2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

السجن الكبير

إبراهيم محمد جواد

خاطرة

جلست بجانب النافذة التي تطل على البستان جنوب منزلنا اكتب رسالة. الشجرات العارية أمام النافذة تغتسل بأشعة الشمس المنسكبة عليها بغزارة في هذا اليوم المشرق الجميل. نسيمات الهواء الباردة ما تزال تهب متخللة أشعة الشمس، وكأنها تتحدى قدرتها على نشر الدفء فوق الحقول وفي الشوارع وحتى في غرف المنازل.

نعم فالبرد القارس ما يزال يتحدى المدافئ الشرقية (مدافئ المازوت) وينافسها على سكنى البيوت والتربع داخل الغرف ومغازلة الناس بثقة.

التربة الحمراء في البستان المجاور متوشمة ببعض الأوسمة الخضراء، تعلو من خلالها أصوات مختلطة من دجاج وقطط وعصافير، يتجاوب معها ـ نشازاً ـ صوت ذلك الكلب المربوط إلى شجرة في البستان منذ سنوات «كموظف اجباري» لحراسة البستان، حقوقه كلها مهضومة، وهو محروم إلا من الحد الأدنى من ضروريات العيش، ووظيفته أيضاً محدودة. كل ما يقوم به هو «النباح» بين الحين والآخر وخاصة في الليل.

ولست ادري ما الذي يحاول ذلك الكلب أن يقول للمارة!! أيقول لهم: لا تقربوا فالبستان محروس أو مسكون؟! أم هو يستغيث بهم طالباً منهم النجدة، وكأنه يقول لهم: فكوا وثاقي وخلصوني من اسر هذا الحبل الغليظ واطلقوا سراحي من هذا السجن الرهيب؛ فلقد كرهت الحراسة وسئمت الوظيفة؟!...

ترى أيدري هذا الكلب الاسير ما يعانيه الناس من حوله في سجنهم الأرهب وقيدهم الأثقل؟!

إنها سجون متعددة داخل بعضها البعض، وقيود متراكبة فوق بعضها البعض، وأثقال متداخلة في بعضها البعض. انها سجون الجسد وقيود الحاجة وأثقال الأنا، وأسر الشهوة والرغبة، وسياط الجهل والجهالة والجاهلية!

لكن من يدري؟! ومن يحس ويشعر؟!

إنه نادراً ما يلتفت بعض الناس إلى القيود التي تثقل أرجلهم وتكبل أيديهم، وإلى السجن الكبير الذي يعيشون فيه بملء ارادتهم، بل لعلهم لا يطيقون العيش ما لم ينسجوا بأنفسهم حول أنفسهم تلك الشرانق المظلمة، لكأن أعينهم لا تطيق النور أبداً، وكأن قلوبهم لا تحب الحرية ولا تهفو إليها على الإطلاق!

وحدها العصافير ـ وما شابهها من الطيور ـ تعشق الحرية، وتستخدم أجنحتها لتنتقل فوق الاشجار، من غصن إلى غصن، ومن شجرة إلى شجرة، ومن بستان إلى بستان، ناظرة من علٍ إلى السجن الكبير، الذي يبنيه البشر حول أنفسهم، ويحيطون به أرواحهم بحرية واختيار.

أشرقي ايتها الشمس الدافئة على ربوعنا! وانسكبي يا اشعة النور في قلوبنا وأرواحنا!

أذيبي يا جمار القرص الذهبي إصرنا الشديد، واجرف يا نبع النور الفضي قيدنا الثقيل! عَرِّ أجسادنا من ضغط الحاجة وأسر الرغبة، واغسل نفوسنا من شرنقة الأنا وسياط الشهوة، وحرر عقولنا وقلوبنا من سجن الجهل والجهالة والجاهلية! علنا نكسر الجليد، ونخرق الشرنقة، ونخرج من السجن الكبير.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية