2000   آيلول

1421  جمادي الثاني 

49   العدد

مجلة   النبأ

الفكر الحركي عند الشهيد الشيرازي 

(قدس سره)

د. ساعد الجابري

يمتاز فكر الشهيد الشيرازي بأنه وليد الحاجة، فهو يكتب من خلال معاناة تعيشها الأمة وليس للترف الفكري. فقد كتب الاقتصاد الإسلامي عند انتشار المد الشيوعي وترويجهم الشبهات ضد الإسلام والقول بأنه عاجز عن إدارة دفة الحياة. فكتب الشهيد عن الاقتصاد الإسلامي ليبرهن لأولئك المغرورين بأن الإسلام اقدر من الأيديولوجيات الأخرى على إدارة دفة الحياة.

وكتب الشعائر الحسينية يوم بدأ البعض بترويج الدعايات المضللة ضد الشعائر الحسينية واتهامها بالتخلف والإسراف وانعدام الرؤية. فكان كتابه دفاعاً ضد الهجمة المتكالبة الرامية إلى إلغاء الشعائر الحسينية من حياة الأمة.

ويأتي كتاب كلمة الإسلام في ظروف عصيبة مرّت بها الأمة الإسلامية كانت فيها غارقة في بحر التيارات الفكرية والسياسية، تتقاذفها الأحزاب والحركات من كل حدب وصوب بينما كان البعض قد انزوى عن تلك التيارات، وجلس جانباً، يرصد ما يجري واستخدم قواه الفكرية، وبهدوء ودقة وباتزان وحكمة محاولاً الوصول إلى الهوية الصالحة النافعة.

ولكي نفهم الفكر الحركي عند الشهيد الشيرازي علينا أن ندرس الظرف التاريخي الذي ساد الأمة الإسلامية بصورة عامة وساد العراق بصورة خاصة والذي استهدى الشهيد من خلاله إلى نظريته الحركية.

الظرف التاريخي

منذ أن سرق الاستعمار البريطاني حصاد الثورة في عام 1920 وهناك لوعة مغمورة في قلوب الواعين، في بعض الأحيان تتفجر هذه اللوعة على شكل قصيدة عصماء أو كلمة ثائرة، أو مقالة في صحيفة، أو كتابات في مطبوعة، لكن لم تظهر حركة ثورية بالقدر الذي تفجرت في ثورة العشرين، حتى قيام انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958 حيث كان الاسلاميون بصورة عامة متفرجين على الأحداث اكثر من كونهم فاعلين فيها، إلا أن انقلاب عبد الكريم قاسم ومجيء الحزب الشيوعي إلى العلن واحتلاله لمقاليد السلطة أخرج الاسلاميين من السبات العميق ووضع إمامهم ألف علامة استفهام واستفهام.

وكلما زاد الشيوعيون من بطشهم وتهورهم وانتهاكهم للحرمات والمقدسات وضربهم للمواقع الدينية ازداد الوعي الديني السياسي وأخذ البعض يفكر بصورة جدية لا يجاد تكتل إسلامي يستطيع أن يواجه الظروف العصيبة، ويتمكن من حماية الأمة في فكرها وولائها.

وكانت هناك جهتان تتحركان لمقاومة المد الشيوعي.

الجهة الأولى كانت ممثلة بالعلماء والمراجع الدينية في كربلاء والنجف والكاظمية.

الجهة الثانية كانت ممثلة بالطبقة المثقفة الواعية.

فعلى الجبهة الأولى افتى بعض المراجع الدينية بتحريم الشيوعية ففي 20/2/1961 المصادف 2 شعبان 1379هـ اصدر الإمام السيد محسن الحكيم فتواه والتي جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: لا يجوز الانتماء إلى الحزب الشيوعي فإنّ ذلك كفر وإلحاد أو ترويج للكفر والالحاد، أعاذكم الله وجميع المسلمين من ذلك، وزادكم ايماناً وتسليماً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكان لوالد الشهيد قبل وفاته في عام 1380 دور بارز في كربلاء للتصدي للشيوعية حين كانت قد استباحت المدينة المقدسة واستثارت العواطف الدينية، ونتيجة لاستفزازاتها التي جاوزت الحد، يُذكر مثلاً نصبت لوحة كبيرة على باب قبلة أبي الفضل العباس كتب عليها (الله في قفص الاتهام) ومن الأعمال الاستفزازية المشينة محاولة دخول النساء الاجنبيات وهنّ سافرات إلى الصحن المقدس فتصدى المؤمنون لهن وكنّ تلك النسوة ضمن وفد شبابي جاء إلى العراق من البلدان الشيوعية الأخرى.

لقد أثارت هذه الحركات الاستفزازية القيادة الدينية في كربلاء، الأمر الذي جعلها في طليعة المتصدين للفكر الشيوعي الهدام وكان على رأس هذا التحرك الإمام ميرزا مهدي الشيرازي ونجلاه الإمام السيد محمد الشيرازي والشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي.

وقد اعتمدت هذه الجبهة تحركاً واسعاً في مجال الافتاء وإلقاء الخطب وكتابة الكتب واقامة الاجتماعات والهيئات الشعبية، وكان لهذا التحرك أثرٌ كبير على مستوى تقليص انتشار الشيوعية.

الجهة الثانية: وهي جبهة المثقفين الاسلاميين الذين كانوا يمثلون نخبة الأمة، وهؤلاء لم يرضوا بهذا القدر من التحرك، فكانوا يجدون في الشيوعية خطراً كبيراً لا يمكن مواجهته إلا بالسلاح الذي استخدمه الشيوعيون وهو سلاح التنظيم، وقد توصل هؤلاء إلى ضرورة تشكيل حزب إسلامي لمقارعة المد الشيوعي ومن ثم التمهيد لاقامة الحكومة الإسلامية.

من هنا جاء التفاوت في تفكير الطرفين فبينما الجهة الأولى تحمل على ظهرها تراث المرجعية الممتد عبر التاريخ بما يشتمل عليه هذا التاريخ من مآثر خالدة وسطور مملوءة بالشجاعة والجرأة والاقدام من ثورة التنباك بقيادة المجدد الشيرازي إلى ثورة العشرين بقيادة الميرزا الشيرازي مروراً بحركة المشروطة بقيادة الآخوند الخراساني. وقد شاهدت رأي العين الإنجاز الكبير الذي أدى إلى انحسار المد الشيوعي باصدار تلك الفتاوى وقيام ذلك التحرك الكبير والواسع.

أما على الجبهة الثانية فكانت الطبقة المثقفة لا تؤمن إلا بالتغيير السياسي فاندفعت إلى انتهاج أسلوب التشكيل الحزبي كرد فعل للمد الشيوعي الطاغي. فأخذت تدعو إلى تشكيل حزب ديني يقوم برسم خطوات التغيير السياسي في الأمة عبر المرحلية التنظيمية.

وكان لهذه الفكرة مؤيدون من داخل الحوزة العلمية لكن لم يبلغ هذا التأييد إلى مستوى القمة.

والى جانب هذا الرأي كان هناك رأيان في التيار المرجعي. رأي يرى الاكتفاء بهذا القدر من الجهود التي بذلت ضد التيار الشيوعي، وإن مسؤولية العالم تتوقف عند هذا الحد وكان على راس هذا التيار المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم، يقول عادل رؤوف عن حركة السيد محسن الحكيم فآية الله الحكيم كان لا يؤمن بالسياسة من حيث الظاهر.. ولا يعمل على إقامة دولة إسلامية ولا يرى إقامة صلاة الجمعة إلا عند ظهور الإمام الحجة(عج) ولا يؤمن بولاية الفيه المطلقة ولا بالجهاد الابتدائي في رؤاه النظرية الفقهية الفكرية إلا أنه عملياً مارس دوراً اصلاحياً شكّل المناخ الملائم لانطلاق الحركة الإسلامية فيما بعد(1).

فإن هذا هو واقع الحال في مدرسة النجف الحركية.

أما في مدرسة كربلاء الحركية فكان الأمر يختلف بعض الشيء. فقد حملت هذه المدرسة تراث المرجعية الخالد منذ الوحيد البهبهاني حتى الميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين مروراً بعشرات من المراجع الذين كان لهم دور اجتماعي وسياسي في الأمة، وقد فهمت هذه المدرسة المرجعية بصورة دقيقة، فليس المرجعية هي مجرد رسالة عملية في أحكام الحيض والنفاس، فالمرجع هو قائد ولن يكون قائداً إلا عندما يتصدى لأمور الأمة ولا ضير أن يكون للمرجع تنظيم نابع من التراث المرجعي على طول التاريخ على أن لا يصطدم بأحد الأصول الإسلامية.

وكان دور الشهيد السيد حسن الشيرازي هو دور المنظّر لهذه المدرسة في ذلك الوقت العصيب من تاريخ الأمة، فقد كتب كتابه كلمة الإسلام في انتخاب الطريق الملائم للعمل الإسلامي من بين الأطروحات الثلاث؛ الأحزاب الإسلامية، الحركات الفردية، الحركة المرجعية فقيمة هذا الكتاب أنه يدوّن لمرحلة زمنية هي أوائل الستينات من هذا القرن وربما تبدل الكثير من ظروفها السياسية والدينية وبالتالي الكثير من قناعات أصحاب الرأي. ولو بقّى السيد الشهيد حتى يومنا هذا لكتب كتاباً آخر ينظر فيه للمرحلة الراهنة لما عرف عنه بفهمه العميق للواقع وتناغم أفكاره لحاجات المرحلة وضروراتها.

أساليب التحرك الإسلامي

كانت هناك أشكال ثلاثة للتحرك الإسلامي في فترة الستينات.

الشكل الأول: العمل الحزبي، الشكل الثاني: العمل الفردي، الشكل الثالث: العمل المرجعي. 

أولاً: التحرك الحزبي

كان التحرك الحزبي الشيعي في بداية الستينات يوم كتب الشهيد كلمة الإسلام في بداية انطلاقته فلم يكن واضح المعالم بحيث يمكن رصده أو وضعه تحت مجهر الدراسة لتقييمه لان نتائجه لم تبدو واضحة فالتجربة كانت في بداية انطلاقه وكانت بحاجة إلى الزمن لكي يتم رصدها وتقسيمها والحكم عليها.

لكن كانت هناك تجارب في التحرك الحزبي الإسلامي على الصعيد السني كاخوان المسلمين وحزب التحرير وكان بمقدور المراقب أن يرصد هاتين التجربتين ويقول كلمته فيهما وأكثر آراء الشهيد الشيرازي عن الحزب الإسلامي مستقاة من هاتين التجربتين اللتين كانتا من الوضوح بحيث يمكن وضعهما موضع الدراسة والبحث.

وكان أمام السيد الشيرازي أن يضع تقييماً لهاتين التجربتين أمام العاملين الاسلاميين بالأخص للذين ارادوا أن يسلكوا الطريق نفسه لكي لا يكرروا الاخطاء التي وقع فيها غيرهم. فوضع أمام هؤلاء خمس ملاحظات حول التحرك الحزبي وهذه الملاحظات كما ذكرنا مستقاة من تجربة الأحزاب الإسلامية في المحيط السني الذي يختلف عن المحيط الشيعي.

الملاحظة الأولى: القيادة الديمقراطية، أي القيادة التي تُنتخب بصورة ديمقراطية، فلا يشترط في القائد الاجتهاد في الفقه الإسلامي ولا أي شرط من شرائط المرجع وإنما يتولى قيادة الحزب فرد مفكر أو يشترك فيها أفراد مفكرون ممن لهم السوابق الحزبية، وإن انحسرت عنهم كافة مؤهلات (مرجع التقليد) فإن المؤهلات الحزبية إذا توفرت في شخص رغماً عن جميع النواقص والانحرافات الأخرى فإن الحزب يفضله على من لا تتوفر فيه المؤهلات الحزبية، ثم ينتخب هذا الفرد، أو تلك الكتلة لقيادة الحزب انتخاباً ديمقراطياً يستند إلى اتفاق أكثرية الأصوات العددية على ترشيحه لمركز القيادة(2).

الملاحظة الثانية: تلتزم الأحزاب بالفكر الديمقراطي الذي يقوم على مبدأ الشعب مصدر السلطات والذي يمنح للشعب أو للأكثرية في أي نطاق حق التقنين والتشريع، وهو حق مختص بالخالق فقط ولا حق لأحد غيره في ذلك.

يقول الشهيد: إن حركة الأحزاب الاسلامية، بند صميم من الحركة الديمقراطية العفوية، ولا يمكن فرزها من الديمقراطية حتى بسكين الجزاء(3) ويؤخذ على الديمقراطية، لأن الديمقراطية منهج سياسي يحدد طريقة الحكم، وليس نظاماً داخلياً يختلف مع الإسلام في قوانينه الداخلية أو يتفق فيتلخص مفعولها في جعل الشعب مصدر السلطات، وإلغاء المصادر الأخرى من(4) بينهما الإسلام في الولاية المطلقة هي لله سبحانه وتعالى وليست لأية سلطة أخرى الحق في الولاية على الآخرين.

الملاحظة الثالثة: اتجاه الأحزاب إلى عبادة الفرد باعتبار أن الحزب يفتقر إلى قوة إمساك فهو يتجه إلى عبادة الفرد يستطيع بواسطة هذه النزعة اظفاء طابع من القدسية على الحزب وقيادته.

يقول الشهيد في ذلك: فالحزب الذي يلقن جميع أعضائه باستمرار وجوب اطاعة الفرد القائد، أو الأفراد المجهولين لأنهم يتفوقون بالعبقرية الحية، ويمتازون بنشاطات ونضالات سابقة، لا يمكن لأحد انجازها بعد توسع الحزب، ينحدر إلى عبادة ذلك الفرد المتفوق. أو أولئك الأفراد المتفوقين، عبادة لا شعورية عمياء، حيث يتصورهم فوق المعدل.(5)

الملاحظة الرابعة: الإفراط والتفريط، إفراط في الجانب السياسي وتفريط في الجوانب الحيوية الأخرى كالأخلاق الإسلامية، والتربية الروحانية وما شابه ذلك.

يقول الشهيد الشيرازي: والأحزاب الإسلامية تكون متطرفة تلحف على الجانب السياسي من الإسلام، وتهمل بقية الجوانب الحيوية منه التي لا يتكامل الإسلام إلا بها تبعاً للتكتيك الحزبي الهادف إلى تكريس الجهود للتضافر على تسلق الحكم.(6)

فالشهيد يرى أن أهداف الأحزاب السياسية هي الوصول إلى الحكم ولا شيء غير ذلك، فهي للوصول إلى مبتغاها تركز جميع أعمالها في الجانب السياسي وتتناسى شيئاً فشيئاً الجوانب الحيوية الأخرى من الإسلام.

والشهيد لا يتنكر لهذا الهدف فالوصول إلى الحكم هو واجب شرعي على كل مسلم يستطيع إليه سبيلاً لكن الملاحظة التي يستذكرها في هذا الجانب (إن الواجب المباشر الذي يواجه كل من يعمل للإسلام في مستوى الحكم هو أن يوسع ويوصّل القاعدة الإسلامية في المستوى الشعبي حتى تنبثق منها اجواء اسلامية، تسمح للحكم الإسلامي أن يسودها، وتؤيده حتى يبقى طويلاً بعد تكونها)(7).

ثم يفترض الشهيد افتراضاً ويطالب الأحزاب الإسلامية بالجواب على افتراضه: (لو افترضنا: أن الحكم الإسلامي، استطاع أن يقفز على القيادات الحكومية العليا، بواسطة ثورة عسكرية - مثلاً - في قطعة من الأرض وكان الشعب لا يؤمن بأفضلية الحكم الإسلامي، بل يعرفه من أبشع مظاهر التخلف والجمود)(8).

فماذا سيفعل هذا الحزب، هل سيتوسل بالسلاح لارغام الشعب وضرب الفئات المناوئة أو أنه يستسلم لارادة الشعب ويتنكر للإسلام فيبتعد تماماً عن اهدافه.

الملاحظة الخامسة: إن قيادة الحزب قيادة غير شرعية، فهي تباشر القيادة التي لا يجوز لأحد توليها إلا بنص صريح من المعصومين(ع).. يقول الشهيد: (والإسلام يحرم التصدي للقيادة إلا لمن تشمله النصوص السابقة، بأن يكون نبياً أو وصياً أو مرجعاً، لأن الله تعالى، لم يجعل لإنسان على آخر سلطاناً ولو برضاه، وحرم الاستغلال والتسخير وعلى هذا الأساس يحرم تولي القيادات الحكومية، بكلتا صورتيها: الديمقراطية النابعة من رضا الناس، والدكتاتورية المتفرعة من الاستغلال والتسخير، فكيف بالتصدي للقيادة الإسلامية.(9)

هذه هي الملاحظات الرئيسة التي يوجهها الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي للأحزاب السياسية وهي ملاحظة تتركز على جانبين اثنين.

الجانب الأول: أخذ الأحزاب الإسلامية بالديمقراطية، ولأن الديمقراطية تعطي الحق للأكثرية في كل شيء فهي مناقضة لأصل مهم من أصول الإسلام.

وهنا لابد أن نفرّق بين الديمقراطية كمبدأ والديمقراطية كممارسة.

فالديمقراطية كمبدأ تقوم على أربعة مبادئ هي:

1- حق الشعب في التشريع.

2- الأكثرية معيار للحق.

3- سيادة الشعب فوق أية سيادة.

4- الشعب مصدر السلطات.

وهذه المبادئ مخالفة للمبادئ الإسلامية القائمة على مبدأ الولاية لله وأن السيادة للشريعة وأن لاحق لأحد في التشريع وان الأكثرية ليست هي الحق.

فالأخذ بهذه المبادئ تبعد الآخذ عن الإسلام سواء كان حزباً أو دولة أو فرداً.

أما الديمقراطية كوسيلة، أي الأخذ بمبدأ التصويت والاقتراع العام ثم مبدأ الأخذ برأي الأكثرية كحل للمشكل وليس لأن رأي الأكثرية يمثل الحق. هذه الديمقراطية لا بأس بها وهي لا تختلف عن الشورى الإسلامية، فهي مطابقة للشورى في المبدئين اللذين ذكرناهما فالشورى هي أخذ آراء الآخرين، ثم اعتماد الأكثرية كحل للمشكل وليس لأن الأكثرية تمثل الحق. فإذا أخذت الأحزاب بالديمقراطية الثانية ولم تأخذ بالأولى فلا بأس بها.

الجانب الثاني: تنكّر الأحزاب الإسلامية للقيادة المرجعية، باعتبار أن القيادة المرجعية هي القيادة الصالحة المطابقة للشرع الإسلامي، وهي التي تحافظ على توازن المسيرة بين الإفراط والتفريط بين السياسة والأبعاد الأخرى.

فلو كان هناك حزب لا يرى عن القيادة المرجعية بديلاً وأنه لا يختار غير المجتهد الجامع للشرائط كقائد عام لمسيرته فإذا حصل ذلك فإن الحزب سيخرج من دائرة مخالفته للشرع إلى دائرة الالتزام بالشرع. وحتى لو اتبع الحزب في اختيار هذه القيادة القواعد الديمقراطية من انتخاب وتصويت لكن يشترط على المقترعين أن ينتخبوا مجتهداً جامعاً للشرائط متصدياً لقيادة الأمة.

من هنا فإن نظرة الشهيد إلى التحرك الحزبي انه لا يرتبط بالتنظيم الحزبي كتنظيم سياسي بل يتعلق بهذين الأمرين الذين ذكرناهما فإذا حصل وكان هناك حزب إسلامي لا يأخذ بالديمقراطية كمبدأ بل يأخذ بها كممارسة، ولا يختار لقيادته إلا المجتهد الجامع للشرائط فمثل هذا الحزب سيكون مقبولاً لأن وجود تلك القيادة سيحافظ على توازنه ويبعد عن عبادة الفرد، ويجعل القيادة مورد ثقة لدى القيادة لا خوف منها ولا خوف عليها. 

ثانياً التحرك الفردي

ولا يقصد بالتحرك الفردي هو أن يقوم كل فرد بالتحرك على طريقته وحسب بل المقصود هو تحكم الروح الفردية في التحرك في مقابل الروح الجماعية. ويضرب لنا بأمثلة عديدة عن حركة الأعمال الفردية، بالانقلابات العسكرية الناجحة أو الفاشلة فهي أعمال فردية، حركة (منظمة جيش التحرير الجزائري) حركة عمل فردي، وحتى ثورة غاندي في الهند لم تكن إلا عملاً فردياً، كما أن نهضة المسلمين لاستقلال باكستان لا تعدو عملاً فردياً.(10)

ويؤخذ على حركة الأعمال الفردية ست ملاحظات هي:

الملاحظة الأولى: قيادة الحركة ارتجالية، أي أن انساناً استشعر هموم الناس فاندفع اندفاعاً عاطفيا فأنشأ عملاً مستقلاً في رأيه عن آراء الآخرين. وربما بلغ هذا الفرد مدارج القيادة وربما وصل إلى الحكم أيضا، فوجوده في المكان الذي اسندته الشريعة الإسلامية لحملة الفقه والاجتهاد هو المأخذ الأول الذي يؤخذ على هذا الإنسان، وعدم كون القيادة قيادة شرعية هو المأخذ الذي يؤخذ على الأعمال الفردية. يقول الشهيد السعيد: ومجرد ابداع فكرة: لا يعلم مدى صحتها أو انحرافها - لا يجعل الفرد أولى بالقيادة، من أولي الأمر الذين عهد الله إلى بني آدم اتباعهم، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة وجعلهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم.(11)

الملاحظة الثانية: إن طريقة العمل معتمدة اعتماداً كاملاً على أفكار ذلك الفرد. فإذا كانت أفكاره سقيمة كانت الحركة سقيمة أيضا، وإذا كانت أفكاره ثورية كانت الحركة ثورية وهكذا، فهذا الفرد سيسيطر على مقاليد الحركة ويقود أفرادها إلى أهدافه الفردية ولا عصمة للأفراد سيما إذا كانوا في منزلة المسؤولية الاجتماعية.

إن فرداً واحداً قد يقود مجموعة إلى الهلاك، وقد يقودهم ليرمي بهم في أحضان الاستعمار.

الملاحظة الثالثة: إنها حركة ضعيفة لانها تعتمد على كفاءة شخص واحد، ومهما كان ذلك الشخص عبقرياً، وكفوءاً فهو غير قادر على إدارة الأمور بطريقة حازمة. فمثل هذه الحركات تصاب بالعجز سريعاً، وهي تنتهي بسرعة فائقة، بينما الحركة التي يريدها الإسلام هي حركة مستمرة لا تنتهي بلمحة بصر. يقول الشهيد في ذلك: إنها تكون وقتية محددة، لأن الحركة القاعدية التي تنبثق من إرادة الإسلام ذاته تعيش جنباً إلى جنب مع الإسلام، وتتغذى وقودها من حرارة الإسلام واندفاعه الذاتي الأصيل... (أما الحركة الفردية).. فتتبخر الحركة فور ما يخبو ذلك الفرد المحرك، أو تنهار تصوراته وتتبدل آراؤه، ثم يستنتج قائلاً: وبهذا نفسر بعض التحولات القيادية الشاملة التي تجري في بعض الحركات الفردية، بحيث تحولها إلى شيء مباين للشيء السابق.(12)

الملاحظة الرابعة: إنها تصاب بالإفراط والتفريط نتيجة تحكم العقل الواحد في الحركة. يقول الشهيد: إنها تكون متطرفة جانبية. لان التفكير العامل الموجّه للحركة متى ما افتقد شموله وارتكز على جانب وغربت عنه الجوانب الأخرى، يصبح ضيقاً لا يستطيع محض الحقائق إلا من زاوية حادة فلا يعطي الشيء نصيبه العادل من التوفر والاهتمام، وإنما يغالي في تقديره، حتى يتجه إلى الاسراف والافراط، فيبلغ التطرف الجائر.(13)

الملاحظة الخامسة: إنها تجزئ الدين. فالإسلام أما أن يؤخذ كلّه وإلا فلا، فما الفائدة أن نأخذ بالاقتصاد الإسلامي ولا نأخذ بالأخلاق الإسلامية، أو نأخذ بالسياسة الإسلامية ولا نأخذ بالروحانية الإسلامية، الإسلام جسر واحد لا يمكن تجزئته إلى أعضاء فنأخذ عضواً ونترك عضواً آخر. والحركة الفردية هي التي تأخذ قسماً من الإسلام وتترك قسماً آخر. يقول الشهيد: إنها تقترف عملية التجزئة الفاسقة للوحدة العضوية في الإسلام، حيث تأخذ ببعضه وتهمل بقية أبعاضه.(14)

ويعزي سبب ذلك إلى القيادة فيقول: لان القيادة مـــتى كانت جامعة لشرائـــط (المرجعية) تـــكون داعـــية للإسلام كله.(15)

الملاحظة السادسة: إنها تنتهي إلى عبادة الفرد كما انتهت الأحزاب السياسية ويصف الشهيد حالة الحركة: ويجلس انصاره حواليه للتكبير والتسبيح، حتى تتحول مجموعة كاملة دائبة على حلقة شاغرة تعرف البطالة والتخاذل رسالةً وعملاً والفخفخة، والرياء مشاركة في التصميم والبناء.(16)

فهذه الحركة هي أيضا غير قادرة على استيعاب الأمة الإسلامية لانها لم تستطع أن تنقذ نفسها من براثن المجتمع المتخلف الذي تقوده النزعة الفردية.

ومن تلك الملاحظات نستنتج أن الشهيد لا يرى أية قيادة قادرة على استيعاب الأمة وتحريكها غير القيادة الشرعية المتمثلة بالعلماء العاملين المجتهدين الجامعين للشرائط. وهذا ما يؤخذه على الحركات الفردية وهو أيضا ما أخذه على الأحزاب الإسلامية.

أضف إلى ذلك أن وجود الفرد على رأس الهرم ينزع المجموعة إلى المغالات في تقديسه فتظهر عبادة الأفراد في تلك الحركة كما ظهرت في الأحزاب الإسلامية. والى جانب هذين الأمرين فإن قيام الحركة على شخص واحد يلغي دور الآخرين الأمر الذي سيؤدي إلى فشل المجموع لأنهم قائمين على عقل وقدرة شخص واحد بينما العمل الحركي لابد أن يقوم على جهد وتعاون المجموع. 

ثالثاً: التحرك المرجعي

وهو التحرك الذي يقوده العلماء المراجع الجامعين لشرائط التقليد، والحركة المرجعية في نظر الشهيد الشيرازي هي الحركة التي استوفت شروط التحرك السياسي الإسلامي وهي:

1- وجود مبدأ شامل صحيح.

2- وجود قيادة محددة حكيمة، منتزعة من صميم ذلك المبدأ.

3- وعي الأمة لذلك المبدأ وتلك القيادة.

4- ايمانها المطلق بهما معاً.

5- ثقتها بنفسها كأمة تستجمع مؤهلات النهوض المستقل.

6- تنفيذ الأمة لذلك المبدأ في واقعها بايحاء تلك القيادة.

يقول الشهيد في تحقق تلك المبادئ على ايدي الحركة المرجعية.

أولاً: وعي الأمة لمبدئها وقيادتها، وحيث أن عملية التوعية مشكلة عارمة تنشطر منها انشقاقات بعيدة المدى، كان علينا: أن لا ننهض بتنفيذ عملية التوعية، إلا بعد توفر القيادة الصحيحة، فيختصر واجبنا الفعلي المباشر، في القيام بجزء من عملية التوعية، وهي التوعية القيادية للامة. ذلك باستعراض الحركات القيادية الثلاث - المتصدية للتحكم في مصير الأمة - والقاء ضوء النصوص الإسلامية عليها جميعاً، لتمييز القيادة الإسلامية الصحيحة - المتمثلة في حركة الفقهاء المراجع - وتعرية الحركات المتطفلة على الأمة باسم الإسلام. وفور ما تنجح الأمة في تصفية القيادات المحسوبة على الإسلام، وصهر الامكانات العقائدية - المستغلة الآن من قبل اتجاهات غير مشروعة - في القيادة الصحيحة، تتلخص الإرادة الحاكمة في مرجع، وعندها يشعر بالقوة الكافية لانجاز عمل جماهيري مصيري، ويشعر بالمسؤولية الجماهيرية.. وفورها يبادر أولاً - بنفسه وبمعونة العاملين في الحقول الإسلامية - إلى تتميمم الجزء الآخر، من عملية التوعية، وهو التوعية المبدئية للامة، فيتكامل - في واقع الأمة - العنصر الثالث من عناصر النهضة الجذرية للأمة) وهو: وعي الأمة لذلك المبدأ أو تلك القيادة.

ومتى توفر - في واقع أمة - مبدأ شامل صحيح، وقيادة حكيمة صحيحة ووعتهما تلك الأمة وعياً جماعياً، حصل في - اعماقها - بصورة تلقائية - العنصر الرابع، وهو ايمانها المطلق بهما.

وحين تتلاقح تلك العناصر الأربعة، تولّد العنصر الخامس، وهو: ثقة الأمة بنفسها، كأمة تستجمع مؤهلات النهوض المستقل.

وبعدها لا يبقى أمام الأمة، سوى أن تخطو الخطوة الحاسمة الأخيرة لتحقيق العنصر السادس، وهو: تنفيذ الأمة لذلك المبدأ - في واقعها - بايحاء تلك القيادة.(17)

فالشروط الستة لا يمكن تحققها عبر الأحزاب الإسلامية ولا عبر الحركات الفردية، بل هي قابلة للتحقيق عبر الحركة المرجعية، وتلك الشروط استنبطها الشهيد من الواقع ثم حاول أن ينطلق منها في دراسة واقع الأمة وواقع الأحزاب السياسية وواقع الحركات الفردية ثم واقع الحركة المرجعية التي صوّرها تصويراً نظرياً قبل أن تولد وتتفاعل على الأرض.

أما ما هي طبيعة وأبعاد الحركة المرجعية؟

تتكون الحركة المرجعية في فكر الشهيد الشيرازي من قمة وجهاز وقاعدة كأي حركة أخرى فـ(القمة) تتمثل في (المرجع الأعلى) للمسلمين الذي يجب أن يكون فقيهاً جامعاً لمؤهلات المرجعية الدينية،.. وإذا تساوى جميع الفقهاء في مؤهلاتهم - وهو قليل جداً - يكون (المرجع الأعلى) أيهم اختار الناس.

والجهاز يتألف من إدارة عليا يرأسها المرجع نفسه وتنعقد في مقره، وتوزع على اعضائها الأعمال الرئيسية وهي تؤدي دور مجلس الوزراء في ايصال المعلومات إلى المرجع ومناقشتها معه، وتلقّي الاتجاهات والأوامر منه، ثم تعكس ذلك على الأمة. ومن أعضاء يعبّر عنهم بـ(الوكلاء) يوظفون في كافة المناطق وهم يقومون بدور رؤساء الوحدات الإدارية، فيقومون بتنظيم شؤون المسلمين وتنفيذ أوامر القيادة منها - والقيام بعمليات التوجيه والتثقيف للأمة، والاشتباك مع عناصر الشر المتطاولة على مقدسات الأمة ورفع المعلومات الكافية عن منطقته - في فترات معينة - إلى المرجع.

والقاعدة هي مجموعة الأمة التي تقلد ذلك المرجع وتأخذ عنه دينها في كافة الأحوال الشخصية والاجتماعات وتطيع أوامره ونواهيه، وبعملية (التقليد) يرتبط كل مسلم بشخص المرجع الأعلى، دون ايما وسيط و(الوكيل) لا يزاحم هذا الارتباط المباشر ولكنه يكون بـ(البريد) بين انسانين لأن احاطته بـ(فتاوى) المرجع، وأوسعته وعيه الديني عن أفراد قاعدته تؤهلانه لأن تصل إليه أوامر وتوجيهات المرجع، ليذيع وينفذ دون أن تكون له ذاتية مستقلة بازاء المرجع)(18). ويسمي الشهيد الشيرازي هذا الشكل من التنظيم الذي يربط بين القاعدة والقمة عبر الوكلاء بالتنظيم المرجعي وهو لا يختلف عن التنظيم الحزبي إلا في أمرين:

الأمر الأول: القيادة الشرعية المتمثلة بالمرجع الأعلى

الأمر الثاني: معلومية القيادة

ففي التنظيم المرجعي نجد الأسس التي يقوم عليها التنظيم الحزبي، من قاعدة وقمة ونسق صاعد ونسق نازل يتمثل بالتقارير التي ينقلها البريد الذي عبّر عنه الشهيد بـ(الوكلاء) الذين يعينهم المرجع في المناطق ليكونوا حلقة الوصل بينه وبين الأمة.

كما ويتضمن التنظيم المرجعي الانتخابات حتى انتخاب المرجع الأعلى عند تساوي المجتهدين.

وهذا التنظيم برأي السيد الشهيد أفضل أنواع التنظيمات لأنه يحصّن الأمة من الانشقاقات الداخلية، والانفراط إلى كتل منحازة.

ويمنح للأمة مناعة من تسلل الاتجاهات الاجنبية، ويصونها من تطفل القيادات الكاذبة عليها التي تريد استنزاف امكاناتها كما وأنها تحافظ على الوحدة الإسلامية وحدة الأمة ووحدة الكلمة الإسلامية.

هذه هي النظرية الحركية للشهيد الشيرازي التي تعتبر في وقتها ابداعاً من حيث تحليله للواقع الاجتماعي والسياسي للأمة وقدرة على استنباط الأسس القويمة من النصوص الإسلامية الأصيلة.

ليس ما ذكره الشهيد السعيد هو قطعة من التاريخ، وليست آثاراً يجب أن توضع في المتحف - كما يقول البعض - فعلى رغم مرور أربعة عقود على هذه الأفكار فهي لا زالت حية، وأكبر دليل على حيويتها مناداة البعض بها بعد أربعين عاماً من التجارب والاختبارات حيث جربت الأمة مختلف أنواع الحركات والأحزاب. وها هي اليوم تتمسك بالمرجعية الدينية اكثر من أي وقت مضى.

الهوامش

1 - العمل الإسلامي بين المرجعية والحزبية، ص132 - 133.

2 - كلمة الإسلام، ص101.

3 - كلمة الإسلام، ص102.

4 - كلمة الإسلام، ص102.

5 - كلمة الإسلام، ص104.

6 - كلمة الإسلام، ص107.

7 - كلمة الإسلام، ص108.

8 - كلمة الإسلام، ص108.

9 - كلمة الإسلام، ص113.

10 - راجع ص127 من كلمة الإسلام.

11 - كلمة الإسلام، ص129.

12 - كلمة الإسلام، ص135.

13 - كلمة الإسلام، ص133.

14 - كلمة الإسلام، ص132.

15 - كلمة الإسلام، ص132.

16 - كلمة الإسلام، ص133.

17 - كلمة الإسلام، ص165.

18 - كلمة الإسلام، ص141.