2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

طريق الجنة

من المحاضرات الأخلاقية لسماحة الفقيه 

المحقق آية الله السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله

معن بن زائدة

الأمر الأول: الإنفاق من اقتار

تزكية النفس

طلاقة الوجه

الثاني: البشر لجميع العالم

بين الايثار والإنفاق من اقتار

بين النفس والعقل

ميزان العدالة

الثالث: إنصاف الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

قال الإمام الصادق(ع): ثلاث من أتى الله بواحدة منهنّ أوجب الله له الجنة: الانفاق من اقتار، والبشر لجميع العالم، والإنصاف من نفسه(1).

يرتبط الإنسان في هذه الحياة بأمرين لا يمكنه الانفكاك عنهما وهما النفس والمجتمع.. وللنفس تأثير بالغ في سعادة الإنسان واصلاح المجتمع إذ أن النفس لو عاشت حقائق الأمور والتذت باللذات العقلية أو الروحانية أثّرت تأثيراً بالغاً على المجتمع أيضاً إذ بصلاحها يكون صلاح المقربين وكانت القدوة المؤثرة في نشر الفضائل، وفي الحديث الشريف أن النبي(ص) بعث بسرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟

قال: جهاد النفس(2).

وبتسميته له بالجهاد الأكبر تظهر صعوبة التعامل مع النفس وأهميتها في المجتمع اكثر من جهاد الكفار كما أن نيل الآخرة له درجات ومراتب كان أفضلها ما يتعلق بانقياد النفس إلى الطاعات والأعمال الصالحة أو الشاقة أحياناً... كيف؟

يعيش الإنسان في هذه الدنيا وله اهتمامات وغرائز تدفعه إلى إشباع البطن والجماع والتمتع بالطبيعة والخيال والحصول على القدرة والسلطة وما شابه فلو استطاع أن يتغلب على هذه الغرائز إلى حد الاعتدال بحيث يكون مراده من الأكل هو كبح الجوع للتقوي على عمله وعبادته، ومن الجماع إلى ادامة النسل، وتسخير القدرة المالية التي يمتلكها لخدمة الفقراء والمساكين والسلطة لحماية حقوق الناس، تصبح هذه اللذة عقلائية ولها آثار دنيوية كما لها آثار أخروية، وهذا العمل بيد الإنسان نفسه في السيطرة على قيادة النفس لأنه مختار وليس بمسيّر من ناحية أفعاله فلن يولد أحد على حب القتل والدماء والنهب والنهم وإنما تولدت من الاهتمام بالنفس وقيادتها فإما نحو الخير والالتذاذ العقلي وأما نحو الشر والشعور بالألم والالتذاذ الحيواني.. ومما يدل على قبح الذات الحيوانية أن أهلها يكتمونها ويستحيون من اظهارها، وإذا وصفوا بذلك تتغير وجوههم كما لو وصفت أحدهم بكثرة الأكل والجماع لأنها لذائذ غير حقيقية مع أن الجميل على الإطلاق يحسن اذاعته وصاحبه يحب أن يظهره ويوصف به والبديهة حاكمة بذلك.

كما أن للمعرفة بالنفس آثاراً ولذات عظيمة منها معرفة الخالق سبحانه لأن النفس ليست بشيء مادي محسوس وإنما هي ما يظهر ويبدو على أعمال الإنسان الخارجية، وفي الحديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه)(3).

أما المعرفة لمن جهل نفسه ولم يقدها الانقياد الصحيح فتبقى مجهولة وتزيغ عن طريق الحق وتلتذ بالقبائح.

ولكن السؤال هل عرف الإنسان نفسه كما عرف ما يحيط به من موجودات مادية؟

الجواب يرتبط بمقدار اطلاع الإنسان على العقل السليم وعلى القرآن الحكيم والاحاديث الشريفة التي وردت عن النبي(ص) والأئمة الأطهار(ع) وواحدة من هذه الأحاديث ما ذكرناه في بداية البحث إذ جعلت الجنة تحت اختيار الإنسان الذي يأتي بأحد أمور ثلاثة، ولعلها لا تنحصر في هذه الثلاثة ولكن ذكرها من باب احتمال كون هذه الثلاثة لها آثار إيجابية بالغة في التأثير على المجتمع وفي معرفة النفس وكبح جماحها إذ أن الإنفاق من اقتار فيه تربية للنفس على الجود، كما أن له أهمية في خدمة المجتمع وحمايته من الذلة والتسكع. كما أن للبشر وانطلاق الوجه وحسن اللقاء بالناس أهمية في شيوع السعادة والارتياح في قلوب. الآخرين وللانصاف دور في ارتفاع الغش والمصالح الدنيئة من المجتمع، كما سيأتي بيان كل واحدة من هذه الصفات، فليست الجنة شيء كبير على تلك النفس التي استطاعت أن تتغلب على شهواتها بصعوبة كبيرة وأثرت في المجتمع لما فيه الصلاح والخير..

تزكية النفس

ولقد أولى الإسلام تزكية النفس أهمية كبرى بعد الإيمان بالله تعالى فاقت التعليم والتشريع كما صرّح بذلك القرآن الحكيم في قوله تعالى:

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين)(4).

وجوهر الرسالات السماوية يخاطب النفوس والعقول لأجل صلاحها وهدايتها والحقيقة أن القرآن الحكيم والسنة المطهرة مدرسة حضارية من أوغل في جنائنها ارتقت نفسه إلى السمو والمعرفة ومن ابتعد عنهما ظلت المعرفة بعيدة عنه..

وقد ورد في وصية للرسول الأعظم(ص) إلى أمير المؤمنين(ع) أنه قال:

(يا علــي: ثلاث من حقائــــق الإيمان: الانفاق مـــن الاقتار، وإنصافك الناس من نفسك، وبَذْلُكَ العلم للمتعلم)(5).

وعلى اختلاف الموارد التي وردت في الحديث يبدو أن لتربية النفس على تلك الموارد مشقة وصعوبة بالغة ذات نتائج تصل بأهميتها حد الصعوبة في التطبيق، إذ معرفة النفس واحدة من نتائجها وهي التي غابت على البشرية جمعاء بكل حضاراتها لأنها ليست مادية وغير ملموسة إلا من خلال الممارسة والتمرين، وستتضح الصعوبة من خلال شرح فقرات الحديث الذي استشهدنا به. وهي تجارب فذة تجعل الدنيا والآخرة تحت اختيار الإنسان فلا ينال الفلاح والنجاح دون علم وعمل واستمرارية ومداومة على ذلك العمل. ولا يعني ذلك أن نطلب المستحيل من الإنسان وإنما هي عملية موازنة بين قوة العقل وقوة العاطفة، واللتان تتصارعان في داخله إذ لا نريد منه أن يعتزل الناس ويجلس في صومعة دون علاقة بالآخرين، أو يتبع عاطفته بشكل خالص، وإنما الحياة عبارة عن معادلة متوازنة بين العقل والعاطفة، وفي الحديث الشريف الذي نقلناه إشارة إلى ذلك فهو يشير مرة إلى نفس الإنسان غير ملحوظ فيها الآخرون وذلك بقوله (الإنفاق من اقتار) لأنك لو لم تنفق وأنت محتاج لا اثر شرعي سلبي عليك وإنما الإنفاق يجب على الغني بما زاد على قوت سنته وقوت عياله أو الزكاة المحددة في الأموال. ومرة يربط النفس بالآخرين لأنها سنة الحياة وذلك بقوله (البشر لجميع العالم، وانصافك الناس من نفسك).

الأمر الأول: الإنفاق من اقتار

الاقتار كما جاء في لسان العرب أنه (الرمقة من العيش)(6) وللعلامة المجلسي بيان ذكره في البحار إذ قال:

(الاقتار التضييق على الإنسان في الرزق، يقال: أقتر الله رزقه: اي ضيّقه وقلّله، والإنفاق أعم من الواجب والمستحب وكأن المراد بالاقتار عدم الغنى والتوسعة في الرزق، وإن كان له ـ زائد على رزقه ورزق عياله ـ ما ينفقه، ويحتمل شموله للايثار أيضاً بناءً على كونه حسناً مطلقاً أو لبعض الناس)(7).

الإنسان قد يجود بشيء من المال أو الكساء أو الغذاء وهو غني بمعنى أن له وفرة من النعم الإلهية بحيث لا يضرّ به الجود، ولا شك أن هذا العمل ممدوح يستحق الثناء شرعاً وعقلاً، ولكن الإنسان الذي يجود بشيء وهو محتاج إليه أي ليس له هذه الوفرة من المال والغذاء وما شابه فهذا قطعاً أفضل من الأول لأنه يجود بشيء وهو محتاج إليه.

فالجود مع المكنة والوفرة عمل سهل يسير، أما مع عدم القدرة بل الحاجة الماسة إلى ما يجود به الإنسان يعتبر من الأعمال الشاقة والصعبة على النفس الإنسانية.

فالأول صحيح وهو إنفاق وَجود أما مع الاقتار والعدم فهو عمل كامل ودليل على كمال النفس ورفعتها، ومن خلاله تظهر حقيقة الإيمان عند المرء وقوة التريبة التي أثرت على كوامنه فهو يسحق تلك الإشارات التي لا تسمح له بالانفاق سواء كان ذا وفرة مالية أو عدمها، ومع العدم تظهر صعوبة الإنفاق والجود وسحق كل الرغبات والميول والاحتياج إلى ما يملكه من قوته على رغم قلته هكذا نفس تستحق الجنان والنعيم.

معن بن زائدة

ينقل في أحوال معن أنه كان كريماً فعن إبن أبي حفصة الشاعر قال:

أخبرني معن بن زائدة، وهو يومئذ والي بلاد اليمن، أن المنصور جد في طلبي وجعل لمن يحملني إليه مالاً، قال: فاضطررت لشدة الطلب إلى أن أتعرض للشمس حتى لوحت وجهي، وخفقت عارضي ولبست جبة صوف، وركبت جملاً وخرجت متوجهاً إلى البادية لاقيم بها، قال: فلما خرجت من باب حرب وهو أحد أبواب بغداد، تبعني أسود متقلد بسيف، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت له: ما بك؟ فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين؟ فقلت: ومن أنا حتى أطلب؟ فقال: أنت معن بن زائدة، فقلت له: يا هذا اتق الله عز وجل، وأين أنا من معن؟ فقال: دع هذا، فوالله إني لأعرف بك منك، فلما رأيت منه الجد قلت له: هذا جوهر قد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي، فخذه ولا تكن سبباً في سفك دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه،فنظر فيه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت: قل، قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت مالك كله قط؟ قلت: لا، قال فنصفه، قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت وقلت: أظن أني قد فعلت هذا، قال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل ورزقي من أبى جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير، وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في هذه الدنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتحقر بعد هذا كل وجود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجمل وولّى منصرفاً..)(8).

فالذي يجود بالشيء وهو محتاج إليه يحمل نفساً قوية تتغلب على الشهوات وبالتالي تنجيه وتنقذه من المهالك بل تخدم البشرية وتحفز الإنسان الذي يملك المال لأن يجود به وينفقه في سبيل الخير..

بين الايثار والإنفاق من اقتار

أرفع درجات الجود والسخاء هو الايثار بأن يجود الإنسان بالمال مع الحاجة إليه قال تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(9) وقد روي أنه جاء رجل إلى رسول الله(ص) فشكى إليه الجوع فبعث رسول الله(ص) إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله(ص): من لهذا الرجل الليلة؟

فقال علي بن أبي طالب(ع) أنا له يا رسول الله(ص)، وأتى فاطمة(ع) فقال لها: ما عندك يا ابنة رسول الله؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت العشية لكنّا نؤثر ضيفنا، فقال يا ابنة محمد(ص) نوّمي الصبية واطفئ المصباح، فلما أصبح علي(ع) غدا على رسول الله(ص) فأخبره الـــخبر فلم يبرح حــــتى أنزل عز وجــــل: ويؤثرون على أنفسهم الآية(10).

ولم يقتصر الإيثار على المال وإنما هو أعم من المال إذ أن إيثار أمير المؤمنين علي بن أبى طالب(ع) في مبيته على فراش رسول الله(ص) للحفاظ عليه والتضحية بحياته إيثار لنفس النبي على نفس الإمام حتى باهى الله تعالى ملائكته بهذا الحدث ونزلت الآية الشريفة (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله)(11).

وقد حافظ الخواص من المؤمنين على هذه الخصلة بالاجتهاد في تقديم النفس ايثاراً منهم كما حدث مع أصحاب الحسين(ع) يوم كربلاء إذ كان الأصحاب يتدافعون للشهادة دون الحسين(ع).

لذا يظهر من خلال هذا العرض أن الإيثار أعم من الإنفاق من اقتار إذا قلنا بأن الثاني يختص في الأموال بقرينة الإنفاق أما إذا عممنا الإنفاق إلى كل ما يملكه الإنسان من اموال أو علم أو حياة فقد يكون بينهما عموم من وجه. والنتيجة أن للايثار درجة عالية عند الله سبحانه والإنفاق من اقتار درجة عالية أيضاً وبه تتمثل حقيقة الإيمان والسيطرة على كوامن النفس وفي كليهما تسمو النفس وتعلو لتعاليها على الضرر والخوف والأنانية روي أن موسى بن عمران قال: يا رب أرني بعض درجات محمد وامته، قال: يا موسى إنك لن تطيق ذلك، لكني أريك منزلة من منازله، جليلة عظيمة، فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي. قال: فكشف له عن ملكوت السموات، فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله، فقال: يا رب، بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ قال تعالى: بخلق اختصصته به من بينهم، وهو الإيثار يا موسى، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء(12).

الثاني: البشر لجميع العالم

يعني أن يكون الإنسان ذا ابتسامة وطلاقة في الوجه بحيث يشعر المقابل بارتياح له من خلال التعامل في السوق مع الناس أو الأستاذ في المدرسة أو حلقة الدرس أو الرئيس بالنسبة لرعيته وما شابه من المعاملات اليومية التي تجري في المجتمع، وتبدو صعوبة هذا الأمر للإنسان الذي يتميز بطابع المرح كما هي صعبة للعبوس والمكفهر في طبيعة نفسه، لأن الحياة بكل جوانبها تحتاج إلى الجدية والاختلاط الدائمي مع مشاكل الحياة إذ لو كان للاستاذ موعد للدرس مع تلاميذه وقبل حضور الدرس تصرف ولده الصغير تصرفاً سيئاً جعله يغضب من تصرفه فهو عندما يحضر الدرس إما أن يظهر بصورة الغضبان والمستاء أو يظهر بصورة ثانية بوجه منفتح ومبتشر فعليه أن لا يصب استياءه على الطلبة فيخسرون اللحظات المهمة في فهم الدرس أو يسبب احراجاً لنفسه فهنا تظهر الصعوبة والمشقة للنفس..

والبعض يصف الإمام الحسين(ع) بأنه دائم البشر، لين العريكة، سهلاً سمحاً، إذا تكلم أطرق جلساؤه فكأنما على رؤوسهم الطير، فإذا جنّ الليل تحوّل إلى عابد زاهد، وإذا جدّ الجد واشتعلت الحرب يصبح وكأنه الجبل وسط المعركة..

والبشر للجميع صعب جداً بدليل أن الإنسان الذي يفقد تلك الخصوصية لو جرّب هذا الأمر في مجريات حياته ماذا سيكون رد وفعله فيما لو ضايقه شخص ما في عمله أو أسرته؟

طلاقة الوجه

أي منبسط الوجه وفي القاموس، هو طلق الوجه، والبشر بالكسر طلاقة الوجه وبشاشته، وقيل حسن البشر تنبيه على أن زيادة البشر وكثرة الضحك مذمومة، بل الممدوح الوسط من ذلك.

فكثرة الضحك مكروه وخاصة إذا كان من غير سبب أما التبسم والبشر فإنه ممدوح والجنة وجبت لفاعله لأنه يضغط على نفسه ليكون مع الكل مستبشراً.

والبشر على نوعين:

1ـ عام بحيث يشمل المؤمنين لإيمانهم حباً لهم، وللمنافقين والفساق تقية منهم ومداراة لهم كما قيل: دارهم ما دمت في دارهم، وارضهم ما كنت في ارضهم.

2ـ خاص بالمؤمنين دون غيرهم.

فالأول له موارد قد تختلف فيما لو كان الفاسق حال المعصية فلابد حينها من اتباع الطرق المعروفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع شرائطها إذا تطلّب الظهور بوجه مكفهر لأن ترك المعصية والنهي عن المنكر واجب وهو مقدم على البشر والتبسم إذ الأول أهم من الثاني ولو علم أن الثاني هو الأهم وصار سبباً للهداية فيقدم كما كان رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) يتصرفون مع الكفار أو أهل الكتاب. وبحسن الخلق تسببوا في نشر الإسلام وشيوع المحبة والسلام بين الناس.

سئل الإمــام الصادق(ع) عن حد حـــسن الخلق ومــعــــناه؟ قال(ع): تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن(13).

ينقل في أحوال أحد طلبة العلوم الدينية أنه كان كثير الضحك والاستهزاء بالآخرين حتى أنه لا يتمكن من السيطرة على نفسه فيما إذا شاهد شخصاً في ملبسه أو مظهره أو مشيته شيئاً غير طبيعي إلا أن يسخر منه أو على الأقل يحدّث نفسه مستهزءً بذلك الأمر ويثير الضحك في داخله وكان له زميل آخر في الدرس يختلف عنه تماماً أصبح مرجعاً كبيراً للتقليد رغم أنه لا يتفوق كثيراً بالعلم على الآخر الذي يكثر من الضحك ويستهزأ بالناس وتخرج الكلمات من فمه دون روية أو تفكير ليبقى طالباً مدى عمره. وفي الحديث عن أمير المؤمنين(ع):

(لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه)(14).

يعني أن العاقل يعلم الصدق والكذب أولاً ويتفكر فيما يقول ثم يقول ما هو الحق والصدق، والأحمق يتكلم ويقول من غير تأمل وتفكّر فيتكلّم بالكذب والباطل كثيراً.

يقول الشهيد الثاني في كتابه منية المريد على طالب العلم أن يكرر الدرس سبع مرات مطالعة ومباحثة. وجاء أيضاً في بعض الأقوال أن على الإنسان عندما يريد التكلم أن يتفكر في الكلمات سبع مرات حتى يخرجها إلى الوجود، والعدد سبعة صيغة مبالغة كما في قوله تعالى (إن تستغفر لهم سبعين مرة)(15).

ثم قرّر ذلك الطالب أن يسيطر على نفسه عندما يأتي الكلام على لسانه أو يرى حدثاً غير طبيعي أمامه وما شابه ويتمالك نفسه لكنه يقول لم أستطع المداومة على ذلك إلا أياماً معدودة حتى عاد لما كان عليه لصعوبة الأمر وقد أحس بأنه سيمرض لو ترك هذا الأمر.

هذه هي المشقة والصعوبة التي وردت في الحديث ولا تنال الجنة ببساطة فالمؤمن هش بش كما ورد في الحديث يعني بشوش وليس ذا ضحك كثير وإنما وجهه متبسم وهش أي أنه حتى لو أصابه ألم فهو منفتح الوجه لأن المؤمن حزنه في قلبه وبشره في وجهه وهذا ما يحتاج إلى ممارسة وتدريب لأن الثمن هو الجنة ولحظة من الجنة تفوق جميع اللذات الدنيوية الزائلة فهي الخلود في النعيم.

قال تعالى: (وروحٌ وريحان وجنّت نعيم)(16).

وأما الضحك الكثير بدون سبب أو في غير محله فهو ليس بلذة ولا نعيم كما قال تعالى: (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً)(17) وإنما المطلوب وجوه منطلقة ومنشرحة وهذا العمل يؤثر في الناس أكثر من الكلام وكما ورد في الحديث الشريف (كونوا دعاة للناس بغير السنتكم)(18).

وعن الفضيل قال: صنايع المعروف وحسن البشر يكسبان المحبة ويدخلان الجنة، والبخل وعبوس الوجه يبعدان من الله ويدخلان النار(19).

وقال رسول الله(ص):

(حسن البشر يذهب بالسخيمة)(20).

والسخيمة هي الحقد في النفس والمهم في الأمر أن يكون الإنسان صافي النية مع المحبة القلبية لا أن يضحك في وجه أخيه ثم يخدعه من وراء ظهره أو يحتال عليه.

الثالث: إنصاف الناس

من الأخلاق الرفيعة والفاضلة للإنسان المسلم هو الإنصاف من النفس فإذا صارت هذه الصفة من الملكات الراسخة عند المؤمن ترتقي به إلى مرتبة اليقين، وهي من أفضل المثل الإسلامية التي يتحلّى بها المؤمن، إذ أنه يساير الناس بالإنصاف والمداراة من يوم عقل إلى حين يقبر، فإذا كان منصفاً من نفسه في السوق أو الطريق أو القيادة أو المدرسة أو مع الأهل أو المعلّم أو المتعلّم فانه يجنح إلى الحق وبذلك يرتقي ويسمو ويصبح بذلك قدوة..

قال رسول الله(ص): (سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك)(21).

وجاء عن العلامة المجلسي (ره) انه قال:

الإنصاف من نفسه: هو أن يرجع إلى نفسه، ويحكم لهم عليها فيما ينبغي أن يأتي به إليهم من غير أن يحكم عليه حاكم وسيأتي في باب الإنصاف (هو أن يرضى لهم ما يرضى لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه).

قال الراغب الاصفهاني: (الإنصاف في المعاملة العدالة وهو أن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا مثل ما يعطيه أو لا ينيله من المضارّ إلا مثل ما ينال منه.

وقال الجوهري: أنصف أي عدل يقال: أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه، وتناصفوا: أي أنصف بعضهم بعضاً من نفسه)(22).

وتحتاج النفس إلى تدريب وتلقين حتى تكون هذه الصفة ملكة عند الإنسان لما فيها من جماع الخير في الدنيا والآخرة ويتحبب الإنسان إلى ربه والى الناس. ومن الإنصاف أن يعترف الإنسان بخطأه وذنبه وأن يدين نفسه لو كان الحق مع الآخرين ولا يستبد برأيه وموقفه وأن يقول ماله وما عليه.

ورد عن الإمام الصادق(ع):

(ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله تعالى يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب، رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يديه، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة،ورجل قال بالحق فيما له وعليه)(23).

ميزان العدالة

من وصية الإمام أمير المؤمنين(ع) لابنه الإمام الحسن(ع) أنه قال: (يا بني: اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك)(24).

فالعدل أن ينصف الإنسان غيره كما يحب أن ينصف وما أعمق الكلمات الرائعة التي يذكرها أمير المؤمنين(ع) في وصيته في سبيل نشر العدالة الاجتماعية ورفع الظلم وإن كان هذا العمل شديداً على النفس حين التطبيق فبعض الناس حينما تنصحه وتشير إلى مواطن الخطأ في تصرفه،وهو غافل عن ذلك لكن مع معرفته قد لا يتعظ كما في قوله تعالى (وإذا قيل له اتّق الله أخذته العزة بالاثم)(25).

وحتى لو كانت النصيحة بأسلوب صحيح أو غير مباشر لكن البعض شديد على نفسه أن ينصف الآخرين أو يعترف بخطأه بالرغم من أنه يشعر بما يقول ويتصرف أحياناً.

جاء اعرابي إلى النبي(ص) وهو يريد بعض غزواته فأخذ بغرز راحلته فقال: يا رسول الله( علّمني عملاً أدخل به الجنة، فقال: ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم خلّ سبيل الراحلة(26).

وقال بعض الأسارى لبعض الملوك: افعل معي ما تحبّ أن يفعل الله معك، فأطلقه وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين(ع): (ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم)(27).

بين النفس والعقل

وبعد أن تعرفنا على الأمور الثلاثة ودورها يقول الإمام الصادق(ع) إن من أتى بواحدة منها وليست الثلاثة مجتمعة وجبت الجنة له وإن كانت الثلاثة في الخارج متماسكة وتحتاج إلى تمرين لأن النفس التي تستطيع على فعل أحدهما لا يصعب عليها الأمر الثاني وهكذا الثالث وهذا لا يكون إلا في نفس خاضعة للعقل... كيف؟

يقول كميل بن زياد (رض) قلت لسيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع):

يا مولاي أريد أن تعرفني نفسي.. فقال لي: يا كميل وأي نفس تريد؟

قال كميل: قلت يا مولاي، وهل هي إلا نفس واحدة؟ فقال: يا كميل إنما هي أربع:

1. النامية النباتية.

2. والحية الحيوانية.

3. والناطقة القدسية.

4. والكلية الإلهية.

ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان!

أما النامية النباتية فلها خمس قوى:

أ) الماسكة ب)الجاذبة ج) الهاضمة د) الدافعة هـ) المربية.

ولها خاصيتان : الزيادة والنقصان.

وأما الحية الحيوانية فلها خمس قوى:

أ‌) السمع ب) البصر ج) الشم د) الذوق هـ) اللمس.

ولها خاصيتان: الرضا والغضب وانبعاثهما من القلب..

وأما الناطقة القدسية فلها خمس قوى:

أ) الفكر ب) الذكر ج) العلم د) الحلم هـ) النباهة.

ولها خاصيتان: النزاهة والحكمة.

وأما الكلية الإلهية فلها خمس قوى:

أ) بقاء في فناء ب) نعيم في شقاء ج) عز في ذل د) فقر في غنى هـ) صبر في بلاء.

ولها خاصيتان: الرضا والتسليم..

وهذه التي مبدأها من الله والى الله تعود.

قال: والعقل وسط الكل(28).

ويعني بذلك أن العقل يؤثر على هذه النفوس الأربع فالنفس هي مجموعة الغرائز فإذا كان العقل هو المحرك لها وصلت إلى مرحلة الاطمئنان والسيطرة على كوامن وغرائز النفس.

يقول الإمام أمير المؤمنين(ع): (إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر..)(29).

والنفوس تختلف أمام المصاديق الثلاثة التي ذكرناها بحسب التربية أو المحيط فقد يكون الإنفاق أسهل على النفس من البِشْر أو البشر أسهل من الإنصاف بحسب البيئة والتأثيرات.. أما الثلاثة معاً فتظهر المشقة الكبيرة.

لذا يقول أمير المؤمنين(ع):

(ثواب العمل على قدر المشقة فيه)(30).

والجنة ثمن كبير لعمل شاق جداً خصوصاً لطلبة العلم فهم أكثر ما يحتاجون إلى هذه الخصال أمام أنفسهم وأمام المجتمع وأمام الله سبحانه ولأنهم تركوا ملذات الدنيا فعليهم العمل لأجل نيل درجات الآخرة.

والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الهوامش

1 أصول الكافي، ج2، ص103.

2 البحار، ج19، ص182، ب8، ح31.

3 البحار، ج2، ص32، ب9، ح22.

4 الجمعة/ 2.

5 كلمة الرسول الأعظم (ص) للمرحوم السيد حسن الشيرازي، ص159.

6 لسان العرب، لابن منظور، ج5، ص70، نشر أدب الحوزة.

7 البحار، ج71، ص170، ب10.

8 وفيات الأعيان لابن خلكان، ج5، ص245-256، منشورات الشريف الرضي.

9 الحشر/ 9.

10 تفسير البيان السعادة للجنابذي، ج4، ص164، مؤسسة الأعلمي بيروت.

11 البقرة/ 207.

12 جامع السعادات، ج2، ص119، مؤسسة اسماعيليان.

13 أصول الكافي، ج2، ص103.

14 البحار، ج1، ص159.

15 التوبة/ 80.

16 الواقعة/ 89.

17 التوبة/ 82.

18 البحار، 67، ص303، ب57، ح13.

19 اصول الكافي، ج2، ص103.

20 المصدر نفسه.

21 البحار، ج72، ص34، ب35 ح28.

22 البحار، ج71، ص170، ب10.

23 البحار، ج72، ص26، ب35، ح7.

24 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج16، ص84، دار إحياء التراث.

25 البقرة/ 206.

26 سفينة البحار، ج8، ص267، دار الأسوة.

27 شرح النهج لابن ابي الحديد، ج16، ص84.

28 البحار، ج58، ص85، ب42 (بتصرّف).

29 البحار، ج40، ص341.

30 تصنيف غرر الحكم، ص156.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية