حساب النهوض بالمجتمع وانماءه ذلك أن الحركة الإسلامية المعاصرة لا تريد التشبه بالغرب في معركة خاسرة سلفاً هي معركة الحداثة المادية لأنها تعتبر هذا الركض المحموم نحو امتلاك الثروات المادية ينتهي بانهاك الناس والمجتمع في حين أن جوهر المعركة في نظرها - الحركة الإسلامية - يجب أن يخاض في ميدان القيم أولاً.(16)

الهوامش

1 - سورة النساء، الآية 123.

2 - مجلة الكلمة، عدد 11، ص18.

3 - تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ص134، نقلاً عن مجلة الكلمة عدد 11.

4 - نفس المصدر.

5 - نفس المصدر.

6 - نفس المصدر.

7 - سورة البقرة، الآية 143.

8 - سورة آل عمران، الآية 110.

9 - سورة البقرة، الآية 143.

10 - مجلة الكلمة عدد 20، ص7.

11 - سورة الأنفال، الآية 60.

12 - مجلة الكلمة عدد 20، ص42، مقالة الدكتور نصر محمد عارف.

13 - سورة البقرة، الآية 28.

14 - سورة الاعراف، الآية 157.

15 - مجلة الكلمة عدد 11، ص91.

16 - نفس المصدر.