2000 آيلول |
1421 جمادي الثاني |
49 العدد |
مجلة النبأ |
|
نظرة متفحصة لأدبيات الشهيد الشيرازي (قدس سره) وما تحمل من رؤى ثاقبة في هذا المضمار |
احمد البغدادي |
لا شك أن السلام قضية بالغة الأهمية، وهو على اطلاقه هدف تسعى إليه كل الأمم، وتريده كما تريد حياتها ودوامها، إذ به تعمر الأوطان وتصلح الديار، وتتفجر الطاقات وتنمو الثروات، وتتوفر المجتمعات على خطط التنمية ومشاريع التطوير والانماء على جميع الصعد والمستويات.. وليس هناك بين الهيئات والمذاهب السياسية ما يدعو إلى السلام العادل والمشرّف مثل الدين الإسلامي الحنيف الذي لكثرة دعوته إلى التراحم والتسالم بين الجماعات والأمم، صار السلام طابعاً مميزاً له، كيف لا وهو دين المودّة وصلة الرحم والمساواة والعدل ونصرة المظلوم واحترام الإنسان لأخيه الإنسان، وهو الدين الذي ملاكه (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى...) والذي لا تعرف دعوته حدوداً أو عشيرة أو أمة بل تشدّد على أن يعمّ الخير والصلاح والفلاح وجه البسيطة، وهذا صاحب الدعوة خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد بن عبد الله(ص) يصدع بقوله الذي بلغت أصداؤه أقاصي الأرض وملأت الأسماع وسكنت الضمائر: (ليس منّا من دعا إلى عصبية... ليس منّا من مات على عصبية)، لذلك بلغت دعوته كافة نواحي المعمورة، وأسقطت حواجز الجنس واللون واللغة.. وهذا وصي رسول الله(ص) مولى الموحدين وإمام المتقين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) يقول: (من أبطأ به عمله، لم يستعجل به نسبه) والى ذاك فقد جعل صاحب الرسالة الخاتمة تحية الإسلام السلام، مما يدل بوضوح على أن القاعدة في الإسلام هي السلام والحرب استثناء ليس اكثر.. وفوق هذا وذاك فقد قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم (... ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا..). إذن دعوة الإسلام للسلام لا غبار عليها، حيث أن الآيات والروايات قد تعاضدت عليه من أوضح الطرق، والإسلام هو الذي يضمن المصالح والمنافع والاعتبارات المعنوية والمادية، دون غمط حق أو نيل من اعتبار دولة أو ملة. السيد الشهيد الإمام حسن الشيرازي(قدس سره)، قد استوعب بفكره النافذ ورؤيته السديدة ودعواته التي علا سناها في المنطقة بشأن السلام، استوعب جميع هذه الجوانب في التعامل مع (عملية السلام) التي تطرحها (إسرائيل) وتظاهرها اميركا في المنطقة، ذلك (السلام) الذي يراه السيد الشهيد (رض) أخطر من الحرب، كونه ينظر إلى مصالح وأمن الغاصب دون المغتصب، ليصادر القدس الشريف، وليرفع الصهاينة ـ من بعد ـ عقيرتهم بأنهم يغدقون على الفلسطينيين بإقامة كيان لهم على أرض لم تنسحب منها إسرائيل عملياً وهي ملغومة بالكتل الاستيطانية الكبرى، بما يشبه مسمار جحا(!!) وهذا من أفدح الأخطار وأمرّ الخسائر على المسلمين قاطبة.. ولكن ما هو أشد مضاضة على النفس، عدم توحّد الموقف العربي والاسلامي الرسمي لمجابهة ذلك الخطر المحدّق من قبل الكيان الغاصب. |
السيد الشهيد (ره) شخّص الخطر بدقة من وجهتين. الأولى المصدر يعني (إسرائيل)، والثانية الموقف الرسمي القليل المبالاة حيث قال وصدق: (.. وتحرك الجرس الخطير.. للخطر الكبير.. فأحرق المسجد الأقصى، ليدل على أن الأمة الإسلامية انحلت حتى أصبحت أضعف الأمم، (اليهود) تستهتر بأغلى مقدساتها بلا مبالاة.. فتحرك ـ مع الجرس الخطير ـ زعماء المسلمين ليتجاوبوا معه بالشعارات. وهدء الجرس الخطير معلناً بهدوئه: (لا حياة لمن أنادي). واليوم، يرتسم على شفاه الكل سؤال: فما هو الحل؟ وتختلف الأجوبة، ولكن الجواب الوحيد هو: تجمع الزعماء المسلمين حول مائدة واحدة مستمرة تسمى بـ(الجامعة الإسلامية) فلعل الله يجعل يده مع أيديهم، فـ(يد الله مع الجماعة)...)(1) وهكذا يطرح السيد الشهيد (ره) الحل مستدركاً على الأجوبة الأخرى، عبر مشروع يلمّ الشتات ويجمع المتفرق، هو (الجامعة الإسلامية) إذ هو يأخذ على بعض الحلول أنها إما مستوردة، ليست وليدة آلام ومعاناة الأمة، وإما أنها تضيف إلى الأدواء داءً آخر هو أشبه ما يكون بالسبات.. وقد بيّن السيد الشهيد (ره) ذلك بأبلغ بيان قائلاً: (الأمة الإسلامية عانت الكثير، ولا تزال تعاني.. ورغم أن من طبيعة المعاناة أن توقظ الأمم، فإن المعاناة الطويلة المريرة لم توقظ الأمة الإسلامية. ثم استيقظت الأمة على أصوات المقارع تهدّ فيها من الأعماق، ولكنها كانت يقظة أشبه بالسبات، فلم تستيقظ لتولي نفسها بنفسها، وإنما لتتقبّل الحلول المعروضة عليها ـ أو المفروضة عليها ـ لتلهيها عن التفكير في العلاج. فكانت (الجامعة العربية) التي تكرس تجزئة الأمة.. وعندما اتضح واقعها، كانت (المؤتمرات الإسلامية) التي جمعت الرؤساء والملوك المسلمين لامتصاص النقمة.. وكان الأفضل لهم ـ وللأمة ـ أن لا تجمع بينهم. لأنها جمعت لتفرّق.. لا لتوحد.. )(2). ومهما يكن من أمر فأن الكيان الصهيوني لم يأت من فراغ أو على حين غرة في قلب العالم الإسلامي، وإنما ساعدته عوامل وظروف معينة ليتراكم ويجتمع ويصير عقدة وتدية لا تنحل في المنطقة، القضية بنحو اجمالي هي أن ذاك الكيان ليس سوى صنيعة الغرب الاستعماري الذي استغل بصورة بشعة تنم عن أحقاد قديمة متوارثة تعود إلى عهد الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية ـ استغلّ حالة انحدار الأمة من ذروة الكمال والسمو إلى درك الهوان والكسل واللهو عن اهدافها ورسالتها، ليزرع ذلك الكيان في ارض فلسطين التي تضم القبلة الأولى للمسلمين، ايغالاً منه في تمزيق الأمة الإسلامية واضعافها وتشتيت قواها، وصدها عن طلب مجدها المضيّع ومكانتها التاريخية التي عرفت عبر عصور ودهور متوالية.. السيد الشهيد أعلى الله مقامه قد شخص الداء العضال، وأطبق المفصل، وردّ الفرع إلى الاصل بقوله: (.. ولكن توجيه الغرب في اكثر حكوماته، وغالب ادواره، منبثق من التفكير الصهيوني، الذي يفضل الشيوعية على الإسلام، ويتعاون معها لضرب المسلمين، وتأسيس دويلة العصابات في فلسطين. وهو الذي انتج دارون وفرويد وماركس الذين صاغوا الإلحاد الحديث. وهو الذي صنع المعسكر الشيوعي، وأمن على قيادته رجالاً من الصهاينة، أو من المتحللين الذين بنوا بزوجات صهيونيات، ولا زالت الصهيونية تحدب على فضيلتها الشيوعية، وتسهر على مصالحها ومكاسبها، ولا زالت الشيوعية العالمية تحفظ حرمة الأمومة لوالدتها الصهيونية.. )(3). |
وبناءً على ذلك فان الكيان الصهيوني هو صنيعة الغرب بلا مراء وهو ذراعه، ونافذته لتمرير دسائسه ووساوسه إلى بلاد المسلمين، بغية إشغالها من الداخل، واضعافها حتى لا يمكن أن تتعاظم وتتحول إلى معسكر إسلامي يضارع المعسكر الغربي، وظل هذا ديدن الحكومات الغربية المتعاقبة التي ما برحت تتجاوب مع أمل القضاء على الإسلام (عدوها القديم). وهكذا صارت المشكلة تتطور وتتعقد وتورث مشاكل أخرى مع تقادم الزمن، ولقد لحظ السيد الشهيد الشيرازي هذه القضية من نافذة الخبرة والنضج السياسي، وهو ما يمكن استشعاره من خلال هذه الكلمات للإمام الشهيد (ره): (وهكذا تطورت المشكلة الواحدة، إلى مشاكل عديدة متوالدة، تحمل في طياتها العقد والأزمات الكثار، شأن كل مشكلة تبقى حقبة زمنية بلا علاج.. )(4). ثم يمضي السيد الشهيد في تتبع مسارات القضية وتحديد مداها وكذلك التدقيق في أبعادها وجذورها، بنحو من الضبط والفحص المتناسب مع فكره الواسع وحنكته المعهودة، قائلاً: (ورغم أن المشكلة قد تعددت وتوالدت، إلا أنها تعالج تلقائياً إن عولجت المشكلة الأولى: ـ مشكلة الكفر والإسلام ـ فإن مشكلة التيه والتمزق ومشكلة التدافع الاجتماعي مشكلتان فرعيتان، لا يمكن وجودهما بعد معالجة المشكلة الأولى)(5). |
ولا يكتفي سماحته بالتشخيص، بل يتناول العلاج من أقرب الطرق وأوضحها، مشترطاً أن يكون العلاج علاجاً اسلامياً، بقوله: (أن يكون علاجاً منبثقاً من صميم الإسلام، بوحيه وأساليبه، لأن الإسلام ـ باعتباره ديناً فكرياً عقائدياً ـ يرفض كل علاج يقضي على مشكلة، ما لم يكن منتزعاً عنه..)(6). ذلك لأنّ الإسلام قانون فوق جميع القوانين الوضعية، قد نظم وهذّب الحياة بجميع أبعادها الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا يعجزه شيء من قوانين البشر التي ملاكها النقص والحاجة إلى الكمال والنضج بحسب الاعصار والأمصار، إلا الإسلام الذي هو دين الله سبحانه، وكلمة الله هي العليا، كما يحكم بذلك العقل والضمير والفطرة، وهذا الإيضاح ليس شيئاً في جنب هذا الكلام السني للسيد الشهيد: (الإبداع في مقابل الإسلام نكوص وارتداد عن الإيمان المطلق بأن الإسلام فوق الأفكار البشرية، وأن آلام المجتمع، نتيجة طبيعية لتخليه عن الإسلام، ولا يمكن معالجتها إلا بالعودة إلى الإسلام)(7). ثم ما أسنى قول سماحته (ره): (..فقد غدا واجبنا الفوري المباشر: القيام بعمل إيجابي حاسم، ينتزع مصيرنا من بين الأنياب والمخالب. ولن يكون ذلك العمل المصيري، إلا ما يرمم النواقص في عناصر نهضتنا الجذرية)(8). وغاية ما هنالك أن دويلة العصابات اليهودية إنما جاءت من رحم الاستعمار بكل ألوانه، ذلك الاستعمار الذي لا قلب له ولا ضمير، والذي يرى أن العالم مزرعة له ليس غير، مستخدماً لأجل ذلك كافة الأساليب العسكرية والدعائية وغير ذلك مما تضيق باستقصائه هذه العجالة، وغني عن الشرح والتطويل في استحضار الدليل، ما قام به الاستعمار بلونيه الشرقي والغربي ضد العالم الاسلامي، وما قد اتخذه من قواعد ومكامن لتوجيه سهام التجريح والتهمة، وشنه عمليات الأغارة والاحتلال ضد الدول الإسلامية، ومن ذلك اتهام الإسلام بأنه يقوم على مبدأ دموي وتحت ظلال السيوف.. وقد ردّ السيد الشهيد هذا البهتان والظلم بحق الإسلام والمسلمين قائلاً: (الاستعمار يتّهم الإسلام بأنه مبدأ دموي قام بالسيف ولا يرضى بالسلام! ولكننا عندما نراجع التواريخ، نعرف ـ بحق ـ أن لا سلام إلا في الإسلام. نرى أن النبي الأعظم(ص) في بدء الدعوة عاش كأخيه المسيح يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فلما هاجر إلى المدينة وكثرت المؤامرات ضده وضد الإسلام والمسلمين، أذن الله له بالدفاع في الآية الكريمة: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولو ربنا الله) فالمسلمون كانوا يقولون ربنا الله، ولهذا قام المشركون يهاجمونهم بالسيف، فقام النبي الأعظم بالدفاع عن نفسه وعن المسلمين)(9). |
وهكذا يوضح الإمام الشهيد (ره) ـ بجهد وجهاد ـ موقف الإسلام في السلام، ويبرّئ ساحته مما نسب إليه ـ زوراً وبهتاناً ـ من التهم الواهية والتقولات الباطلة، بأبلغ بيان وأوضح تعبير.. والى ذلك فقد زخرت مؤلفات السيد الشهيد الشيرازي بدرر المعاني الشعرية والأعمال الادبية، التي تفصح عن مقدار الألم الذي يعتصر قلب صاحبها بسبب ما يراه من واقع مؤسف وأخطار جسام تلم بالأمة الإسلامية من كل صوب، فهذا نزر قليل من بحر شعره الذي حفلت به كتبه ومؤلفاته: قال لي: ابك على الأمجاد! ابك الأرض عاقتها البلاد! ابك فجراً في رماد ابك شعباً في مزاد!ابك رأساً من سماد! ابك افكاراً صدّية تُنتقى من متحف التاريخ.. مثل المومياء الأثريّة تتوالى موسّمية والى ذلك يستنكر السيد الشهيد في ابيات معبرة وحاشدة بالمعاني الناهضة، والآلام والحسرة ـ يستنكر الواقع السلبي الذي تعيشه الأمة.. من تشتت القوى، وغياب الموقع الموحد، مما جعل الكيان الصهيوني يدق أوتاده، ويتصلّب ويتصلّف يوماً بعد يوم على الأمة الإسلامية مع ما تملك من جيوش وعدة وعدد، وإليك هذه الطائفة من شعره: كـــــــم قال قـــــوم ـ لليهود:
بأننا سنرجّكــم في البحر إن تستعندوا وفي الحق، قد يكون الشعر عبارة عن نفس الشاعر تقطر أبياتاً ومواقف، وقد يكون أيضا أبلغ من ناد ومن خطبا، ليصبح نبراساً تهتدي به الأجيال صوب الحق ولا شيء غير الحق، وهو ما يصدق على الإمام الشهيد، شعراً ينبه الإنسانية إلى ما فيه صلاح دينها ودنياها، فهذه أبيات هي أسنى ما قيل في عصرنا الراهن معنى ومبنى: دعنــــي أموت.. فـفــي الممات
حياتي دعنـــــي.. فخير للحياة مماتي فسلام على السيد الشهيد يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.. |
الهوامش |
1 - المقدمات، ص145، الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي. 2 - المقدمات، ص145، الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي. 3 - كلمة الإسلام، ج2، ص78، الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي. 4 - المصدر السابق ـ ص85. 5 - المصدر السابق ـ ص85. 6 - المصدر السابق ـ ص91. 7 - المصدر السابق ـ ص129. 8 - المصدر السابق ـ ص163. 9 - من حديث الولاء، ص45، الشهيد السيد حسن الشيرازي. |